ادعمنا بالإعجاب

من العلاقات الأدبيّة بين العرب والهنود : قصَص مكر النساء الهندي وَأثره في الوطن العربي

 العنوان:من العلاقات الأدبيّة بين العرب والهنود :    قصَص مكر النساء الهندي وَأثره في الوطن العربي

الكاتب:  د. محمد حموية 

المصدر:  مجلة الآداب الأجنبية 

الناشر: اتحاد الكتاب العرب

المؤلف الرئيسي: اليازجي، ندرة (مؤلف)

رقم العدد: س 15, 54-55

محكمة: نعم

الدولة: سوريا

تاريخ الإصدار:1 يناير 1988

ربما كانت العلاقات بين العرب والهنود من أوثق العلاقات قديما وحديثا  فقد عرف العرب الهنود ، في جاهليتهم ، عن طريق التجارة ، فكانت سفن الهند تنقل الى شواطئهم فيما تنقل السيوف الهندية ، حتى إن العرب أطلقوا على السيف صفة مشتقة من الهند فقالوا : « سيف مهند ، وهندواني » وهذه العلاقات العربية بالهند في العصر الجاهلي لا تزال غامضة ، وهي بحاجة الى البحث والتتبع والاستقصاء

وقد نمت علاقات العرب بالهنود ، بعد الإسلام ، نموا كبيرا ، وشملت جميع نواحي الحياة من بشرية وثقافية ، ودينية ، وتجارية .. الخ . ذلك أن الجيوش العربية وصلت الى البلاد الهندية ، وأصبحت الهند على أطراف البلاد التي افتتحها العرب . فوقف العرب على كثير من مناحي الحياة الهندية . ثم استجلب العرب في العهد العباسي الى بغداد أطباء وعلماء من الهند ، فوقفوا على ضروب من التفكير الهندي مباشرة ، أو عن طريق الفرس الذين كان لهم اتصال سابق بالحضارة الهندية .

إن الكتب العربية التي تؤرخ للعالم القديم لا تخلو من بعض المعلومات عن الهند وتاريخها ، وإن كانت هذه المعلومات مبتورة وبدائية جدا . ولا تقع تبعة ذلك على العرب ، لأن الهنود لم يعرفوا الكتابة التاريخية بالمعنى الحقيقي الا بعد اتصالهم بالحضارة العربية الإسلامية . فما كان بوسع المؤرخين العرب إلا أن يتلقفوا هذه المعلومات السطحية من مصادر مختلفة كيلا يهملوا تاريخ هذه الامة القديمة الهامة ، إلا أن مصادر أخرى ككتب الرحالة والبحارة والتجار ، وكذلك الكتب التي تحدثت عن الاديان الهندية ، وإن كان أغلبها الآن ضائعا ، وقد احتفظت بها كتب متأخرة ككتاب ( الملل والنحل ( للشهرستاني ( ٥٤٨ ) وغيره ، قد تمد الباحث عن العلاقات بين العرب وا لهنود بمعلومات ثمينة وغزيرة ولا ينبغي أن ننسى كتاب أبي الريحان البيروتي ( ٤٤٠ ) « في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ( فهو القمة في جهود هؤلاء العلماء في الوقوف على الفكر الهندي في ادق صوره

إن اطلاع العرب على آثار الهند الفكرية يشهد بمحبة العرب لحكمة الهند ، وإعجابهم بكثير من مناحي الفكر الهندي ، ولا عجب في ذلك ، لأن العرب كانوا قد فتحوا نوافذهم لرياح كل الثقافات في العالم القديم ، دون أن تقتلعهم من جذورهم . أخذوا هذه الثقافات ، وترجموا شطرا عظيما منها الى لغتهم ، فاندمجت هذه الآثار في احضارتهم وفي الحق أن العرب قد انطلقوا من نظرة ) وحدت » العالم القديم في « كل » متماسك الاجزاء ، وعدوا أنفسهم ورثة للعالم القديم كله . وكانت الهند إحدى هذه الامم العظيمة احلها العرب مكانة كبرى في مراتب العلم (۱)

ولكن الذي يؤسف له هو أن العرب - بعد الفوران العقلي الذي اتسمت به القرون الخمسة الأولى من حضارتهم انكفروا على أنفسهم بعد ويلات الحروب التترية وتدمير بغداد ، ثم الحروب الصليبية التي تلتها ، والتمزق السياسي ، مما أخرجهم عن دورهم الريادي ، الى أن جاءت طلائع الغزو الاستعماري الاوربي الفتي. فأخرجهم عن الدور الباقي لهم ، وهو الوساطة التجارية بين أوربا والهند . ثم وقعت الهند نفسها تحت سيطرة الاوربيين ، ولم يطل الزمن بالعرب فسقطوا هم أيضا تحت هذه السيطرة الاوربية ، وأصبح العالم الشرقي القديم وأكبر أممه تحت نفوذ الغرب الاقتصادي والفكري والعسكري .

ولكن مهما يقل في الجانب النفعي العملي من الحضارة الاوربية عندما انصرفت الى دراسة هذا العالم الشرقي دراسة شملت جميع مناحي الحياة فيه ، فانه لا يسع المرء الا أن يعترف بأن ثمة رغبة في العلم عند فريق من الباحثين تريد الوقوف على ( كنه ( الحقائق في هذا العالم القديم فقد نقب الاوربيون عن آثار الحضارات البائدة ، وجمعوا كل ما قدروا عليه من آثار مكتوبة لهذه الامم الشرقية ، فدرسوا كتب الهنود المقدسة ، وأديانهم ، وثقافتهم ، ولم يغادروا شيئا مهما من أشكال الفكر الهندية الا عرفوه ، حتى ان الكتب التي تناولت الهند تشكل مكتبه ضخمة في اللغة الانكليزية وحدها ، فما بالك باللغات الاوربية الاخرى كالالمانية والفرنسية مثلا ولو قارنا معشار الجهود الاوربية بما كتبه العرب في زمننا هذا عن الهند لما جازت المقارنة ، لأن المكتبة العربية تكاد تكون خالية تماما من العناية بالهند و آدابها ، فليس لدينا مختصون بالفكر الهندي ممن وقفوا أنفسهم على دراسة الآداب الهندية ولغاتها ، فلا تكاد تجد كتابا يوثق به علميا في تناول الفكر الهندي ، وإن كانت هناك بعض الكتب فهي ترجمات تجارية أو بعض الدراسات المسروقة من جهود العلماء الغربيين وليت الامر اقتصر على هذا ، بل إن العرب قد أهملوا دراسة الصلات الفكرية بينهم وبين الهند في عصور الازدهار العربية ، مع أن تأثيرات الهند الفكرية ما تزال قوية عميقة في بعض النواحي حتى يومنا هذا.


فمن ذلك ، مثلا ، هذه الاقاصيص التي تتحدث عن ( مكر النساء )  وتتناقلها كتب الادب ، وتتداولها السنة العامة ، فهي في معظمها ترجع الى أصول هندية واضحة ، إلا أن التحوير الذي أصابها قد أعطاها شكلا عربيا » مما جعل كثيرا من الباحثين يظنون أن ذلك من نتاج العرب ، وأنهم لا يثقون بالمرأة، وأن نظرتهم اليها سوداء . وليس ذلك صحيحا لأن النظرة العربية الى المراة، تتمثل أول ما تتمثل في الشعر الجاهلي ، وفي بعض القصص الجاهلية ، ثم الشعر الذي قيل في صدر الإسلام وكذلك في قصص هذه الفترة، فانك لا تجد فيها هذه الصورة « القائمة » للمرأة ، كما هي في العصر العباسي ، وذلك بسبب الآثار الهندية التي نقلت الى العربية في هذه الفترة ، ثم أخذت اشكالا متنوعة راسخة ، فلا يكاد يقطن المرء الى حقيقة أمر هذه القصص . ولو وقف المرء على كتاب ( أخبار النساء ( لابن قيم الجوزية ( ٧٥١ ) وهو فقيه حنبلي متشدد ، لفوجىء بخلو الكتاب من هذه الأقاصيص التي تشوه المرأة ، فصورتها في هذا الكتاب صورة ) واقعية ( لا تجعل من المرأة مخلوقا أثيريا خياليا ، ولا يهبط بها الى دركات الظلمات ، بل هي أم حانية ، وزوجة وفية ، واخت شفيقة ، وبنت رفيقه ، وهي أحيانا غضبي ثائرة ، أو طامعة راغبة ، أو ضعيفة مغلوبة ، فهي في ذلك كله صنو الرجل ، فلها ما للرجال من المزايا ، ولها ما لهم من عيوب ونقائص ، طبقا لقول العرب : النساء شقائق الرجال » . ومعظم هذه الأقاصيص لها واقع تاريخي ، فهي تبتعد عن تضخيم ( القصاص ( ومبالغاتهم ، واختراعاتهم التي تعكس الرغبة في اجتذاب السامعين بايراد الامور الغربية بل المستحيلة أحيانا ، بينما تتناثر الروايات الكثيرة في كتب الادب من العصر العباسي عن مكر المرأة ودهائها وخديعتها للرجال ، ولسنا الآن بصدد تحقيق هذا الامر ، والبحث عن أسبابه وعوامله ، ولكننا نريد أن نقدم الصورة التي اقتبسها العرب من الهنود ، ولونوها باللون العربي ، والبسوا اشخاصها الملابس العربية

إن المجموعة القصصية التي يحويها كتاب « السندباد » هي من أهم المجموعات القصصية الهندية التي تتناول موضوع « مكر النساء » وهذه المجموعة تنسب الى ( السندباد الحكيم » ، وهو شخص لا نملك عنه معلومات تاريخية ، ولا ينبغي أن يختلط بالسندباد البحري، وقصص المغامرات البحرية ، فتلك شخصية أخرى مستقلة

وملخص قصة كتاب « السندباد » هو : أن ملكا من الملوك يدعى المتوج ) (۲) ، كبر وشاخ وخشي أن يموت دون أن يرث ملكه ولد من صلبه ، ولكنه رزق ، على الكبر ، بمولود ، ففرح به ، فلما بلغ الغلام سبع سنوات جمع العلماء من أطراف مملكته ، وطلب منهم أن ينتخبوا واحدا منهم ، على ان يكون أعلمهم ، ليدفع اليه بابنه ليعلمه ويهذبه ، فوقع اختيارهم على السندباد ، فسلم الملك ابنه الى السندباد فمكث عنده ثلاث سنوات ، ثم استقدمه أبوه الملك ، وخاطبه فوجده لم ينل من العلم شيئا ، فغضب الملك وسأل السندباد عن ذلك ، فأجاب بأنه لم يرد أن يشق على الغلام لرقة طبعه ، وأنه لم يكن في سن تؤهله للعلم ، ولكنه وعد الملك بأن ابنه سيتعلم في سبعة أشهر ما يتعلمه غيره في سبع سنوات ، و قطع على نفسه عهدا بذلك . فأعاد الملك ابنه الى رعاية السندباد ، فأقبل السندباد على تعليم الغلام بهمة ونشاط ، فأنجز في هذه المـدة القصيرة . ما لا يستطيع أن ينجزه غيره في سنوات ، وبقي من المدة التي اشترطها على نفسه يومان ، فسأل الملك السندباد عما تم من أمر ابنه ، فقال السندباد : سآتي به غدا . ثم جاء السندباد الى الغلام واخبره بأنه سيمثل غدا امام والده ، ولكنه يريد قبل ذلك أن ينظر في « طالع « الفلام ) فأخذ الاصطرلاب ونظر الارتفاع ، ونظر الى طالعه ، فظهر له إن تكلم هذا الغلام ابن الملك قبل أن تمضي سبعة أيام هلك ومات ، وكان آخر عمره ، وإن سكت حتى تمضي كان سبب سعادته ، وطول مدته » (٤) فحزن السندباد لذلك ، ولكنه أوصى ابن الملك ، وشدد عليه في الوصية الا يتكلم مهما كانت الظروف ، فوافق ابن الملك على ذلك ، وقرر السندباد أن يختفي في هذه المدة. فلما مثل الغلام أمام والده الملك ووزرائه السبعة ورجال الدولة ، لم يسلم ولم يتكلم بحرف ، ولما كلموه ظل ساكتا ، فتحير الملك ، ولما لم يجدوا السندباد ، ظنوا انه أوقع بالفلام مكروها فاختفى لذلك ، فازدا الملك غيظا ، واغتم لما اصاب ابنه. وفي أثناء ذلك دخلت الى قصر الملك جارية من اجمل جوارية ، وكان الملك بحبها حبا زائدا ، فلما علمت بالامر ، طلبت من الملك بأن تأخذ الغلام الى قصرها ، لعلها تستطيع حل هذه المعضلة . فوافق الملك ، فأخذت الغلام الى قصرها . ولما خلت بالغلام في القصر وتأملته وجدته فائق الجمال ، فعرضت نفسها عليه ، وقالت له : إن أباك شيخ كبير ، وأنت شاب وأنا شابة ، وعما قليل يموت ، فأكون لك ، وتكون لي . فعظم على الغلام سماع هذا الكلام من جارية ابيه ، فقال لها : لولا أن كلامي الى سبعة ايام يسبب هلاكي ، لأنزلت بك ما تستحقين من العقاب ، ثم تذكر وصية استاذه السندباد فعاد الى الصمت . فعلمت الجارية أنه مأمور بالسكوت في هذه الايام السبعة ، وخافت أن تنقضي هذه الايام السبعة فيخبر أباه بما كان منها ، فيسبب لها الهلاك فقررت أن تهلكه قبل انقضاء هذه الايام السبعة . ولما دخل عليها الملك سألها عن ولده، فبكت وأخبرته بأنه راودها عن نفسها ، وأنه قال لها بأنه سيقتل والده ، ويتولى الملك ، وأنه سيستخلصها لنفسه ، بعد أن يصبح ملكا بعد مقتل أبيه الشيخ ، ولكنها لم تطاوعه على ما أراد فاستشاط الملك غيظا فأمر بقتل ابنه في الحال . فلما سمع وزراء الملك السبعة بذلك قرروا أن يردوا الملك عن عزمه ، كيلا يندم بعد قتل ابنه ، وربما كان ذلك سببا لقتلهم أيضا إذ يظن بهم الملك الطمع في التفرد بالحكم بعد موته . وهكذا قرروا فيما بينهم أن يدخلوا على الملك واحدا بعد واحد يطلبون منه التروي في قتل ابنه ، والا يثق بقول الجارية ، لأن النساء مجبولات على المكر والخديعة . ولكن الجارية سبقتهم في الدخول الى الملك وضربت له الامثال عن طريق القصص فيمن تهاون في أمر من أموره ، فأمر بقتل ابنه ، فدخل عليه وزير وقص عليه قصصا تفيد التروي في الامر وأن الوثوق بالنساء خطأ ، وهكذا ظل الملك في هذه الايام السبعة يستمع إلى المرأة إذ تدخل عليه صباحا فتطلب منه ان يقتل ابنه وتحكي  له الحكايات عن خيانات الرجال ، ثم يقفوها احد الوزراء فيحكي  قصصا  للملك  عن  قتل  عن مكر النساء وعن كيدهن وخياناتهن ، فيحجم الملك ابنه . الى أن انقضت الايام السبعة ، فتكلم الغلام ، وحضر السندباد ،  وبان للملك حقيقة الامر.  

فالكتاب  كما يتبين من هذا الملخص مجموعة من القصص لا  يربط بينها إلا الموضوع ، وهو مكر النساء . وهذه الطريقة من القصص طريقة هندية ، وهي تبدأ بطرح العقدة البدائية ، ثم تروي القصص واحدة. بعد أخرى ، عن طريق التشويق ) وذلك في نهاية القصة واستئناف قصة جديدة فيقول أحد اطراف الحوار ... وذلك كما حدث للتاجر واللص ) والتساؤل ) فيقول الطرف الآخر وكيف كان ذلك ( فيندفع القاص في رواية قصته . مثال على هذه الطريقة قصص الف ليلة وليلة ، وكليلة . ومن الواضح أن عدد القصص قد يطول وقد يقصر بحسب ما يتوفر للقاص من قصص دون أن يؤثر ذلك في مجريات الاحداث ، ثم تأتي النهاية ويكون الحل مع النهاية ، ولذلك شبهت هذه القصص بالدودة الشريطية ( TAPE - WORM) . وينبغي الاعتراف بأن عنصر التشويق والجاذبية موجود فيها ، ولا يمل القارىء من متابعة قصصها ، إذا كانت هذه القصص نفسها قصصا جميلة ممتعة . ويجد المتأمل في هذه المجموعات القصصية الهندية أنها قد تدور حول موضوع واحد كموضوع مكر النساء في كتاب « السندباد « أو أكثر من موضوع ولكنها متقاربة في الهدف كموضوعات كليلة ودمنة ، أو مجرد سرد قصص خيالية لا يراد منها سوى المتعة الخيالية المحضة  لم تبق هذه القصص الهندية في بلاد الهنود بل اجتذبت اليها امما اخرى ، ولعل الفرس من أهم هذه الامم التي فتنت بهذه الأقاصيص ، فقد ترجم الفرس كليلة ودمنة ، كما ترجموا ألف ليلة وليلة ( هزار افسان ) وترجموا كذلك كتاب السندبلا هذا الى اللغة الفهلوية ، ولعل ذلك كان في عهد كسرى أنوشروان الذي ترجمت له بعض الكتب والقصص الهندية .

فلما شاء الله أن يرث العرب ملك الفرس وأن يرثوا تراث العالم القديم بأكمله ، أقبلوا برغبة ومحبة عظيمة ، وبنشاط زائد على ترجمة كثير من هذه الاقاصيص ، فترجمت الكتب الفهلوية - المترجمة عن الهندية - الى العربية . وكان بينها كتاب « السندباد » .


إن أقدم ذكر لكتاب « السندباد » هو ما ورد في تاريخ اليعقوبي ) المتوفى بعد ۲۹۲ هـ ( فقد ذكر في تاريخه في أثناء حديثه عن تاريخ الهند وعن ملك الهند ( كوش ( (٥) الذي كان في زمانه ) سندباد ( الحكيم ، فقال » ولكوش هذا وضع كتاب «مكر النساء » » (1)

ثم ذكره المسعودي ( ٣٤٦ ) في ) مروج الذهب » في أثناء حديثه عن هذا الملك ، فقال : « وكان في مملكته وعصره ) سندباد ) دون له کتاب الوزراء السبعة والمعلم والغلام وأمرأة الملك » وهو الكتاب المترجم بسندباد

إن نقول المؤرخين العرب تشهد بأصل الكتاب الهندي ، وأن تأليفه منسوب الى من يدعى « بالسندباد الحكم » ولذلك يستغرب المرء تردد ابن النديم ( ٤٣٨ ( في كتابه « الفهرست » عندما تحدث عن كتاب  السندباد » في المقالة الثامنة من كتابه في الفن الاول منها عندما تحدث الكتب المصنفة في الاسماء والخرافات ، فذكر كتاب « السندباد »عن وذكر أن الناس مختلفون في أمره ، كاختلافهم في أمر « كليلة ودمنة » ، فيمن صنفه أهم الفرس أم الهنود ؟ ثم قال : « والغالب والاقرب الى الحق أن تكون الهند صنفته » (۸) . ولعل السبب في اختلاف نسبة الكتاب في عصر ابن النديم ، هو أن بعض المتعصبين من الفرس ادعوا تأليف الفرس له لانه موجود بالفهلوية ، وأن العرب إنما عرفوه عن طريق الفرس ككتاب كليلة ودمنة ) وقصص » الف ليلة وليلة ( إذ ادعوا نسبتها الى الفرس ايضا .

لم يوهب كتاب « السندباد » مترجما قديرا كابن المقفع الذي ترجم كليلة ودمنة « ، ولذلك لم يذكر ابن النديم اسم مترجمه ، إلا انه جاء في هامش النسخة الخطية من كتاب الفهرست عند ذكر كتاب السندباد : » هذا الكتاب نقله الأصبغ بن عبد العزيز بن سليم السجستاني ) (۹) وهو رجل لم تذكره كتب التراجم المشهورة . إلا أن ابن النديم ذكر هذا الكتاب ضمن الكتب التي ترجمها ( أبان بن عبد الحميد اللاحقي ( المتوفى سنة ۲۰۰ ) من الفارسية ) والمراد بذلك اللغة الفهلوية ) (۱۰) وأبان شاعر عباسي معروف ترجم كليلة ودمنة شعرا ، ولعل اللاحقي ترجم كتاب السندباد » شعرا أيضا ، إلا أن ترجماته هذه قد ضاعت ، إلا إذا فاجأنا  الزمن بالعثور على بعض هذه الترجمات في خبايا الزوايا ليس بين أيدينا الآن من كتاب سندباد الارواية واحدة ، أخرجها العلامة أ. أتش من خزانة كتب » شهيد علي باشا ( نسخها أحد المماليك في القرن العاشر الهجري (۱۱) ، والعامية اصيلة فيها ليست نتيجة التحريف . والغالب على الظن أنها تحرير جديد الاصل قديم ، كان المحرر الجديد له متوسط الثقافة فكتبه لعامة الشعب . ومما يقوي ذلك كثرة التصرف في جزئيات هذه القصص ، واختلاف العبارات في المصادر المتنوعة لها . ومما يؤيد ذلك أيضا أن إعادة هذه القصص أكثر من مرة ، ليس أمرا مستغربا في الفارسية والعربية . فقد كان كتاب الفرس في القرنين الخامس والسادس قد أعادوا كتابة هذه القصص بأسلوب مصنع منمق تكثر فيه الامثال العربية والفارسية والاشعار والآيات والاحاديث ، وذلك ما حدث لهذا الكتاب إذ ترجمه رجل يدعى بأبي الفوارس من الفهلوية في القرن الرابع الهجري ترجمة خالية المحسنات .

من فجاء الشاعر الظهير السمر قندي في القرن الخامس فأعاد صياغة الكتاب بأسلوب مصنع ، واكثر فيه من الاستشهاد بأبيات وأمثال عربية وفارسية قصة ، هي  تحوي هذه الرواية التي هي أقرب الى العامية إحدى وعشرين قصة ، بعضها من رواية الجارية وبعضها من رواية الوزراء. وقد ذكر ابن النديم أن للكتاب نسختين : كبيرة وصغيرة (۱۲) ، ولكنه لم يشر الى عدد الأقاصيص فيهما أو في واحدة منهما ، ونظن أن هذه الرواية التي تحوي النسخة الصغيرة ، وأما النسخة الكبيرة فلعلها في مطاوي المكتبات ، ولكن وصلتنا منها ترجمة فارسية ، ففي أيدينا الآن النسخة الصغيرة بالعربية ، والنسخة الكبيرة بالفارسية ، وليس بينهما من خلاف الا في عدد القصص كثيرة وقلة ، وأحيانا ذكرا وحذفا أي تروي إحد النسخ قصة لا ترويها الاخرى ، ولما وقف الدكتور أمين عبد المجيد بدوي في كتابه « القصة في الادب الفارسي ( على هذا الأمر ( وهو وجود نسخة صغيرة بالعربية وكبيرة بالفارسية ( تساءل هذا التساؤل : « وتشير عبارة ابن النديم ) وهو ) أي كتاب السندباد ( سختان كبيرة وصغيرة » إشارة مبهمة الى وجود ترجمتين لهذا الكتاب في القرن الرابع إحداهما مفصلة والاخرى مجملة ، ولا ادري ، أيقصد بهذا ترجمتين فارسيتين أم ترجمتين عربيتين ، أو المراد بهذه العبارة ترجمتان فارسية وعربية ) (۱۳) ثم يجيب عن هذه التساؤلات إجابات عجيبة ، مقايسا في ذلك بين الترجمتين العربية والفارسية، وغير جواب لهذه التساؤلات أن ابن النديم عندما يتحدث عن نسخة كبيرة وصغيرة أو كتاب صغير أو كبير في كتابه « الفهرست » فهو لا يريد إلا الترجمات العربية ، لأنه كتب كتابه للعرب ، ولم تكن الفارسية الدرية في عهده بلغت ذلك المستوى الذي يخلب الالباب ، أو أن كتبها قد ذاعت في بلاد العرب كبغداد وغيرها ذلك الذيوع الذي يكفل لقارئه أن يعرف من تلقاء نفسه أنه عندما يذكر نسخة صغيرة ، أو كبيرة يريد بذلك ترجمات فارسية ، أو بعضها فارسي وبعضها عربي الى آخر ما تبادر الى ذهن الدكتور أمين، كل ذلك دون أن ينص على أن تلك بالفارسية والاخرى بالعربية، وأي خلط أكبر من أن يقول لهذا الكتاب كذا نسخة ، ثم لا يبين المراد من هذا الكلام ، فأي أذكياء العالم يستطيع أن يحل مثل هذه الألغاز عندئذ ؟!

إذا ، ليس بين أيدينا الآن بالعربية إلا النسخة الصغيرة ، وقد أصبحت قصصها أصلا لكثير من الترجمات الى غير العربية ، فقد ترجمت إلى العبرية بعنوان : ( سندبار Sind BAR ( والى السريانية بعنوان ) ومن السريانية ترجمت الى اليونانية بعنوان Sind BAN سندبان Synti PAS ) وترجمت كذلك الى الاسبانية والتركية .اما اثرها في العربية فهو متنوع ، فبالاضافة الى ما ذكرناه من ترجماتها الضائعة ، ولا سيما الترجمة الشعرية لابان اللاحقي ، فان هذه القصص قد تناثرت في كتب الادب العربي، في اثناء الحديث عن مكر النساء ومكايدهن . ويتعذر في حدود هذه المقالة المجموعات والإشارة الى كل ما ورد فيها من هذه الأقاصيص حصر هذه الكتب أو ولكن يجدر بنا أن نشير الى أن ) قصص الف ليلة وليلة ) قد احتوت على كتاب ) السندباد ) وهي ليست منه في الاصل (١٥) ، كما هو الحال في الاضافات الكثيرة الى أصل ) الف ليلة وليلة  ..

وكذلك يطول بنا الامر لو تتبعنا التحويرات والتغييرات التي أصابت هذه الأقاصيص في هذه الكتب ، ضمن تدرج زمني فهي تحتاج الى دراسة مستقلة ، لانها تتلون بتلون البيئات التاريخية ، وهذا سر خطورتها ، لان القارىء المتعجل يخرج بانطباع خادع ، وهو أن هذه الأقاصيص قد جرت فعلا، ويحكم - بناء على هذا الانطباع - بأن العرب كانوا لا يثقون بالمرأة لمكرها ودهائها ، كل ذلك في غفلة عن الأصل الذي صدرت منه ، واغترارا بهذه الالوان التي لونت بها هذه الاقاصيص .

فمن هذه الاقاصيص ، مثلا ، قصة ( طبردار ) (١٦) الملك الذي كان على علاقة مريبة بزوجة أحد التجار ، فأرسل اليها غلامه - في يوم من الايام - ليدعوها اليه . فلما رأت المراة الغلام أعجبت به ، فراودته عن فلما أبطأ الغلام عن سيده ، جاء ( الطبردار ( غاضبا فلما علمت المرأة بمجيئه استقبلته بلطف ، وكانت قد أخفت الغلام في البيت ، وأقبلت على الطير دار فعانقته واذا بزوجها قد جاء ، فخاف ( الطبردار (نفسه)

من الفضيحة ، فقالت له المرأة : لا بأس عليك ، قف عند الباب ، وجرد سيفك ، كأنك تهددني وتوعدني بالقتل ، فاذا دخل زوجي ، فلا تكلمه ، وابق على ما أنت عليه من التهديد ، ثم اذهب بعد ذلك » فلما دخل زوجها ، ورأى الحال ، فسألها بعد خروج الطبر دار الغاضب ، عن الامر ، فقالت : تعال وانظر فأخرجت الغلام ، وكان خائفا فزعا . فقالت له : اذهب ، ولا تخف ، فقد خرج أستاذك . فقال لها زوجها : ما هذا الغلام ؟ . قالت له : إن سيده ذاك الذي رأيته كان قد غضب عليه ، وأراد قتله ، فدخل واستجار بنا مخافة القتل ، وإذا مولاه اقبل كما تراه ، فلما خرج مولاه أخرجته ، وقد كسبت أجره ، ونجيته من شره سمع زوجها ذلك أثنى عليها وشكرها على ما فعلت 

وقد وردت هذه القصة في ( الف ليلة وليلة ) أيضا (۱۸) ، وليس فيها من تغيير كبير ، سوى أن عاشق المرأة ) في الف ليلة وليلة ( هو ) خزندار ( الملك . ومن الواضح أن ( الطبردار ( هو الذي يقف على رأس الملك لا ) الخزندار ) . ولكن هذه القصة جاءت في كتاب « نزهة الابصار والاسماع، في اخبار ذوات القناع ) (۱۹) لمؤلف مجهول ( هو في الغالب من العهد المملوكي ، إن لم يكن متأخرا عن ذلك ( دون ان يذكر المؤلف شيئا عن ( طبردار ) أو ( خزندار ( بل هو ( جندي تركي ) ، وفيها تقول المرأة لعشيقها : « قم ، اخرج ، واشهر سيفك ، وتكلم بالتركي ، واشتم ، و دمدم ، فقام وفعل ذلك فلما رآه زوجها قال « ما لهذا التركي ؟ مالي اراه عندك ؟ فقالت : يا هذا ! هو جندي سكران ، أراد ضرب مملوکه ، فهرب المملوك عندي ، فأدخلته تحت السرير ، وأنكرته ، وقلت ما رايته ، فهجم علي سيده ، والسيف في يده ، ثم فتش عليه ، فأعماه الله عنه ، فخرج مفبونا )

إن ذكر ( الجندي التركي ( في هذه الرواية المتأخرة ، بدلاً من الطبر دار أو الخزندار ، في الروايتين المتقدمتين ، وطلب المرأة منه أن يتكلم بالتركية امام زوجها ، ينطبق تمام الانطباق على وضع جنود المماليك في مصر بعرف العربية .

، فقد كان أكثرهم لا وبذلك تقترب رواية هذه القصة على هذا النحو من » الواقعة الحقيقة » ذات » البعد التاريخي الواقعي » . جمع أسفارا من ولم يكتف مؤلف كتاب نزهة الأبصار والاسماع » بمثل هذه التغييرات ، بل ذكر أحيانا أشخاصا ، لهم وجود تاريخي حقيقي ، بدلا من أشخاص غير معينين في الروايات المتقدمة . فمن ذلك : قصة ذلك الرجل الذي أراد قبل أن يتزوج أن يقف على مكائد النساء وحيلهن، فطاف البلاد والاقطار ، يكتب كل ما سمعه من أقاصيص مكر النساء » حتى ذلك . وشاءت الاقدار أن يمر في طريق عودته بالبادية ، فمر ببيت من بيوت أمراء العرب ، فأكرم الأمير ضيفه ورحب به، ولما رأى الكتب معه سأله عنها ، فأخبره بأن كتبه هذه قد جمعها في أسفاره الطويلة عن حيل النساء ومكائدهن ، وأنه فعل ذلك قبل أن يتزوج كيلا تنطلي عليه حيلة من حيلهن . وكانت » امرأة » الامير تسمع هذا

« الكلام ، فقال لها زوجها : قدمي لضيفنا طعاما ، فهو جائع ومتعب ، و قادم من سفر بعيد فلما جهزت الطعام طلب الامير من ضيفه ان يذهب الى الشقة الخلفية من البيت حتى يأكل ويستريح من عناء فلما خلت المرأة البدوية به اخذت تضاحكه وتمازحه ، حتى هش لها وبش ، ثم أغرته بنفسها ، وذكرت أن زوجها شيخ كبير لا غناء عنده ، فطاوعها ، فلما قعد منها مقعد الرجل من المرأة ، جمعت رجليها ، ورفسته بقوة في صدره ، ثم وثبت قائمة وصاحت بأعلى السفر صوتها ، فأغمى على الرجل من الخوف ، ودخل الامير مذعورا ، فوجد زوجته قد انهالت ضربا على ظهر الرجل ، فسألها عما جرى ، فقالت : قد غص ضيفنا بلقمة ، لانه كان جائعا فكبر لقمته ، ، ولم يتان في اكلها ، ولكن لا بأس عليه ، فخرج زوجها مبتسما ، وأوصاها بأن تعنى بأمر الضيف ، فأفاق الرجل مذهولا ، فقالت له : هل مر بك مثل هذه الحكاية في كتبك ؟ فقال : لا ، فقالت له : ما فعلت ذلك الا لتعلم أن مكر النساء ليس له نهاية . فرجع الرجل الى أهله تائبا مما فعله

ومما لا شك فيه أن هذه القصة في أصلها الهندي لم تكن على هذا الشكل ، أي أنه لم يكن هناك ذكر لامير من امراء العرب . وانما كان فيها - في غالب الظن بيت لقروي منفرد عن العمران ، ذلك أن الكاتب الهندي أراد من هذه القصة أن المرأة ، ولو كانت جاهلة بعيده عن مجتمعات الناس ، فان قدرتها على المكر والخديعة كقدرة المرأة الحضرية ، وأن الخداع هو في غريزة المرأة وجبلتها ، ، تستوي في ذلك الجاهلة والعالمة ، وكان من السهل على الكاتب العربي ، أو المترجم العربي الاول ، أن يبدل ذلك ، ويحولها الى امراة بدوية ، لانقطاع البدو عن العمران ، ولحسن استقبالهم للضيف . وأما صاحب « نزهة الاسماع والابصار « فقد خطا خطوة ابعد من ذلك فسمى الامير بأنه من أولاد ) عيسى بن مهنا ( (۲۲) ، وهو أمير من أكبر أمراء العرب في القرن السابع الهجري وله وجود تاريخي حقيقي

وكنت أود أن اناقش بالتفصيل - ونحن في صدد تأثيرات هذه المجموعة القصصية الهندية - رأيا للدكتور » أمين عبد المجيد بدوي » عرضه في كتابه « القصة في الادب الفارسي » وملخص هذا الرأي : أن هذه الحكايات المتتالية في كتاب السندباد « ليس الا مجموعة من الحكايات المتداخلة رويت في مناسبات ، فما أشبهه في ذلك بكتب المقامات ، ولا نقرب اذا اسميناه مقامات السندباد اذ لا فرق بينه ما عرفنا من وبين مقامات البديع والحريري ، الا انه مقامات قصصية يهدف راويها الى العظة والعبرة ، وهده مقامات او مجالس خطابية يرمي منشئها الى التفنن في الافصاح عن قدرة لغوية وملكة بلاغية (٢٤)، ثم يتحدث عن تعاقب الوزراء والجارية في عرض قصصهم أمام الملك لينتهي الى ما يلي : « وفي مقامات بديع الزمان يحدثنا عيسى بن هشام عن مجالس مختلفة يقوم في كل منها أبو الفتح السكندري بطل هذه المقامات خطيبا أو مناظرا أو محاورا في وضوع ما وقد يرتجل شعرا أو يروي لشعراء آخرين، ولكل مقامة عنوان يشير الى موضوعها أو مكانها ، مثل المقامة القريضية التي موضوعها القريض والمقامة الازاذية التي موضوعها الازاذ أي التمر والمقامات البلخية والسجستانية والكوفية ، وتدور وقائعها ببلخ وسجستان والكوفة » (٢٥) . ثم يقول : وكذلك الحال في مقامات الحريري (( (٢٦) ويختم أقواله بهذا التساؤل: ترى هل تدل هذه المشابهة على علاقة فنية بين المقامات وكتاب السندباد ؟ وهل ألف البديع والحريري مقاماتهما متطلعين الى هذا الكتاب

ولما كانت الاجابة على هذا السؤال بالايجاب تستدعي وقوف الهمذاني على كتاب السندباد . قال البدوي : « ترجم السندباد عن الفهلوية الى الفارسية الدرية لاول مرة سنة ٣٣٩ هـ ، وكانت وفاة البديع رائد فن المقامة وقدوة الحريري سنة ٣٩٨ هـ وهو فارسي(۲۸) من قصص مكر النساء الهندي وأثره في الأدب العربي ] ذوي اللسانين نشأ بهمذان وطوف بجميع بلاد خراسان و سجستان وألقى عصا الترحال بهراة . وليس بمستبعد أن يكون قد كتب مقاماته العربية تحت تأثير هذا اللون من التأليف الفارسي ( ؟! ((۲۹) غير أنه استبدل الخطبة والمناظرة والالغاز والمحاورة بالاسطورة والخرافة لانهما لا يرقيان في أدبنا العربي الى مقام القصيد والترسل والخطابة ثم جاء الحريري المتوفى بين سنتي ٥١٠ - ٥١٦ هـ فحذا حذوه ، وعلى هذا ، لقائل أن يقول - دون شطط ان فن المقامة العربية يرجع في تأليفه الى أصول هندية فارسية ، مستندا في قوله الى نظر ممحص سليم واستدلال منطقي قويم

قد كنت اود ان اناقش هذا القول بالتفصيل متعرضا الى روح المقامات الذي يختلف اختلافا جذريا عن هذه الحكايات « الهندية » ولكنني سأكتفي بتبيان مواضع الالتباس كيلا يحمل بعض الدارسين هذه الاقوال على محمل الجد، فتسلل من كتاب الى كتاب ، ولا تستغرب بعد ذلك أن تجدها في الكتب المدرسية ، لان المؤلف لم يكن جادا ، قطعا ويقينا ، عندما انتهى الى ما انتهى اليه ، ولكنه أراد أن يخالف مشهورا ليكون مشهورا ، وهذه روح سرت بين المؤلفين المصريين منذ أن وجدوا طه حسين أشهرته المخالفة للآراء المتعارفة عن الشعر الجاهلي ، « فعقدة طه حسين » هي التي دفعت بالمؤلف الى هذا الرأي ، وما درى المؤلف أن المخالفة لمجرد الخلاف لا تجدي نفعا :

ولیس کل خلاف جاء معتبرا     

 الا خلاف له حظ من النظر

ان الحجة التي يستند اليها المؤلف هي أن قصص السندباد من الحكايات المتداخلة رويت في مناسبات » وكذلك المقامات، مجموعة ليس صحيحا ، لان قصص السندباد لم ترو في مناسبات ، بل هي مرتبطة أشد الارتباط بمناسبة واحدة وموضوع واحد . ويبقى أمر التشابه بين هذه القصص وبين من الناحية الشكلية ، هذه القصص السندباد ، مثلها مثل القصص الهندي لاكتفاء والفرق بينهما كبير ، فقصص بوجه عام ، تختلف في العقدة والحل وطريقة القص عن المقامات . فمحور الترابط في المقامات هو شخصية البطل ، وليس في المقامات الطريقة الهندية في التشويق والسؤال والاجابة . فلا بالمشابهة السطحية في الحكم على أن فن المقامات مصدره قصص السندباد بدعوى أن فن المقامات هو مجموعة من القصص القصيرة ، وقصص السندباد كذلك ، مع اغفال الروح والطريقة القصصية في كل جانب .

 ومما يقرب لك ذلك ) أي أن المشابهة العارضة وحدها لا تكفي( هو « فن الرواية « الحديث ، فليس » لقائل أن يقول » الا اذا كان وجهه اصلب من الصخر - : ان « ثلاثية نجيب محفوظ » ما هي الا استمرار وتطور ) السيرة بني هلال » مستندا في ذلك الى ان « الثلاثية والسيرة الهلالية » تحكيان قصة أسرة وقبيلة ، فالثلاثية تتحدث اسرة مصرية ، من الاجداد والابناء والاحفاد ، والسيرة تتحدث كذلك عن الاجداد والابناء لقبيلة بني هلال ، هذا من جهة التشابه في الموضوع وأما التشابه الفني فهو أقوى لان الثلاثية عمل فني متشابك تتداخل فيه الاقاصيص ، وكذلك السيرة تتداخل فيها الاقاصيص يستطيع المرء أن يمضي في طريقه مؤكدا ومبينا هذا التشابه بين الثلاثية والسيرة الهلالية ، وينتهي بالطبع الى هذه النتيجة المريحة ، وهي أن نجيب محفوظ - لم يتأثر في روايته بنماذج فنية اجنبية بل كان أمامه عمل شعبي معروف ، مسموع ومقروء وهو السيرة  وهكذا الهلالية ، ثم يتساءل بعد هذا كله : أيعقل الا يكون نجيب محفوظ قد قرأ أو سمع سيرة بني هلال ؟!

ثم ان المؤلف لم يكن بحاجة الى أن يجعل ترجمة أبي الفوارس الاساس الذي وقف عليه الهمذاني ، ويشق على نفسه في البرهنة على ذلك ، لان ترجمة أبي الفوارس كانت بالفارسية الدرية ، وهي ترجمة ركيكة وبعبارات هابطة ( كما وصفها الظهيري السمر قندي (۲۱) مع أن أمامه ترجمة أبان اللاحقي ، وهي تسبقها بقرن ونصف تقريبا ، وربما كانت ترجمة الأصبغ السجستاني ، معروفة في عهد الهمذاني.

 ثم لم يصر الأؤلف على ان تكون قصص السندباد هذه أن تكون الرائد الفني لفن المقامات ، وهي لا تختلف في شيء ـ من الناحية القصصية - عن ) كليلة ودمنة ) ، ولا سيما وقد ترجمها مترجم قدير كابن المقفع . ومن المؤكد ، يقينا ، أن الهمذاني قرأها كسائر المثقفين في تلك الايام . وكذلك الامر في ) ألف ليلة وليلة ( وعشرات القصص الهندية الاخرى . فما هو السر الذي استهوى الدكتور بدوي في قصر شرف التأثير في فن المقامات على قصص السندباد ؟ أترى لو انه ذكر ) كليلة ودمنة ( لاشماز الناس من قوله ونفروا منه لانهم قد قرؤوا ) كليلة ودمنة ) فلم يلحظوا ذلك ، وأما قصص ( السندباد ( فمنذا الذي يفطن لها ؟! فاذا كانت المشابهة سطحية بين فن المقامات ، وقصص ) السندباد ) ، واذا انتفى التلاقي في المضمون كما صرح المؤلف نفسه بذلك ، فذهب الى أن قصص السندباد قصص خرافية واسطورية ) وهذا ليس بصحيح ، ولا تندرج قصص السندباد تحت جنس الاسطورة أو الخرافة ، على الرغم من أن المؤلف شرح في هامش الكتاب معنى الاسطورة والخرافة ( وان مضمون المقامات قائمة على « الخطبة والمناظرة والالغاز والمحاورة » فأين وجه الالتقاء بينهما بعد هذا

لم تبق قصص السندباد وقفا على الادب المكتوب الفصيح منه والعامي ، بل تداولها الشعب في حكاياته ، ولما كانت العناية بهذه الأقاصيص الشعبية قليلة حتى الآن ، ولم يقم باحثون مختصون بمسح شامل لمختلف البيئات العربية لتدوين هذه الحكايات فان الاشارة الى بعض هذه الحكايات وتداولها في البيئات الشعبية سيظل قاصرا على السماع المباشر ، ويتعذر عندئذ الاشارة الى تداول هذه القصة أو تلك، في مختلف البيئات ولذلك سأكتفي بالاشارة الى قصة من هذه القصص ، تداولتها البيئات الشعبية في مدينة « اللاذقية » الجمهورية العربية السورية ، فقد تداولت هذه البيئة قصة قصص السندباد ، وهي مما احتفظت به قصص ) ألف ليلة وليلة ( ، وقد سمعنا هذه القصة في بيئات أخرى ، وملخص هذه القصة : أن شابا أحب امرأة بزاز ) بائع البز وهو أقمشة الثياب ) ولكنه لم يستطع الوصول الى نيل مراده منها ، فاستعان بعجوز ، فطلبت من الشاب ان يقصد دكانه ، وأن يشتري منه ( الرداء ( الذي على رأسه ، فذهب الشاب الى التاجر ، وطلب منه رداء ، فأراه الاردية التي عنده ، فلم يعجبه شيء منها ، وقال له : أريد مثل هذا الذي على رأسك ، ولم يكن عند التاجر مثله ، فأراه ما هو خير منه ، فأبى الا أن يكون مثل رداء التاجر واخيرا توصل الى شراء ) رداء ( التاجر ، وذهب به الى العجوز ، واحرقت فيه بعض المواضع ، ثم قصدت بيت امرأة البزاز ، فرحبت بها المرأة ، ثم شاغلتها بالحديث ووضعت الرداء تحت مخدة التاجر ، فلما جاء التاجر وجد رداءه تحت المخدة » فعظم ذلك عليه ، وظن انه صديق زوجته ، ووسوس له الشيطان ، وقال في نفسه ما أخذ الرداء الا حتى يعلمني انه صديق زوجتي » ، ثم طلب منها أن تذهب الى اهلها ، فذهبت الى أهلها ، ومكثت بضعة أيام ، فجاءت العجوز الى بيت أم المرأة ، وسألت عنها عن سبب غيابها عن البيت ، فقالت امرأة البزاز لا أدري ، وسألت العجوز ان كان عندها مخرج من هذا الامر ، فعرضت عليها العجوز أن تذهب الى » منجم » حاذق تعرفه العجوز حتى يكشف لها عن السبب ، وكان المنجم هو ذلك الشاب ، فأخذتها الى بيته ودفعتها اليه ، وغابت عنهما ثم ارادت العجوز أن ترد المرأة الى زوجها ، فطلبت من الشاب أن يذهب الى دكان التاجر ، وان يجلس عنده ، ولا يتكلم بشيء ، فاذا مرت هي ) أي العجوز ( فعليه أن يتعلق بها ، ويضربها ، ويصيح بأعلى صوته : اما أن تأتيني بالرداء واما أن أرفع أمرك الى الحاكم . ففعل الشاب ما قالته العجوز تجمع الناس ، سألوه عن القصة فأخبرهم بأنه أعطاه للعجوز كي ترفوه لانه احترق في مواضع ، فأخذته وغابت عنه ، فاعترفت العجوز بأنها أخذته من الشاب ، ولكنها دخلت دورا كثيرة ، ونسيته في دار الدور ، ولم تعد تتذكر تلك الدار ، فلما سمع التاجر هذا الكلام زال ما في نفسه وعمل على ما فرط في حق زوجته ، فأعادها ، ولم يعلم هو ولا زوجته عما فعلته هذه العجوز (۲۲) وهي في رواية ( ألف ليلة وليلة ) تأخذ شكلا اجمل من هذه الرواية وفيها سمي التاجر ) بأبي الفتح ) من اهل بغداد

أما في الرواية الشعبية » فقد التقت العجوز بشيطان ، فتحدى كل منهما الآخر على أيهما يستطيع أن يقوم بنادرة اشد مكرا ودهاء . وقالت العجوز : انني استطيع ان اقوم بنادرة لا تستطيع انت ولا كل الشياطين أن تقوموا بها ، فتحداها الشيطان أن تفعل ان استطاعت فوعدته بذلك » .. ولذلك وضع الجامع لهذه الحكايات عنوانا من هذا التحدي فعنونها ) بالعجوز والشيطان ( ثم تجري القصة في خطوطها العامة كما وردت في كتاب ) السندباد » الا أن القاص الشعبي ) او الجامع لهذه الأقاصيص ) سمى التاجر ) بعوض

ولعل المتتبع للادب الشعبي المحكي يستطيع أن يجد عددا من أقاصيص » السندباد » منثورة - هنا وهناك - في بيئات الوطن العربي المختلفة ، يتمثل بها الناس حين يتحدثون عن ( مكر النساء » . والسبب في ذلك أن « كتاب ألف ليلة وليلة « لا يزال يحتفظ بهذه الأقاصيص ، وهو كتاب لا يزال عدد كبير من الناس يقرؤه بشغف . وتبقى لهذه الحكايات الشعبية طرافة التغيير والتحوير التي تستحق الدراسة والوقوف عند تفاصيلها المتنوعة هذا حديث موجز عن كتاب هندي واحد في موضوع له خطورته الاجتماعية والثقافية والنفسية ، فما بالك لو أن دارسا حاول أن يجمع القصص الهندية الاخرا - في الموضوع نفسه کشهريار في ألف ليلة وليلة ، عندما يفقد الثقة بالنساء ، وغير ألف ليلة وليلة من الا قاصيص التي يغلب عليها الطابع الخيالي ) كالمرأة التي استطاعت أن تغلب العفريت وأن تخضعه « فهذا الموضوع - وهو تغلب المرأة على العفريت وخداعها له موضوع هندي أيضا لا تزال بعض قصصه تنتظر الدراسة كقصة ) عروس العرائس ( مثلا في المجموعة القصصية المسماة كتاب الحكايات العجيبة والاخبار الغريبة » (٢٥) لخرج بمحصول يؤكد عمق أصالة التأثيرات الادبية الهندية في ماضي الادب العربي ، وفي حاضره ، مما يشهد بعمق هذه التأثيرات وخصبها المتجدد


 

مواضيع ذات صلة
الأدب العربي الهندي, دراسات, دراسات أدبية,

إرسال تعليق

0 تعليقات