ادعمنا بالإعجاب

دلهي في عصر السلطان محمد تغلق شاه كما يراها ابن بطوطة (ر)

بقلم: د/ قمر شعبان الندوي

المحتويات الرئيسية
1)    قصة رحلته:
2)    دخوله الهند:
3)    جغرافية دلهي في عصر تغلق:
4)    سور دلهي وأبوابها:
5)    مسجد قوة الإسلام:
6)    منارة قطب الدين:
7)    ابن بطوطة في القصر الملكي:
8)    ابن بطوطة يتزوج:
9)    الحوض الشمسي والحوض الخاص:
10)   بعض الضرائح:
11)   السلطان محمد تغلق شاه: الكلمات الهندية في رحلة ابن بطوطة:

}أتحدث إليكم عن دلهي عاصمة الهند الحالية، ومركز الحضارات المتنوعة، وحاضرة الحكومات المختلفة، وهاهي التي تحكي عليكم كل ما شاهدت عبر قرون مضت، فتقول: كم شاهدت على متني من المد والجزر، والصعود والهبوط عبر الأحقاب التاريخية المختلفة، ولكم عاش في قصوري من الملوك والسلاطين، وكم دفنت في ترابي من الأمم والأقوام، جاءت أمة فعمرتني بالمباني الشامخة، والقلاع الفحلة المتينة الحصينة، والمساجد، والمعابد الخلابة، وشيدتني بالرخام والياقوت والمرمر، وكنت عرش حكم تربع عليه الملوك الخلجيون والتغالقة والمماليك والمغول، واستولوا على بقاع ومساحات غير محدودة من ربوع الأرض{.
 ولَكَم أنجبت في مختلف فترات التاريخ من أبناء أثروا وأغنوا الأرض بالعلوم والمعارف والثقافات!، فمن لايعرف من أبنائي الذين بنوا المنارة الشامخة أعجوبة العالم في العلو والسمو، والقلعة الحمراء التي تباهي عمارات الدنيا في شموخها؟، ومن لايعرف من أهل العلم والأولياء الصالحين الذين قاموا بتربية النفوس وتزكية القلوب؟، قطب الدين بختيار الكعكي، ونظام الدين أولياء، وولي الله الدهلوي وأبناؤه وأحفاده الذين أضاؤوا مصابيح الثقافة والعلم والدين، أما سمعتم بالشاعر الأردي مير تقي مير، ومؤمن خان مؤمن، وابراهيم ذوق، وأسد الله غالب، والمفتي نصر الدين آزرده ؟ هؤلاء هم الذين فتحت لهم الأبواب، فأعطوا اللغة الأردية حياة الخلود.
 ولَكَم آتيت من أُكُل شبع منها كل من سكن فوق ترابي من شعوب وملل، من دون فرق بين أسودهم وأبيضهم، وبين غنيهم وفقيرهم، وبين مسلمهم وهندوسيهم، قصد إلي الملوك من خراسان، والعراق، والجزيرة العربية، وقسطنطينية، وايران، فاستقبلتُهم جميعا استقبال الأم الحنون أولادها المفقودين النجباء، ورحبت بهم أحر ترحيب.
وهاهي ذي أنا تلك الدار الخربة التي بكى عليها أحد أبنائي وقتما نال منه سكان بعض المدن المشرقية، ألا تسمعون هذه الويلات والزفرات التي صرخ بها هذا الابن الأنين الكئيب المتأزم:
"لاتسألوا عن عيشي وحياتي يا أهل المشرق
لكوني غريبا باستهزاء وسخرية
 فدلهي تلك المدينة التي كانت مصطفاة في العالم،
والتي كان يسكن فيها النخبة المختارة من نوع البشر
والتي لقد دمرتها الأفلاك نهبا وغارة
 أنا من قاطني تلك الديار الخربة 1
والآن أترككم مع رحالة عظيم الشأن خرج من أقصى المغرب، ومر بأراض شتى فوق الأرض حتى دخل بابي فحفزت أبنائي على استقباله والعناية به، فإنه أحد من سجل حكاياتي ومسامراتي وويلاتي، فاسمعوه، فإنه كان ضيفا كريما علي، قضى وقتا ثم غادرني إلى بلاده، ولكنه ترك للجميع ذكريات جميلة في رحلته التي تشتهر في عالم الإنسان ب"رحلة ابن بطوطة"، التي هي ليست كسائر الرحلات فإنما هي سجل للحضارات والثقافات والمدنيات، ودفتر عظيم لماجريات الدول والبلدان على مر العصور والأزمان، ووثيقة تاريخية للأمم والملوك والسلاطين، وموسوعة موثوق بها لأساطين العلم والأدب، وأرباب الفضل والكمال، وأهل المعرفة والتقوى، ثم وهي رحلة أكبر جوال الأرض، ورحالة العرب، أبي عبد الله محمد الطنجي المغربي المعروف بابن بطوطة، من مواليد منطقة طنجه، المملكة المغربية حاليا، وذلك يوم الإثنين 17 / رجب المرجب عام 703 ه/ 24 فبراير 1304 م.
قصة رحلته:
لما بلغ ابن بطوطة الثاني والعشرين من عمره عزم على أن يطوي مشارق الأرض ومغاربها، وقد حكى قصة مغادرته من موطنه طنجه بالمملكة المغربية، في أسلوب رائع:
"كان خروجي من طنجه، مسقط رأسي في يوم الخميس الثاني من شهر الله رجب الفرد عام خمسة وعشرين وسبعمائة من الهجرة معتمدا على حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول –عليه أفضل الصلاة والسلام- منفردا عن رفيق آنس بصحبته، وركب أكون في جملته لباعث على النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة، كامن في الحيازم، فحزمت أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور، وكان والداي بقيد الحياة، فتحملت لبعدهما وصبا، ولقيت كما لقيا من الف ا رق نصبا، وسني يومئذ ثنتان وعشرون سنة" 2
دخوله الهند:
قلعة تغلق بدلهي
تتابعت جولاته في مدن تلو مدن، وفي بلد تلو بلد، وقد تحمل متاعب السفر وعناءه على متون البحار مدة تسع سنين حتى وصل إلى وادي السنده ببنج آب (بنجاب الحالية) في غرة محرم الحرام عام 734 ه/ 1334 م، فلقي بعض الإخباريين للسلطان، ورأى نظام البريد ونظام الإصدار والاستيراد، وقابل المواطنين الهنود، وعاشرهم، وجالسهم، فتأثر بعلاقاتهم فيما بينهم، ورأى الناس يكرمون ضيوفهم أبلغ إكرام، ويبجلون جيرانهم، ويؤثرونهم على أنفسهم، كما كان ذاك شأن صحابة الرسول –صلى الله عليه وسلم-، فتبلور أمامه أثر القرآن والسنة في هذا المجتمع الهندي المخلوط من المسلمين والهندوس.
وبعد أيام شد الرحال إلى دلهي، ومر في الطريق بمدينة حناتي وسيوستان وملتان ثم أبوهر و أجودهن حتى وصل إلى مسعود آباد قلعة نجف كراه 3، فرحب به الشيخ بسطامي وشريف مازند ا رني ترحيبا حارا، ومكث هناك ثلاثة أيام إذ حضره قضاة البلاد وفقهاؤها ومشائخها بأمر السلطان محمد تغلق شاه، واستقبلوه جميعا استقبال الكرام، واستقبال الإخوان بالأخ الفاضل الكبير النجيب مصداقا لما قاله الشاعر العربي:
تلقى بكل بلادٍ إن حللت بها
                             أهلًا بأهل واخوانًا بإخوان
وقد وصف ابن بطوطة وصوله إلى دلهي وصفا دقيقا، فقال:
"رحلنا من مسعود آباد، وفي غد ذلك اليوم وصلنا إلى حضرة دلهي قاعدة بلاد الهند، وهي المدينة العظيمة الشأن، الضخمة الجامعة بين الحسن والحصانة، وعليها السور الذي لايعلم له في بلاد الدنيا نظير، وهي أعظم مدن الهند بل مدن الإسلام كلها بالمشرق" 4
جغرافية دلهي في عصر تغلق:
كانت تشتمل دلهي على أربع مدن متجاورة يتصل بعضها ببعض، إحداها دلهي التي مازالت على حالها من قديم الزمان، بناها الملوك الهندوس ثم فتحها الملوك المسلمون عام 584 ه/ 1188 م. والمدينة الثانية هي سيري، وهي التي تعرف حاليا بسيري فورت (قلعة سيري) وهي كانت تدعى بدار الخلافة أيضا، وهبها السلطان لغياث الدين حفيد الخليفة المستنصر العباسي لما قدم عليه، وكان السلطانان علاء الدين وقطب الدين يسكنان فيها. وأما المدينة الثالثة فهي تغلق آباد بناها تغلق شاه منسوبا إلى اسمه، ورابعها هي جهان بناه عمرها السلطان محمد شاه لسكناه هو نفسه، وكان بدأ الملك في تشييد سور عظيم يضم هذه المدن الأربع، ولكنه لم يكمل حتى نصفه وتركه بسبب الميزانية الزائدة.
سور دلهي وأبوابها:
وأما السور الذي بناه الملك لضم هذه المدن الأربع فيقول عنه ابن بطوطة إنه العالم كله، عرض حائطه أحد عشر ذراعا، وفيه بيوت يسكن فيها الحراس، وفيها مخازن للأطعمة يسمونها بالأنبارات، تخزن فيها الزروع مدة طويلة من الزمن، ولا تتغير نوعيتها، يقول ابن بطوطة: "ولقد شاهدت الأرز تخرج من بعض المخازن ولونه قد اسود ولكن طعمه طيب، وكل ذلك من اخت ا زن السلطان بلبن منذ تسعين سنة" 5
وفي هذا السور أبراج كثيرة لايحصى عددها يتقارب بعضها من بعض، وعدد أبواب هذه المدينة 28 بابا، ولكل باب اسم خاص يرمز إلى خلفيته، وقد استخدم ابن بطوطة في رحلته في خضم العبارات العربية كلمة رائجة للباب في الهند سمعها من الهنود وهي كلمة "دروازه"، كما وقد سرد أسماء بعض أبوابه من أمثال:
أكبر أبوابها دروازه بداؤن (الباب البدايوني) نسبة إلى الشيخ نظام الدين أولياء البدايوني -رحمه الله-، ودروازه مندوي من المندي (باب السوق)، ووفق بيان ابن بطوطة كان هناك سوق الحبوب وراء هذا الباب، ودروازه جل (باب الزهور) وجل هذه كلمة تنطق (بالجيم المصرية) معناها : الزهور، وكانت بجوار هذا الباب بساتين وحدائق الزهور فسمي الباب باب الزهور. ودروازه شاه (باب شاه) نسبة إلى رجل اسمه شاه، أي نسبة إلى سلطان فمعنى كلمة شاه: هو ملك أي سلطان، ودروازه بالم (باب بالم) نسبة إلى منطقة اسمها بالم، وهذه المنطقة ظلت عامرة، وتسمى قرية بالم، وفيها المطار الشعبي لدلهي، وبجواره مطار إندي ا ر غاندي الدولي، في دلهي. ودروازه نجيب (باب نجيب)، ودروازه كمال (باب كمال) نسبة إلى رجلين نجيب وكمال، ودر وازه غزنه(باب غزنه) نسبة إلى مدينة غزنه بخ ا رسان، ولربما يرمز هذا الاسم إلى محمود غزنوي أيضا، وثمة مصلى العيد وبعض المقابر خارج هذا الباب، ودروازه خالصة (باب خالصة) وبخارج هذا الباب مقابر، وقد جعل الناس . على كل قبر قبةً أو محرابا 6
مسجد قوة الإسلام:
مسجد قوة الإسلام من أهم المعالم التاريخية الإسلامية، لقد رأى ابن بطوطة هذا المسجد بعين الاعتبار لشأنه العظيم، وخاصة وقت وروده في دلهي، فقد أقنع الكلام عنه تحت عنوان: "جامع دهلي البديع" يقع هذا المسجد في رحاب منارة قطب الدين، وفي الحقيقة كانت هذه المنارة جزء من هذا المسجد، ولكن من سوء الحظ لقد تم تشييد المنارة، ولكن لم يتم بناء المسجد، ولكن الجزء الذي كان تم بناؤه لا زال عامرا وباقيا، وبات اليوم مزارا للسياح ولايصلى فيه، يصف ابن بطوطة هذا المسجد وصفا دقيقا بعبارات رشيقة، وكلمات بديعة :
"وجامع دهلي كبير الساحة، حيطانه وسقفه وأرضيته كل ذلك من الحجارة البيض المنحوتة أبدع نحت، ملصقة بالرصاص أتقن إلصاق، وفيه ثلاث عشرة قبة من حجارة، ومنبره أيضا من الحجر، وله أربعة من الصحون، وفي وسط الجامع العمود الهائل الذي ذكر لي بعض حكمائهم أنه يسمى "هفت جوش". يعني أنه مؤلف ومسبوك من سبعة معادن، وطوله ثلاثون ذراعا. 7
منارة قطب الدين:
لقد قيل عن هذه المنارة أنها أطول منارات العالم، استخدم ابن بطوطة لهذه المنارة كلمة "الصومعة"، وعدها من عجائب الدنيا في شموخها وضخامتها، وسمو ارتفاعها، ولانظير لها حتى في بلاد الإسلام، إذ هي مبنية بالحجارة الحمر، ومنقوشة بنقوش نادرة ورائعة، ويقول إن فحلها من الرخام الأبيض الناصع، وتفافيحها (نقوش في شكل التفاح) من الذهب الخالص، 8 ولكن فاته ذكر شيء مهم في هذه المنارة وهو الآيات القرآنية والعبارت العربية التي تم تنميقها بشكل دائري دوران المنارة الممتد من الأسفل إلى الأعلى، وفي رأي الكاتب: نقش الآيات القرآنية على هذا الطراز الجميل البديع هو من أعجب عجائب هذه المنارة، وذلك ما يدل على اهتمام ملوكنا بالمتون القرآنية، وخب ا رت البنائين المسلمين بالفن الإسلامي.
تقع هذه المنارة في جنوب دلهي، وكانت في العصور الماضية في أقصى المدينة وخارجها، ولكنها الآن وسط المناطق العامرة لامتداد المدينة إلى مدى بعيد في تلك الجهة، والمنطقة التي تقع فيها المنارة تسمى "مهر ولي"، وبجوارها مقابر بعض الأولياء وعلى مقدمتهم الشيخ قطب الدين بختيار الكعكي -رحمه الله-.  
وقد أخطأ ابن بطوطة في تحديد مكان منارة قطب الدين إذ قال إنها في صحن المسجد الشمالي، والصواب أنها في صحن المسجد الجنوبي، وأما الصحن الشمالي ففيه المنارة التي لم يتم بناؤها ولا ا زلت متبقية ناقصة البناء.
ابن بطوطة في القصر الملكي:
يتجلى لنا مما كتبه ابن بطوطة عن تكريم الملك إياه أنه كان يهتم بتقدير أهل الفضل والكمال، وتكريم الضيوف والمسافرين اهتماما بالغا، وذلك هو من تعاليم الإسلام، وديدن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته البررة، ويبدو مما كتبه ابن بطوطة أن الملك بالغ في تبجيله وتأثر به ابن بطوطة تأثرا كبيرا، وأعجب به إعجابا، ووصفه بتعبير دقيق ومفصل عن ذلك، ذكر أن الملك أنزله في دار الضيافة الملكية في دلهي بمقربة من باب بالم 9، وأعد له كل معاني الضيافة من فرش وبسط وحصر وأوان وسرير الرقاد، مع السرير بمخدتين ولحاف من الحرير، ثم توجه في غد ذلك اليوم إلى دار السلطان، فأعطاه الوزير بدرتين كل بدرة من ألف دينار، وألبسه خلعة، وعين له أصحابا وخداما وغلمانا 10 ، ولم يكتف الملك بهذا العطاء والنزل فحسب بل عينه قاضي دار الملك، و والي مقبرة قطب الدين، وسفير الهند لدى ملك الصين، وكان راتبه السنوي اثني عشر ألف دينار.
ولم يكن ابن بطوطة قانعا بهذا القدر القليل من الراتب، فقرض قصيدة عربية في مديح السلطان، بإطرائه، ووصف جوده، وسخائه وكرمه، طالبا الزيادة في الراتب لكي يستطيع دفع كل الديون عليه، وأنشد ابن بطوطة هذه القصيدة أمام الملك في بلاطه على الملأ دعني أجلب بعض الأبيات من هذه القصيدة هنا لقيمتها الأدبية:
إليك أمير المؤمنين المبجلا                
             أتينا نجدُّ السير نحوك في الفلا
فجئت محلا من علائك زائرا
                ومغناك كهف للزيارة أهلا
فلو أن فوق الشمس للمجد رتبة
                 لكنت لأعلاها إماما مؤهلا
فأنت الإمام الماجد الأوحد الذي
                    سجاياه حتما أن يقول ويفعلا
ولي حاجة من فيض جودك أرتجي
                    قضاها وقصدي عند مجدك سهلا
أ أذكرها أم كفاني حياؤكم
                    فإن حياكم ذكره كان أجملا
فعجل لمن واقى محلك زائرا
                   قضا دينه إن الغريم تعجلا
أعجب السلطان بهذا المديح والإطراء، وهنأه الناس المتواجدون في البلاط، وظفر ابن بطوطة بمرامه.
ابن بطوطة يتزوج:
تزوج ابن بطوطة من فتاتين إحداهما "مباركة: وأنجبت له ولدا أسماه أحمد، وأخ ا رهما "جور نسب" ولدت له بنتا، وقد ترك ابن بطوطة كلا من الزوجين، والولدين في الهند حتى قال عنهم :"لا أدري ما فعل الله بهم" 12
الحوض الشمسي والحوض الخاص:
الحوض الشمسي
لقد ذكر ابن بطوطة في رحلته كل ما شاهده بأم عينه في حاضرة الدولة، وفي البلاط الملكي، ويبدو ما لهذين الحوضين من أهمية وفوائد من اهتمام ابن بطوطة بذكرهما، وكان هذان الحوضان وقتئذ خارج المدينة ولكنهما الآن داخل العمران، والمنطقتين المعروفتين بالمدينة، ويتضح من بيان ابن بطوطة أن الناس كانوا يشربون الماء منهما، وأما الحوض الشمسي فنسبته إلى الملك شمس الدين إلتتمش، وهو وفق بيانه واقع في حوالي ميلين طولا، وميل واحد عرضا، وكان الناس يتنزهون ويتفرجون على شواطئه الأربعة من مناظره الخلابة علاوة على ما يستقون منه ماء، وتحيط به القباب الحجرية من كل الجوانب، وقبة عظيمة وشامخة منقوشة على وسط الحوض تزيده رونقا وبهاء، واذا جف الماء في جوانبه يزرع قصب السكر، والبطيخ الأخضر والأصفر.
وأما الحوض الخاص فهو في رأي ابن بطوطة أكبر من الأول بين قباب يبلغ تعدادها أربعينا، والمنطقة التي يتواجد فيها هذا الحوض تسمى الآن حوض خاص وبجواره غابة مكثفة وكبيرة، وملعب، ومنتزه.
بعض الضرائح:
زار ابن بطوطة بعض مقابر الأولياء المنمقة أيما تنميق، فبين منها مقبرة الشيخ قطب الدين بختيار الكعكي-رحمه الله-، وأفاد بأن تسمية الكعكي مستخرجة من الكعكة، فكان الشيخ قطب الدين يهب للمحتاجين والفقراء والمقروضين بمناسبة زواج بناتهم كعكة من الذهب أو الفضة ليتبلغوا بها حوائجهم، ويسهل لهم تجهيز بناتهم إلى أصهارهم فلقب بالكعكي 13 ، وكذلك زار ابن بطوطة قبر الفقيه الفاضل نور الدين الكرماني، وقبر الفقيه علاء الدين الكرماني، وقبور الأولياء والصالحين الآخرين، فوجد كل هذه القبور مرونقة ومنورة ذات سطوع وطلاء وتنميق.
السلطان محمد تغلق شاه:
لقد كتب ابن بطوطة في رحلته أحوال بعض الملوك الذين سبقوا مجيئه إلى الهند، ومنهم شمس الدين إلتتمش، وناصر الدين، وركن الدين، وعز الدين، ورضية سلطانه، وغياث الدين بلبن، ومعز الدين جلال فيروزشاه الخلجي، وعلاء الدين محمد شاه الخلجي، والسلطان شهاب الدين، والسلطان قطب الدين، وخسرو خان، وناصر الدين، والسلطان غياث الدين تغلق شاه، 14 وهو والد محمد شاه تغلق الذي في عهده دخل ابن بطوطة الهند، وقد تلقى أخبار جميع هؤلاء الملوك والسلاطين عن الشيخ كمال الدين بن البرهان الغزنوي قاضي القضاة وقتذاك، وأما محمد تغلق شاه الذي كان يتولى العرش وقت دخوله الهند 15 ، فقد أ رى ابن بطوطه أحواله وأسلوب حياته، ومعاملته مع الوزراء، وأهل العلم، وعامة الناس رأي العين، لأنه  عاش معه في بلاطه كل مدة تواجده في الهند، فتمكن من أن يصفه هو وحياته وصفا دقيقا ومسهبا، وهو بمثابة المصدر الأولي في هذا الباب.
كان اسم السلطان محمد تغلق شاه وفق ما ذكره ابن بطوطة "جونه"، وهو ربما كلمة "جوان" (الفتى) 16 لأنه عاش حياة طويلة من حياته في القتال في ساحات ، الوغى، فإنه قاتل التتار تسعا وعشرين مرة، وهزمهم فسمي حينئذ بالملك الغازي 17 وكان يُكنى بأبي المجاهد، وسمي بمحمد شاه بعدما تولى العرش بعد وفاة أبيه غياث الدين تغلق شاه، وقد اكتشف ابن بطوطة عن بعض السمات والمزايا المحمودة في ذاته وحياته، ولكنه يؤكد له صفتين مضادتين ظاهرا، وهما صفة الكرم وصفة البطش، كيف يمكن أن يكون الرجل الواحد كريما وبجانبه عنيفا وشديدا في آن واحد؟ وقد أصر ابن بطوطة على هاتين الصفتين مع الصفات المحمودة الأخرى.
وددنا أن نتناول هذا الأمر بقدر من التفصيل لنرى كيف كان ملوكنا في العصور القديمة، وكيف كان نظام حكمهم؟، كان محمد شاه تغلق على هاتين الصفتين المضادتين، ولكن لكلتيهما محلا مناسبا لابد من أن يتحلى بهما سلطان، فكرمه وجوده وسخاؤه مما هو عام عموم المياه الصافية لكل وارد ومغترف، فكان يعطي كل ذي الحاجة، ويكرم الضيوف، ويستضيف المسافرين خير استضافة، ويعد لهم أحسن نزل، ولايعود السائل أو المتسول أو الطالب أو الفقير البائس أو المسكين والمحتاج من بابه خائبا، فدعوني أن أستشهد صفة كرمه ببيت شعر قاله الفرزدق في مديح علي زين العابدين:
ما قال لا قط إلا في تشهده
               لولا التشهد كانت لاؤه نعم
إن إصرار ابن بطوطة على كرمه، وشهادته بالله وملائكته ورسله في نقل عجائب كرمه الخارق للعادة الذي –بحد تعبير ابن بطوطه نفسه- "لايسوغ في عقل كثير من الناس ويعدونه من قبيل المستحيل عادةً" 18 يدفع القارئ إلى أن يخاطب سلطان مثله بمثل هذا الشعر، وهذا ما يدل على أن هؤلاء الملوك الذين عمروا البلاد، وأثروها بقلاع حصينة، ومعالم شامخة عظيمة البنيان، لم يكونوا ناهبي أموال الشعب كنزا وادخارا كحكامنا اليوم الذين لهم حسابات في المصارف الدولية، بدون نجوى، وعدد كبير من الشعب يموت جوعا، ويعيش بؤسا وشقاء، وجهلا.
وأما صفة البطش والفتك والشدة فنجد لها في حياة محمد تغلق شاه محلا غاية المناسبة، فلم يكن بطشه عاما كعموم كرمه، إنما كان بطشه للظالم والطاغي والجاني، فلاتأخذه الرأفة والرحمة مع الإنسان الشرير، ولم يكن ديدنه هذا مع عامة الناس، ومن أهم ما وصفه به ابن بطوطة أنه كان غاية في التواضع والرأفة مع العوام، ولكنه لايفوته جانب العدل والحق في الأمور مع كل شخص، وكان رجلا ديِّنا، وشديد المعاقبة لمن يترك الصلاة، ويشهد ابن بطوطه أن الناس كانوا سعداء في عهده. 19
وفي رأي الكاتب لابد من مثل هذا البطش مع الذين يسعون في الأرض الفساد لصلاح المجتمعات البشرية، وانقاذ الوطن من الهمجية والشر والفساد والفوضى، فأين حكامنا اليوم من هذا البطش ضد الظالم والجاني، فالمجرم يسعد بمتعة العيش!. والبريء يتعذب بصنوف العذاب في عالمنا هذا. وأصحاب الشكاوى يترددون إلى أبواب المحاكم والقضاة، ولاتتم تصفية قضاياهم غير أنهم يضيعون ما عندهم من كسب عرق جبينهم، واحراق دماء عروقهم، أين عالمنا من تلك العوالم التي كان فيها السلاطين أنفسهم يسمعون الشكاوى، ولايتركون أصحابها بعده إلا وهم يجدون بغيتهم، وحلول ما يحل بهم من رزيئة أو قضية؟
وكانت دار السلطان تسمى دار سَرَى، وقد نقل ابن بطوطة تفاصيل كل ما كان يدور في داره وأبوابها الكثيرة على أيدي الخدام والحراس من استقبال الأمراء والضيوف، وكتابة الشكاوى، ومعاقبة الجناة، وقتل المجرمين على أيدي الجلادين، والنظام الدقيق المرتب لسجل الزوار، وكتابة أسمائهم، وأوقات دخولهم وخروجهم، وكيف كان السلطان نفسه يطالع هذا السجل ويهتم به، ويأمر بتحقيق حاجيات الناس، وتسوية شكاواهم، وذكر أنه كان هناك ثقافة عامة للتهادي والتحابب فيما بين أهل العلم وأصحاب الحكم على قدر مناصبهم ومجالاتهم.
وأقنع الكلام في جلوس السلطان بعد صلاة العصر أو أول النهار في مجلس الناس، دقق الكلام وبين أن السلطان كان يجلس على مكانه جلسة التشهد في الصلاة، ثم ذكر ترتيب جلوس الأمراء والوزراء والكتاب والحجاب ونوابهم، والنقباء، والفقهاء، وقاضي القضاة، وخطيب الخطباء، وكانت تستهل أعمال المجلسب"بسم الله"، ينادي به الحجاب والنقباء بأعلى صوت، ويتكون المجلس من خليط أنواع الناس في الدولة. 20
ومن عادة السلطان عند خروجه للمهة أو لصلاة العيد أنه كان يخرج مع أفواج من الناس من كل المناصب، وعليهم أعلام وطبول وأبواق وأنفار، وفي يوم العيد يعقد مجلسا خاصا للقاء أهل البلاط، ولتبادل التحايا والتساليم، فيأتي القضاة فالخطباء فالعلماء فالشرفاء فالمشائخ فإخوة السلطان فأقاربه فأصهاره ثم الوزراء فأمراء العساكر ثم شيوخ المماليك فكبار الجنود، ومن عادتهم أنهم كانوا يأتون بالهدايا من دنانير الذهب والفضة، ويقدمونها عند الملك، والملك يأمر بتوزيعها فيما  بين المحتاجين والفقراء 21 فكانت هذه الهدايا في رأي الكاتب بمثابة الصدقات النافلة الجماعية.
وبعد هذه الاحتفالية كانوا يبسطون موائد الأكل والشرب الجماعية حسب مراتبهم، وكان هناك سرير ومبخرة لا يخرجان إلا في العيدين، والغلمان والفتيان يصبون ماء الورود والزهور على الضيوف والحاضرين، وتستمر مهرجانات العيد أياما، فيوم للتحايا والهدايا، ويوم للرقص والغناء، ويوم لحفلة زواج عام للأقارب، ويوم لعتق العبيد، ويوم لعتق الجواري، ويوم لتزويج العبيد بالجواري، ويوم للعطاء السلطاني العام، فكان يكثر فيه الصدقات. 22
ذكر ابن بطوطة ما رآه من أبهة في ترتيب حفلة عودة السلطان من الأسفار، ثم طريقة طعامه الخاص وطعامه العام، فالطعام الخاص هو طعام السلطان مع الأمراءوالخواص وأمير حاجب، وأمير مجلس، وبعض المندوبين الخواص من الأعزة والأمراء، وقد حضر ابن بطوطة بعض مرات طعام السلطان الخاص، فوجد هناك نحو عشرين نفرا.
وأما الطعام العام فكان عبارة عن مأدبة عامة يحضرها البواقي من أهل البلاط من القضاة والفقهاء والوزراء والأمراءوالعلماء والخطباء والنقباء والحجاب والمشائخ وأقارب السلطان ثم الأمراءالكبار، وسائر الناس العاملين في البلاط، وكان السلطان نفسه يحضر هذا الطعام دون أن يأكله، والحجاب ينادون ب"بسم الله" ثم يبدأ الجميع طعامهم أكلا جماعيا. 23
الكلمات الهندية في رحلة ابن بطوطة:
 مكث ابن بطوطة في الهند ثماني سنين متتالية، وتأثر بحضارتها، وأعجب بسلوكيات الهنود، وعلاقاتهم الجيدة فيمابينهم، وكذلك أعجب بالسلطان محمد تغلق شاه، وجوده وكرمه وعطاياه، ومعاملاته، حتى تعدى تأثره بالهند في لغاتها الرائجة الشائعة فيمابينهم وقتئذ. لقد أحصى الدكتور جلال السعيد الحفناوي هذه الكلمات الواردة في رحلته في مقالة نشرتها مجلة ثقافة الهند 24 ، وعدد هذه الكلمات حسب عد الحفناوي ما يناهز مائة وستا وعشرين كلمة، ومنها :
المدن الستة
شش نكر                                       
ششنغار
مائة ألف
لاكه    
لكَّا     
وهي فطيرة مثلثة الشكل
قد تؤكل قبيل الغداء بساعة تقريبا أم عند
العصر مع الشأي، وهي
من قيبل الفطائر
سموسه     
سموسك/ سمبوسة             
الوردة
كلاب(بالجيم المصرية)                    
الجلاب
العنب
أنكور (بالجيم المصرية)                 
الأنكور
وجبة طعام تصنع من الرز والعدس، ولاتكثر فيها البهارات كعادة الهنود في الوجبات الأخرى، وتؤكل عامة في الفطور.

   كهجري(بالكاف الكويتية)               
كشري 
الباب
دروازه
درواز   
بيت الأصنام
بت خانه
بد خانه
حامل المفاتيح، أم ناظر المخازن.
كليد بردار
كليت دار
البقرة

بيل  
فيل 
الطاقية/ القلنسوة
كلاه
كلاه
المسلح، حامل السلاح
سلاح دار
سلحدارية
المرأة/ النساء
جمع خاتون
خواتين

الخاتمة:
ما جلست لأكتب تاريخ دلهي، وأحلل الأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية للعهد الإسلامي، فإن هذه الد ا رسة متمحورة حول دلهي في عصر السلطان محمد تغلق شاه، وذلك وفق ما يراه ابن بطوطة، الرحالة العربي المغربي الذي عاش في حاضرة الدولة في صحبة السلطان مدة غير قصيرة من الزمان، ثم سجل ما قد رآه رأي العين، هل كل ما سجله قابل للثقة أم لا؟ هذا سؤال يتمكن من الإجابة عنه من له شغف بتاريخ العهد الأوسط للهند، ويقارن بين كتابات جميع مؤرخي ذلك العصر من ضياء الدين برني والآخرين، ولكنني بعد دراسة ما كتبه ابن بطوطة أستنتج من النتائج كالآتي:
1.     ابن بطوطة كان رجلا مثقفا وذكيا ولم يكن مجرد رحالة،
2.     لقد استعرض حياة الشعب الهندي، وأصحاب الحكم الهنود وقتذاك بدقة وعمق،
3.     كان محمد تغلق شاه رجلا مهتما بأمور الرعية رغم ما له من أبهة وعلو شأن الملوك
4.     حاول محمد تغلق إثراء الدولة، ومواطنيها بعطاءات لابد منها في المجتمع ولصالح الناس
5.     كان رجلا كريما وعادلا مع الشعب، وشديد البأس والعقاب للجناة والمجرمين
6.     ويبدو من عنايته بالعلماء والفقهاء أنه كان ممن يُكِنُّ للعلم والمعرفة والثقافة التقديرَ والاحترامَ، ويسعى للنهوض بها
7.     ورغم تواضعه وحبه العلم والعلماء، لم يكن بعيدا من الاهتمام بالأبهة الملكية في كثرة الخدم والحاشية كماهي شأن كثير من أهل الحكم إلا الخلفاء الراشدون وبعض من السلاطين الآخرين من العهود الإسلامية.
8.     والميزتان اللتان تتجليان في حياته هما الكرم مع العناية بالرعية وذلك ما يضمن تعزيز عمود البلاد، وتمتين أسسها بفتح قلوب الشعب، والشيء الثاني هو بطشه لأصحاب الجرائم، وذلك من أهم العناصر لوقاية الجسد المجتمعي انتشار الفساد والسرطان الأخلاقي في كنه البلاد.
____________________________________
1)   ترجمة شعر مير تقي مير، قاله إبان نزوله في مدينة لكناؤ، واسته أ ز به أهل لكناؤ على حالته الكئيبة، فقرض هذه الأبيات تحس ا ر على حاله.
2)   رحلة ابن بطوطة، بيروت، 1987 م ص: 10
3)   وقد انضمت هذه المنطقة الآن إلى دلهي، فهي جزء عامر منها.
4)   المصدر نفسه، ص: 426
5)   المصدر نفسه، 427
6)   نفس المصدر، ص: 427
7)   رحلة ابن بطوطة، ص: 428
8)   المصدر نفسه، ص: 402
9)   وقد سلف ذكر هذا الباب.
10)   المصدر نفسه، ص: 492-493
11)     المصدر نفسه، ص: 526
13)   رحلة ابن بطوطة، ص: 430
14)     المصدر نفسه، ص: 439-452
15)     المصدر نفسه، ص: 453
16)   تستخدم كلمة جوان لرجال الجند والعسكر أيضا في المصطلح الهندي اليوم، كماهي رمز الرجولة والشهامة والبطولة والفتوة.
17)      المصدر نفسه، ص: 447
18)    المصدر نفسه، ص: 453
19)   المصدر نفسه، ص: 453
20)   المصدر نفسه، ص: 452-456
21) المصدر نفسه، ص: 459
22) المصدر السابق، ص: 459-460
23) المصدر نفسه، ص: 461-462
24)   أنظر ثقافة الهند، المجلد: 56 ، العدد: 2، ص: 20-29
*****
قد تم أخذ هذه الدراسة من مجلة " ثقافة الهند"مجلة علمیة ثقافیة جامعة فصلیة


المجلد 66 ، العدد 3 ، یولیو- سبتمبر 2015 التي تصدر عن 
 Indian Council for Cultural Relations

مواضيع ذات صلة
التصوف, الملوكيات, تاريخ الهند, تراث الهند،, دراسات, علوم الهند,

إرسال تعليق

0 تعليقات