تفاصيل عن المقالة
العنوان: . الأسس المعرفية والمنهجية لدراسة المصطلح القرآني (مدخل تعريفي)
إعداد : - يوسف عكراش (أستاذ التعليم الثانوي، وباحث في الدراسات الإسلامية، ومهتم بقضايا الفكر والتربية. )
المصدر: مجلة الهند
تصدر عن :مولانا آزاد آئيديل إيجوكيشنال ترست / بولفور، بنغال الغربية
رقم العدد:١
ISSN: 2321-7928
أرقام الصفحات: ٢٣-٧٣
المجلد : ١٠
السنة: ٢٠٢١
الدولة: الهند
تاريخ الإصدار:١ يناير ٢٠٢١
رئيس التحرير: د. أورنكزيب الأعظمي
ملخص
لقد تعددت الدراسات التي اعتنت بالمصطلح القرآني وخصوصا في الآونة الأخيرة، مع العلم بأنّ هذا الاهتمام ليس وليد العصر الحالي، بل هو متجذر في كتب التراث الإسلامي، وقد بين علماء هذا الشأن قاطبة أنّ الدراسات المصطلحية القرآنية هي السبيل الموصل لفهم مراد الله من كتابه، وبيان أحكامه وحكمه، كما أنها تقى الدارس لكتاب الله عزّ وجلّ من التفسيرات المذهبية، والتجاذبات العقدية.
وفي هذا السياق ينطلق هذا البحث الذي لا يدعي الكمال أو الاكتمال بقدر ما يسعى لرسم إطار نظري لدراسة المصطلح القرآني، وذلك من خلال التعريف به، وبيان أهميته ومشروعية دراسته وأنواعه كما يسلّط الضوء على أهم الأسس المعرفية والمنهجية التي سطرها رواد هذا الفن، والتي لا ينبغي للمشتغل بالمصطلح القرآني أن يعدل عنها.
كلمات مفتاحية: الأسس المصطلح القرآني، الأسس المعرفية، الأسس المنهجية.
مقدمة
الحمد لله الذي أنزل الكتاب على خير العباد، تبصرة لأولي الألباب، وأودعه من فنون العلوم والحكم العجب العجاب، وجعله أجلّ الكتب قدرا، وأغزرها علما، وأعذبها وأبلغها في الخطاب: قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرباب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث من أكرم الشعوب وأشرف الشعاب، إلى خير أمة بأفضل كتاب، صلّى الله وسلّم عليه وعلى آله وصحبه الأنجاب صلاة وسلاما دائمين إلى يوم المآب. وبعد:
فإنّ العلم بحر زخار، لا يدرك له قرار، وطود شامخ لا يسلك إلى قنته ولا يصار، من أراد السبيل إلى استقصائه لم يبلغ إلى ذلك وصولاً، ومن رام الوصول إلى إحصائه لم يجد إلى ذلك سبيلا، كيف وقد قال الحق سبحانه: وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.
وأنّ القرآن العظيم لهو مفجر العلوم ومنبعها، ودائرة شمسها ومطلعها، أودع الله فيه علم كلّ شيء، فترى كل ذي فن منه يستمد وعليه يعتمد، ومن أعظم ذلك علم التفسير الذي برزت معه أهمية دراسة المصطلح القرآني بمنهجية علمية دقيقة بحيث يعتبر المصطلح مفتاح كل علم ومعرفة، فإذا أردنا الغوص في أعماق العلوم والمعارف المختلفة، استعملنا مصطلحات محددة لتكون مفتاحًا موصلا لها، وبوصلة تقود نحوها. وقد اعتنى القرآن العظيم بالمصطلحات عناية خاصة صناعة ودلالة وتوظيفا، وذلك وفق ما يميزه عن غيره، إلا أنّ انحراف الفهم واعوجاج القصد، وكثرة التسيب وقلة الانضباط، أثارت فوضى مصطلحية اتجهت عكس المقصود من المصطلح القرآني وفهمه فهما صحيحاً سليما.
وعطفا على ما تقدم من الأهمية التي يتمتع بها المصطلح القرآني بين سائر العلوم والفنون كان بحثنا هذا موسوماً بالأسس المعرفية والمنهجية للتعامل القرآن. وقد تعددت الدوافع المحفزة لاشتغالنا على هذا البحث منها ما هي موضوعية ومنها ما هي شخصية ذاتية، فأما الذاتية فيعلو عرش تعلقنا بالقرآن الكريم أكثر من غير لمكانته المقدسة سواء في الجانب الديني أو الجانب العلمي، وكذلك السير على رسم طريق عام للاشتغال على الدراسات القرآنية أكثر من غيرها، أما الدوافع الموضوعية
فالحاجة الماسة لدراسة المصطلح القرآني وفق أسس معرفية ومنهجية تتميز بالدق والموضوعية والضبط، وذلك سيكون من خلال رسم إطار نظري لمعنى الأسس والمصطلح عامة والمصطلح القرآني خاصة وبيان أهميته، ومشروعية دراسته، وأنواعه، ثم الانتقال إلى بيان الأسس المعرفية والمنهجية للتعامل مع مصطلحات القرآن وذلك من خلال الإجابة على إشكالية هذا البحث التي تتمثل في:
ما هي الأسس المعرفية والمنهجية دراسة المصطلحات القرآنية؟
كما تظهر أهمية هذا البحث من خلال رصد وتحقيق مجموعة من الأهداف الرئيسية التي تتمثل فيما يلي:
- بيان مفهوم المصطلح القرآني وتقريبه بصورة مبسطة.
بيان أهمية الدراسة للمصطلح القرآني والتفصيل في أنواعه.
التعرف على الأسس المعرفية والمنهجية لدراسة المصطلح القرآني.
خطة البحث
توطئة
الفصل الأول: الإطار النظري للأسس والمنهجية والمصطلح
- المبحث الأول: تعريف الأساس
- المبحث الثاني: تعريف المصطلح
- المبحث الثالث: المصطلح القرآني
- المطلب الأول: تعريف المصطلح القرآني وأهميته
- المطلب الثاني: مشروعية دراسته المصطلح القرآني
- المطلب الثالث: أنواع المصطلح القرآني
- . الأسس المعرفية والمنهجية لدراسة المصطلح القرآني (مدخل تعريفي)
- الفصل الثاني: الأسس المعرفية والمنهجية لدراسة مصطلحات القرآن
- المبحث الأول: الأسس المعرفية لدراسة مصطلحات القرآن
أولا: الربانية.
ثانيا: القصدية.
ثالثا: الاستمرارية.
رابعا: الجامعية.
خامسًا: الهيمنة والتصديق
سادسًا: الشبابية والفتوة
سابعا: التعاضد والتناسب
المبحث الثاني: الأسس المنهجية لدراسة المصطلحات القرآن
أولا: الدراسة الإحصائية
ثانيا: الدراسة المعجمية
ثالثا: الدراسة النصية
رابعا: الدراسة المفهومية
خامسًا: العرض المصطلحي
خاتمة: استنتاج وتوصيات
الأسس المعرفية والمنهجية لدراسة المصطلح القرآني (مدخل تعريفي)
توطئة
إن القرآن العظيم كلام الله تعالى أنزله ليكون هداية للتي هي أقوم، وقد تكفل الله بحفظه لتستمر هدايته وبشارة للعالمين، وينعم بفضله كل من بلغه، وأدرك مفاتيحه، لكن الإنسان في تلازمه مع القرآن الكريم تتنازعه مؤثرات متعددة جعلته أحيانًا ينطلق في دراسة النص من مقدمات وأسبقيات ومحددات خارجية يريد أن يستدل لها أو عليها، ففسر النص القرآني من خلال الزاوية المحدودة والضيقة للمذهب أو الجماعة أو التيار الفكري، كما فسّر النص القرآني من قواعد فتحت الباب مصراعيه، فغلب التسيب وغاب الانضباط للقواعد والضوابط والأسس المعرفية والمنهجية.
وإن الاعتناء بمفهوم النص القرآني ومصطلحاته يعتبر النواة الأولى لفهم القرآن الكريم، والطريق الأقوم والسليم لبلوغ مراد الشارع الحكيم، لأنه منبع العلوم والمعارف على مر الأزمان والدهور، ولهذا خُصَّ بالرعاية الكاملة في فترات تنزيله، كما بلغ دروة الاعتناء به بعد تمام نزوله. ولا جرم أنّ الأمة الآن تشهد مستجدات لم يسبق لها مثيل في شتى المجلات، ولا سبيل إلى مواكبة هذه التطورات في ظل الشريعة الإسلامية إلا من خلال الانطلاق من مفهوم القرآن الكريم، بدء بمفرداته باعتبارها الحلقة الأولى لفهم الخطاب القرآني ومعرفة مقاصده ومراميه، كما تعتبر هذه المفردات بريد الاجتهاد، ومفتاح العلم الموصل إلى الصواب، وبوصلة المواكبة للتطور العلمي والثقافي للأمة، ومن لم يستوعب معناها أشكل عليه فهم الخطاب جملة فضلًا عن التفصيل وخصوصًا أصبح التعاطي لدراسة المفاهيم القرآنية تتنازعه مؤثرات مذهبية وتجاذبات عقدية، وقد أسس لمشروعيتها وأصالتها من مقولات فظفاظة جعلت من مفردات النص القرآني وعاءً عظيما يحتمل كلّ ما يقال فيه أو عنه، كقول أن القرآن حمال أوجه فصار سلطان الفهم والاعتبار هو منطلق النظر في النص لا النص نفسه، حتى تحول ما يعتبر إطار وحدة المسلمين قاطبة محلّ تأويل. كما لا نضرب صفحاً أو تنكر المساحات التي تحتمل فيها المفردات القرآنية ومعانيها تنوع الفهم والتفسير.
ومع تزايد الهائل للاعتناء بالمفردات القرآنية فقد اعترتها تحولات وتغيرات مختلفة ومتنوعة على مدى أربعة عشر قرناً، حيث أفرغت من مضمونها ومحتواها القرآني إما بإسقاط معانيها، أو إدراج ما ليس فيها، أو حملها على غير مقصدها، وتضمنت دلالات تاريخية في كثير من الأحيان وصارت هي المؤطرة لفهم الأمة بدل المعاني القرآنية، وصارت هذه المفردات والمفاهيم مقيدة وموجهة بما أنتجه العقل البشري المحدود من تطورات علمية أو مذهبية أو فكرية، وغاب عنها لب الدلالة وروح المعاني القرآنية الربانية التي تسمو وترقى عن محددات الزمان والمكان والأشخاص باستمرارية متربط أكثر بالمقاصد والأهداف، الشيء الذي نتج عنه تراجع ملحوظ ومكشوف، وتعثر على مستوى استئناف السير الحضاري، وتبعثر في تحقيق استخلاف العمراني، وتقهقر لدى البعض على مستوى التعامل مع النص القرآني.
وعطفا على سياق حديثنا عن التعامل مع النص القرآني دون تضييع أو تمييع، فلا بد من وضع بعض الأسس المعرفية والمنهجية التي تكشف عن معطيات يمكنها أن تسهم في رسم إطار معرفي منهجي مستمد من القرآن العظيم نفسه ولغته، لكل من أقبل على على دراسة مصطلحات القرآنية، وأراد فهم مدلولها ومعانيها ورام تنزيلها وفق مقاصدها.
ونحن نتحدث عن أسس التعامل مع مفردات النص القرآني، فنجد أن القرآن العظيم نفسه قد نهج هذا المنهج في التعامل مع مصطلحاته وعدم تنزيلها أو حملها على غير معانيها المقصودة منها، مع ضرورة استحضار أدق الفوارق بينها والمعاني العامة والخاصة، يقول الله : "قَالَتِ الْأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَلِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (سورة الحجرات: (14) ففي هذه الآيات وجهنا الله تبارك وتعالى إلى عدم استبدال ألفاظ بألفاظ أخرى وكذا إلى حسن الدقة والتمييز بينها.
أما أنّ السنة النبوية دلّت على ذلك من طرف خفي في العديد من المواضيع، فقد ورد في الحديث النبوي الشريف التأكيد على ضرورة تسميات الأشياء بمسمياتها حتى لا تخرج مضمونها، فعن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسموا العِنَبَ الكَرْمَ وَلاَ تَقُولُوا خَيْبَةَ الدَّهْرِ ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرَ " ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تسمى المغرب العشاء، فعن عبد الله بن مغفل المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تغلبنَّكُمُ الأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاتِكُم المغرب قال وتقول الأعراب هي العشاء" وعن عائشة قال: "لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي".
على شمس هذا المنهج الرباني الساطعة تجند العلماء في كل العصور والأمصار قديماً وحديثا، وبذلوا وسعهم قاصدين من ذلك السير على هذا المنهج الرباني في التعامل مع المصطلح القرآني، حيث بدأت الملامح الأولى لهذا الفن تظهر مع الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، إذ شرحوا المفردات وتعاملوا معها معاملة خاصة، وقد أنتجت هذه المرحلة مصنفات الغريب وهي النواة الأولى للاعتناء بمصطلحات القرآن شرحًا وبيانًا، ثم برزت جهود المفسرين في هذا المضمار، خاصة اللغويين منهم، بحكم انطلاق الجهد التفسيري من البناء اللغوي للنص القرآني، ودلالات الألفاظ ومعانيها اللغوية والاصطلاحية، واستعمالاتها العرفية والتخصصية، ومرتباتها الشرعية والواقعية، سعيا لفهم كلام الله وكشف مراده بقدر الطاقة البشرية، ويمكن عد التفاسير اللغوية وكتب المعاني والإعراب والغريب وتأويل المشكل أسسًا للدرس المصطلحي، ومؤدى ذلك أن القرآن له لغته الخاصة التي تميزت عن لغة العرب الجاهليين.
ولا تزال الجهود مبذولة من طرف العلماء في عصرنا الحديث، وتتوالى تباعا في خدمة المصطلح القرآني محاولين الاعتناء به أكثر فأكثر من خلال زويا ورؤى متعددة ومتنوعة ضمن مدارس ومؤسسات ومشاريع علمية، وقد عدت جهود العلامة فضيلة الدكتور الشاهد البوشيخي في تأسيس مركز الدراسات المصطلحية بكلية الآداب بفاس، ومؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع) أنموذجا ناجحا للعمل المؤسساتي والأكاديمي في خدمة المصطلح القرآني تنظيرًا وتطبيقا، بحيث صارت أعمال هاته المؤسسات ممتدة وممتدة في العالم الإسلامي قاطبة. كما أسهم العلامة المغربي في تكوين عصبة من الباحثين المتخصصين في الدراسات المصطلحية.
جهود العلماء مبذولة من القدم في خدمة المصطلح القرآني، وازدادت في عصرنا الحديث أكثر من أي عصر مضى بحيث قدموا العديد من الدراسات الخاصة والمشتركة والتي لا يمكن الاستغناء عنها لمن رام إدراك هذا الفن والإحاطة به. وعلى هذا المنوال ينطلق هذا البحث الذي لا يدعي الكمال أو الاكتمال بقدر ما يسعى لرسم إطار نظري لدراسة المصطلح القرآني، وذلك من خلال التعريف بالمصطلح القرآني وأهميته ومشروعية دراسته وأنواعه، كما يسلّط الضوء على الأسس المعرفية والمنهجية التي لا ينبغي للمشتغل بالمصطلح القرآني أن يعدل عنها.
الدكتور الشاهد محمد البوشيخي من مواليد سنة 1945م بالحريشة بقرية با محمد المجاورة لمديمة فاس، تابعة مسيرته العلمية حتى أصبح معلمة حية نابضة بهموم العلم والثقافة ليس في الواقع المغربي فقط، وإنما في واقع الأمة الإسلامية، وله عدة إسهامات متميزة في تحريك الحس الحضاري، وإيقاظ الشعور الجماعي للأمة من خلال ما يكتب وما يحاضر به في المحافل الثقافية والعلمية، ومن مؤلفاته الكثيرة: نظرات في المصطلح والمنهج، ونحو معجم تاريخي للمصطلحات القرآنية المعرفة، والقرآن والدراسات المصطلحية، وغيرها.
الفصل الأول: الإطار النظري للأسس والمصطلح
وقبل الشروع في بيان الأسس المعرفية والمنهجية لا بد من الوقوف على إطار أهم مصطلحات البحث التي تعتبر المفتاح لهذا البحث، وهي الأسس والمصطلح، وذلك وفق ما هو متعارف عليه في حقل البحث العلمي، بدءًا بالشق اللغوي للمفرد ثم الانتقال إلى الاستعمال الاصطلاحي له، ثم عرض المفردة من خلال استعماله المركب وفق المقصود بها من البحث.
المبحث الأول: تعريف الأساس:
الأساس لغة: الأسس جمع أساس،"الأساس لأصل البناء، وجمع الأساس أسس." وهذه المادة من الهمزة والسين تدل على الأصل والشيء الوطيد الثابت، فالأس أصل البناء، وجمعه آساس. 2 وكذلك الأساس، والأسس مقصور منه. وقد أسست البناء تأسيسا. وأسَ البناء يؤسه أساً، وأسسه تأسيساً، وأسست دارا إذا بنيت حدودها ورفعت من قواعدها. فالأس ما يبتنى عليه.
أما ما ذكر من تسوية بين القاعدة والأصل والأساس، إنما أخذ على عمومياته، مما دعا أبا هلال العسكري لبيان الفروق بين مدلولات هذه الالفاظ في الباب الحادي عشر فقال: وليس كل أصل أساً. وعلى كل حال فالأسس لغة ما يبتنى عليه الشيء بالجملة، ويستوي في هذا الأمور الحسية والمعنوية، فهي في كل شيء بحسبه، ومنه قوله تعالى: "لَمَسْجِدُ أُسَسَ عَلَى التَّقْوَى" (سورة التوبة: 108) وقوله تعالى: "أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَنَهُ, عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَنٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَنَهُ, عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَأَنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمُ (سورة التوبة: (109) وفي هاتين الآيتين شاهد على صدق الأساس على الأمر الحسي والأمر المعنوي، فالبناء على التقوى معنوي والمشبه به وهو البناء على جرف هار أمر حسي وفي كلا الحالتين يعتمد عليه البناء، إذ على قدر الأساس يشيد غلو صرح البناء وهو المتقدم عليه زمنًا ورتبة- الأساس، ولذا قيل "الأساس هو القاعدة التي يبنى عليها".
الأسس اصطلاحًا قلما يطلق على لفظ الضوابط والقواعد ويراد بها مصطلح الأسس، بقدر ما أطلق عليها لفظ أصول، كما أن كلمة (أسس) وإن أطلقت في غير هذا المورد إلا أنها لم تحفظ بتعريف اصطلاحي بعد الإضافة والتركيب، فلا يكاد يجد الباحث تعريفا اصطلاحيًا للأسس ولعل ذلك يعود للكتفاء بالمعنى الدلالي اللغوي، والذي يطابق المعنى الاصطلاحي في كثير من الأحيان، إلا أن الباحث المتعمق يرى ذلك غير كاف، لأن المعنى اللغوي عام في دلالاته، وإن الاكتفاء بالمعنى العام أنتج التداخل في الدلالة بين الأسس وبين عدة مصطلحات أخرى كالقواعد والأصول، فيكون الباحث عرضة للخلط بين الدلالات عند الاستعمال، في حين أن القاعدة تستند إلى الأسس في وجودها، والأصل قد يكون منشأ لما يتولد عنه من فروع. إذًا الأساس هو الأرضية التي تبتنى عليها القواعد، وهو أيضًا الإطلاق الشامل للأمور الحسية كانت أو المعنوية، كما في بيان المعنى اللغوي، والأساس مما تقدم في بحثنا هو التعريف المعنوي لأنه يأخذ مجرى ما تم تقييده بما يتركب منه التعريف. إذًا الأساس هو الأرضية المعرفية التي تبتنى عليها حركة الفكر قبل الفعل، أو المنظومة الفكرية التي تسعى للوصول إلى إنتاج حقيقة فعلية أو الظن بها. .
الحاجة إلى الأساس والحاجة إلى الأساس ضرورة، سواء في الأمور المعنوية والحسية، إذ أنه عبارة عن بناء رصين ،ثابت، ولا شك أنّ علوّ البنيان على قدر توثيق الأساس وإحكامه ومتى كان الأساس وثيقاً حمل البنيان واعتلى عليه، وإذا تهدم شيء من البنيان سهل تداركه، وإذا كان الأساس غير وثيق لم يرتفع البنيان ولم يثبت، واذا تهدم شيء من الأساس سقط البنيان أو كاد."" وكذا حال كل منظومة فكرية ما لم تبتن على أساس رصين ومتين تهاوت وأصبحت على شفا جرف هار، أساسها الخبرة العلمية والعملية وقبولها العامة التي لا غنى عنها للناشئ. ويخلص الأساس: هي مجموع ما تتقوم به الأرضية التي تبتنى عليها أي قاعدة من الأمور الحسية والمعنوية. وتنتظم هذه الأسس في قالب يتمثل بالمنهجية.
المبحث الثاني: تعريف المصطلح
المصطلح لغة: جاء في مقاييس اللغة: مادة صلح الصاد واللام الحاء أصل يدل على خلاف الفساد يقال : صلح الشيء يصلح، ويقال صلح بفتح اللام.
وقال الليث : الصلح تصالح القوم بينهم، والصلاح نقيض الفساد، والإصلاح نقيض الإفساد، ورجل صالح مصلح، والصالح في نفسه والمصلح في أعماله وأموره يقال: أصلحت إلى البداية إذا أحسنت إليها ويقال: صلح فلان وصلاحا.
اصطلاحا: هو الاصطلاح عبارة عن اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما ينتقل عن موضعه الأول، وإخراج اللفظ من المعنى اللغوي إلى آخر لمناسبة بينهما، كما أنه اتفاق طائفة معينة على وضع ألفاظ إزاء المعنى، وهو إخراج الشيء عن المعنى اللغوي إلى معنى آخر لبيان المراد، والاصطلاح أيضًا لفظ معين بين قوم معينين.
يقول التهانوي: الاصطلاح هو العرف الخاص، وهو عبارة عن اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم بعد نقله عن الموضع الأول لمناسبة بينهما كالعموم والخصوص أو لمشاركتهما في أمر ومشابهتهما في وصف آخر أو غيرها.
المصطلح هو: "اللفظ الذي يُسمّى مفهوماً معيناً داخل تخصص ما ".
ويستخلص مما سبق أن المصطلح هو اتفاق أفراد أو جماعات أو قوم على وضع اسم ما لشيء ما، مع ضرورة وجود المناسبة والمشاركة والاتفاق، بحيث يصبح المصطلح متميزا بالعديد من خصائص:
- تعريف المفهوم بحيث يسهم في بيانه بشكل دقيق وصحيح متناسب مع الموضوعات المرتبط بها.
- ارتباط المصطلحات بالبيئة التي برزت فيها أي كل مصطلح يعتمد في وضعه على مجموعة من العوامل التي ساهمت في ظهوره ليتحول من مرور الوقت ليصبح مصطلحا من المصطلحات العامة عند مستعمليه.
- يمكن جمع العديد من المصطلحات للغة معينة في مجال معين في كتب يمكن الرجوع إليه عند الحاجة، ويطلق على هاته الكتب باسم المعاجم.
وتظهر أهمية المصطلح بأنه يمثل اللبنة الأولى من كل علم، بل هو مدار كل علم، به يبدأ وبه ينتهي، بأنه الطريق الموصل.
المصطلح والمفهوم: المفهوم هو عبارة مجموعة من الأفكار والتصورات ذات الصلة بشيء ما، وبالتالي يكون المفهوم هو حصول الشيء في العقل، ويعمل على وضع المفاهيم وانتقائها أصحاب الاختصاصات الأهلية بالاعتماد على تحليل مجموعة الأسس.
أما المصطلح هو اللفظ أو مادة الفكر بحيث يركز على المعاني اللفظية لتجسيد التصورات الفكرية.
وقد جاء في كتاب التعريفات للجرجاني أنّ المفهوم هو حصول صورة الشيء في العقل، أما المصطلح عنده أيضًا فهو عبارة عن اتفاق قوم على تسمية باسم ينتقل عن موضعه الأول وإخراج اللفظ من المعنى اللغوي إلى معنى آخر لمناسبة بينهما.
المفاهيم هي عبارة عن تمثلات ذهنية للمصطلحات، فكل مفهوم مصطلح وليس كل مصطلح مفهوم، إذ يعتبر المصطلح الدلالة اللفظية للمفهوم، فقول لفظ الدين مصطلح يمثل مجموعة من الاعتقادات والعبادات والسلوكيات.
ونستنتج مما سبق أنَّ المفهوم رُوح المصطلح ومضمونه، والمصطلح هو العنوان الرسمي والتسمية المتفق عليها الدالة على المفهوم، وعليه تظهر عدة فروقات بين المفهوم والمصطلح من بينها ما يلي:
- المفهوم يركز على الاستنتاجات الفكرية والمثلات التي تم الوصول إليها، في حين يمثل المصطلح تلك المعاني اللفظية للمفهوم بالحرص على توضيح مقصودها.
- لا يمكن الاتفاق على مفهوم ما في مجال معين، في حين يمكن الاتفاق على المصطلح ويصبح من الأمور المعروفة والمتداولة في مجال معين.
- لا يمكن الاحتفاظ بالمفاهيم إلا في مؤلفات أصحابها الخاصة، والذين عملوا على بلورتها، في حين يمكنك الاحتفاظ بالمصطلحات في مؤلفات عامة لتصبح مراجع لغوية ذات أهمية كبرى مثل المعاجم.
المبحث الثالث: المصطلح القرآني
لقد تضمن القرآن الكريم العديد من المفاهيم، وضبط معانيها وعبر عنها بمصطلحات دقيقة جدا بحسب المقتضيات والسياق، وبما أنّ القرآن أصل العلوم ومفجر المعارف، فقد اعتبر المصطلح بأنه هو الأصل والنواة الذي يجب أن يكون عليه مدار ما سواه من مصطلحات في بقية العلوم، بحيث تكون تبعا له.
المطلب الأول: تعريف المصطلح القرآني وأهميته:
أولًا: تعريفه: لقد بين الله لا أن القرآن الكريم أنزل بلسان عربي مبين، كما أنّ ألفاظه المتضمنة فيه تنبع من أصل دلالتها في اللغة العربية، إلا أنها تضاف إليها أمور ترتبط بسياقات ومآلات ينبغي مراعاتها، بحيث حمل القرآن الكريم بعض الألفاظ العربية معاني ودلالات إما جديدة ابتداء، أو نامية نحو التعميم أو التخصيص، وهذه الدلالات لم تكتسيها من قبل عن العرب فاتسع مدلولها فأصبح اللفظ القرآني له مفهوم غير الذي يتبادر إلى الدهن وغير الذي كان معروفًا سابقا، وتركيزا على ما سبق فإن المصطلح القرآني إجمالًا هو: كل لفظ قرآني عبّر عن مفهوم قرآني، وتفصيلًا: كل لفظ ألفاظ القرآن الكريم، مفردًا كان أو مركباً، اكتسب داخل الاستعمال القرآني خصوصية دلالية قرآنية جعلت منه تعبيراً عن مفهوم معين له موقع خاص داخل الرؤية القرآنية ونسقها المفهومي. فيدخل في ذلك كلّ أسماء المعاني وأسماء الصفات المشتقة منها في القرآن الكريم، مفردة أو مركبة مطلقة كانت أو مقيدة، وعلى الصورة الاسمية الصريحة، أو على الصورة الفعلية التي تؤول بالاسمية.
وعرفته الدكتورة فريدة زمرد بأنه كل لفظ دلَّ على مفهوم قرآني خاص لم يكن متداولا عند العرب قبل نزول القرآن الكريم.
ويستخلص مما سبق أنّ كل لفظ سواء كلمة أو جملة له دلالة خاصة في نسق القرآن الكريم. وقد عبر بعض العلماء عن المصطلحات القرآنية بالألفاظ الشرعية أو الألفاظ إلا أنّ هذه التسمية تبعدها عن حقيقتها بعض الشيء، إذ توحي أنها وليدة الإسلام، في حين أنّ هاته المصطلحات ذات جذور تاريخية ولغوية قبل نزول القرآن، لذلك فإنّ التعبير عنها بالمصطلحات يبقى هو التعبير الأمثل.
ثانياً: أهميته وتظهر أهمية المصطلح القرآني من خلال ما بينه العلامة الراغب الأصفهاني الذي عاش في حضن القرآن وتحت ظلاله، وتبحر في علومه، وغاص في ألفاظه وآيه وذكرت أن أول ما يحتاج أن يشتغل به من علوم القرآن: العلوم اللفظية. ومن العلوم اللفظية تحقيق الألفاظ المفردة. فتحصيل معاني ألفاظ القرآن في كونه من أوائل المعاون لمن يريد أن يدرك معانيه، كتحصيل اللبن في كونه أول المعاون في بناء ما يمكن أن يبنيه وليس ذلك نافعاً في علم القرآن فقط، بل هو نافع في كل علم من علوم الشرع. فألفاظ الكلام وزبدته وواسطته ،وكرائمه وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم، وإليها مفزع حذاق الشعر والبلغاء في نظمهم ونثرهم.
المطلب الثاني: مشروعية دراسته المصطلح القرآني:
لا شك أن تزايد الاعتناء بالمصطلح القرآني من مستجدات الساحة القرآنية، إلا أن معالمه وملامحه ظهرت منذ عصر التنزيل حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام لما نزل قول الله تعالى: "الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَنَهُم بِظُلْمٍ" (سورة الأنعام (82) فعسر فهم ذلك على أصحابه ، وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال رسول الله : إنه ليس بذاك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه : إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وهنا إرشاد لأهمية الدراسة النصية للمفردات القرآنية في مواطنها ومواضعها المختلفة وأثرها في فهم صحيح وسليم لكتاب الله دون تضييع أو تمييع، بحيث أن هذا النسق الذي اعتمده الرسول صلى الله عليه وسلم هو الطريق القويم للوصول إلى فهم يطابق المقصد الرباني من الكلام القرآني، ومن هنا تعدّ الدراسة المصطلح القرآني أهم مداخل التفسير.
المطلب الثالث: أنواع المصطلح القرآني:
لقد تعددت وتنوعت الدراسات التي تناول المصطلح القرآني حيث بينت أنّ المصطلح القرآني على ثلاثة أنواع هي:
أولًا: مصطلحات وافقت اللغة العربية و استقرت دلالتها: أي وافقت وتطابقت مع عرفته العرب قبل نزول القرآن الكريم، والمقصود من هذه أنها من حيث الشكل والمضمون أي قلبا وقالباً، وغيرها من المصطلحات القرآنية التي وافقت اللغة العربية، والمقصود بالمصطلحات التي وافقت اللغة العربية وحافظت على دلالاتها أي من حيث المحافظة الشكلية على معنى اللفظ اللغوي، وإلا فالقرآن قد أضفى عليه صفة القدسية والتأثير المعجز، ومن أمثلة ذلك:
مصطلح (العبودية)، أصل العبودية الخضوع والتذلل، وكل خضوع ليس فوقه خضوع فهو عبادة، والعبادة نوع من الخضوع لا يستحقه إلا من كان له أعلى منزلة من الإنعام، ومفهوم المصطلح في القرآن لا يخرج عن المعنى اللغوي المعروف، فمعناه العبادة من قبل العبد الخاضع لربه، المستسلم المنقاد لأمره، وبهذا المعنى استعمل اللفظ قبل نزول القرآن وبعده، فكان مفهومه واحدًا ولكن القرآن أضاف عليه صفة التخصيص بعبادة الله وحده.
مصطلح (الكعبة)، وهي بيت الله الحرام، وقد أخذت تسميتها من شكلها الهندسي، فكل بناؤ مربع عند العرب فهو كعبة، والكعبة اسم عربي التصميم، وقد أطلقوه على هذا البناء لمكانته السامية، وهذا المعنى الذي دلّ عليه مصطلح (الكعبة) هو المعنى نفسه الذي ورد في القرآن الكريم فلم يطرأ عليه أي تطور دلالي في هاتين الفترتين.
ثانيا: مصطلحات خضعت للتغيير الدلالي إما بالتضييق أو الاتساع أو الانتقال: أي مصطلحات كانت معروفة في البيئة العربية قبل نزول القرآن بدلالات معينة ثم ضاقت هذه الدلالات أو اتسعت رقعتها أو طرأ علينا انتقال أكسبها دلالات جديدة من خلال النص القرآني.
.أ. مصطلحات ضاقت دلالاتها اللغوية: بمعنى أنّ هناك مصطلحات عامة الدلالة فخصص القرآن ،مدلولها، وتخصيص الدلالة يعني أن تقتصر الدلالة العامة على بعض أجزائها فيضيق شمولها بحيث يصبح مدلول الكلمة مقصورًا على أشياء أقلّ عددًا مما كانت عليه في الأصل، ومن الأمثلة على المصطلحات التي ضاق مدلولها اللغوي ما يلي:
مصطلح (الرسول)، في أصله اللغوي الانبعاث على التؤدة، ومنه الرسول المنبعث، ثم تطور اللفظ ليدل على الرفق تارة، والانبعاث تارة أخرى. و (الرسول) لفظ يصدق على كلام المرسل، وعلى حامل الخبر، وفي النص القرآني دلّ على الإنسان الذي يختاره الله عزّ وجلّ لينشر في الناس الرسالة، ويبلغ الناس دين ربه، فالقرآن خصص معنى اللفظ الرسول وجعله مرتبطًا برسول الله الذي يبلغ عن ربه أحكامه ودينه وشرائعه.2 وغيرها من المصطلحات التي ضاق معناها اللغوي في القرآن بعد نزوله، كالشفاعة، والصلاة بحيث جعلها القرآن تدل على العبادة المعهودة التي علمنا إياها الرسول .
ب. مصطلحات اتسعت دلالاتها اللغوية: وهذا الصنف هو ما كانت دلالته اللغوية ضيقة ومحدودة في مدلولات معينة إلا أنّ النص القرآني أكسبها توسعة لتشمل العديد من المعاني والمدلولات أكثر مما كانت عليه، ومن نماذج هذه المصطلحات ما يلي:
مصطلح (الفسق)، العرب تقول إذا خرجت الرطبة عن قشرتها فقد فسقت الرطبة من قشرتها، وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها على الناس، وفي النص القرآني دل مصطلح (الفسق) على العصيان والترك لأمر الله والخروج عن طريق الحق، وقيل الفسوق الخروج عن الدين، والميل إلى المعصية، مثلما فسق إبليس عن أمر ربه. ومثل هذا المصطلح أيضًا (الكفر ) و(النفاق).
ت. مصطلحات انتقلت دلالاتها اللغوية وهذا الصنف من المصطلحات يفارق دلالته، حاملًا ومتصفًا دلالة جديدة أكساها إياه النص القرآني، ومن الأمثلة التي تخص هذا الصنف من المصطلحات ما يلي:
مصطلح (الركوع)، معناه اللغوي هو شدة الإيحاء)، ولكن المعنى الأول قد نسي ولم يعد يستعمل إلا عند اللزوم، ثم انتقل معناه ليصبح دالا الخضوع والتذلل وهو معنى مجازي متطور عن المعنى اللغوي الأساس وهو الانحناء الانخفاظ ومن هذا المعنى تفرعت معان مجازية كثيرة فقالوا ركع الرجل إذا افتقر بعد غنى كأنما حني الفقر ظهره بعد أن كان مستويا، ويبدو أن العرب ساروا خطوة ضيقة نحو معناه الاصطلاحي فكانوا الحنيف راكعا، ولم تنتشر دلالة المصطلح إلا بعد نزول القرآن فصار إذا أطلق فهو لا يعني إلا الركوع في الصلاة، وسميت أجزاء الصلاة بالركعات، لأنه يمثل الحد الفاصل بين كل قيامين أو وقفتين يقفهما الإنسان في صلاته. ومثل هذا أيضًا من المصطلحات التي انتقلت دلالاتها اللغوية كالجنة، والطواف، والفرض، والغي، والمغفرة، والمناسك.
ثالثا: مصطلحات قرآنية جديدة: وهذا النوع من المصطلحات لم يكن مألوفًا أو معهودًا في البيئة العربية، كما أنه لم يكن أجزاء من كلمات أخرى معروفة في كلام العرب، إذ لم تعرفه العرب حتى ظهور شمس الإسلام ومثل هذه المصطلحات استحدثها النص القرآني وأعطاها دلالات جديدة وخاصة لم تتطرق لها العرب من قبل، ومن أمثلة هذه المصطلحات:
مصطلح (جاهلية)، بحيث لا يوجد لهذا المصطلح مثيل قبل نزول القرآن الكريم، وهي صيغة أوجدها القرآن الكريم وانتشرت فيما بعد لتكون علماً الفترة التي سبقت نزول القرآن، وهو مستمد من دلالته من الجهل بمعنى السفه والطيش والحمية والزائفة للتعبير عن الحياة التى كان يحياها الإنسان في العصر الجاهلي وليس من قبيل الجهل ضد العلم .
الفصل الثاني: الأسس المعرفية والمنهجية لدراسة مصطلحات القرآن
المبحث الأول: الأسس المعرفية لدراسة مصطلحات القرآن
إن هذه الأسس المعرفية المتعلقة بدراسة مفردات القرآن الكريم تتنوع وتتعدد بتعدد زوايا النظر، وتنوع المتدبرين، واختلاف الدارسين، وهي غير قابلة للحصر؛ لأنّ القرآن مطلق، وعلم الإنسان نسبي، وليس من أن تكون له إحاطة بالمطلق، أو يحصر أسسه أو خصائصه، ولكل دارس ومتدبر وغواص في آيات الكتاب الكريم نصيب يحظى به، فكل أحد يتقيد بالخصائص التي يقارب القرآن المجيد من زاوية النظر إليها، ومن الأسس التي ينبغي أن يستحضرها الباحث في القرآن الكريم عموما، والدارس المصطلحي خصوصا ما يأتي:
:أولاً: الربانية والربانية كما بين علماء العربية مصدر صناعي منسوب إلى الرب، زيدت فيه الألف والنون، على غير قياس، ومعناه: الانتساب إلى الرب، وسبب إيراد هذا الأساس الكلي- الربانية هو وجوب استحضاره من لدن الدارس لمفردات القرآن الكريم أثناء دراسته، ويدرك حقيقة الإدراك أن ما يشاغل عليه رباني المصدر في ألفاظه ومعانيه، قال تعالى: "يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَنُ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا" (سورة النساء: (174) ، وقال "يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءُ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ" (سورة يونس: 57) وقال أيضًا :" وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَبُ وَلَا الْإِيمَنُ وَلَكِن جَعَلْنَهُ نُورًا نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" سورة الشورى (52) وغير ذلك من الآيات المبثوثة في القرآن الكريم التي تدل على مصدرية، وأنه وحي من عند رب عزّ وجلّ، ومن ثم ينفرد عن غيره ويتميز عما سواه بالعديد من الميزات، يقول الدكتور فريد الأنصاري : إن الكلمات العربية في القرآن شموس، وهي في غير القرآن من الخطاب البشري أقمار تدور حولها، طوعا أو كرها. وإنما وظيفة الأقمار أن تعكس ضياء الشموس، فتصبح ماهيتها بها نوراً. أو بعبارة أدق الكلمات في القرآن هي عين المثال فلها دلالة مطلقة على الكمال الإلهي، لكنها في سائر الكلام البشري محاولة امتثال ذلك المثال، ومن ثم فإنه إذا نظرنا إلى المصدر المرجعي للفكر الإسلامي المتمثل في الوحي وتعاملنا معه في سياق النص؛ فإنه يتعين الأطر علينا مراجعة المدلول المعنوي والحقل المفهومي للمصطلح على نحو يخرجه من الوضعية التي تختزل وتقلص، وتخلط وتسوي، ولا تميز بين النص الموحى، والنص البشري؛ من مدونات ومؤلفات، ومحفوظات يتناقلها أهل العلم وأرباب الصناعة الحضارية، وتهيمن عليها النسبية البشري.
ثانيا: القصدية: تعتبر معرفة قصد النص القرآني جملة وإدراك غاياته، والوقوف على أهدافه ومراميه ابتداء قبل الشروع في الدراسة، وخاصة إذا كان المصطلح المدروس ذا صلة وثيقة بقضايا التشريعات، إذ معرفة المقاصد تنمي للدارس تصورا عاما موضوعات النص القرآني، ومجالات اهتمامه التي لا ينبغي للباحث تجاوزها، فالمتتبع للقرآن الكريم يلفيه كثير المقاصد ومتنوع المرامي، وحسب الباحث في المصطلح القرآني أن يدرك أن للمقاصد دورًا عظيما في التفهم لما يرمي إليه القرآن في كل سورة وفي كل قصة وفي كل آية وفي كل مفرد.
ومما يتضمنه أيضًا هذا الأساس المعرفي ألا تدرس المصطلحات القرآنية على ضوء أسس عقلية محضة أو تجاذبات مذهبية يفقد معها الوصول للغاية المرجوة من دراسة اللفظ القرآني، وهي فهم مراد الله من كلامه، واستخراج أحكامه وحكمه، ذلك أن القرآن العظيم هو واضع الأسس ومقرر الأحكام، ولا خلاف البتة بين العلماء قاطبة فضلا على علماء هذا الشأن، أنّ القرآن الكريم منبع العقيدة ومفجر المعارف ومؤصل الأحكام، بعيدا كل البعد عن أسس الثقافات أو الموروثات أو الترجمات. وفي سياق ما ذكر يقول سيد قطب رحمه الله- فيما معناه: "إن منهجنا في استلهام القرآن الكريم، ألا نتطرق لدراسته وتفسيره بمقررات سابقة، لا من الناحية العقلية ولا من الناحية الشعورية ولا من جهة رواسب الثقافات لم يكن منبعها القرآن ذاته نحاكم إليها نصوصه، إذ القرآن الكريم جاء ابتداء ينشئ مجموعة من المقررات والأسس الصحيحة التي يريدها الرب سبحانه لتقوم عليها تصورات البشر وعمارتهم".
ثالثا: الاستمرارية: على الرغم من أنّ نزول القرآن بمعنى الوحي قد انتهى، فإن استمراريته بالمعنى التشريعي فإنه ممتد عبر زمن التكليف، لأن النص القرآني يسمو على الزمان والمكان باستغراقه واستمراريته وذلك لأنّ استنباط الهدى والمعرفة من أي مصطلح قرآني يقتضي الأمر مراعاة سياق النزول واستحضار مناسبة سوار القبلية أو البعدية، وهذا ما أكده الشاطبي في المسألة الحادية عشرة من موافقاته بقوله: “المدني من السور ينبغي أن يكون منزلا في الفهم على المكي، وكذلك المكي بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض على حسب ترتيبه في التنزيل، وإلا لم يصح، والدليل على ذلك أنّ معنى الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي، كما أنّ المتأخر من كل واحد منهما مبنى على متقدمه، ودلَّ على ذلك الاستقراء، وذلك إنما يكون ببيان مجمل، أو تخصيص عموم، أو تقييد مطلق أو تفصيل ما لم يفصل، أو تكميل ما لم يظهر تكميله".
إذن فدراسة أي مصطلح قرآني لا بد من مراعاة مسألة الإنزال باعتبار القرآن الكريم نزل منجما عبر ثلاث وعشرين سنة، ومسألة الاستمرارية لكون القرآن الكريم لا تحصره حدود الزمان والمكان والإنسان، بل يساير زمن التكليف العمارة والاستخلاف.
رابعا: الجامعية: لا مناص أنّ من أسس النص القرآني أنه جاء جامعا في خطابه المستوعب للإنسان والمكان والزمان، يقول الله عزّ وجلّ "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ( سورة الفرقان (1)، فتجاوز القرآن العظيم الحدود التي رسمها له بعض المنفلتين، إذ هو موسوعة كبرى استوعبت مختلف الشرائح والأجناس والألوان، حيث لم يقتصر خطابه على فئة معينة كما هو شأن الكتب السابقة، بل جاء للناس كافة، بهدف توجيههم وإمدادهم بمقومات الاستخلاف.
كما تتجلى أيضًا جامعية النص القرآني في مضمونه ومحتواه، فهي نسق مفتوح غير منغلق جامع لكل صغيرة وكبيرة في الحياة ويستدل لذلك بقوله تعالى: "مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَبِ مِن شَيْءٍ ) سورة الأنعام: 38) ، وقوله تعالى: "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَنَنَا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (سورة النحل (89)، ومن الشواهد على ذلك أنَّ مفسري القرآن قبل أكثر من قرن من الزمان لم يكونوا ملتفتين إلى الآيات الكونية الآفاقية ودقة التوصيفات القرآنية لها، وإن كانت مجملة، حتى جاء التفسير العلمي التجريبي ليفتح ا أمامنا آفاقاً جديدة في الفهم والتطبيق. ومن هنا تظهر لنا جامعية القرآن الكريم وسعته في الخطاب والمضمون التي يحظى بها في مقابل سائر الكتب السماوية الأخرى.
خامسًا: الهيمنة والتصديق: إن النتاج الفكري لبني البشر قاطبة يوصف بالنسبي تستضعفه طبيعة الإنسان الذي مهما امتلك من مهارات وذكاء ونبوغ، وبالتالي يبقى نظره قاصراً عاجزا عن الهيمنة، في حين نزل القرآن الكريم مهيمنا على الكتب السابقة ومصدقًا عليها، والتصديق هو الإقرار والدلالة على التأكيد، أما الهيمنة فهي السيطرة والرقابة والشهادة، قال تعالى: "نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَنَةَ وَالإنجيل" (سورة آل عمران: 3) ، وقال سبحانه: "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَبِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أهْوَاءَهُمْ" (سورة المائدة: (48) ، وقال تعالى: "وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِقَا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ، لَخَبِيرُ بَصِيرٌ (سورة فاطر: (31)، وقال أيضًا: "قَالُوا يَقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَبًا أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقِ مُسْتَقِيمٍ (سورة الأحقاف (30) ، والمتأمل لهذه الآيات الكريمة، يجد أن التصديق والهيمنة على ضربين:
أولًا: تصديق الكتب السابقة فما صح منها وإقرارها في مقاصد الدين وأصوله التي لا تختلف باختلاف الشرائع والرسالات ثم الهيمنة عليها في نظام متكامل تام المراد. ثانيا: تصديق ما لا تعتريه الشوائب والأغلاط فيما يدركه علم البشر، وهيمنته بالإحاطة الحقيقة على حقائق العلوم كلها. وعلى هذا الأساس فلا يمكن لأي مصطلح من مصطلحات النص القرآني أن يتحيز في مرحلة زمنية معينة أو ينحاز إلى فئة دون أخرى، لأنّ المفهوم القرآني وإن كان واحدا فهو يسمد إطلاقتيه من الوحي نفسه، إذ القرآن الكريم خطاب إلهي شامل للجميع، ولكل العصور، والأحوال والظروف كافة، ومعانيه معان شاملة كلية متكاملة، وعامة لا تقتصر على طائفة معينة أو على معنى جزئي، بل يقدم أطيب الأغذية وألذها طعماً إلى كل الطبقات المتباينة في كل عصر ومصر، فيوفي حاجة أفكارهم ويشبع عقولهم ويزكي قلوبهم وينمي ،أرواحهم، كل ما يليق به؛ وذلك لأنه وحي سماوي وخطاب رباني يخاطب الله سبحانه به جميع طبقات البشر المصطفين في كل عصر ومصر، فيجيب عن أسئلة واستفسارات جميع الطوائف ويلبي حاجاتهم كلها ويوكب مستجداتهم؛ فلا غرو أنه كلام رب العالمين، وصادر من أرفع مراتب الربوبية المطلقة، وله جامعية تحدت العالمين، فصار اللفظ القرآني ذلك النص المعجز من ألفاظه، والمعجز في معانيه وفي أحكامه وفي علمه، وفي مراميه ومقاصده. وعليه تكون مصطلحات النص القرآني وحياً مهيمنا ومصدقا توجب على الباحث والدارس لها استحضار هاته الأسس كغيرهما من الأسس المعرفية، إذ هي بمثابة التضاريس الفكرية والنفسية والوجدانية التي من شأنها أن تمكن الدارس من التقاط ما يتعلق بالموضيع المبحوث فيها من إشارات وإلا فسوف تغلب على البحث العمومية والسطحية.
سادسًا: الشبابية والفتوة: نقصد بها خصوبة مادة التنزيل، وتدفقها الدلالي اللانهائي، وعطاءها الدائم والمتجدد كلما تقدم الزمان وتوسعت دائرة المعارف الكونية والشرعية، قال سبحانه وتعالى: "كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا" (سورة الإسراء (20) أي العطاء على مستوى الاستجابة لكل القراءات الممكنة ،والعادلة، إذ في هذه الاستجابة ما يزكي صلاحية النص القرآني لكل زمان ومكان. أو على مستوى تطور الحضارة الانسانية.
إذا المصطلح القرآني يتضمن في طياته دلالات واسعة تفوق بكثرة ما هو متعارف عليه عند بني البشر، وهذا يدل على ثراء معينه الفياض الذي كان متدفقًا يافعاً منذ الأزل إلى يوم القيامة، قال سبحانه: "وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَمُ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ، سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (سورة لقمان: 27)
كما يمكن أيضًا للمصطلح القرآني بفضل الشبابية والفتوة التي يتفرد بها القدرة على الاستجابة لكل ظرف تاريخي مهما كانت خصائصه، أو سقفه المعرفي، فيستوعبه، ويستمر في تجاوزه باتجاه المستقبل بعد أن يقوم بتلبية احتياجاته من الهداية والحقائق والنور.
إذا تعتبر الشبابية والفتوة أساسين أزليين للمصطلح القرآني، كما أنهما علامتان على غنى دلالاته التي تمكنه من استيعاب الواقع والتجاوز إلى غيره من مجالات متجدد ومستحدث. سابعاً: التعاضد والتناسب: لا شك أن تضافر الألفاظ القرآن وتعاضدها وحسن انتظامها داخل نسق واحد أساسه التعاضد والتناسب، هو الذي يسهم في استثمار المعاني وإخراجها من سياجها وسجونها، ليحررها ويحرره ويعرضها إلى عالم المصطلح الإفادة، ولعل في هذا التناسب والتعاضد ما يدلّ على أنّ القرآن الكريم رغم أنه نزل متفرقاً لأسباب مختلفة، ولعلاج نوازل متباينة، وتحقيق مقاصد متفاوتة، ومخاطبة متلقين تتفاوت مداركم ودرجة استيعابهم، إلا أن هذا التباين ينصهر في فلك تعاضد النص القرآني وتناسبه.
أما إذا اختل التناسب وتغير ترتيب الذي به تشكل النص القرآني ذاك المعنى، انتقلت من تمام الفهم البيان إلى زنزانة الهذيان، وقد يصبح لتلك الألفاظ مدلولات أخرى في أحسن الأحوال، وللجرجاني كلام نفيس في هذا الباب حيث يقول: "الألفاظ لا تفيد حتى تُؤلَّف ضرباً خاصًا من التأليف، ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب، فلو أنك عمدت إلى بيت شعرٍ أو فصل نثر فعددت كلماته عدا كيف جاء واتَّفق، وأبطلت نضده ونظامه الذي عليه بني، وفيه أفرغ المعنى وأجري، وغيرت ترتيبه الذي بخصوصيته أفاد ما أفاد، وبنسقه المخصوص أبان المراد.
إذا كان هذا ما ذكره الجرجاني ينطبق على أي كلام فما بالك بالكلام الذي فصل أحسن تفصيل وأحكم أحسن إحكام، وكل لفظ له مكانه، إذ لا يقبل أن يحتل لفظ آخر ذلك الموضع، وبذلك ينفرد القرآن عن غيره، فهو منفصل عن سائر الكتب المنزلة وغير المنزلة، متفوق عليها جميعا - بخصائصه ،و مزاياه، ونظمه وبلاغته وفصاحته، وهو في الوقت ذاته واحد في داخله بهذه المزايا والخصائص، تنتظم حروفه وكلماته وآياته وسوره في سلك واحد. والقرآن واحد في كونه متفردًا من تلك الحيثية، ومن حيث الأهداف والمقاصد والغايات والآثار حتى ليبدو في ذلك كله كما لو كان كلمة واحدة، أو جملة واحدة؛ لأن الواحد- في الحقيقة- ما لا جزء له البتة؛ أي لا يقبل التقسيم إلى أعضاء قابلة للانفصال، ولا يقبل التحويل والتغيير والتبديل فيما يتألف منه.
فالقرآن في بنائيته المثالية يماثل البنائية الكونية بحيث إذا زاح نجم عن موقعه اختل النظام الكوني كله، ولهذا قابل الله بين البنائية المثالية للقرآن ومواقع النجوم، فلم يقسم - سبحانه- بالنجم ولكن أقسم بمواقعها في سياق بيان بخصائص القرآن.
نفهم من هذا أنّ القرآن الكريم محكم بناؤه في غاية الانضباط المنهجي. فكما تخضع البنائية الكونية الطبيعية لضوابط المجموعة الشمسية كلها، فإن خرج نجم عن مداره واصطدم بغيره اختلت موازين الأجرام كله، فكذلك القرآن، بنائيته منضبطة إلى مستوى الحرف وإعرابه وتشكيله، فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ). وعلى هذا الأساس يجب التعامل مع الكونية القرآنية. وهذا ما يميز الاستخدام الإلهي للغة عن الاستخدام البشري.
وهذا الانضباط المنهجي على مستوى الكلمة والحرف هو الذي يجعل مفردات القرآن الكريم في تعاضد وتماسك، بحيث لكل مفردة دورها الوظيفي داخل النسق الكلي للقرآن الكريم، ولا يمكن العروج إلى المعنى المقصود بالاستغناء عن ألفاظه، لأنّ المعاني تنتسق داخل النظم القرآني كما تنتسق الحجرات في البينان لا، بل إنها لتلتحم فيها كما تلتحكم الأعضاء في جسم الإنسان، فبين كل قطعة وجارتها رباط موضعي من أنفسهما، كما يلتقي العظمان عند المفصل ومن فوقهما تمتد شبكة من الوشائح تحيط بهما عن كثب، كما يشتبك العضوان بالشرايين والعروق والأعضاء ومن وراء ذلك كله يسري في جملة السورة اتجاه معين، وتؤدي بمجموعها غرضًا خاصا، كما يأخذ الجسم قوامًا واحدًا، ويتعاون بجملته على أداء غرض واحد، مع اختلاف وظائفه العضوية.
إذن فكل مفهوم قرآني له هذه الخاصية ضمن المجموع النسقي للمفاهيم، يشتغل لذاته ولغيره في الوقت نفسه. وذلك أشبه ما يكون بعمل أعضاء الإنسان، فكل عضو له وظيفة خاصة لا يقوم بها غيره ووظيفة عامة يقوم بها مع غيره في شكل نظامي مطرد إذا تعطل وقع الخلل.
فالمفاهيم القرآنية ليست معزولة عن بعضها البعض، وليست منثورة كيفما اتفق، وإنما هي فصوص في العقد الفريد للإسلام، منظومة نظماً بديعاً رائعًا في نسق؛ إذا نظر إليها، وقد انتظمت أفقياً، تجلى نسقها التصوري الشامل الكامل، وإذا نظر إليها وقد تتابعت تاريخيا في التنزل تجلّى نسقها المنهاجي التنزيلي.
وهي في الحالين معا لا تقبل المسَّ بِما يُخل بنسقيتها: لا تقبل زحزحة في المواقع أو تغييراً في الترتيب، ولا تقبل تغييراً للأحجام أو الألوان، وإلا صار الأمر إلى شيء آخر غير الإسلام، وقد دخل من هذا الباب على المسلمين عبر التاريخ الطويل العريض شر طويل عريض، مس التصور والتنزيل معاً.
لنا أنّ ومما تقدم يتضح للمصطلح القرآني بعدًا بنائيا داخل النسق القرآني والذي يتمثل في التعاضد والتناسب، بحيث يوجب على الباحث مراعاته واستحضاره أثناء دراسة المصطلح القرآني، ولا يتم البتة إزاحة المصطلح القرآني عن بنائيته.
المبحث الثاني: الأسس المنهجية لدراسة مصطلحات القرآن
ينبثق هذا المبحث من خلال بيان أنّ المفاهيم القرآنية تحتاج لضبط من خلال منهج صارم حتى يتم التوصل إليه مراد الله منها، وهذا ما فعله الشاهد البوشيخي- حفظه الله- فقد وضع أسس هذا المنهج الذي يمكن أن ندرس به المصطلحات، وسماه بـ (منهج الدراسة المصطلحية)، وهو: منهج علمي رصين يقوم على البحث في التطوّر التاريخي والواقع الدلالي للمصطلح داخل النص المنتمي لمجال علمي محدّد، من خلال وصف المصطلح وتحليل مقوماته الذاتية وامتداداته الخارجية؛ للخروج بنتائج دقيقة وموضوعية وثابتة.
أولا: الدراسة الإحصائية: تعتبر الدراسة الإحصائية مرحلة جد مهمة وتتضح من خلال تسميتها، بحيث تتطلب جهدًا وضبطا من الباحث أثناء مجاهدته في إحصاء المصطلح، ثم إنّ هذه المرحلة برمتها لا تُرَى في البحث مطلقا، بل ما يُرى منها هو الأثر فقط، بحث أن كل أساس يعتمد على الذي قبله، كما يتجلى أثره في الذي بعده.
ويقصد بالدراسة الإحصائية الاستقراء التام لكل النصوص التي ورد بها المصطلح المدروس وما يتصل به لفظًا ومفهومًا وقضية في المتن المدروس. والمقصود من الاستقراء هو تتبع موارد المصطلح في كلّ النصوص. إذ يشكل أساس الدعامة العلمية في منهج الدراسة المصطلحية وشرطًا من شُروطها .إذ لا علمية في الدراسة المصطلحية ما لم تقم على الإحصاء التام الذي يتحقق جمع النصوص التي بها قصد تصنيفها وتحليلها. وكذا تحديد حجم حضور المصطلحات المراد دراستها في المتن المدروس مع مراعاة قواعد جمع المصطلح وأهمها قاعدة الأخذ بالأحوط.
.1 مراحل الدراسة الاحصائية: إنّ الناظر في منهج المدرسة الفاسية يجد أنّ الدراسة الإحصائية تقوم على مراحل تجنب الباحث من الورود في مهالك انتقائية أو عفوية، وقد ذكر الشاهد البوشيخي في محاضرته التي عنونها بنظرات في منهج الدراسة المصطلحية أنّ هاته المراحل أربع وهي:
إحصاء لفظ المصطلح إحصاء تاما، حيثما ورد، وكيفما ورد، وبأي معنى ورد، في المتن المدروس.
إحصاء الألفاظ الاصطلاحية المشتقة من جذره اللغوي والمفهومي إحصاء تاما كذلك.
إحصاء التراكيب التي ورد بها مفهوم المصطلح أو بعضه دون بعض إحصاء تام كذلك.
إحصاء القضايا العلمية المندرجة تحت مفهومه، وإن لم يرد بها لفظه.
وحتى تتضح مراحل وخطوات الدراسة الإحصائية نورد ما ذكر محمد البوزي في تطبيق لهاته الدراسة على لفظ التقوى حيث بين أن:
أ. إحصاء لفظ المصطلح إحصاءً تامًا حيثما ورد، وكيف، ما ورد، وبأجمعنا ورد في المتن المدروس. ما دام قدر من الاصطلاحية داخل مجاله العلمي الخاص- ملحوظًا فيه مثال ورود لفظ التقوى في القرآن الكريم 258 مرة و ما دل منها على المعنى الاصطلاحي 240 مرة فالمصطلح مفردًا كان أو مجموعا، مثل اتق، اتقى، يتقون، تقواهم، معرفاً أو منكراً، اسماً أو فعلا، مثل: الأنقى، أتقاكم، يتق، اتقوا، مضمومًا إليه غيره.
ب. إحصاء الألفاظ الإحصائية المشتقة وذلك من جذرها اللغوي والمفهومي إحصاء تاماً كذلك، على التفصيل نفسه مثل: ورود مشتق لفظ التقوى في القرآن الكريم 27 مرة فعلًا ماضياً و 55 مرة مضارعاً، 86 مرة أمرًا، والمصدر ورد 18 مرة. واسم الفاعل 49 مرة، وهكذا، إحصاء التراكيب التي ورد بها مفهوم المصطلح أو بعضه دون لفظه إحصاء تاما كذلك، إحصاء القضايا العلمية المندرجة تحث مفهومه وإن لم يرد بها المعنى المبني أساسا على الاستقراء التام لكل النصوص التي ورد بها المصطلح أو مفهومه.
2 .شروط الإحصاء: و هي عبارة عن مقدمات أولية تمهد لعملية الإحصاء، وهي:
التمرس بالمجال العلمي الذي ينتمي إليه نص المصطلح: مواضيعه، ومتعلقاته وإشكالاته المطروحة.
توثيق مجال الاحصاء النص المدروس، وتحديده حسب ما يتطلب كل على حدة. إدراك النص المدروس والإحاطة به ومعرف كل ما ألف بصلة بالنص المدروس.
إدراك النص المدروس وتحديد ملامحه الكبرى، من خلال تحقيق الشروط السابقة، والتي هي كفيلة بدراسة المصطلح المدروس.
3 .أدوات الإحصاء: تتنوع أدوات الإحصاء بحسب طبيعة المصطلح المدروس، وما تفرزه المعطيات الإحصائية الخاصة به. و للباحث الاجتهاد في اختيارالأدوات الخاصة والمناسبة كالجذاذات القوائم الحاسوبية أو الورقية التي تقيد فيها معطيات الإحصاء، وكنظام الترقيم والترميز المساعد على تصنيف المعطيات الإحصائية وضبطها، وكالرسوم والبيانات المصورة لحضور المصطلح وما يتعلق به. ومما يجب التنبيه عليه أن الإحصاء في هذه المرحلة قد يضطر الباحث إلى إعادته مرات للتثبيت من النتائج وحسبما يمكن له من ملاحظ في المراحل الموالية.
والمتأمل في شروط الدراسة الإحصائية وأدوات الاحصاء يلفيها تتغير وتتنوع وتختلف بحسب طبيعة المصطلح المدروس وما تظهره المعطيات الأولية الخاصة به، أما مرامي وغايات الاحصاء فهي واحدة لا تتغير والتي تتمثل في:
معرفة كثافة المصطلح المدروس في المتن المقصود، وما يستخرج منه من دلالات.
تجميع المادة العلمية وإعدادها للتصنيف والتحليل في المراحل اللاحقة.2
وثانيا: الدراسة المعجمية:
1. مفهوم الدراسة المعجمية: يقصد بها دراسة معنى المصطلح في المعاجم اللغوية فالاصطلاحية دراسة تبتدئ من أقدمها مسجلة أهم ما فيه وتنتهي بأحدثها مسجلة أهم ما أضاف دراسة تضع نصب عينيها مدار المادة اللغوية للمصطلح ومن أي المعاني أخذ، وبأي الشروح شرح وذلك لتمهيد الطريق إلى فقه المصطلح وتذوقه، وليسهل تصحيح الأخطاء التي قد يكون جلبها الإحصاء.3 كما ذكر أيضًا الشاهد البوشيخي في كتابه مصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبين للجاحظ "أنها تحديد المعاني الكبرى للمصطلح الأهم في المعاجم تحديدًا يحرص ما أمكن على تقديم الحسي من المعاني على العقلي، والوضعي على المجازي، واللغوي على الاصطلاحي ومن خلال هذا التعريف تظهر أهمية المصادر القديمة والحديثة والتكامل الحاص بينهما بالنسبة للدراسة المعجمية.
كما تهدف الدراسة المعجمية إلى العديد من الأمور، أنها تتبع تاريخ المصطلح المدروس، والتمكن من فقه المعنى العام لجذره اللغوي، ثم فقه المعنى الخاص للمفرد المدروس، ثم استخلاص الشروح المصطلحية للمصطلح مع التركيز على الأقرب منها إلى المجال العلمي المدروس واختيار الأدق منها والأجمع.
2. شروط الدراسة المعجمية حتى يمكن لدراسة المعجمية أن تؤدي دورها المنهجي في دراسة المصطلح المدروس في المعاجم اللغوية والاصطلاحية لا بد أن تتوفر فيها شروط أساسية:
أ. الاستيعاب وهو بالإحاطة بكل المعاني اللغوية الخاصة العامة للمصطلح ومادته، ويتفرع إلى استيعاب مصدري، واستيعاب معنوي، واستيعاب فكري.
فالاستيعاب المصدري: يجب على الباحث أن يعتمد على مصادر الدراسة المعجمية ما توفّر منها، لا يغلب أحدها على الآخر، ولا يهمل مصدرًا منها.
والاستيعاب المعنوي: إحاطة الدارس بكل المعاني المؤطرة للمصطلح المدروس.
والاستيعاب الفكري والإحاطة بكل عناصر المعنى، انطلاقا من تتبع التعريفات والشرحات المختلفة والمنتهية إلى مادة المصطلح المدروس.
ب. التدرج: أي تتبع المصطلح المدروس شيئًا فشيئًا مراعياً التسلسل التاريخي، وبذلك يقدّم ما حقه التقديم، والعكس أي يؤخر ما حقه التأخير، ومن أوجهه التدرج الزمني، والتدرج الدلالي.
ت. التكامل: ومعناه مراعاة المصادر المعجمية استحضار أن بعضها يكمل بعض سواء المتقدمة منها أو المتأخرة، وذلك مما يعصب الدراس من الوقوع في بعض الهفوات.
ث الاقتصار أي الاقتصار يفي بالمطلوب دون العرض والإكثار الممل، كما ينبغي تجنب الاختصار المخل.
ج. التوثيق: أي ضبط ما تم التوصل إليه ضبطًا تاما دون زيادة أو نقصان، مراعاة رد الكلام لذويه، وقال عنه الونشريسي بأنه "من أجل العلوم وأعلاها إنابة وخطرا، إذ بها تثبيت الحقوق ويتميز الحر من المرقوق، ويوثق بها، ولذا سميت معانيها وثاقاً" .
3 .غايات الدراسة المعجمية: لا شك أنّ للدراسة المعجمية غايات على المصطلح المدروس والتي ترمي إلى تحقيقها، منها:
- الاستدراك السريع للاخطاء التي وقع فيها الباحث في مرحلة الإحصاء، بفرز الاصطلاحات من الألفاظ.
- بلوغ مرتبة من التذوق للمصطلحات توصل "فقه المصطلح "بحيث تصبح للدارس حاسة خاصة يشم من خلالها رائحته الاصطلاحية مهما اختلطت باللغة العادية.
وثالثا: الدراسة النصية:
1 مفهوم الدراسة النصية تعتبر الدراسة المصطلحية هي: دراسة المصطلح وما يتصل به في جميع النصوص التي أحصيت قبل، بهدف تعريفه، واستخلاص كما يسهم في تجلية مفهومه من صفات وعلاقات وضمائم، وهذا الركن هو عمود منهج الدراسة، فإذا أحسن فيه بوركت النتائج وزكت الثمار، وإذا أسيئ فيه لم تفض الدراسة إلى شيء يذكر، ومدار الإحسان فيه على الفهم. السليم للمصطلح في كل نص والاستنباط الصحيح الدقيق لكل ما يمكن استنباطه مما يتعلق به، فالنصوص هنا هي المادة الخام التي يجب أن تعالج داخل مختبر التحليلات بكل الأدوات والإمكانات فمعطيات الإحصاء ومعطيات المعاجم، وتحليل الخطابات المقالية والمقامية معا، ومعطيات المعارف داخل التخصص وخارجه ومعطيات المنهج الخاص والعام النظري والعملي، كل ذلك ضروري مراعاته عند التفهم، وكل ذلك مما يتمكن به من المفهوم وما يجلي المفهوم. من خلال التعريف السابق نستنتج أن الدراسة النصية أهم الأسس المنهجية لدراسة المصطلح القرآني، كما تعتبر مرحلة فيصلية تنبئ برسم معالم وملامح الدراسة المصطلحية، ويراد بها دراسة المصطلح وما يتصل به في جميع النصوص أحصيت فيما قبل، ثم دراسة المصطلح ضمن أسرته المفهومية المؤالفة والمخالفة، بغرض ضبط تعريفه، وتدقيق الفروق والعلاقات، ورصد كل ما من شأنه أن يسهم في تجلي تعريفه.
2 أدوات الدراسة النصية: لا بد لدارس المصطلح أن يدرك تمام الإدراك بأن دراسته النصية لن تثمر نتائجها باستحضار أدوات معرفية وأخرى منهجية نجملها في الآتي:
أ. الأدوات العلمية: ويقصد بها على الباحث الإلمام بالعلوم اللغوية من نحو، وصرف ،وبلاغة، ومعجم، وبكل ما يتصل بذلك من أدوات تحليل الخطاب، والإلمام بمعارف المجال العلمي الذي يبحث فيه على نطاقه الخاص والعام، وهذا يُلزم أن تكون الدراسة المصطلحية ضمن تخصص الباحث.
ب. الأدوات المنهجية: قوامها الانتقال في هذه الدراسة من الجزء إلى الكل، أي من الاستيعاب إلى التحليل إلى التركيب في كل نص.
ت. الأداة الخلقية: وهي التحلي بالتقوى والإحسان.2
3 . مراحل الدراسة النصية للدراسة النصية مراحل وخطوات يجب على الباحث مراعاتها وهو يقوم بهذا النوع من الدراسة على المصطلح المقصود وما يتصل به في جميع النصوص التي أحصيت قبل، بدء بمرحلة القراءة: وفيها تتم قراءة ما تم إحصاؤه من النصوص التي تتضمن مصطلحا ما، قراءات كثيرة متأنية صحيحة ومتفحصة بهدف الحسم في مدى اصطلاحية المصطلحات المدروسة، ثم تصنيف النصوص التي وردت بها المصطلحات المدروسة حسب الأهم فالأهم من المشتقات.
مرحلة التفهم وتأتي بعد القراءة المتأنية والصحيحة من أجل تفهم كل المصطلحات الواردة النصوص التي تم إحصاؤها بغية استخلاص كل ما من شأنه أن يسهم في فهم المصطلح المدروس فهما صحيحا.
مرحلة استخلاص نتائج التفهم وفيها يتم استخلاص ما يساعد على تجلية المصطلح المدروس من سمات دلالية وخصائص وصفات تمييزه وعلاقات تربطه بغيره، وضمائم ضمت إليه أو ضم إليها؛ مثل: مصطلح التقوى حين ضمت إليه صيغ أخرى، ومشتقات تشترك معه في الجذر اللغوي والمفهومي وقضايا علمية ترتبط به حيث يكون كل هذا عن طريق الاستنباط الصحيح الدقيق لكل ما يمكن استنباطه مما يتعلق بالمصطلح في كل نص.
مرحلة تصنيف نتائج التفهم؛ وفيها يتم التصنيف حسب العناصر المكونة لمفهوم المصطلح المدروس؛ انطلاقًا مما تجمع من سمات دلالية، عن بعضها، خصائص وعلاقات المصطلح وحسب الضمائم الإضافية أو الوصفية، وكذا القضايا المرتبطة بالمصطلح. ومن تأمل مراحل الدراسة النصية ألفها ترتبط ارتباطًا وثيقًا فيما بينها.
.4 أهداف الدراسة النصية للدراسة النصية مرام وأهداف ترجو تحقيقها والتي يمكن إجمال أهمها في:
- فرز الاستعمال الاصطلاحي من غيره، واستثناء ألفاظ القرآن الكريم في هذا المقام.
ضبط لمفهوم المصطلح وتدقيق تعريفه وذلك من خلال رصد سماته الدلالية المميزة له.
استخلاص كل ما له تعلق بالمصطلح صفة أو علاقة، مثل: المفاهيم التي تمثل الصفات الحكمية وعلاقتها بالمتقين، باعتبار التقوى سببا لها وهي علاقة جزئية. أو ضميمة أو اشتقاق أو فضيلة ؟
التأكد من اصطلاحية المصطلح، فالتفهم الدقيق لمعانيه في النصوص يزيل كل شك ويحسم الأمر في الاصطلاحية أو عدمها ، وكذا في قوتها أو ضعفها.
ورابعا: الدراسة المفهومية:
1. مفهوم الدراسة المفهومية: يقصد بها دراسة النتائج التي فهمت من نصوص المصطلح وما يتصل به، وتصنيفها مفهوميا يجلي خلاصة التصور المستفاد لمفهوم المصطلح في المتن المدروس؛ من تعريف له يحدده بتضمنه كل العناصر والسمات الدلالية المكونة للمفهوم وصفات له تخصه كالتصنيف في الجهاز المفهومي لعلم أو مجال ممر في معين، وعلاقات له تربطه بغيره كالمرادفات و الأضداد وضمائم إليه تكثر نسله، ومشتقات حوله من مادته تحمي ظهره، وقضايا ترتبط به أو يرتبط بها، فهذه الشجرة المفهومية وافرة الظلال، زكية الغلال في أغلب الأحوال، هي التي يجب أن تجلى بعرضها في الركن الخامس على أحسن حال. كل هذه العناصر نجدها مبثوثة في نصوص المصطلح القرآني وبين ثنايا التراكيب والتعابير المضمنة فيها، لكن على غير هذا الترتيب كما أن فهم هذه العناصر واستنباطها، إنما ينتظم في هذه المرحل: أما قبلها فيكون مجزى حسب النصوص، والدراسة المفهومية هي التي تجليها بتصنيفها في الترتيب المنهجي الدقيق. وتتنوع الدراسة المفهومية بحسب طبيعة المصطلح المدروس، كما تتنوع بحسب طبيعة المتن المدروس .
.2 مراحل الدراسة المفهومية: للدراسة المفهومية مراحل أيضًا وخطوات يجب على الباحث تتبعها وهو يقوم بهذا النوع من الدراسة على المصطلح المقصود إذ تمثل هذه الدراسة السلم الذي يعرج فيه الباحث لبناء المفهوم.
أ. دراسة النتائج المستخلصة من النصوص: ويقصد بدراستها المقارنة بينها عبر مجموعة الضوابط التي توفرها النصوص القرآنية كالضابط الاشتقاقي الذي يمكن من المقارنة بين نتائج النصوص التي ورد فيها المصطلح بصيغ اشتقاقية معينة، أخرى يرد بصيغ مخالفة، وكالضوابط اللغوية التي تمكن من المقارنة بين نتائج نصوص ورد فيها المصطلح بسمات لغوية معينة بنتائج أخرى. لم ترد فيها تلك السمات كالضابط المقامي الذي تقارن من خلاله النصوص حسب مقاماتها التداولية المختلفة. قال تعالى: "ذَلِكَ الْكِتَبُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ : الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوةَ كَوَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" (سورة البقرة:2-3) فالإيمان والتقوى في النص القرآني يدلان على أنّ الإيمان يستلزم التقوى، فمن اتقى فقد آمن حقا.
ب. التصنيف المفهومي للنتائج: بعد إخضاع النصوص القرآنية لكل الضوابط التصنيفية الممكنة، تكون مرحلة التصنيف المفهومي للنتائج أول خطوة في مسار الإخراج النهائي لنتائج الدرس المصطلحي، بشكل يسمح بتنسيقها في ترتيب ينسجم مع العناصر المفهومية المكونة للمصطلح، من تعريف وصفات وعلاقات، بحيث يتم الحصول في النهاية على الشكل العام للمفهوم. وتعتبر مرحلة تصنيف النتائج من الصعوبة بمكان.
ت. استخلاص التعريف: وتعتبر هذه الخطوة أول حلقة في بناء المفهوم وتأسيس أركانه، كما أنها حلقة مشدودة إلى ما قبلها من مراحل يستفاد فيها من كل المعطيات النصية والمعجمية والتصنيفية السابقة مثل دراسة لفظ التقوى ومما لفظ التقوى ومما أفادته الدراسة النصية والمفهومية إمكانية تعريف اللفظ تعريفاً جامعاً تستوفى كل الشروط المتطلبة.
وخامسًا: العرض المصطلحي: إن ضبط الأسس المنهجية للمصطلح القرآني، والتي حدد إطارها رواد هذا الفن، بدءً بالدراسة الإحصائية إلى الدراسة المفهومية؛ تعطي أكلها أثناء العرض المصطلحي، وتزداد عطاءً إذا كان هذا العرض أيضًا وفق منهجية تضبط ما سيتم عرضه وتحريره. فما مفهوم العرض المصطلحي؟ وما هي غاياته وشروطه ؟ وماذا تتضمن محاره هذا العرض؟
1 . مفهوم الدراسة المفهومية:
يقصد به الكيفية التي ينبغي أن تعرض و تحرر عليها خلاصة الدراسة المصطلحية ونتائجها وهو الركن الوحيد الذي يرى بعينه لا بأثره. وتبدأ هذه المرحلة من حيث انتهت السابقة- أي التعريف- والبدء بهذا العنصر سببه أنّ التعريف يشكل ماهية المصطلح أو ذاته التي على أساسها تبنى سائر الأركان، فهو النواة الذي يمهد للنظر في الخصائص والصفات التي هي اللحمة والكسوة، ثم تأتي العلاقات بعد ذلك لتتضح معالم تلك الذات أكثر بمعرفة ما يميزها عن غيرها، ليبدأ الحديث عن المصطلح في مستوى ثان، أي من خلال الضمائم التي تمثل شكلاً من نمو المصطلح بانتمائه إلى تركيبات نحوية ودلالية تولد على إثرها دلالات جديدة له، ويليها المشتقات الممثلة لنمو المصطلح، ومن خلال إخوة له في الاشتقاق بجمعهم رحم الجذر اللغوي وأبوة الجذر المفهومي.
2 غايات العرض المصطلحي: ل
ا شك أنّ للعرض المصطلحي عدة غايات، والتي يمكن إجمالها في: تقديم خلاصة الدراسة المصطلحية وزبدتها والتي أسفرت عنها عمليات المخض السابقة (الإحصاء، والدراسة المعجمية والدراسة النصية، والدراسة المفهمومية). وتتمثل أيضًا الغاية الأساسية منه في تقديم ما توصل إليه من نتائج البحث المصطلحي إلى القارئ بطريقة تجعله يدرك المراد منه بسهولة ويسر.
3 شروط العرض المصطلحي:
يشترط في العرض المصطلحي عدة شروط أهمها، الدقة فيما تم استنتاجه وما سيتمم عرضه على مستويات عدة:
الدقة في الاستيعاب، والدقة في النتائج والدقة على مستوى التعبير بأن تحرر النتائج بلغة سليمة دقيقة جامعة بلا إيجاز مخلّ ولا إطناب ممل.
- ثم حسن الترتيب فيتم بعرض نتائج الدراسة المصطلحية مرتبة ترتيباً مفهومياً، بتقديم ما حقه التقديم، وتأخير ما حقه التأخير من عناصر العرض المصطلحي . في إطار متكامل ومتناسب ومتناسق.
4 محاور العرض المصطلحي:
أ. التعريف: ويشتمل ما يلي: المعنى اللغوي، ولا سيما الذي يترجح أنه منه أخذ المعنى الاصطلاحي والمعنى الاصطلاحي العام في الاختصاص، ولا سيما الأقرب إلى مفهوم المصطلح المدروس معبرا عنه بأدق لفظ وأوضحه وأجمعه ما أمكن. وشرطه مطابقة المصطلح، وضابطه لو وضعت عبارة التعريف مكان المصطلح المعرف في الكلام لا ينسجم الكلام وإنما ينضبط ذلك إذا راعى الدارس في تعريف المفهوم كل العناصر والسمات الدلالية المكونة للمفهوم المستفادة من جميع نصوص المصطلح، وما يتعلق به في المتن المدروس، فلا تبقى خصيصة دون إظهار ولا ميزة دون اعتبار
ب. صفات المصطلح: لكل مصطلح صفات يتميز بها، وللمصطلح القرآني صفات تميزه عن غيره من المصطلحات الأخرى وهذه الصفات هي:
الصفات المصنفة: وهي الخصائص التي تحدد طبيعة وجود المصطلح في الجهاز المصطلحي موضوع الدراسة كالوظيفة التي يؤديها، والموقع الذي يحتله وغير ذلك، مثل موقع مصطلح التقوى بين لفظ الإيمان والإحسان والإسلام، والوظيفة التي يؤديها هذا اللفظ والتي هي إصلاح الأوضاع وإزالة المواثق، وكذا هي وظيفة دعوية تربوية الهدف منها إيقاظ جدوة الإيمان في القلوب وتقوية الوازع الديني في العقول.
الصفات المبينة: وهي الخصائص التي تحدد درجة الاتساع أو الضيق في محتوى المصطلح، ومدى القوة أو الضعف في اصطلاحية المصطلح، وغير ذلك، وهي صفات الاتساع والضعف للمصطلح، مثل ما جاء في الكتاب العزيز في قوله تعالى: "وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمَ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْويلاً" (سورة الإسراء: (35. فلفظ التأويل في سورة الإسراء جاء بصيغة التمييز وهي صفة تبين وتفسير وتوضح ما جاء قبلها.
الصفات الحاكمة: وهي الصفات التي تفيد حكما على المصطلح، كالنعوت أو العيوب التي ينعت بها وغير ذلك.
وعرفها محمد البوزي أيضًا بأنها الصفات التي تحكم على المصطلح بالمدح أو الذم ومثال قوله تعالى: "وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَأْولى الْأَلْبَبِ " (سورة البقرة: (197) . فقد ورد لفظ الخير في القرآن الكريم اسما وصفة، وأكثر الموارد التي جاء فيها صفة تدل على معنى التفضيل وهو من الصفات الدالة على المدح في الخطاب القرآني. فإذا تمت الصفات الخاصة بالذات، بدأ الحديث عن العلاقات بغير الذات مما يأتلف المصطلح ضرباً من الائتلاف أو يختلف معه ضرباً من الاختلاف.
ت العلاقات وحيث ينبغي عرض كل علاقة المصطلح المدروس، بغيره سواء من جهة الائتلاف أو الاختلاف، أو التداخل والتكامل وحتى يتضح هذا المعنى نوردها كالتالي مع شيء من التمثيل:
علاقة الائتلاف: يتم فيها عرض المصطلح المدروس مع ما اقترن به من مصطلحات أخرى ترد بإيزائه كالترادف والتعاطف مثال: لفظ التقوى وماله من مفاهيم متآلفة كالإيمان، فقد اقترن لفظ التقوى بلفظ الايمان في سياقات القرآن الكريم في ثلاثين موضعا، نورد منها قوله تعالى: "وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" (سورة البقرة:103). فإما أن يأتلف الإيمان بالتقوى في مقام وصف المتقين بالإيمان أو تأتلف التقوى بالإيمان، بالإضافة إلى علاقات الالتئام وانسجام أخرى كالعلم والخشية والصبر والإحسان والعبادة، وغيرها.
علاقة الاختلاف: يتم فيها عرض المصطلح المدروس في علاقاته المخالفة، كالتضاد والتخالف وغيرهما. فإذا كانت التقوى اجتناب كل المنهيات والمفاسد فإنّ لها أضدادًا كثيرة تشمل كل ما يدخل تحت الكفر والنفاق والمعصية، ومن تلك الأضداد لفظ الظلم الذي يقترن بلفظ التقوى في القرآن الكريم في مواضع عدة منها ما جاء في قوله تعالى: "وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقُ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (سورة البقرة: 282). فقد جاءت الآية في سياق الأمر بكتابة الديون والإشهاد عليها، وهناك أضداد أخرى منها: الفجور والفاحشة والفساد، وهي منافية المصطلح التقوى ومضادة له.
علاقة التداخل والتكامل كالعموم والخصوص كالأصل والفرع وغيرها؛2 وقد وردت بأسلوب الإخبار والإسناد وتشمل مثلا: لفظ التقوى مع الصدق فقد وصف المتقون بالصدق والصادقون بالتقوى؛ بأسلوب الشرط والجواب كالعبادة والتقوى؛ وكذا أسلوب التعاقب وعطف الجمل كلفظ التقوى والتزكية، الاستقامة والتقوى 3
ث. الضمائم: ويتضمن كل مركب مصطلحي (ضميمة) مكون من لفظ المصطلح المدروس مضموما من غيره، أو مضموما الى غيره لتفيد الضميمة المركب في النهاية مفهوما من داخله، وأبرز أشكال الضمائم
ضمائم الإضافة: سواء أضيف المصطلح إلى غيره، أو أضيف غيره إليه. مثل إضافة لفظ التقوى لكل من القلوب والنفس والأشخاص، وهذا من باب إضافة الفعل لفاعله، أو الصفة الموصوفها، كضميمة (تقوى القلوب) في قوله تعالى: ذَلِكَ وَمَن يُعْظِمْ شَغَيْرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ" (سورة الحج: 32). فالضميمة إضافية أضيفت فيها التقوى للقلوب جمعا وأفرادا من نوع إضافة الشيء إلى مكانه أو مظروفه؛ كون القلب موطنًا للتقوى تغمره ويتصف بها فيكون قلباً تقياً أو أتقى .
ضمائم الوصف: وهنا يتم عرض المصطلح مقترنا بمصطلح آخر، فقد يكون فيه المصطلح واصفًا أو موصوفاً مثل تغيير نعمة الله ، قال تعالى: "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (سورة الأنفال (53). قال ابن عاشور في تفسير هاته الآية: تغيير النعمة إبدالها النقمة بضدها وهو وسوء الحال؛ أي تبديل حالة حسنة بحالة سيئة، والمراد بهذا التغيير تغيير سببه، وهو الشكر بأن يبدلوه بالكفران فضميمة تغيير نعمة الله هي ضميمة ضمت إلى مصطلح التغيير في القرآن الكريم.
ج. المشتقات: عرض المشتقات وتتضمن كل لفظ اصطلاحي ينتمي لغوياً ومفهومياً إلى الجذر الذي ينتمي إليه المصطلح المدروس كالمجتهد مع الاجتهاد، والبليغ مع البلاغة، ولا يدخل فيها المنتمي لغويا فقط كالإنفاق مع النفاق ولا المنتمي مفهوميًا فقط كالقصيدة مع الشعر إذ محل هذا العلاقات. والمصطلح بمشتقاته من حوله، كأنما ينمو ويمتد مفهومياً من خارجه فمن أمثلة ذلك المشتقات الفعلية وهي: مشتقات الفعل الماضي والمضارع والأمر: "اتقوا" وقد وردت هذه الصيغة في القرآن الكريم تسع عشرة مرة منها في قوله تعالى: "لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَار ( سورة آل عمران (198. كذلك الأمر مع لفظى "اتقى" و"اتقيتن". وغيرهما. أما "يتق" فقد ورد في القرآن الكريم على عدة أوجه منها: بحذف الباء، مجزوما بمن وبلام الأمر وسنورد ذلك في نماذج نذكر منها: ما ورد بجف الباء: " ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ، وَيُعْظِمْ لَهُوَ أَجْرًا (سورة الطلاق (5. بالإضافة إلى آيات أخر ورد فيها الفعل منها الآيتان 283 283 من سورة البقرة، والآية 52 من سورة النور.
ح. القضايا: وتتضمن كل المسائل المستفادة من نصوص المصطلح المدروس وما يتصل به المرتبطة بالمصطلح أو المرتبط بها المصطلح، مما لا يمكن التحكم من مفهومه حق التمكن إلا بعد التمكن منها حق التمكن. وهي متعذرة الحصر لكثرة صورها وتنوعها من مصطلح إلى مصطلح ، ومن أصناف القضايا نجد: "الأسباب والنتائج، المصادر والمظاهر، الشروط والموانع والمجالات والمراتب، والأنواع والوظائف، والتأثر والتأثير ونضرب لذلك أمثلة حول أصناف القضايا في مصطلح التقوى، وذلك قبيل الإيضاح والفهم:
صنف الأسباب والنتائج وتضم أعمال المتقين وجزائهم ومكانتهم عند ربهم والجنات التي وعد المتقون؛ قال تعالى: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (سورة البقرة: 112).
صنف المجالات والمراتب: ويضم درجات التقوى وموقعها ضمن منظومة الإسلام الإحسان وما يتصل بذلك؛ فإذا كان للإسلام والإيمان والإحسان درجات ومراتب فللتقوى أيضًا درجات ومراتب. قال الله تعالى: "لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَواْ وَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَءَامَنُوا ثُمَّ اتَّقَواْ وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (سورة المائدة: 93).
صنف الشروط والموانع : ويضم أسباب ضعف التقوى والإيمان في النفوس كما هو مبين في لفظ التقوى عند البوزي في أطروحته: "سوء المعاملات وفشو الظلم وقلة الثقة وانتهاك المحارم أكبر دليل على قلة التقوى وضعفها، أو غياب أثرها في الحياة الاجتماعية وهذا ما يشتكي منه الناس ويلاحظ أثره في مجتمعنا الحالي".
صنف التأثر والتأثير: وتشمل التربية على التقوى وفعاليتها في بناء شخصية الأفراد والجماعات قال تعالى: "مَنْ عَمِلَ صَلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوةَ طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (سورة النحل: (97). فحاجة المسلمين إلى التربية على التقوى نابعة من حاجاتهم إلى التقوى نفسها، لما لها من فضل على من اتصف بها في حياته الدنيوية والأخروية.
وفي ختام محاور العرض المصطلحي وعناصره نكون أمام أساس الأخير من الأسس المنهجية، والتي على الباحث أن يدركها ويستوعبها نظريا حتى ويروم الوصول من خلالها إلى التطبيق العملي لفهم مراد الله من المصطلح القرآني.
الخاتمة
وبعد أن أشرفت رحلتنا البحثية على الانتهاء؛ فقد أسفرت عن مجموعة من النتائج نورد أهمها بالتركيز فيما يلي:
أنّ المصطلح هو اللفظ الذي يسمّى مفهوماً معيناً داخل تخصص ما. أنّ هذا الاهتمام ليس وليد العصر الحالي، بل هو متجذر في كتب التراث الإسلامي.
أنّ المصطلح القرآني هو كل لفظ أكساه القرآن مفهومًا خاصًا لم يكن متداولا في لسان العرب قبل نزول القرآن الكريم.
أن مشروعية الدراسة المصطلحية المفردات القرآن نابعة من خطاب القرآن نفسه. أنّ أنواع المصطلح القرآني تنقسم إلى ثلاثة أقسام، مصطلحات وافقت اللغة العربية، ومصطلحات خضعت للتغيير الدلالي؛ إما بالتضييق، أو الاتساع، أو الانتقال، والمصطلحات التي انتقلت دلالتها اللغوية.
تتلخص أهمية المصطلح القرآني في كونه طريقًا آمنا وموصلا للعلم بالمطلوب، ومعرفة المراد.
نستنتج أنّ مقاربة المصطلحات القرآنية وفق أسسها المعرفية والتي تتمثل في الربانية، والقصدية، والاستمرارية والهيمنة والتصديق والشبابية والفتوة والتعاضد والتناسب. تنفرد في دراستها عن غيرها.
كما أن دراسة المصطلحات القرآنية ضمن أسسها المنهجية الرصينة التي سطرها روادها وتتمثل في الدراسة الإحصائية والدراسة المعجمية، والدراسة النصية، والدراسة المفهومية ثم العرض المصطلحي؛ كفيلة بضمان الطريق القويم للوصول إلى فهم يطابق المقصد الرباني من الكلام القرآني، دون تضييع أو تمييع.
ومما يمكن التوصية في هذه المناسب هو توجيه الدارسين والباحثين في الدراسات العليا إلى العناية بالمصطلحات القرآنية، وتشجيع البحث العلمي في هذا الشق من الدراسات، وفق الأسس المعرفية والمنهجية التي تم التطرق لها، مع نشر ثقافة الحس المصطلحي حتى تصير تذوقا وحسًا لدى العموم.
المصادر والمراجع
0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا