ادعمنا بالإعجاب

ملاحظات حول الحداثة في النقد الأدبي العربي

 بقلم: د. صلاح فضل

الحداثة هى إبداع النقد ، فهى تقع بالقوة على حافة المنطقة الفاصلة بين الأمس واليوم ، حيث تترسخ خلايا الماضى الميتة ، وتتشوف أجنته الطالعة بكل ما تشتاقه من طاقة خلاقة ، وتحتاجه من إدراك متوفر للمتغيرات وتحليل علمى لعناصر المستقبل ، وقدرة فذة على التنبؤ الصائب بإشباعاته.

ومن ثم فإن تناول الحداثة فى إطار مؤتمر الإبداع ينبغى له فى تقديرى أن يتسم بالتأمل ويخضع للملاحظة الهادئة المتأنية ، التي تعتمد على تقطير العناصر المألوفة ، وتأليف وحدة متكاملة منها ، تثرى بالمناقشة ، دون أن يتحول إلى مجرد استعراض تاريخي لحركات التجديد في النظرية النقدية ، ولا سرد تفصيلى لتيارات الحداثة المعاصرة ، بل علينا أن نستحضر في وعينا خلاصة تجربتنا الفكرية لنمارس فى لحظة شفافة مركزة ، وبأقصى قدر من الصدق مع النفس ، لونا من نقد النقد ، بحثا عن منابع أصوله المعرفية المتجددة، وتلبساته المتكاثرة ، فى حركة استجلاء صاف للموقف النقدى الصحيح ، لا تجنح للتبرير ، ولا تختنق تحت ركام عوامل الإحباط والتعتيم .

ولا يخفى علينا منذ الوهلة الأولى أن إشكالية الحداثة ، إنما هى فى بعض جوانبها وضع عصرى متبلور للجدلية الشائعة المتداولة عن صراع القديم والجديد ، فهى تعكس منطق الحياة ، وتجسد طبيعته ، وتكشف عما أدركه الإنسان من ضرورة التطور ، وما لاقاه - ويلاقيه - من عناء لتأصيل هذا التطور والتسليم بمشروعيته . إلا أن القضية بهذه التسمية المحدثة تكرس الانتصار الحتمى للجديد، وتحل نسبة كبيرة من إشكاليته لصالح المستقبل، فهى تشير إلى ما حدث بالفعل ، وتولد من رحم الواقع ، وحقق نوعا من التقديم بعده ، انبنى عليه وتجاوزه ، فلا تقف مقولة الحداثة عند مجرد الإشارة لعنصرالزمن وإن نشست ، بل الزمن وإن تضمنته ، بل تشمل الفعل ونوعيته ، واندراجهفي خط متصاعد، وارتباطه بخلاصة مظاهر الحضارة في شكلها العصرى الأخير، ارتباطا عضويا شموليا فالتجديد قد يقف عند جزئية صغيرة ، في أية لحظة تاريخية، أما الحداثة فهى البنية الكلية لما تمخض عنه التطور الإنسانى فى عصرنا القريب ، وهى بهذا المفهموم لا تصبح بدعة نأخذ بها أو نترفع عنها ، ولا زينة نتحلى بها عندما نريد ونخلعها إذا مللناها ، بل تمثل قلب الحركة الحضارية ، وقوتها المبدعة ، فإذا انفصلنا عنها حكمنا على أنفسنا بالتخلف والجمود .

أما الحداثة فى النقد الأدبى على وجه الخصوص فهى ضرورة أوضح وأقرب من هذه الحداثة العامة وإن كانت من تجلياتها ، فلا مفر للنقد من أن يستحدث أدواته من ناحيتين :

أولاهما : من ناحية الناقد نفسه ، إذ يستحيل عليه أن يلغى ذاته ويكرر من سبقه ، ويفنى فى تقليده ، وإذا كان الإنسان قد عاش عصوراً طويلة بطيئة يتحرك في دائرةمحدودة ، فيستطيع أن يترسم خطى الأولين ويجد لديهم عالمه المثالى المأمول ، فإن مسافة البعد بين الأجيال الأخيرة أصبحت شاسعة

وثانيتهما : من ناحية المنقود، إذ يتعذر إخضاع نفس المادة الأدبية للنقد بنفس الطريقة مرة أخرى ، وذلك لسبب بسيط وهو أن ما حدث من إبداع وجد من إنشاء قد عدل شبكة العلاقات الموضوعية والجمالية لما كان موجوداً من قبل ، مما يتطلب معالجة نقدية مستحدثة.

لكن لا ينبغى أن نتمثل الحداثة من هذا البعد الشيئي المتعين ، وأولى بنا أن نبحث عن مصادرها الديناميكية ، خاصة ما يعتمد منها على متغيرات التجربة التاريخية الإنسانية كما تكثفت فى مراحلها الأخيرة ، مما حدد مسار الحداثة النقدية وجعلها شديدة التميز ، وأهم هذه المصادر ثلاثة :-

۱ - التراكم العلمى ، ويتصل بدائرة العلوم التجريبية من ناحية ، والإنسانية من ناحية أخرى ، وكلاهما يعدل جوهريا من رؤية الإنسان للعالم وللمجتمعرؤية للعالم وانا البشرى والقوانين التى تحكمه ، ويزيد من خبرتنا الكونية والنفسية. وقد أدى هذا التراكم إلى تطور منهجي ونوعي . هام ، أخذت تتقلص على إثره المسافة الفاصلة بين هاتين المجموعتين ، فاقتربت بعض العلوم الإنسانية المتصلة بالنقد الأدبى من المجال التجريبي ، مثل علوم اللغة والنفس والاجتماع والاتصال ، مما آذن بتحول جذري في أدوات النقد الأدبى وإجراءاته ، وفرض عليه أن يستمد من هذه العلوم كثيرا من وسائلها القياسية ونتائجها اليقينية ، كى يوظف كل ذلك في مجال المعرفة الأدبية

۲ - التكيف الذوقى ، وذلك نتيجة لإعادة تشكيل حساسية الإنسان باختلاف ظروف الحياة المادية المحيطة به ، ويكفى أن نلقى نظرة سريعة على المجالات العديدة التي يتحرك فيها إنسان اليوم، والأدوات التي يستخدمها ، والمعطيات الحسية التي تقتحم عليه دنياه وتصوغ وجدانه ، كى ندرك أهمية الإطار المادى فى تكوين المزاج وتكييف الحساسية ، ودوره الهام في تحديد سلم القيم الجمالية في العصر الحديث .

-٣  التفجر الإبداعى ، ويعد هذا العامل الأساسىفي ديناميكية الحداثة من أشد العوامل ارتباطا بالبنية الثقافية التاريخية وأكثرها تأبيا على التحليل والضبط والقياس ، وهو مع ذلك بالغ الأهمية بالنسبة للنقد الأدبي الحديث ، إذ يحاول حصاره والتعرف عليه ، وبحث إمكانياته ودرجة كثافته مستعينا بكل القوى التجريبيةوالحدسية .

وإذا حاولنا الاقتراب بشكل أدق من مفهموم الحداثة النقدية تعين علينا أن نرصد مجموعة من مظاهرها العامة ، وجملة أخرى من خصائصها فى أفقنا العربي حتى نستكشف الطريقة التي يتم بها تكريسها وتجاوزها ، ونتبين مقتضياتها وامتداداتها من قبل أن نستعرض شروطها الأخيرة ، ويلاحظ أن هذه المظاهر تمثل قضايا متداولة ، تثور من حين لآخر ، وتثير حولها كثيرا من الدخان الذي لا ينقشع إلا لدى من يملك بصيرة النفاذ إلى حقائق الوضع الصحيح للأمور ، ويطمئن إلى ضرورة التأنى لها من منظور الحداثة وليس من الجانب المقابل أو الملتوي الذي لا يسمح بالرؤية الصافية السليمة . ومن أهم هذه المظاهر :

جدلية العلاقة بالتراث ، نفيا وإيجابا ، استحضاراواستقلالية العلاقة وإسقاطا ، بعثا وتنقية ، ولا يتأتى هذا بطبيعة الحال دونأن نقتل التراث معرفة كما يقول بعض علمائنا ، هذا القتل الذي يشبه فى بعض جوانبه قتل الأب الذى هو الوسيلة الأولى للتحرر من سطوته ، وإفساح المجال للنمو الطبيعي . وهو يقع فى النقطة الإيجابية الوحيدة بين موقفين سلبيين ، أحدهما هو التبعية المطلقة له والآخر هو الثورة القاطعة عليه ، وكلاهما طريق مسدود.

أما المظهر الثاني للحداثة ، وهو شديد الالتحام بما سبقه ، إذ يترتب عليه ، فهو قوة الوعى بالواقع ومكوناته المختلفة ، فإذا ترسخ هذا الوعى فى ضمير الناقد جعل بالضرورة علاقته بالتراث جدلية انتقائية ، ففى هذا الواقع سواء كان في مستواه المحلى ، أو على صعيده العالمي لا تتمثل العناصر المستجدة فحسب ، بل تتمثل الخمائر التي لن تلبث أن تؤتى أكلها فى المستقبل أيضا ، مما يجعل الوعى بجميع عناصر الواقع علامة لا تخطىء نستطيع أن نميز بها بعض المثاليين الغافلين الذين يتوهمون أن بوسعهم رفض الحداثة وإنكار حقيقتها المشعة ، فهم كمن يركبالقطار ويدير ظهره لاتجاهه. ويتصور أنه يعود به للوراء

أما المظهر الثالث لمظاهر الحداثة العامة فهو حيوية المصطلح ، وتراسله الدائم مع العناصر الحية لهذا الواقع ، وترجمته للعلاقات الجديدة بين الفن والحياة ، والوظائف المستحدثة للأشكال الفنية القديمة والمنوطة بالأعمال الإبداعية الجديدة ، مما يجعل الحداثة تتجلى في الكلمات وتقلباتها الدلالية فمعاداة المصطلح الحديث ليست مجرد مشاحة مكروهة منذ القدم ، ولكنها وهذا - هو الأفدح - محاولة عبثية لإنكار حقائق واقعة تتبلور فى كلمات جديدة لن تلبث بدورها حتى تضيق ،وتهترىء وتحتاج لاستبدال جديد ، واستنكارها لا يؤدى في نهاية الأمر إلا إلى عزلة مستنكرها وقصوره عن متابعة مستحدثات الفكر والإبداع على أن نفس هذه المظاهر العامة للحداثة تتجلى لدينا بشكل متميز ناجم عن خصوصية ظروفنا التاريخية والثقافية ، مما يدعونا أن نجملها على سبيل التذكرة واستكمال التصور في الجوانب الآتية :

حسبنا أن نبدأ الحساب لنجد أن ثلثى أشكالنا الفنية - وهما الرواية والمسرح - مستحدثان قد تم استزراعهما فى اللغة العربية ، فنقدهما نظريا وتطبيقيا لابد وأن يستحدث بدوره ، ولم يكن بوسعنا أن نترك لهما مجال . نمو طبيعى يستغرق قرونا مثل التي استغرقها في الآداب الأخرى ، بل كان علينا أن نختزل فترات طويلة ، ونقفز فوق عصور كاملة ، ونبدأ من حيث انتهى الآخرون من جوانب عديدة ، ونفيد من تطوراتهم الفلسفية والجمالية ، ونبذل جهداً نقديا بارزاً حتى تلتئم هذه الأشكال - وما يتفرع عنها - في نسيج البنية الأدبية العربية دون رفض أو خلل ، ولابد أن نسجل للرواد من المبدعين والنقاد نجاحهم المذهل فى إثراء الأدب العربي وتأصيل هذه الأشكال الجديدة فيه.

أما الثلث الأخير - وهو الشعر - فقد مضى بدوره في سبيل الحداثة حتى شارف القطيعة النسبية مع عصوره الماضية ، فتركزت فيه إشكالية الحداثة وتأزمت ، وتعين على النقد أن يعود للقيام بدور الوساطة والتحكيم ، وأن يتولى فى بعض الأحيان شرح البديهيات ، وتبرير الحد الأدنى من أبجدية الإبداع ويواجه - على المسرح الأدبى - كل مخلفات الجمود والتكلس في الحياة الفكرية ويدفع ضريبة فتح باب الاجتهاد مرة أخرى أمام الإنسان العربي فى قضايا الفن، ويتصدى لما يعينه ذلك بالنسبة لجملة البنية الثقافية .

وإذا كانت تاريخية الفن ووظيفته كذاكرة للشعوب ، تتوزع لدى الأقوام الأخرى بين المرئيات والمسموعات ، بين الأدب والفنون التشكيلية والموسيقية ، فإنها أوشكت أن تنحصر عند الأمة العربية فى اللغة ، فاستأثرت اللغة بالقداسة والجلال ، بالخلق والتحليق ، صنعت الحياة الروحية وتبلورت فيها، فتربت وتأبت واستعلت على الواقع اليومى واعتصمت ببروجها الأبدية ، وأدانت كلام الحياة اليومية وقيدت حركته وحرمته من الشاعرية والتألق ، فانتهينا إلى ظاهرة الازدواج والثنائية بين الفصحى والعاميات، وأصبح على الفنون اللغوية أن تقيم قنواتها السرية للتواصل بين هذين المستويين حتى لا تصاب بانسداد الشرايين ، وصار ذلك أخطر تحد يواجه المبدع والناقد معا ، ولا يسمح لهما بالركود إلى الحلول السهلة اليسيرة ، بحثا عن الصيغة المثلى للاستثمار اللغوى الشعر الحياة وأدب الواقع، دون ترد في هوة الإقليمية والانسحاب إلى العزلة أو كسر للإطار الثقافى الجامع ودون وقوف عاجز حيالها كأنهما لا تعنينا ولا تحدد قدراتنا الإبداعية ، كأنها وقف ورثناه وليس لنا منه سوى حق الارتفاق دون الامتلاك والتصرف . علينا أن نحل هذه الإشكالية بصدق وشجاعة، فإما تكون اللغة ملكنا أو لا تكون ، ولا نحسب أن عدم شرعية تملكها في عصور ما بعد الاحتجاج قد منعت الأجيال السابقة من اختلاسها وسوء التصرف فيها ، بل إن القضية أعقد من أن تحل بتشبيه ، ونتائجها بالغة الأهمية ، وفى تقديرى أن بحث حداثة اللغة ، وتوثيقها بما طرأ عليها في العصور السابقة من تغيرات حيوية ، والاعتراف بملكية الأديب المتمكن الكاملة لها دون الاستمرار فى اعتباره قاصرا أو سفيها أو وريثا مبددا يمثل نقطة انطلاق جوهرية للطاقة الخلاقة لدى المبدع والناقد العربي معا ، ويزيل عائقا أساسيا يقيد حركته ويهيض جناحهز

على أن حضارتنا الحديثة - ونسبتها إلينا تقتصر على العدوى والمجاورة - هذه الحضارة لم تلبث أن تمخضت عن نظم شبه لغوية جديدة ، في مجموعة من الوسائل المرئية التى أوشكت أن تحل محل الأجناس الأدبية التقليدية ، فاقتحمت علينا الأكواخ الريفية والمساكن المدنية ، دون أن تقف عند حواجز طبقية أو فوارق إقليمية أو لغوية ، ولم تنتظر من علمائنا ومفكرينا أن يأذنوا لها بالدخول ، أو يبحثوا عن أطرها المعرفية وأفضل السبل لتوظيفها. وهنا تصبح الحداثة المادية المباشرة تحديا صارخا للنماذج السابقة ، ودعوة عاجلة للإبداع والتنظير دون ركائز محلية سابقة . ويتعين على علم الجمال وفلسفة الفن أن يلهثا وراء مظاهر التقدم الصناعي والتنكولوجي والاليكترونى ، فى محاولة لاحتوائه وتحديد أسسه ومعالمه وتأثيراته . ولا مفر لنقاد اليوم من الاستعانة بالدراسات السيميولوجية الحديثة لبحث هذه النظم المرئية في مجالات السينما والتليفزيون والفيديو وما يجد بعدها من وسائل الاتصال ومعرفة إشاراتها ولغاتها ، وتحليل إمكانياتها الفنية، وتأثيراتها القوية على التكوين الفردى والجماعي، وبحث جمالياتها واتجاه تطورها ، والقوانينالتي تربطها بما اعتدنا عليه من أشكال فنية تقليدية والخصائص المميزة لها ، وكيفية توظيفها علميا وتربويا بحيث لا تصبح أدوات استلاب تعزز الاغتراب وتكرس التبعية الثقافية للنماذج المسيطرة ، بل تؤدى دورا رئيسيا في تعميق الوعى بالشخصية القومية وسد ثغرات الهياكل . التعليمية وقصور وسائل الاتصال الأدبية المعتادة ، بحيث تصبح الرؤية الحسية مفتاح الرؤية الفكرية والفنية

ويلاحظ أن الحداثة النقدية فى هذا المجال ليست ترفا نستطيع أن نتخلى عنه ، بل هي ضرورة يفرضها إيقاع التطور المتلاحق لمجالات وسائل الإبداع الفنية ، فإن لم يتقدم الناقد المثقف المستوعب للتراث الحضارى لأداء رسالته من خلالها ترك المجال خاليا للفهلوى المتعجل ، الذي تنقصه المعرفة اللغوية والأدبية والفلسفية ، وينقصه بذلك أهم إطار مرجعى يستطيع به أن يجعل التحديث عملية نمو فكري وثقافي مصاحب للنمو المادى الملموس .

وتأسيسا على ما سبق ، يمكن لنا الآن أن نخلص إلى إبراز أهم شروط الحداثة ، وهى شروط إفادة وليست شروط وجود ، بمعنى أنها ستتيح لنا إن تحققت فينا فرصة امتلاك ناصية عصرنا بقدر ما نتمكن منها ، فإن تلكأنا في الأخذ بأسبابها وغلبنا أضدادها فإن الحداثة لن تتوقف لدى الآخرين ، بل نحن الذين سنتوقف ، ونجهض فينا إمكانيات التقدم المادى والأدبى معا . ويمكن في تقديرى تركيز هذه الشروط التي تحدد مدى إفادتنا في ثلاثة : الحرية والاضطراد والمستقبلية.

أما الحرية الضرورية للحداثة فلا تقتصر على مفهومها النظرى المجرد ، إذ لا يكاد يمس منطقة النزاع ، وإنما هى الحرية الساخنة المشتبكة في صراع واقعي في الزمان والمكان ، الحرية تجاه الماضى وتجاه الآخرين ، بما تقتضيه من انتقاء من التراث دون تعصب له ، وإفادة من الآخرين دون عبودية إزاءهم، وقد وجدت لدينا هذ الحرية منذ بداية النهضة ، بل هي التي أتاحت لهذه النهضة أن تشق الأرض السبخة وتفرز أنضر ورودها ، ولكنها كانت دائما مغامرة فردية محفوفة بالمخاطر ، ولم تصبح حتى الآن وعيا كامنا فى الضمير الجماعي لنا ، وقوة دافعة للمسيرة العامة ، بل نوشك أن نشهد أحيانا بعض مظاهر الانتكاس فيها أحرزته القلة الرائدة فى العقود الأخيرة . وإذا كانت الحرية فى كل مستوياتها الفردية والاجتماعية والفكرية من أهم شروط الإبداع الثقافي فإنها تمثل روح النقد ، إذ لا يقوم بدونها ، ومن يحرمون على النقد أن يأخذ من التراث بحرية ، وأن يتجاوز حدود المحلية ينكرون عليه مشروعيته ذاتها، وهو يبدع بقدر ما يستحدث ويكتشف ، أي بقدر ما يتحرر .

ولا يعنى الشرط الثاني وهو الاضطراد مجرد الثبات على المبدأ ، أو الولاء للفكرة وإنما يشمل أيضا تحمل نتائجها والوصول بها إلى مداها المقدور دون شذوذ أو نكوص فهو يعني تواصل المسئولية عن الحرية الممارسة والتصدى الشجاع الدائم لكل مقتضياتها ونتائجها ، والالتزام بمنطقها إلى آخر المطاف ، فهذا الاضطراد هو الذي يعطى للحرية بعدها التاريخى ودلالتها الحقيقية ، فلا تصبح مجرد دور يتقمصه المفكر طالما أفاده ، أو يدعيه لنفسه وينكره على الآخرين ، أو يتغنى به فى مجال الأدب وينكره في ميادين السياسة والدين والاجتماع ، الاضطراد هو الوسيلة الفعلية لتحول الحرية من مغامرة فردية مخاطرة إلى حركة واعية محسوبة مقنعة وملزمة للجماعة ، إلى تيار كامن في ضمير الشعوب المتقدمة ، يحدد اتجاهها ، ويسدد خطاها . وهذا هو دور قادة الرأي والفكر والثقافةفمعيار قيمهم يتمثل فى قيامهم دائما بمسئولية ( البوصلة ) التي لا تخطىء فى الإشارة إلى الاتجاه الصحيح أيا كان المكان والوضع الذي تجدها فيه

وهنا نصل إلى الشرط الثالث من شروط الحداثة وهو المستقبلية ، فهذا هو الاتجاه الذى ينبغى للناقد المفكر أن يشير دائما إليه. وقد طور الإنسان في الآونة الأخيرة مجموعة من العلوم الإحصائية وأطلق عليها اسم علوم المستقبل ، وهى - كما نعرف - تعنى بوضع أسس بناء الغد المادى ومواجهة متطلباته من غذاء وطاقة وعمران وغير ذلك من حاجاته الضرورية المباشرة ، وتعتمد على الأقيسة الكمية باستقراء نتائج التجارب الإنسانية الماضية والتنبؤ حسابيا بأوضاع المستقبل . ولا ننسى أن الأدب - وهو موضوع النقد - من أشد أشكال الإبداع حفاوة بالمستقبل ، وتحديقا فيه ، وقد سبق العلم في جوب آفاقه بالخيال ، ورسم أشكاله على التقريب .

ويتعين على النظرية النقدية المحدثة أن تدور حول هذا المحور المستقبلى ، وتعرض مقولاتها عليه ، مما يعنى تقبل جملة نتائج : - 

  1. منها أنها لا يمكن أن تستقر على حال ، ولا تتجمد في صيغة معينة ، بل تنتظم فى حركية دائمة حول محاور دائرة ، وقد يخيل للناظر أن هذه المحاور ثابتة ، مثل اللغة وسلم القيم ، واللذة الجمالية وغير ذلك مما يبرز من عصر لآخر ، ولكن المتأمل لا يلبث أن يدرك أن نفس هذه المحاور تغير مواقعها ووظائفها وطبيعتها ذاتها ، فقد تحتل المركز مرة وتنحدر للهامش مرة أخرى ، مما تنجم عنه تغییرات جوهرية فى التكوين العام . ولما كانت ترتبط دائما بنشاط إبداعى فهى تتخلص بانتظام من طابع الآلية ، ولا تتكرر بنفس الشكل . فتاريخ الأدب والنقد - وحتى التاريخ العام - لا يمكن أن يعيد نفسه ، وأى تصور دائرى إنما هو تبسيط محل للأشياء . وما يبدو من السطحشبيها بما حدث من قبل لا يلبث عند أيسر اختبار فاحص أن يتكشف عن نسق آخر وبنية مختلفة . وإذا كانت هذه مسافة الخلف بين الأمس واليوم فإن الغد سيتدفق بمتغيرات أشمل ، نتيجة لسرعة إيقاع التطور المتلاحق ، وتضمنه لقفزات نوعية هائلةز
  2.  ومنها أن علينا أن نقيس كل عنصر في النظرية الأدبية ، لا بمدى تجذره فى الماضى ولا بقدر سطوته في الحاضر ، وإنما بما يسهم به في تشكيل المستقبل طبقا لحاجتنا فى استكمال جوانب المعرفة الأدبية علميا ، وقوة وسلامة التذوق للأدب والفنون الحديثة المجاورة له والنابعة منه
  3. والنتيجة الأخيرة لهذا الطابع المستقبلى الغالب على الحداثة النقدية هى ضرورة التسليم بحقيقة هامة ، وهى أن عوامل التقريب اليوم، بين الآداب والأفكار والشعوب أكثر فاعلية وأعمق أثرا من عوامل التباعد ، مما يعنى أن حركة التراسل بين الآداب المختلفة تزداد كثافة وقوة ، وهذا يتيح للنظرية الأدبية والمناهج النقد الحديثة أن تأخذ طابعا عالميا لا مراء فيه ، ويخفف من حدة الملامح المميزة للثقافات المختلفة دون أن يقضى عليها ، حفاظا على الشخصية القومية من جانب ، واستجابة لمصادر الإبداع المحلية من جانب آخر.

وإذا كانت محصلة التراكم العلمي التي أشرنا إليها کعامل ديناميكي فى الحداثة تمثل قدرا مشتركا بين الشعوب المختلفة ، على تفاوت حظها فى إنتاجها وتلقيها ، فإن تشكيل الحساسية وخواص التفجر الإبداعي يمثلان المنطقة المقابلة ، حيث تتمايز الشعوب وتختلف الثقافات ، وحيث يتعين على النظرية الأدبية النقدية أن تتجنب طمسها وإلغاء شخصيتها حتى لا تقع في التغريب ، وحتى لا يصبح الإبداع بدعة ضالة لاهِبَة

مدريد : د. صلاح فضل

مواضيع ذات صلة
الأدب العربي العالمي,

إرسال تعليق

0 تعليقات