ادعمنا بالإعجاب

حجية الحديث النبوي: نظرات تطبيقية في آيات قرآنية

أنس شودهري

حجية الحديث النبوي أمر مفروغ منه، فهو مصدر ثان لأحكام الإسلام كما أن القرآن الكريم هو المصدر الأول، لأن الوحي وحيان، وحلي متلو وهو وحي القرآن ووحي غير متلو، وهو وحي السنة، وهو الذي دل عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وقد انعقد عليه إجماع الأمة الإسلامية منذ صدر الإسلام، فجرى عليه التعامل في كل عصر ومصر، ولا يخفى على القارئ الكريم أنه قد نشأ في تاريخ المسلمين فرق وطوائف ومذاهب، فنشأت أقوال فاسدة، ومزاعم باطلة، وبدع قبيحة، لكن واحدا منها لم يذهب إلى إنكار هذا المبدأ المسلم: حجية الحديث النبوي، إلى أن قام أيام الاحتلال الإنكليزي في شبه القارة الهندية ثلة من الناس، فادعوا إنكارهم لحجية الحديث النبوي، واختلقوا في سبيل ذلك شبهات ودعاوي، ليس لها برهان، ومن دعاويهم في ذلك ما قالوا: "نحن لا نتبع إلا ما جاء في القرآن الكريم، والقرآن وحده يكفي الناس، والوحي الإلهي منحصر في القرآن الكريم، ولم يأت النبي عليه السلام وحي غير القرآن، فلا نتبع غير القرآن من السنة النبوية والحديث النبوي!" فأنكروا بذلك المصدر الثاني للإسلام، فوجد المنحلون عن الشريعة ضالتهم في مزاعمهم، فالتفوا حولهم، وذهبوا مذهبهم، ثم انتشر هذا القول بإنكار حجية الحديث والسنة النبوية في الأقطار الأخرى. فإنكار حجية الحديث الشريف مع كونه مخالفا للقرآن الكريم والحديث النبوي وإجماع الأمة، هو بدعة من القول في الإسلام.

والآيات القرآنية التي تصرح بحجية الحديث النبوي والسنة النبوية، وبأنها واجبة الاتباع وأن الرسول عليه الرسول عليه السلام يجب إطاعته إطاعة مطلقة، سواء كان أمره ذكر في القرآن الكريم أم لم يذكر، كثيرة ومتنوعة، وقد ذكرها وفصلها المؤلفون القدامى والمعاصرون، ومن تلك الآيات ما ورد في سورة الشورى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) 

والآية تفيد -في ظاهر لفظها- بأن الوحي الإلهي إلى الأنبياء والرسل يأتي بثلاثة أوجه، إما بالوحي المباشر، بدون إرسال ملك، وإما بتكليم الله إياه من وراء حجاب، وإما بإرسال ملك من الملائكة، ثم إذا نظرنا في آيات أخرى نجد أن القرآن الكريم إنما نزل بطريق واحدة فقط، وهي إرسال رسول، قال تعالى في سورة البقرة: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) وقال في سورة الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) أفادت الآيات بأن القرآن الكريم إنما أنزل عن إرسال الرسول وهو جبريل الملقب ب"الروح الأمين"، وهو الوحي المتلو، وقد علمنا من آية الشورى أن إرسال الرسول واحدة من الطرق الثلاث للوحي الإلهي، فماذا عن الطريقتين المذكورتين للوحي في سورة الشورى؟ ألم ينزل على النبي عليه السلام وحي عن هاتين الطريقيتين؟ بلى، نزل على النبي عليه السلام من الوحي من هذين النوعين الشيء الكثير، وهو الوحي غير المتلو، (وسنذكر أحكاما ثبتت بالوحي غير المتلو) فكما أن الوحي المتلو (القرآن الكريم) يجب اتباعه، كذلك الوحي غير المتلو. وهذا القدر من التفصيل ظاهر لا خفاء فيه. 

 ثم من المسلمات القرآنية أن أمرا شرعيا إذا ثبت وجوبها بآية واحدة، فإنه يجب الاعتقاد بثبوته ويتحتم الأخذ به، ويعد إنكار ذلك الأمر الثابت بالقرآن الكريم كفرا، قال الله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ سورة البقرة:85  فالإيمان بالكتاب كله ثم الكفر بآية أو بما هو ثابت بآية، يكون كفرا بكامل الكتاب، لأن الإيمان والكفر ضدان، لا يجتمعان في محل في وقت واحد، فإذا حل الكفر زال الإيمان. وإذا كان الأمر كذلك فإنه إذا ثبت حجية الحديث النبوي بآية واحدة وجب على المؤمن الإيمان بحجيته، وليس هناك حاجة إلى إثبات حجية الحديث بغيرها من الآيات والأدلة الأخرى، فالمؤمن المخلص الصادق في إيمانه يقتنع بآية واحدة، وأما الذي لم يطمئن قلبه بالإيمان، بل إنما هو يتظاهر بالإيمان والإسلام فلا يقنعه مأة آيات ولا يكفيه ألف أدلة.

إلا أننا نرى في القرآن الكريم يرد آيات كثيرة في إثبات أمر واحد، وذلك شفقة ورحمة من الله تعالى على عباده، كما أنه إخبار منه سبحانه وتعالى بأن الأمر أصل من أصول الدين، وبأنه يحتل المكانة العليا في الدين الإسلامي، هذا ما وقع في حجية السنة النبوية والحديث النبوي، حيث ورد أنواع من الآيات، يفيد بكون الحديث النبوي وحيا ربانيا، وبكونه مصدرا مستقلا في التشريع الإسلامي، وحجة شرعية مطلقة، يجب اتباعها والعمل بها، وأن الحكم الثابت بالحديث النبوي مثل الحكم الثابت بالقرآن الكريم ولا سبيل إلى التفريق بينهما في الاتباع والامتثال والاعتبار. 

وفي هذه العجالة نعرض نوعا خاصا من الآيات القرآنية في إثبات حجية الحديث النبوي، وبيان ذلك أننا نرى في الإسلام كثيرا  من الأحكام الشرعية، وهذه الأحكام لم يثبتها القرآن الكريم، وإنما أثبتها الله تعالى بوحي غير القرآن الكريم، وهو الوحي غير المتلو، الذي نعرفه بالحديث النبوي والسنة النبوية، ثم إننا نجد القرآن الكريم يذكر تلك الأحكام الثابتة بالحديث النبوي، يحكيها كحكم شرعي رباني ثابت، أحيانا ينسخه، وأحيانا يذكره في تفاصيل واقعة وما أشبه ذلك، فالمهم أن القرآن الكريم يذكر الأحكام الثابتة بالسنة النبوية، فيعترف بكونها أحكاما شرعية ثابتة في الإسلام، مثبتة من الله تعالى. ولإيضاح هذه الصورة نضرب للقارئ عددا من الأمثلة من القرآن الكريم.

المثال الأول:

قال الله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)


هذه الآيات من سورة البقرة تفيد أمورا، منها أن النبي عليه السلام والمسلمين معه كانوا يصلون إلى قبلة، وذلك بأمر من الله تعالى. وهذه القبلة كانت محبوبة لدى طائفة من الناس، وصفهم القرآن بالسفهاء.

ومما أفادت الآيات أن الله تعالى حول قبلة المسلمين فجعلها إلى المسجد الحرام، ومن ثم يؤدي المسلمون صلاتهم متوجهين إلى الكعبة المشرفة، بيت الله الحرام. 

إذن، فالآيات أثبتت أن للمسمين قبلتين، القبلة الأولى والقبلة الثانية، ثم ورد في الآيات أمر من الله تعالى بالتوجه إلى المسجد الحرام، حيث قال: "فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ." 

لكن ما هي القبلة الأولى؟ وأين ورد في القرآن الكريم أمر الله تعالى بالتوجه إلى القبلة الأولى؟ والباحث في القرآن عن هذين السؤالين لا يجد فيه إلا إقرارا بأن القبلة الأولى مما أثبتها الله، حيث ذكرها الله على سبيل الحكاية لأمر ثابت من قبل: "وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ"، فالآية ليس فيها أمر بالتوجه إلى القبلة الأولى، بل فيها حكاية أمر ثابت من قبل، الذي عمل به المسلمون منذ زمن بعيد.

فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا: أين ذلك الأمر الرباني بالتوجه إلى القبلة الأولى؟ وما هي الجهة المأمورة بالتوجه إليها؟

والجواب أن ذلك الأمر الرباني بالتوجه إلى القبلة الأولى ورد عن طريق الوحي غير المتلو، الذي هو السنة النبوية، دون القرآن الكريم، فلم يرد آية في القرآن في الأمر بالتوجه إلى القبلة الأولى كما أسلفنا، وهذا الوحي غير المتلو هو الذي حدد الجهة المأمورة بالتوجه إليها، ألا وهي جهة بيت المقدس،  ولما ثبت الحكم الإلهي بالسنة النبوية، وعمل بها المسلمون، فصلوا إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا كما ورد في صحيح البخاري، نزل القرآن الكريم بحكاية هذا الحكم الإلهي فيه فاعترف بكونه حكما إلهيا، فإنه نسب التوجه إلى القبلة الأولى إلى الله تعالى: "وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ"... ثم نسخه بتحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة.

فثبت من هذا التفصيل أن الحديث النبوي يستقل بتشريع الحكم الشرعي، وإن لم يذكر ذلك التشريع في القرآن الكريم، وأنه مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، فهو حجة شرعية مطلقة، مثل القرآن الكريم. والآن ننتقل إلى المثال الثاني: 

المثال الثاني:

قال الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

هذه الآية تتحدث عن حكمين للصائمين، حكم سابق، وحكم لاحق، فالحكم الذي كان في بداية الأمر هو أنه إذا أفطر أحد فإنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو إلى أن ينام قبل ذلك، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة. 

لكن الصحابة لما وجدوا في ذلك مشقة كبيرة، خفف الله تعالى في الحكم، وأنزل حكما جديدا، حيث أحل لهم فيه الأكل والشرب والجماع إلى وقت طلوع الفجر، الذي هو الصبح الصادق، قال تعالى: "فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ."

ونحن نقف هنا قليلا ونتساءل: أين ورد ذكر الحكم الأول (العبارة التي وضعنا تحتها العلامة) في القرآن الكريم؟ ونؤكد بأن الباحث في القرآن الكريم عن الحكم الأول لا يجد عنه شيئا، إلا ما أشير في الآية السابقة على سبيل الحكاية، لا على سبيل الحكم والأمر.

فلا يجد للسؤال المذكور إلا الجواب الذي وجده في المثال السابق، فيضطر إلى أن يصرح بأن الحكم الأول الذي حكاه القرآن إنما ثبت وتقرر بالوحي غير المتلو، الذي هو السنة النبوية، ثم نزل القرآن الكريم مقررا إياه بنصه، ومبينا أن الثابت بالسنة النبوية مثل الثابت بالقرآن الكريم، ألا ترى أن الله تعالى قد عاتب بعضا من الصحابة رضي الله عنهم الذين خالفوا ذلك الحكم الثابت بالوحي غير المتلو، فقال: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ، فوصف مخالفتهم إياه بالخيانة في أنفسهم، ثم إنه تعالى عد هذه المخالفة معصية من العاصي، ومن ثم قال: فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ، فإن العفو وقبول التوبة إنما ينطبق على من صدر منه المعصية. 

المثال الثالث:

قال الله تعالى: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) سورة المائدة. وقال في سورة الجمعة: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ. 9)

تدل الآية على أن المسلمين كان فيهم نداء خاص إلى الصلاة، فإذا نودوا إليها اجتمعوا في المسجد وأدوا الصلاة، والكافرون من اليهود والمشركين كانوا يتخذون هذا النداء هزوا ولعبا، فأنكر القرآن عليهم وعلى استهزاءهم به أشد الإنكار، ووصفهم لصنيعهم هذا بأنهم قوم لا يعقلون، وبهذا التقرير لنداء الصلاة بين القرآن الكريم أنه حكم إسلامي، وأن الاستهزاء به جريمة شنعاء.

وبعيدا عن إنكار القرآن على الكفار في استهزاءهم بنداء الصلاة –الذي يسمى في المصطلح الإسلامي بالأذان- نتساءل: كيف ثبت هذا الأذان؟ هل هناك في القرآن آية تدل على ثبوت الأذان قبل الصلاة؟ الجواب: لا. 

إذن، كيف ثبت مشروعية الأذان، الذي ذكره القرآن الكريم في صدد الرد على الكفار المستهزئين به؟ الجواب: إنه ثبت بالوحي غير المتلو، الذي هو غير وحي القرآن، وهو الذي يسمى الحديث النبوي والسنة النبوية، فعلم أن الحديث النبوي يستقل بتشريع الأحكام الإسلامية، وأنه حجة شرعية مستقلة مطلقة، وأن لا تضاد بين القرآن وبين السنة النبوية في إثبات الأحكام ولا تعارض بينهما، ومن ثم رأينا الحكم الشرعي يثبته السنة النبوية ثم يذكره القرآن الكريم مقرا بأنه حكم شرعي، وبأن الاستهزاء به جريمة كبيرة! 

المثال الرابع: 

قال الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

هذه آيات من سورة الجمعة، تتحدث الآيات عن صلاة خاصة في يوم الجمعة، وظاهر من سياق الآيات القرآنية أن المسلمين كانوا يؤدونها قبل نزول الآيات المذكورة، لا أن الآيات هي التي تأمر بأداء هذه الصلاة من البداية، وإنما تؤكد الآيات بصلاة كانوا اعتادوا أداءها من قبل، وترشد المسلمين إلى أداءها كما ينبغي، فتبين آدابها التي يجب رعايتها، من عدم الاشتغال بشأن غير الصلاة من البيع والشراء،  وأنه يجب السعي إلى الصلاة، ويجب كذلك الاستماع إلى الخطبة التي تكون قبل الصلاة.

وكالعادة نتساءل هنا: ما هي الصلاة الخاصة التي تؤدى في يوم الجمعة؟ وكيف ثبت مشروعيتها؟ فإنها لم تثبت بنص قرآني، لأننا لا نجد في القرآن آية تدل على مشروعية أو وجوب صلاة خاصة في يوم الجمعة إنشاء، والذي نجده فيه هو حكاية عن صلاة خاصة ثابتة معمول بها منذ زمن، حيث ورد في القرآن الكريم: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، ولا يخفى على من لديه أدنى معرفة بأسلوب اللغة العربية أن الآية ليس فيها أمر إنشاء، بل فيها حكاية أمر ثابت مستمر، يعمل عليه الناس منذ زمن. وإذا لم يشرع القرآن الكريم هذه الصلاة الخاصة في يوم الجمعة، فكيف شرعت؟ وبأي وحي ثبتت؟ 

والجواب الذي لا مفر منه هو أن الصلاة الخاصة في يوم الجمعة –التي تسمى في المصلح الإسلامي بصلاة الجمعة- إنما ثبتث مشروعيتها بالوحي غير القرآن، وهو الوحي غير المتلو، وهو السنة النبوية. فثبت بهذا التفصيل أيضا أن السنة النبوية وحي رباني، وأن الأحكام الثابتة بها مثل الأحكام الثابتة بالقرآن الكريم، يجب الإيمان بها والأخذ بها، بدون تفريق بينهما. 

المثال الخامس:

قال الله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)

هذه آيات من سورة التوبة، تتحدث عن المنافقين وتبين أحوالهم وأوصافهم، ولعلك لاحظت في الآية الأخيرة، التي وضعنا تحتها العلامة، أنها تتحث عن حكم شرعي خاص، يتعلق بموت أحد منهم، فما هو الحكم الخاص؟ إنه صلاة الجنازة، أنزل الله تعالى هذه الآية فنهى بها نبيه صلى الله عليه وسلم عن صلاة الجنازة على أحد من المنافقين، لأنهم كفار، والكافر لا يصلى عليه إذا مات، وهذا القدر من الكلام واضح، لكن الآية بسياقها دلت على أن النبي عليه السلام كان يصلى على الأموات صلاة خاصة -التي تسمى صلاة الجنازة-، وكعادته صلى الأموات من المنافقين أيضا، فنزلت الآية فأرشدت إلى عدم الصلاة على الأموات من المنافقين، ونحن نكرر هنا السؤال السابق: أين وجد النبي عليه السلام حكم الصلاة على الميت؟ فإنه لم يذكر في آية من الآيات القرآنية أمر بالصلاة على الميت أو بصلاة الجنازة! إنما ذكر القرآن الكريم الصلاة على الميت في صدد نهييه عليه السلام عن الصلاة لأفراد مخصوصين، وأبقى الحكم الثابت المستقر كما كان في باقي الأموات من المسلمين. 

وليس له جواب إلا أن يقال بأن الصلاة على الميت إنما ثبت مشروعيتها ووجوبها بالوحي غير القرآن الكريم، ألا هو السنة النبوية، ثم جاء القرآن الكريم فأيدها وأقر بكونها حكما شرعيا، فثبت بهذا المثال أيضا أن السنة النبوية مستقلة بتشريع الحكم الإسلامي، وهي مصدر من مصادر التعاليم الدينية، كما أن القرآن الكريم مصدر من مصادرها.

المثال السادس: 

وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) 

هذه الآيات نزلت تحكي ما وقع في غزوة بدر، فذكر الله تعالى أنه كان وعد الصحابة إحدى الطائفتين، إما القافلة التجارية لقريش، القادمة من الشام، وإما الجيش القريشي القادم من مكة المكرمة لحماية القافلة التجارية لهم، فوعدهم بأنهم يستولون على إحدى الطائفتين، وكان في الصحابة من يتمنى الاستيلاء على القافلة التجارية، وتفيد الآية أيضا بأنهم استغاثوا الله تعالى واستنصروه، فاستجاب لدعاءهم، ووعدهم بأنه يمدهم وينصرهم بإرسال ألف من الملائكة. 

فالآيات أثبتت أنه تعالى أخبر النبي عليه السلام بأمرين، وقد بيناهما، فينشأ سؤال: أين ذكر هذين الأمرين في القرآن؟ وفي أي آية ورد الوعد الرباني؟ لا يجدهما الناظر في القرآن. فثبت بذلك أن الله تعالى أخبر النبي عليه السلام بهذين الأمرين عن طريق الوحي غير المتلو، ولذلك لم يرد ذكرهما في القرآن الكريم، وبما أن الوحي الإلهي –متلوا كان أو غير متلو- حق، يجب الإيمان به والتسليم له، ذكرهما القرآن الكريم، بل نسبهما الله تعالى إلى نفسه، في القرآن الكريم في على سبيل الحكاية والسرد، فقال: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ، وقال: فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، 

وهذا المثال كالأمثلة السابقة أثبت أن النبي عليه السلام كان يأتيه الوحي من غير القرآن الكريم، كما كان يأتيه الوحي القرآني، وهذا النوع من الوحي غير المتلو يقر به القرآن ويقرره، ويؤكد بوجوب الأخذ به، كوجوب الأخذ بالقرآن الكريم. 

(تم ما أردت إيراده، فلك الحمد يا ربي ولك الشكر، ولا أحصي ثناء عليك، ووفقني يا رب لأبني عليه كتابا كاملا، وما ذلك عليك يا رب بعزيز، وتقبل مني هذه الخدمة المتواضعة، بجاه سيدنا رسول الله، واكتبني من جملة خدمه يا كريم! وصلى الله على النبي الأمي الأمين وعلى آله وصحبه وسلم. كتبه العبد العاصي الفقير إلى مولاه الغني، أنس شودهري، بهولا هبيغنج، اليوم العشرون من نوفمبير سنة 2023م)

تعريف براقم الحروف: 

أنا أنس شودهري، أعمل مدرسا للفقه واللغة العربية بدار الإرشاد والدعوة الإسلامية بنغلاديش، كما أنني أكتب في المجلات والصحف، وقد صدر لي بعض الكتب، ترجمتها من الأردية إلى العربية، منها: أيام دامية في بخارى وسمرقند للسيد أعظم الهاشمي التركستاني (المدينة المنورة، والرياض) وعلماء ديويند: نماذج من حياتهم الدينية وأحوالهم العلمية للشيخ العلامة محمد تقي العثماني (الأردن وبنغلاديش) وسيصدر بإذن الله بعض الأعمال الأخرى في وقت قريب. 


 


مواضيع ذات صلة
دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات