تفاصيل عن المقالة
عنوان المقالة : مفهوم التربية
إعداد : محمود اسماعيل (متفقد التعليم الابتدائي - سليانة )
المصدر: مجلة الإتحاف
تصدر عن :مجلة ثقافية جاعة بإشراف اللجنة الثقافية بسليانة
رقم العدد:٥
أرقام الصفحات: ٦٧-٧٢
السنة: ١٩٨٦
الدولة: تونس
تاريخ الإصدار:١ مايو ١٩٨٦
مفهوم التربية اختلف من عصر الى عصر ومن أمة الى أخرى بل أن الناس في نفس المجتمع يختلفون فى تحديد هذا المفهوم باختلاف ظروف عيشهم وتباين فلسفتهم ووجهات نظرهم في الحياة . واذا كانت الممارسات التربوية من الثوابت التي واكبت كل الحضارات ، فإن المفهوم المتعارف عليه حاليا حديث جدا . وقد تطور هذا المفهوم بتطور مختلف العلوم وخاصة منها العلوم الانسانية التى جعلت من التربية عملية ديناميكية تأخذ بكل جديد وتتكيف حسب المعطيات الجديدة لكل المجتمعات الإنسانية.
التربية عند اليونانيين تختلف من مدينة إلى أخرى ففي حين ركزت سبارته على قد محاربين اشداء ، اقامت التربية الاثينية اسسها على تذوق مختلف الفنون ولما تغلبت سبارته على أثينا ، حورت هذه الاخيرة مفهوم التربية ووجهت اهتمامها الى العقل والجسم حتى تستطيع مجابهة الواقع المفروض عليها.
والرومان لم ينظروا ابدا إلى التربية على أنها عمل منظم تقوم به الأجيال الراشدة في أجيال لم تنضج بعد إلا في القرن الثالث قبل الميلاد عندما تأثروا بالتربية اليونانية نتيجة نزوح العديد من المفكرين والمعلمين اليونانيين إلى بلدهم فتغيرت نظرتهم وتخلوا على التربية القاسية وبدأوا يعتنون بالأدب والخطابة وأصبح الطفل الموسر يتعلم الكتابة والحساب والألواح الاثني عشر ولا نجد اثارا تربوية واضحة إلا في أواخر الفترة المذكورة إذ يرى كوانتيليان (35.95 ق م) ( أن علينا أن نتخير مرضعات حكيمات يكون لسانهن قويما وكلامهن غير ذي عوج ذلك أن الانطباعات الأولى تترك اثارا عميقة في نفس الطفل ، والتربية الكنيسية في العصر الوسيط (القرن 13-3م) كانت قاسية ومتحجرة إذ طبعت الحياة بمفهوم جديد يركز على تعلم المذهب المسيحي والتمرس بالطقوس وينبذ كل لجوء الى الممارسات الفكرية التي يعتبرها خطيئة كبرى يعاقب صاحبها بالحرق . أما التربية الاسلامية وإن كانت في البداية تركز على نشر تعاليم الدين الجديد فإنها كانت أكثر شمولا وأبعد انسانية إذ انها اهتمت بكل جوانب الحياة روحية ومادية بالرغم من عديد التضييقات التي فرضتها بعض المذاهب . قال تعالى : ( وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وورد في الحديث الشريف :: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ، وقد وظفت التربية الاسلامية كل المعارف التي وصلتها عن طريق الفتوحات والتلاقح مع الثقافات الأخرى لبناء نظام تربوي متكامل ولا يتسع المجال لذكر مظاهر هذا النظام ولكن سأقتصر على ذكر بعض المظاهر :
- انتشار الكتاتيب لتعليم القرآن
- ظهور العديد من المدارس والمعاهد
تشييد بيوت الحكمة والمكتبات
اقامة الحلقات في المساجد (خطابة ، نقاش ، مقارعة بالحجة ... الخ) . ظهور الصالونات الأدبية والفنية
- تعدد حوانيت الوراقين
- تخصص العديد من المفكرين في مختلف مجالات التربية : تحديد ملامح المربي وعلاقته بالمربى
تعدد المدارس الفلسفية وما وفرته من بحوث حول ماهية الانسان وعلاقته بالاخرين ... الخ .
مفهوم التربية اقترن إذن بالثورات التي واكبت الانسانية منذ تواجدها على البسيطة وكل ثورة أتت بالجديد وكل التراكمات وان خلقت أوضاعا صعبة ومتشعبة فانها فسحت المجال أمام العلماء والمربين للبحث وتعديل المفاهيم والثورة الصناعية خير دليل على ذلك إذ أنها قلبت معادلات المجتمع وأحدثت تركيبات جديدة تولد عنها نمط عيش جديد وتفكير حديث غير نظرة المجتمع للتربية فأصبح الانسان في حاجة أكيدة الى السيطرة على العلوم والتقنيات المستحدثة حتى يمكنه مواكبة عصره .
لغويا يمكن تحديد كلمة تربية بما يلي كما وردت في ( لسان العرب).
يقال ربّ ولده والصبي يربّه ربّا ورببه قربه أي رباه وفي الحديث لك نعمة تربّها ، أي تحفظها وتراعيها وتربيها كما يربي الرجل ولده وفي حديث ابن ذي يزن ( أسد تربّب في الفيفات أشبالا ، والربّ : يطلق في اللغة على المالك والسيّد والمدبر والقيم والمربي والمنعم ، . لسان العرب : ج 1 ،
أما التحديد العلمي لمفهوم التربية فإن أهل الاختصاص يختلفون فيه باختلاف مدارسهم الفكرية المذهبية .
فدوركايم يعرفها بأنها و ذلك العمل الذي تحدثه الأجيال الراشدة في الأجيال التي لم تنضج بعد للحياة الاجتماعية ، ويعرفها هربرت سبنسر بأنها تتضح بعد ، موضوع علم يجعل غايته تكوين الفرد من أجل ذاته بأن نوقظ فيه ضروب ميوله الكثيرة ، والتربية هي أيضا كما يراه العديد من الفلاسفة تنشئة الكائنات الانسانية الفتية على الحرية والعدالة والسلم وهي تمثل مجموعة من القيم والعادات الفكرية واليدوية التي تكسب ومجموع الصفات الخلقية التي تنمو ويورد الأستاذ أحمد شبشوب التعريف التالي في وثائق أعدها لتكوين المربين :: التربية تتمثل في ذلك العمل الواعي أو اللاواعي الذي يقوم به الكهول إزاء الأطفال قصد تعليمهم جملة من المعارف والرموز والقيم التي يرأها الأولون صالحة للاندماج داخل المجتمع هذه التعاريف وان اختلفت في صيغها فانها تشترك في خصائص أهمها :
- ان التربية تختص بالكائن البشري .
- انها عملية يمارسها كهول على صغار لم ينضجوا بعد للحياة الاجتماعية.
-أنها عملية مقصودة بالرغم من تكونها من عمل واع واخر لا واع .
إنها تدريب وتعليم وتلقين وتكوين عادات وتمرير معارف وقيم . ولكن هل التربية تعليم فقط وان كان التعليم أهم جوانبها ؟ وهل هي تدريب وان كان التدريس ضرب من ضروبها وهل التربية تعميد وغرس الكثير من العادات من أكثر اهتماماتها ؟
أجمع المختصون على أنها عملية جامعة شاملة ومتى اهملت جانبا أو غلبت ناحية على أخرى فإنها قد تحدث عقدا ومشاكل نفسية وحركية قد يعسر تلافيها عند هذا الحد يمكننا أن نتساءل كيف تتوصل التربية الى الاهتمام بكل النواحي التنموية لدى الكائن البشري ومن أين لها أن تحدد علميا ماهيتها ومجالاتها ؟
اعتقد أولا أن تطور العلوم ساعد كثيرا على بلورة المفاهيم الجديدة . فتطور علم الاجتماع عبر كل الثقافات الانسانية ساعد كثيرا على تغيير مفهوم الطفولة وارساء مكانة الطفل داخل المجتمع فبعد أن كان الطفل لا يعتبر انسانا وفردا من المجتمع عند الرومانيين الا بعد أن يعترف به أبوه والدولة وبعد أن كانت البنت مواد وبعد أن كان الصغير يحمل المسؤولية منذ نعومة أظفاره ويعتبر حاملا لبذور الشر والخطيئة ويعتبر عالة على المجتمع لأنه غير منتج وبعد أن كان يستعمل في المصانع للقيام بأعمال مضنية وشاقة تحط من قيمته كانسان ، تظافرت جهود المفكرين وناضلوا من أجل احترام الطفولة وارساء قواعد صحية وتشاريع قانونية تحميها من تسلط المجتمع ونادوا بضرورة الرعاية الجسمية والذهنية لهذا الكائن الصغير حتى ينمو نموا متكاملا ويصبح عنصرا فعالا في المجتمع.
ثانيا تطور علم النفس ساعد كثيرا على ابراز جوانب شخصية الطفل من عقلية ووجدانية وبيولوجية وفسر الكثير من التفاعلات وحدد فترات النمو وقنن كيفية التعامل مع كل فترة منها وبين هشاشة هذه المكونات وحذر من مغبة كبتها حتى لا تصدم فتترك رواسب وتراكمات نفسية وخيمة العاقبة .
ثالثا تطور وسائل الاعلام التي سهلت التلاقح بين الثقافات المتزامنة الشيء الذي أجبر المهتمين بالتربية الى تعديل محتوياتها وتطوير أساليبها وطرقها حتى تواكب التطورات التي تحدث كل يوم.
رابعا تشعب الأوضاع الاقتصادية وتعدد المطامح وتبلور مفاهيم جديدة للاستعمار (الثقافي) ادت كلها الى مراجعة جذرية لمفهوم التربية وأصبح التأكيد على الاصالة ضروريا حتى يشدّ الطفل الى بيئته ليتشبع بها ويتحصن من التغريب .
هذا التطور إذن وان حمل في طياته العديد من النواحي الايجابية والفعالة فانه خلق اوضاعا جديدة حتمت التخصص في علوم التربية لمجابهة كل الحالات . فتفرعت علوم التربية الى العديد من العلوم نوردها كما قسمها ميالاري ، وكما أوردها أحمد شبشوب :
(1 علوم تدرس الظروف العامة للتربية : علم اجتماع التربية ، علم اقتصاد التربية ، التربية المقارنة والتربية في علاقتها بالبيولوجيا . (2 العلوم التأملية المستقبلية : فلسفة التربية ، تاريخ التربية ، تخطيط التربية ... إلخ .
(3) العلوم التني تدرس العلاقات التربوية : دمات التربوية .
علم التربية - علم النفس التحليلي للتربية - علم النفس الاجتماعي للتربية علم الامتحانات.
واليوم وبالرغم من كل هذا التطور الذي يوحي بأن العملية التربوية أصبحت سهلة ويمكن تحقيقها كاملة : أصبحنا نلاحظ أن البيئات الثلاث التي تحتضن العملية التربوية (العائلة ، الشارع ، المدرسة) تتراشق الاتهامات فكل يلقي باللائمة على الغير ويحمله مسؤولية التقصير.
فالعائلة التي تخلت عن دورها الأساسي تتهم المدرسة بالتقصير وتؤكد على أن المدرسة أصبحت تعتني فقط بناحية التعليم والتدريب وتركت جانبا التربية الفعلية وتثور المدرسة وتقدم براهينها وحججها : فهي اخذة بكل النواحي التربوية فتعلم وتربي وتغرس العادات الحسنة ولكن العائلة تغافلت عن رسالتها .. وتركت جانبا تثبيت تلك القيم والعادات والمعارف التغرق في مشاكلها الاجتماعية والثقافية ، والمدرسة والعائلة تتحدان في كثير من الأحيان وتنعتان الشارع بأنه هو الذي يعرقل المسيرة التربوية ويحد من جدواها فيقف هذا الأخير مدافعا عن مساهماته رادًا بعض المظاهر التي يوصف بها إلى نقص في الفاعلية من طرف المدرسة والعائلة .
ويبقى الجدل قائما بين الاطراف الثلاثة ما بقيت التربية إذ ان تفاعل البيئات الثلاث وتكاملها هو وحده الكفيل بافراز تربية متكاملة ومتوازنة .
والمجتمع الذي يستمد شرعية عمله التربوي من أسسه الحضارية والانسانية ، والذي يحاول توفير كل طاقاته في سبيل تنشئة سليمة مطالب أكثر من أي وقت مضى بمزيد الحرص على تعميق الهوية مع برمجة التفتح حتى يكون عنصرا ايجابيا فعالا لامتلاك التقنيات والسيطرة على الاكتشافات المذهلة التي تطالعنا من حين لاخر.
ومفهوم التربية في مجتمع نام يبقى مرتبطا وثيق الارتباط بما يتوفر من ظروف ملائمة تساعد الفرد على النمو المتكامل فهو يأخذ بكل الاستعدادات البشرية ليجعل منها قوة دامغة.
وفي الختام ، أتمنى أن يكون هذا الموضوع قاعدة لحوار مكتوب يعمق محصول المربين ، ويحثهم على مزيد من البحث والتمحيص ، فالعديد من الجوانب التربية العربية والاسلامية ، أسس التربية الحديثة ، من يربي ؟ ومن نربي (؟) تستحق الوقوف عندها مليا .
0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا