العنوان: الهند وثقافتها في كتابات جبرا إبراهيم جبرا: "تأملات في بنيان مرمري" نموذجًا
إعداد : - د. عظمت الله [1] :
المصدر: مجلة الهند
تصدر عن :مولانا آزاد آئيديل إيجوكيشنال ترست / بولفور، بنغال الغربية
رقم العدد:١
ISSN: 2321-7928
المجلد : ١٠
السنة: ٢٠٢١
الدولة: الهند
تاريخ الإصدار:١ يناير ٢٠٢١
رئيس التحرير: د. أورنك زيب الأعظمي
ملخص المقال
يتناول هذا المقال أبرز ما كتبه الأديب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا عن الهند وثقافتها والمعالم الأثرية الكائنة على أرض الهند كما يلقي الضوء الخاص على الانطباعات التي أبداها الأديب جبرا في كتاباته، تجاه المعالم الأثرية وميزات العمارة التي تطوّرت في عصر الملوك المغول في الهند. وذلك من خلال سرد اقتباسات كتاب الأديب: "تأملات في بنيان مرمري" على وجه الخصوص. ألف الأديب هذا الكتاب أن زار الهند في كبر سنه، وشاهد بأم عينيه، الهند وما تمتاز به علما وثقافةً وحضارةً وعمرانًا، فاندهش الأديب اندهاشًا شغلت الهند مكانا مرموقاً في كتابات هذا الأديب العملاق.
ويتحدث المقال أيضًا عن الحياة العلمية لهذا الأديب بإيجاز، لنتعرف على مكانته في مجال العلم والأدب بجانب الاطلاع على ما كتبه هذا الأديب الموهوب عن وطننا الحبيب وثقافتنا الغالية.
المدخل:
تمتاز الهند عن دول العالم باحتضانها ثقافات متنوعة ومعالم أثرية نادرة وتراث علمي غني منذ قديم الزمن، بما أسبغ الله تبارك وتعالى عليها من توافر مناهل العلم والثقافة. كما يقول الشاعر العربي خليل جبران.
ما الهند إلا روضة
كانت لأرقى الخلق مهدا
وطن الرؤى أبد الأبيد
ومعهد الأنوار عهدا
وبفضل هذه النعم، اكتسبت الهند مكانة مرموقة في كتابات الأدباء والكتاب، وظلت الهند دوما، وجهة مفضلة لدى سياح العالم، بحيث إنهم يشتاقون دائما إلى زيارتها فرادى وجماعات مما دفعهم إلى تسجيل ذكرياتهم وانطباعاتهم مما استرعى انتباههم من الحضارة والثقافة ومناظر المدن والأنهار، وما شاهدوه من الآثار والمباني والمعالم الأثرية على أرض الهند. ومن أشهر المعالم الأثرية في الهند التاج محل، ضريح قرينة الملك المغولي شاه جهان، والذي بناه تذكارًا لقرينته المرحومة ممتاز محل. ونال هذا المبنى إعجابا وتقديرًا بالغين من قبل السياح والزوّار عبر العالم. حتى خط يراع عدد لا بأس به من الكتاب والأدباء مقالات ومذكرات لا تنسى ولا تقدر بثمن، عن الهند وثقافتها، وتتضمن قائمة هؤلاء الكتاب، الأديب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا الذي يعد من أبرز أعلام الأدب العربي الحديث، وهو كاتب غزيز الإنتاج، وأديب متعدد المواهب ذاع صيته في مصاف كبار المثقفين العرب، ويحلو لنا التعرف على إنجازاته الفريدة وحياته الحافلة بالعطاء والإبداع.
ترجمة موجزة للأديب جبرا
ولد الأديب جبرا إبراهيم جبرا في عام 1920م في مدينة بيت لحم بفلسطين في أسرة مسيحية فقيرة، وتلقى التعليم الابتدائي في موطنه، ثم سافر إلى بريطانيا لنيل التعليم العالي. وبعد إكمال التعليم، عاد جبرا إلى فلسطين وعاش فيها. ولكن بعد النكبة الفلسطينية في عام 1948م توجه إلى بغداد لكسب الرزق، واستقر هناك حتى توفي بها في عام 1994م عن عمر يناهز 74 سنة.
وترك هذا الأديب العملاق خلفه إرثًا أدبيا هائلا، إذ يربو عدد مؤلفاته على 60 إنتاجًا أدبياً بما فيها الرواية والقصة والشعر والنقد والمقالات والأعمال المترجمة، لذا تعتبر شخصية جبرا من أكثر الأدباء العرب إنتاجًا وتنوعاً.
وقد بدأ الأديب جبرا حياته الأدبية بكتابة القصة القصيرة التي نشرت في مجلة الهلال والأمالي، حتى أصبح من أبرز وأشهر الروائيين في الأدب العربي، كما قدم إسهامات قيمة في مجالات الأدب المختلفة، بما فيها الرواية والقصة والشعر والنقد والترجمة، إذ ترجم جبرا أبرز الكتاب الغربيين للقراء العرب من أهمها ترجمة رواية "الصخب والعنف" لوليم فوكنر التي نال عليها فوكنر جائزة نوبل.
تزوج جبرا في 1952م بلميعة برقي العسكري التي تعرف عليها في 1951م وهي انت فتاة عراقية كردية مثقفة فرزق بولدين وهما سدير وياسر. والجدير بالذكر أن جبرا قد أسلم على يد القاضي عبد الحميد الأتروشي قبل بضعة أيام من زواجه. لذا عند وفاته، تمت مراسم التشييع والتدفين على الطريقة الإسلامية. [2]
زيارة جبرا إبراهيم جبرا للهند وانطباعاته عن ثقافتها
زار هذا الأديب عددا من البلدان الغربية مثل لندن وأمريكا ثم إيطاليا وروسيا وغير ذلك، حيث كان يفضل السفر إلى دول الغرب وليس إلى البلدان الآسيوية مثل الهند والصين وما إلى ذلك.
ولكن عندما زار الأديب جبرا جمهورية الهند في كبر سنه، وشاهد بأم عينينه الهند وما تمتاز به هذه البلاد علماً وثقافةً وحضارةً وعمرانًا في تاريخ الحضارات والثقافات العالمية، وبما تحظى به من ثقافات قديمة ومتنوعة ولغات عديدة. فاندهش هذا الأديب اندهاشًا حتى شغلت الهند مكانًا مرموقاً في كتابات هذا الأديب العملاق. ،
لذا قررت أن أحاول نقل كل ما كتبه الأديب الفلسطيني جبرا عن الهند وثقافتها وتقاليدها وكذلك انطباعات هذا الأديب العملاق تجاه الهند ومدنها الشهيرة مثل آغره ومومباي، ولاسيما عن ملوك المغلول، وكذلك أهم المباني والقلع التي شيدها المغول على أرض الهند، فيما خص جبرا إبراهيم "تأملات في بنيان مرمي"، كعنوان الكتاب، وذلك باب ضمن أبواب الكتاب المذكور، ويضم هذا الباب 20 صفحة، تناول الأديب فيه، تاريخ الأمبراطورية المغولية وما قام به الملوك المغول من بناء المباني والعمارات الشامخة والمساجد والضرائح على أرض الهند. حيث إنه أشار ضمن تاريخ مدينة آغرة، إلى بعض الملوك الهندوكيين أيضًا.
وفي البداية، يعرب الأديب عن إعجابه واندهاشه بفن العمارة والهندسة التي تحتضنها الهند في طولها وعرضها، معترفا بأنه كان مغرماً بالأسفار إلى بلدان الغرب مثل باريس وغير ذلك، ولكن عندما زار جبرا جمهورية الهند وشاهد بأم عينيه، فن العمارة والتصميم المعماري والهندسة المعمارية التي تم تشييدها على أيدي الملوك المغول بسبب شغفهم ببناء المباني الشامخة ذكر الكاتب بعد رؤية هذه المعجزات المعمارية، قول الغربيين الذين يكتبون في سرد قصص الهند عن سحر الشرق، ويكتب الأديب ما يلي:
"قبل أيام عدت من سفرة إلى باكستان والهند: ثلاثة أسابيع من حركة مستمرة شاهدت فيها إسلام آباد ولاهور ثم نيودلهي وجايبور وخاجوراهو، واكرا وبومباي... وأنا المعتاد على الأسفار دوما باتجاه أقطار الغرب، وما شاهدته في شبه القارة الهندية من عمارة وفن أفهمني للمرة الأولى ما معنى أن يتحدث الغربيون عن الهند وثقافتها في كتابات جبرا إبراهيم جبر سحر الشرق.... حتى أنني شعرت بأن الهنود ربما كانوا، في يوم ما، أعظم النحاتين، وأعظم المعماريين، في التاريخ الإنساني".[3]
تدلّ كتابات جبرا على أنه معجب بمبنى التاج محل، بما يحمل هذا المبنى في طيه، رموز العشق والحب والجمال حتى أصبحت أحزان العشق مهرجاناً والموت مناسبة تذكارية، فيقول:
هذا الضريح تراه لأول مرة، كما رأيته، على الناحية البعيدة منك، كبيرة من الحجر الأحمر، فتحسب أنك فوجئت بوهم مستحيل: إنه طيب أبيض يكاد لا يستقر على الأرض بين خضرة حدائقه المسترسلة، التي تتخللها أسواق جارية كأنها أنهار الجنة ورخام ناصع نحتته يد ساحرة ليبدو تجسيدا لجمال لا يوجد إلا في خيال محموم..... وتحس في صدرك ذلك الشد الرائع بين السماء والأرض.. فلا تستطيع الجزم هل أنت سماوي وجد مستقره في عالم الفضاء أم أرضي ينطلق نحو خلود ما"[4] .
"هذا المبنى العجيب: الذي لا ينال من وقعه في النفس كونك تراه مع آلاف من الناس، فهم يزورونه كل يوم حشودًا، كأن أحزان العشق هي مهرجان، وكأن زيارة الحبيبة فى ضريحها بعض من وقد الحب وكأن الموت من خلال البنيان المرمري إنما يهب الحث طاقة تمنع عنه الموت".[5]
وقد أشار الأديب في هذا المؤلف، إلى النقاط البازة التي يتضمنها هذا المبنى الرخامي، منوها بأن التاج محل بني باستخدام الأحجار الكريمة والياقوت والعقيق التي اشتهرت بها الهند، حيث يسرد الكاتب أيضًا بأنه يطلق فيه صيحة خافتة: الله أكبر، ويدوي صوت الكلمتين داخل أعلى القبة لأكثر من عشرين ثانية. ويتذكر الأديب أن هذا المبنى يعكس بداخله وخارجه الحضارة العربية الإسلامية بحد ما:
"وقد عاد بي هذا المثمن إلى إحدى الأفكار الأساسية في الرؤية الإبداعية العربية، التي كانت ولاريب فاعلة في تخطيط تاج محل ..... وفيما بينها، الدور الأول لتحفيزه نحو الإدراك والتركيب والإبداع - بدءًا بمكعب الكعبة في مكة المكرمة، واستمرارًا بمثمن مبنى "قبة الصخرة" في بيت المقدس، وهكذا مرورا بكل ما أنتجت الحضارة العربية الإسلامية من عمارة وزخرفة وشعر وموسيقى"[6].
" وواقع الأمر أنّ ثمة صلة مهمة بين تاج محل وبين بغداد العربية، تتخطى المثمن الذي شيد عليه. فقد تبين من الوثائق المعاصرة لبنائه، رغم ما قيل عن أثر المهندسين العجم في عملية التخطيط، أنّ أحد المعماريين المهمين الذين ساهموا في التخطيط والبناء، كان عربياً من العراق، يدعى واجد البغدادي".[7]
زد على ذلك، أنّ الكاتب يشير في ذكر الحدائق وتصميم دوران المياه في مثل هذه المباني بما فيها التاج محل، كأنها جنات تجري من تحتها الأنهار، حتى أورد هذا الأديب في هذا الخصوص، اقتباسا لمؤرخ في وصف حدائق قلعة دلهي:
"وكان للحدائق والمياه دورها الأساسي في التصميم والتنفيذ لها، كما في كل ما بناه هؤلاء الأباطرة. فهي أولا مستوحاة من حدائق الجنة وأنهارها وكما وصفها القرآن الكريم، وكان العرب من قبلهم قد استوحوها... تلك القمة المتميزة التي نعرفها في قصر الحمراء و"جنة العريف" في غرناطة بالأندلس وهناك نقش في إحدى حدائق قلعة دلهي، مؤرخ في عام 1648 ومنسوب إلى شاه جهان، يقول:
"الحدائق لهذه المباني هي كما الروح للجسد، وكما المصباح للمجتمعين. أما السواقي الصافية، وفماؤها الرقراق ولكل من يرى بعينيه المرآة التي تعكس صورة الدنيا، ولكل حكيم عاقل هو الكاشف عن الخفي من الدينا".
جهة أخرى، تطرق الكاتب إلى سرد جانب أخروي، عندما يكتب أنّ الزوار قد يبهرون بما يرون من آيات من القرآن الكريم مكتوبة على بنيان هذه العمارة التي حاول فيها المهندوسون جلب رموز الإسلام ولم يهتموا بقدسية المسجد أو المصلى: ويكتب في هذا الشأن: "ولئن يبهر الزوار بجموعهم بما يرون من الزوار بجموعهم بما يرون من هذه الكتابة مدركين، أنها آيات من القرآن الكريم دون أن يستطيعوا قراءة لها.. وهو النص الذي اختاره الأمبراطور شاه جهان ليكلل به بنيانه ويبارك به جثمان زوجته الحبيبة: كلا، إذا دكت الأرض دكا دكا، وجاء ربك والملك صفا صفا، وجيء يومئد بجهنم، يومئذ يتذكر الإنسان، وأنى له الذكرى، يقول ياليتني قدمت لحياتي، فيومئذ لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد، يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي
وفي نفس السياق، يكتب الكاتب في مكان آخر:
"ولا ريب في أنه، يوم اختار من سورة الفجر، تلك الآيات الكريمة التي تنذر المرء بآخرته: وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى، يقول يالتيني قدمت لحياتي.. كان قد تأمل طويلًا في الآيات التي سبقها: "ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد"، آخر الآيات الكريمة، ولا بد أنه توقف طويلًا عند قوله تعالى: (فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبر المرصاد، كما يحس الكاتب خلفية العائلة المغلولية التي اهتم معظم ملوكها بنقش أو كتابة بعض الآيات القرآنية على أبواب المباني والعمارات الشامخة التي بنوها في عصورهم في طول الهند وعرضها. إذ يكتب:
"ولعل شاه جهان.. تذكر ما كان قام به جده قبل حوالي ستين سنة عما قد نقش في آواخر حياته على الباب العالي باب النصر الذي ابتناه في فاتح بور، بعد أن الغوجرات في عام 1602م. وما الدنيا إلا جسر للعبور، فاعبر ولا تبن عليه. من يأمل لساعة من الزمن. فله أن يأمل حتى الأبد، ما الدنيا إلا ساعة واحدة، فاقضيها ضارعًا، وغير ذلك لا تراه العين".
وفيه عبرة لأولي الابصار: وبعد مطالعة كتابات هذا الأديب العلاق بدقة، التي تتعلق بالمعالم الأثرية الكائنة على أرض الهند، نجد أنّ الانطباعات التي أدلى بها الكاتب في هذا الشأن تنطق عن الجوانب المختلفة من حياة الإنسان بما فيها الذوق الإنساني والطابع الديني ثم الطابع الأخروى بجانب الإبداع، إذ يرى الكاتب هذه المعالم ولاسيما التاج محل صورة عاكسة لفن العمارة الإسلامية، بما توجد في المعالم، صور مثل المكعب والقبة وما إلى ذلك. ويمكن القول إنّ الكاتب حاول تصوير عمارة التاج محل على نحو يذكرنا العالم الأخروي وصورة عاكسة من جنة النعيم. وذلك ميزة أسلوب الكاتب التي تميزه عن الأدباء الآخرين.
المصادر والمراجع
1. . البئر الأولى فصول من سيرة ذاتية لجبرا إبراهيم جبرا، دار الآداب للنشر والتوزيع، بيروت، 2009م.
2. . تأملات في بنيان مرمري لجبرا إبراهيم جبرا، رائد رئيس بوكس، لندن، 1989م.
3. شارع الأميرات- فصول من سيرة ذاتية لجبرا إبراهيم جبرا، دار الآداب للنشر والتوزيع، بيروت، 2007م.
4. القاق وتمجيد الحياة لعصام الأعرج، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1995م.
5. . مجلة النجم الإلكترونية.
الحواشي
[1] أستاذ ضيف قسم اللغة العربية وآدابها، الجامعة الملية الإسلامية، نيودلهي
[2] عمر رضا، جبرا إبراهيم جبرا وإسهامه في الرواية العربية رسالة الدكتوراه المقدمة إلى قسم اللغة العربية آدابها في الجامعة الملية الإسلامية نيودلهي، عام 2018م، ص 73.
https://www.nedalshabi.ps/?p=60675
[3] تأملات في بيان مرمري، ص 95
[4] نفس المصدر، ص 96
[5] نفس المصدر، ص 97
نفس المصدر، ص 101 [6]
نفس المصدر، ص 102 [7]
0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا