عرض وتقديم : وليد مشوح - بصرف -
اذا كان العالم قد عرف الملحمتين الاغريقيتين الالياذة والأوديسا ؛ فالباحثون الانتربولوجيون يقارنون بين الملحمتين وبين الملحمتين الهنديتين المعروفتين عند دارسي الملحمة الانسانية ، ونقصد بهما المهابارتا Mahabharata» مقابلة للالياذة ، والتي ترتكز بدورها على عدد كبير من القصص والحكايات والاساطير الخرافية المتوارثة حيث تدور حول أحدى الحروب التاريخية القديمة ، وعليها تقوم الكثير من الشخصية الفكرية الهندية .
بينما لا تقل ملحمة الرمايانا « Ramayana » اهمية عن شقيقتها ، وهي بنظر علماء المواريث الشعبية ودارسي التراث والباحثين الانتربولوجيين تجاري » اويسا » الاغريق ملحمة الرمايانا تحكي باسلوب شيق اطاره الخيال ، ومادته تقوم على بعد فلسفي مستقى من سيكولوجية الانسان الهندي ؛ قصة الاهوال والمخاطر ، والمغامرات التي مر بها أحد أمراء الهند اثناء ترحاله وتجواله حيث غادر موطنه منفيا ، عندها فقد زوجته فكان عليه أولا أن يقطع الفيافي والوديان ، ويخترق الحواجز والحدود بحثا عن شريكة حياته التي تبين أنها خطفت من قبل اعدائه وهكذا تمضي الملحمة مركزة في موضوعتها على البطل الفرد ، راسمة الرمز الاسطوري للقدرة الانسانية اللا محدودة ، واصفة باسهاب القيم النبيلة ، والآراء الصائبة ، والنظرة الثاقبة ، والمثل العليا الواجب توفرها بالبطل الرمز ، وبذا نلاحظ أن موضوعتها - آخذين بعين الاعتبار اختلاف الشرائع والنواميس الاجتماعية بين شعب وشعب تشبه الى حد يكاد ان يكون متطابقا مع ( اوديسة » الاغريق .
المهم أن المهابهارتا والرامايانا ملحمتان تؤلفان الجانب الاكبر والاشمل عند الهندوس القدامى، كما انهما معا تعطيان صورة واضحة ومتكاملة الثقافة والحضارة الهندوكية وعن الحياة السياسية والاجتماعية بل ايضا عن الدين والفكر في الهند القديمة وهنا سنعرض لملحمة الرمايانا مع الفروق بينها وبين المهابهارتا ، ومدى أهمية الملحمتين بالنسبة لكونهما مقدمات تحليلية لما صارت اليه حضارة الهند ، وتأثيرات الاولى على تكون الشخصية الهندية مع تثبيت الآراء الاكاديمية حول موضوعتها واثرها وتأثرها وتأثيرها ، عارضين لهذا البحث مما جاء في ( مجلة عالم الفكر ( المجلد السادس عشر الاول - ( ابريل - مايو - يونيو ( عام ۱۹۸۵ ، بدءا من ص ١٦ وانتهاء ) ص ۲۸ ) من التمهيد الذي كتبه مستشار التحرير الدكتور احمد ابو زید بعنوان « الملاحم كتاريخ وثقافة ).
ماذا تعني الرمايانا للهنود ؟؟
للاستعراض عدة اسباب تتعلق في مجملها بمجال البحوث الانتربولوجية والمدخل الانتربولوجي لدراسة الحضارة باعتبارها وحدة متكاملة ، والمنهج الذي يمكن اتباعه في دراسة الاعمال الابداعية بوجه عام وعلاقتها بالمجتمع والثقافة اللذين نشأت فيهما هذه الاعمال. فالرمايانا ترتبط اصلا بنمط حضاري معين كان سائدا في احد الاجتمعات القديمة ذات الحضارات العريقة . وقد اهتم كثير من علماء الانتربولوجيا والاجتماع وخصوصا من الهنود أنفسهم بدراسة هذه الحضارة في مراحل تطورها المختلفة ، وكذلك بدراسة النظم الاجتماعية السائدة في المجتمع الهندي المعاصر ، وتتبع اصولها التاريخية ، وربطها بالحضارة الاصيلة ، على ما فعل سرنيفاس « Serinivas » مثلا بالنسبة لنظام الطوائف ، وما فعل دوبیه « Dube » في دراسته للمجتمعات الهندية الريفية ؛ ففي هذه الدراسات وغيرها كان الباحثون دائما يرجعون الى الماضي لمعرفة اصول النظم الاجتماعية التي يدرسونها ويتتبعون استمرار الاشكال الاولى في الحياة الاجتماعية والثقافية القائمة في الوقت الراهن. والواقع أن الحضارة الهندية لاتزال تحتفظ بكثير من نظمها وقيمها الاجتماعية وأنماطها الثقافية الاصيلة حتى الآن ، وتؤثر بشكل مباشر وقوي في المجتمع الحديث . وكثير من القيم وانماط السلوك والعلاقات الاجتماعية والمبادىء الاخلاقية والتعاليم الدينية والممارسات الشعائرية التي تظهر في الملحمة تؤلف جزءا هاما من بناء الثقافة في المجتمع الهندي الحديث ، وتوجه سلوك الناس وحياتهم وذلك على عكس الحال بالنسبة لبعض الحضارات القديمة الاخرى التي تعتبر الآن حضارات ميتة مثل الحضارة المصرية القديمة أو حضارات ما بين النهرين القديمة أو حتى الحضارة الاغريقية التي يقول عنها ارنولد توينبي : ( انها حضارات ذات جذع ميت. فلا تزال الحضارة الهندوكية حية ومستمرة الى حد كبير في حياة الناس وتفكيرهم وعلاقاتهم وقيمهم وممارساتهم . وليس أدل على ذلك من الاحتفالات السنوية التي تقام في بعض المناطق الهندية حتى الآن والتي تقدم فيها بعض مشاهد الملحمة ومواقفها . كما لا يزال انشاء الملحمة وروايتها يعتبران من أهم ملامح / راما / السنوية التي تقام في بنارس ، كما تمثل المسرحيات المستمدة من الملحمة في احتفالات / لاهور / السنوية وتجد اقبالا شديدا من ملايين الهندوس الذين يرون فيها صورة غنية لحياتهم ومبادئهم وقيمهم ومثلهم العليا ، والاكثر من ذلك ان الرمايانا تعتبر مصدرا من أهم المصادر المعرفة المباديء التقليدية التي تنظم العلاقات داخل الاسرة ، وبوجه خاص العلاقات بين الزوجين ، والحقوق والواجبات التي يلتزمان بها. كما تتمثل في حياة بطل الملحمة ( راما ) وزوجته سيتا « Sita » وكذلك حدود سلطة الاب على بقية افراد العائلة باعتبار العائلة التقليدية في الهند عائلة أبوية بكل معاني الكلمة ؛ أي أبوية النسب والاقامة والنفوذ ، حيث يحتل الذكور مركزاً ممتازا ، ويحظون بمكانة أعلى بكثير من مكانة المرأة ؛ كما أن الملحمة تحدد اسلوب التعامل بين اعضاء العائلة تبعا لفوارق السن والجنس، ولا يزال هذا كله يؤثر بشكل مباشر وفعال في سلوك الهندوس أو أنهم على الاقل يتخذون العلاقات الزوجية بين بطلي الملحمة راما وسيتا نموذجا ومثالا يوجه سلوكهم ويحدد علاقاتهم ومسؤولياتهم تجاه بعضهم بعضا
فالرمایانا اذن ليست مجرد جزء من التراث الهندي القديم الذي قد يهتم به المتخصصون دون غيرهم من أفراد المجتمع ، كما هو الحال في كثير من المجتمعات التقليدية ذات التراث العريق ؛ وانما تمثل جزءا من الواقع الحي في المجتمع الهندي الحديث ، ولا تزال شخصيات الملحمة وخصوصا البطلين يعتبرون بمثابة المثل الاعلى الذي يتمثل به الهندوس وربما كان هذا أوضح بالنسبة لمحاكاة النساء لبطلة الملحمة ( سيتا ( في اخلاصها ووفائها لزوجها وتمسكها بعفتها وشرفها ، اذ تتم تنشئة الفتاة الهندوسية وتربيتها على النمط الذي يميز سلوك سيتا وتصرفاتها وفكرتها عن الواجبات الزوجية والعائلية ونظرتها بوجه خاص الى الزوج . ولقد دخل واما الى الضمير الشعبي ، وتغلغل فيه بطريقة اخرى اكثر دلالة وأهمية ؛ وذلك حين ساد الاعتقاد بين الهندوس بانه تجسيد للاله فشنو الذين ينظرون اليه نظرة ملؤها التقديس والحب والاحترام وعلى ذلك فدراسة الرمايانا لا تعتبر مجرد دراسة لجزء من تراث الماضي واحداثه وأساطيره ، وانما هي دراسة لصورة المجتمع الهندوكي كما يتمثل في ذلك العمل الابداعي الذي يحتوي على كثير من التفاصيل والمعلومات الهامة
بين الرمايانا والمهابهاراتا :
الرمايانا شأنها في ذلك شأن المهابهاراتا ، تكونت عبر قرون طويلة ، واذا كانت الصياغة الاخيرة للملحمة هي من عمل شخص واحد أو عقل واحد أي ان مؤلفها هو الشاعر فالميكي Valmiki » ، وذلك عكس « المهابهارتا التي لا يعرف لها مؤلف معين .. ويعتبر قالميكي على هذا الاساس أول شاعر ملحمي في تاريخ الهند كما ان الملحمة ذاتها كانت أفضل مثال يمكن ان يحاكيه ويقلده الشعراء اللاحقون الذين جاؤوا بعد ذلك ، اذ كانت مصدرا هاما لغيرها من الاعمال الشعرية العظيمة مثل بعض الملاحم الاقل شأنا وشهرة كالملحمة المعروفة باسم عائلة داغو أو / الراغو فامسا « Raghuvamsa ) التي وضعها الشاعر كاليداس Kalidas » وذلك الى جانب بعض الاعمال الشعرية الدرامية الاخرى التي نهجت نهج الرمايانا في الاسلوب وطريقة المعالجة وعلى أي حال فان الرمايانا ، والمهابهاراتا تعتبران من التراث القومي أو حتى / الممتلكات القومية / وذلك طوال اكثر من ألفي سنة .. وكان للرمايانا بالذات تأثير قوي على الانتاج الادبي والفكر الديني والاجتماعي في المجتمع الهندوسي .
الفوارق الاساسية بين الملحمتين :
1. المهابهاراتا في مظهرها أو في جانبها الادبي تمثل القصة الخرافية الشعبية القديمة التي تعرف باسم البورانا Purana » ، وذلك بعكس الرمايانا التي تنتمي الى ذلك اللون المعروف أدبيا باسم كافيا « Kavya » أو الملحمة المصطنعة اي التي يراعى فيها الشكل ويعطى أهمية بالغة ، ولذا فهي تزخر بالمحسنات البديعية والتشبيهات والاستعارات والكفايات ويظهر فيها طابع الصنعة .
2. المهابهاراتا في الاصل مجموعة من شذرات و قصص مختلفة يرتبط بعضها ببعض بطريقة غير محكمة ولا يكاد يربط بينها سوى انها تدور حول ما يمكن اعتباره نواة ملحمية ، لا تشغل سوى خمس كامل العمل على الرغم من انها ملحمة طويلة تصل الى اكثر من مائة الف « دوبيت » في اللغة السنسكريتية . بينما يختلف الوضع بالنسبة للرمايانا فهي عمل ضخم. تتوفر فيه كل المقدمات الملحمية التي سبقت الاشارة اليها ولكنها ملحمة من النوع الرومانسي ، كما انها اكثر احكاما من حيث الصياغة ، ويظهر فيها عنصر الاضطراد والاتساق والانسجام في وضع الخطة وتنفيذها، الى جانب كونها عملا من ابداع شخص واحد هو فالميكي
3. المحرب تلعب دورا هاما في كلتا الملحمتين ، لكن ثمة فارقا هاما بينهما هو ( أن الحرب في المهابهاراتا هي النواة الملحمية التي تدور حولها الاحداث والقصص الأخرى. وهي حزب تاريخية كانت قد قامت فعلا بين شعبين من شعوب الهند هما / الكوروا Kuras » و / المبانشالا « Panchalas » واشترك فيها محاربون وابطال من الفريقين ، أي انها حرب بين البشر ، وذلك بعكس الحال في الرمايانا حيث تحتل الحرب مكانا ثانويا نسبيا ولا تقوم الا في مرحلة متأخرة من تتابع الاحداث كما ان الصراع فيها هو صراع ضد مخلوقات شيطانية مخيفة لها قدرة هائلة على المتشكل وهي أشبه بما نجده في القصص الخرافية .
4. ظهرت المهابهاراتا في القسم الغربي من شمال الهند ، وهو القسم الذي يقع بين التخوم الشرقية للبنجاب ومدينة / الله اباد / الحالية ، بينما نشأت الرمايانا في مملكة كوز الا Kosala » وثمة ما يشير في الملحمة ذاتها الى ان الرمايانا نشأت في الاقليم الذي كانت عاصمة أيودهيا Ayadhya والتي كانت هي المقر الرئيسي للسلامة الملكية المعروفة باسم ایکشفا کو
مختصر فكرة الرمايانا :
تدور أحداث الرمايانا في الشمال الشرقي من الهند حيث كانت توجد بعض السلالات والشعوب ذات الحضارات المتقدمة من هذه الشعوب يعيش قبل الميلاد بألف سنة تقريبا شعب الكوز الا الذين كانو يقطنون اقليم « Oudh» وشعب القيديها الذين كانوا يقيمون في شمال بیهار ، وهما من الشعوب التي عرفت بدرجة عالية من الثقافة والحكمة ، والشجاعة والاقدام ، وكلها صفات كانت تتمثل بوجه خاص في الاسرتين الحاكمتين ، كما كان رجال الدين في كلا الشعيبين مشهورين بحب العلم والمعرفة ، وذلك فضلاً عن وجود المدارس التي طبقت شهرتها العلمية كل انحاء الهند بحيث اصبحت هاتان المملكتان مرکزين هامين من مراكز العلم والثقافة التي تجذب اليها الدارسين من المناطق النائية . وربما كان من أهم ما يميز هاتين المملكتين الاهتمام بجمع اناشيد الفيدا الشهيرة ودراستها وتفسيرها . ولا تزال ابحاث رجال الدين هناك حول اسرار الروح وطبيعة وماهية » الروح الواحدة الكلية » التي هي مبعث الخلق محفوظة في اليوپانیشاد القديمة « Upanishads » وتؤلف جزءاً هاماً من التراث القديم الذي يحافظ الهنود عليه و يعتزون به. ولكن هذا العصر الذهبي للمملكتين كان قد زال تماماً، واصبح مجرد ذكرى حين بدأ الشاعر يصوغ ملحمته التي تتغنى في الاصل بهذه الامجاد فقد ارتبطت تلك الحقبة في خيال الشاعر بل وفي خيال الناس ايضاً بالجمال والحق وبذلك فان الملك دازاران Dasa - atha » ملك الكوز الا يظهر في الملحمة على انه حاكم مثالي يعمل جهده لخير شعبه الوفي الأمين ، كما يظهر راما بطل الملحمة والابن الاكبر لدازارانا وولي عهده أميراً نموذجياً يجمع بين الثقافة والشجاعة والايمان بواجبه والتمسك بكل ما هو حق وخير . وبالمثل على الجانب الآخر يظهر الملك چاناكا « Janka » ملك القيديها في صورة الملك القديس ، كما تظهر سيتا ابنة الملك وبطلة الملحمة مثالاً للمرأة النقية والزوجة الوفية . وعلى ذلك فان الجو العام الذي يحيط بالملحمة كلها هو طابع الاحترام والتقديس والاجلال للماضي والاعجاب بكل ما هو حق وابراز كل ما من شأنه أن يرتفع ويسمو بشخصية الانسان ويناى بها عن الصغائر والدنايا ، ولا تزال جوانب المحبة والحنو التي تسيطر على الملحمة جوانب اثيرة حتى الآن
ولقد سبق أن ذكرنا أن الرمايانا تعتبر بمثابة الاوديسا نظرا لتشابه الموضوع العام في كل من الملحمتين الهندية والاغريقية . ولكن هذا لا يعني بالضرورة ان الرامايانا تأثرت بالاوديسيا .. أو على الأقل ليس هناك ما يشير ليس ثمة ما يدعو الى الربط بين اختطاف الشيطان الى ذلك أو يؤكده رافانا للأميرة سينا ومحافظتها على عفتها وشرفها وجهود راما لتخليصها ؛ اختطاف هيليني في الأوديسا ، وجهودها للمحافظة على طهارتها وبين ونقائها واخلاصها لزوجها ورحلة اوديسيوس و جهوده لاسترداد زوجته . فمثل هذه الاحداث قد تكون ناجمة عن تشابه توارد الخواطر في اذهان الشعراء في ثقافات متباعدة دون أن يتأثر الواحد بالآخر .
وقصة الرمايانا - باختصار - هي قصة الحب والغيرة ، وما يترتب على الحب من مشاعر طيبة وتضحية وتمسك بالواجب مع نكران الذات ، وما ينجم عن الغيرة من كيد وتآمر الى ان يتغلب الخير على الشر في آخر الأمر ، وفي غضون ذلك تعرض لنا الملحمة حياة وتقاليد شعبين قويين من شعوب الهند القديمة هما الكوز الا والفيديها اللذين كانا يعيشان في الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن العاشر قبل الميلاد. وكان للملك دازارانا ملك الكوز الا أربعة أبناء اكبرهم هو راما بطل الملحمة ، بينما كان لملك القيديها ابنة وحيدة هي سيتا التي جاءت ولادتها ، ولادة اعجازية ، اذ ولدت من الارض حين شق المحراث التربة في الحقل . وقد وضع أبوها الملك جاناما اختباراً قاسياً لمن يتقدمون لخطبتها ؛ اذ كان يشترط عليهم ان يفلحوا في استخدام القوس الضخم الذي لم يكن يستطيع أحد ان يستخدمه بنجاح سوى الملك نفسه. وقد نجح راما فيما أخفق فيه الكثيرون وفاز بها .. وأراد دازارانا أن يتوج ابنه البكر على عرشه في اثناء حياته واقيمت الحفلات والمهرجانات لذلك ، لكن الزوجة الثانية للملك أرادت أن يتم تتويج ابنها بهارات بدلاً من راما ، ذلك بعد ان نفثت مربيتها في صدرها سموم الغيرة والحقد عليه ، ورضخ الملك لرأيها بعد ان كانت قد اخذت عليه المواثيق مسبقاً بألا يرد لها طلباً ، وحكم على راما أيضاً بالنفي من مملكته لمدة أربعة عشر عاما استجابة لطلب تلك الزوجة . ولكن راما تقبل الحكم في رضاء ورضوخ على الرغم من خروج الملك وزوجته
على كل التقاليد المرعية ، وتتويج الاخ الاصفر بدلا من الاخ الاكبر وانسحب راما بهدوء دون أن يمس قلبه حزن أو غضب ، وخرجت سيتا معه برغبتها ورفضت أن تقيم مع أمه كما كان يريد حتى يجنبها الأهوال ؛ وخرج معهما اخوه الشقيق لاكشمانا الى المنفى ، كما سار معه خلق كثير من أهل المملكة حتى بلغوا حدود المملكة وامضوا الليلة معه ، لكنه تسلل وهم نيام ليبدا حياة النفي والضياع في الغابات .. وقد سجلت الملحمة خطواته بدقة بالغة حيث لا يزال أهل الهند يحفظونها رغم مرور ثلاثين قرناً عليها . ولا تزال الكثير من المواقع التي حل بها راما وسيتا من مناطق حج الهنود حيث يذهبون اليها كل عام خاصة بعد ان تقمص الاله قشنو جسم راما .. ومات الملك حزناً وقهراً على مصير ابنه ، والطريف في الأمر ان بهاراتا نفسه رفض ان يجلس على العرش بل ذهب الى الغابات يرجو أخاه ان يعود ليجلس على عرش أبيه ، ولكن راما أبي إلا أن يتم فيه تنفيذ حكم الملك ، ونصح أخاه الاصغر بالعودة حتى يحكم المملكة بعد ان زوده بنصائحه حول اسلوب الحكم العادل. وواجبات الحاكم نحو رعيته ، وعاد بهاراتها الى عاصمة ملكه وحمل معه حذاء راما فوضعه على كرسي العرش رمزاً على أحقية راما في العرش والحكم ، وظل الأمر كذلك حتى نهاية مدة النفي ... وهام راما على وجهه في هضبة الدكن وانتقل الى جنوب الهند ، وسجلت الملجمة هذه الرحلة واهتمت اهتماماً خاصة بمقابلاته الاولياء ، وحملته الرحلة الى مناطق لم تكن مطروقة من قبل فاكتشفها لاول مرة، واخيراً ابتنى له كوخاً في مكان يبعد حوالي مائة ميل عن مدينة بومباي الحديثة حيث استقر به المقام مع زوجته واخيه لاكشمانا. وكان ذلك نقطة تحول جذري في احداث الملحمة التي كانت حتى الآن تدور حول العلاقات العائلية بكل ما فيها من حب وتضحية واخاء وتعاطف واقامة في الصوامع الآمنة المطمئنة ، وبدأت مرحلة جديدة يسودها الصراع والحرب
تبدأ المرحلة الثانية من الرمايانا باختطاف سيتا ، فقد وقعت بعض اميرات الراكشا Raksha» في حب راما واخيه لاكشمانا اللذان رفضا الاستجابة للملك الحب في انفة وكبرياء ، فأثارت الاميرات اخاهن را قانا ملك سيلان وحرضه على الانتقام باشكال وهيئات مختلفة ، فارسل را قانا احد تلك المخلوقات المهولة بعد أن تجسد في شكل غزال كي يغري سيتا بمهارته ، حتى اذا ابتعدت عن الكوخ حملها وهرب بها الى سيلان . وترد الملحمة ذلك الشر الذي أحاق بسيتا الى انها كانت قد ارتابت في اليوم السابق في أمر لاكشمانا ، وداخلها الشك في بعض نواياه نجوها ، ووجهت اليه بعض الملاحظلت القاسية العنيفة فكان لابد ان تلحق بها العقوبة والاذى جزاء ما فعلت ، وهذا مبدأ قانوني عادل في الهند ، وكان هذا هو الموقف الوحيد في الملحمة كلها الذي يصدر فيه بعض القسوة من سيتا الرقيقة ، وذلك حتى تكتمل احداث الملحمة وتسير في طريقها المرسوم ، ولم يمنع ذلك الناس ابدأ حتى الآن من أن ينظروا الى سينا على انها رمن النقاد والطهر والعفة والامانة والرقة ، واذا كان الشك قد بذهنها مر فانما كان ذلك من فرط حبها واخلاصها لزوجها ، كما ان الجزاء كان عنيفاً وقاسياً ومؤلماً ويشرع راما في البحث عن زوجته ، وتقدم لنا الملحمة وصفا لمختلف المناطق التي زارها اثناء بحثه، وتصف سكان بعض هذه المناطق بانهم قردة أو دببة وهو موقف رمزي يكشف لنا عن مدى التباين والتفاضل في المجتمع الهندي بسلالاته وشعوبه وثقافاته المختلفة ونظرة الاستعلاء التي يشعر بها الهندوس ازاء بعض الجماعات الأقل منهم في المكانة والمنزلة التي تنتمي الى طوائف اخرى ولكن الى جانب ذلك تعرض الملحمة في شيء من التفاصيل للآداب والصناعات والحرف وبعض الشعائر والطقوس الدينية والممارسات السحرية في مختلف انحاء الهند ، بل انها تقدم لنا أيضاً، وصفاً طيباً لبعض ملامح الحياة السياسية عند بعض الطوائف الهندية وقد يخلط الشاعر بين العادات السائدة في المناطق المختلفة ويضمها جنباً الى جنب كما لو كانت توجد كلها معاً عند جماعة واحدة ، ولكن الدراسات الانتربولوجية الحديثة خليقة بان تساعد على الفصل بين تلك العادات وان ترد كلا منها الى الجماعة المحلية التي تمارسها بالفعل ..
ويفلح راما في اثناء تجواله في عقد بعض المعاهدات مع كثير من السكان في جنوب الهند الذين يساعدونه في مهمته لاسترداد زوجته من ملك سيلان ، وكان يفصل سيلان عن الهند مضيق مائي عريض من البحر وهنا يقفز ها نومان « Hanuman » أو يطير على الاصح في الهواء ، ويحط على الجزيرة وينجح في الاتصال بسينا رغم الحراسة الشديدة التي فرضها رافانا عليها ، وهي حراسة كان يقوم عليها حرس من النساء الشرسات ( الراكشا ) ، ويبرز لها ها نومان علامة من راما فتطمئن اليه وتؤكد له اخلاصها وطهرها ونقاءها ، فيعود الى راما ومعه دليل ذلك الحب والاخلاص بعد ان يحرق جزءاً كبيراً من الجزيرة مما أوقع الرعب في قلب رافانا ويدعو ملك الجزيرة مجلس الحرب فيشير عليه بضرورة خوض المعركة ، ولا يخالفهم الرأي إلا ببيهيشار أخو رافانا الأصغر الذي كان ينعي على الملك جريمته وبحثه عن اطلاق سراح سيتا دون ان يجد منه اذنا صاغية ، واضطر في آخر الأمر الى ان يخرج على اخيه الملك وينضم الى جيش راما ليحارب من أجل الحق والخير ، وبذلك تتغلب القيم الاخلاقية على علاقات القرابة والدم . تنتقل جيوش الهند الى سيلان وتزعم الملحمة ان سلسلة الجزر الصغيرة التي تقوم في البحر بين الاثنين كان قد اقامها راما لتعبر عليها جيوشه ... وينتصر راما على رافانا وتعود سيتا الى زوجها .
وتنتهي الملحمة الأصلية بانتصار راما في الحرب والعودة الى مملكة ابيه ، وتظهر عفة سيتا وطهرها ونقاؤها بعد أن تمارس عليها بعض شعائر التطهير بواسطة » النار المقدسة » ولكن هناك اضافات ادخلت على الملحمة في عهود تالية .. وتقول هذه الاضافات أن بعض الناس ظلوا يشكلون رغم ذلك الاختبار بنار التطهير في اخلاص سيتا ، وانهم كانوا يوجهون اللوم الى راما لانه يحتفظ في قصره بامرأة عاشت لمدة طويلة في كنف رجل غريب. وتجد الوشاية طريقها الى قلب راما وعقله فيرسل زوجته لتعيش في الغابات من جديد وهنا تذهب الى صومعة الراهب الشاعر فالميكي حيث تضع طفليها ، ويتولى الراهب تلقين الولدين قصة أبويهما حتى يكبرا ، وفي أحد الاحتفالات ينشدان الملحمة امام راما ، لا يستغرق ذلك أياماً طويلة ، ويعرف راما حقيقة الأمر ، ويحاول ان يرد اليه سيتا مرة أخرى ، ولكنها تبتهل الى أمها الارض أن تستردها من هذه الحياة إن كانت تؤمن بطهرها وعفافها وبراءتها وتستجيب الام ( الارض » لنداء الابنة الطاهرة المخلصة الوفية فتبتلعها الارض أمام راما وامام الجميع ، ويسجل التاريخ قصة رائعة من قصص الحب والوفاء النادر
رأي هام في الرمايانا :
يقول دومیش دات: الرمايانا هي تراث حي وايمان وعقيدة حية ايضاً في الهند . لأنها تؤلف اساس التربية الاخلاقية في المجتمع الهندوسي كله ، ولا تزال الأجيال الاتتالية من الهندوس تدرس الملحمة السنسكريتية القديمة ، ولكن في ترجماتها الحديثة ، فضلا عن انهم كثيراً ما يسمعونها وهي تنشد في قصور الاغنياء ، أو يرونها وهي تمثل على المسرح في الاعياد الدينية في المدن الكبرى ، والاكثر من ذلك ان الرمايانا استشارت بعض المصلحين الدينيين الى العمل على تنقية وتهذيب الكثير من المعتقدات الشعبية في الهند الحديثة وتطهيرها من الشوائب .. فقد اصبح راما هو ( روح الله ( التي نزلت الى الأرض كما أصبح - على ما ذكرنا - تجسيداً للاله قشنو هارس الدنيا وحاميها ، ولذا فإن معرفة الرمايانا ودراستها من شأنها ان تساعد على فهم المجتمع الهندي بطريقة أفضل ، كما ان تتبع تأثير الملاحم الهندية بوجه عام في حياة الناس وحضارة الهند ، وفي تطور لغاتهم وآدابهم الحديثة والقانون الذي لعبته في الاصلاح الديني ، هناك معناه في آخر الأمر الوصول الى فهم أعمق وأدق لتاريخ شعب من الشعوب العريقة خلال ثلاثة آلاف سنة.
عرض وتقديم : وليد مشوح
0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا