ادعمنا بالإعجاب

الدروس المساجدية في كيرالا



لم يزل ولا يزال كيرالا أرضا خصبا للدراسات الاسلامية منذ قديم الزمان. العلاقات الوطيدة والروابط التجارية مع العرب مهد (مهدت الطريق وسهلت السبل لوصول الاسلام إلى شواطئ كيرالا فى نفس تلك الوقت  التي كان الوحي ينزل بأم القري مكة المكرمة. ومنذ أن نزل الصحابة ببلادنا أشرقت سمش ضحي الاسلام فوقنا وصار أشعة الاسلام تضيئ نواحي بلادنا وتنير الأحياء المظلمة. رغم أن كيرالا كانت اغلب سكانها الهندوكيين لم يضعنوا  لم يضنواولم يبخلوا ان (إذ) جادوا على ضيوفهم العرب بما لديهم وافضلوا عليهم واحذوا,  وبتلك المساعدات المالية والمعنوية ترعرعت دعوة الإسلام وازدهرت.  ووفدة الاسلام لم يتلقوا من أهل كيرالا إلا المودة والمحبة وأصبحوا كأنهم حلوا ببيت ابيهم وفى حضن أمهم لا بواد غير ذى زرع.
ولم تمض أيام حتى بات المسلمون فى أمس الحاجة إلى مسجد يركعون فيه ويسجدون لله، ولم يكن منهم الا مجرد رغبة فى بناء مسجد حتى أُهدي إليهم أرض يسع (تسع) مسجدا وما يتابعه (يتبعه). وأواصر الإخوة والمكاتفة  والتعايش السلمي التى شاهدها كيرلا فى تلكالزمان،لم تكن ترجع إلينا بعد.
نشأ الاسلام وانتشر ونما في جميع ارجاء كيرالا مع مر الزمان وكثرت المساجد والمعاهد. وكانت المساجد مراكز الاسلام ومنارة الهدى للداني والبعيد ويممها كل من هداه الله إلى سبيل الرشاد. مساجد القرية لعب (لعبت) دورا هاما فى نشر العلوم الدينة واللغة العربية بشكل منتظم متيسر(متناسب). كانت المساجد أول مدرسة يتعلم منها العامة الحروف الهجائية والقراءة والعلوم الأساسية التي لا مناص منها لمسلم يسير فى سلك الإسلام. وكانت المساجد المقر الرئيسي لنشاطات التعلم والتعليم الدينة بمدى واسع النطاق وأثر بالغ الآفاق.
دور المساجد فى تنمية (نشر)  الإسلام بكيرالا
المساجد كانت معالم الطرق فى تاريخ نشأة الإسلام وأدت دورا فعالا فى جميع بلدان المسلمين حيث كانت تقومبتغذية روح الاسلام وتعميق عروقه وتعزيز علاقاتهواصبحت مساجد القرية منبغ العلوم والعلماء ، ومراكز علوم الدين، ومقام والجمعة والجماعات، معمورة بحلق الذكر والدعاء، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين.
ولما تطاير الإسلام واستهوى قلوب الناس تزايد عدد المؤمنين بتربة كيرلا  وهذا أدى إلى بناء مساجد بمختلف البلدان. وتطورت نظام االدروس المساجدية وتسايرت مع مطلببات العصر. والفقر المعدم يعد واحدا من الأسباب الأساسية التي استوقفت الناس واستجلبهم لأن يعتكفوا فى المساجد منصتين مصغين إلى الدروس.ولا غرابة فى أن يكون الجوع هو السبب الرئسي يحرض على التعلم وإدامة التعلق بالمساجد كما شاهدناه مند زمن النبي صلى الله عليه وسلمفى حياة أهل الصفة وحياة أبى هريرة رضي الله عنهم. ليقل الصحابة انفسهم"كان أهل الصفة أضياف أهل الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال والله الذي لا إله هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع وأشد الحجر على بطني من الجوع ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون فيه فمر بي أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما أسأله إلا ليشبعني فمر ولم يفعل ثم مر أبو القاسم صلى الله عليه و سلم حين رآني وقال أبو هريرة قلت لبيك يا رسول الله ! قال الحق ومضى فاتبعته ودخل منزله فاستأذنت فأذن لي فوجد قدحا من لبن فقال من اين هذا اللبن لكم ؟ قيل أهداه لنا فلان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا هريرة قلت لبيك فقال الحق إلى أهل الصفة فادعهم وهم أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ومال إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم فأصاب منها وأشركهم فيها فساءني ذلك وقلت وما هذا القدح بين أهل الصفة وأنا رسوله إليهم فسيأمرني أن أديره عليهم فما عسى أن يصيبني منه وقد كنت أرجو أن أصيب منه ما يغنيني ولم يكن بد من طاعة الله وطاعة رسوله فأتيتهم فدعوتهم فلما دخلوا عليه فأخذوا مجالسهم فقال أبو هريرة خذ القدح وأعطهم فأذخت القدح فجعلت أنا وله الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرده فأناوله الآخر حتى انتهيت به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد روي القوم كلهم فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم القدح فوضعه على يديه ثم رفع رأسه فتبسم فقال أبا هريرة اشرب فشربت ثم قال اشرب فلم أزل أشرب ويقول اشرب حتى قلت والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا فأخذ القدح فحمد الله وسمى ثم شرب[1].وقد روي عن الغزالى أن ما حرضه على التعلم كان هو الجوع حيث قال: طلبت العلم لغير الله، فأبي العلم أن يكون إلا لله. مهما كان الأمر، شاهدت بلدة كيرالا تطورا واسعا فى نظام المدارس التابعة لمسجد القرية.
والجيل السابق من علماء كيرالا جلهم بل كلهم كانوا نتيجة هذه الدروس المساجدة السائدة فى تلك الأيام. ولم يكن فى بلادنا كيرالا معاهد مستقلة توفر للطلبة تسهيلات السكن مع الدراسات العليا على شكل منتظم الا هذه المساجد. وأما المساجد كانت تتضايق بقلة التسهيلات المتوفرة فيها ومع ذلك كان عدد المتعلمين الوافدين يتزايد يوفا فيوما. والمنظر الجميل الذى شاهدها كيرالا فى القرون السابق كان ذا بهاء وروعة وجمال. كان المتعلمون، وفيهم الصغار الذين لم يمح حمرة اقدامهم، واليتامى، والكبار الذين شعروا بشدة طعن الفقر.يرتدون بزي أبيض ، وبعمامة بيضاء يصفون المساجد ويتلون القرآن, ويتدارسون الكتب الديينة. وأما المساجد رغم كونه ضيقة غير موفية بحاجات الطلبة على شكل مرضيفلم تزل معمورة بالدروس والأنشطات العلمية على مدار الساعة. مساجد القرية لم تزل تسمع منها أبيات ألفية ابن مالك وسطور الكتب المتداولة بمختلف الاصوات والغناء.
المدارس المرموقة فى كيرالا
فضل أوّل درس أسس فى كيرالا يرجع إلى درس الذى أسسه العالم العلامة النحرير أستاذ محمد بن عبد الله الحضرمي بمسجد تانور سنة 670 الهجري على وفق الوثائق التاريخية. والشيخ نورالدين رمضان الشالياتى الذى أسس الدرس بمسجد "مثقال بض" يستحق المكانة المرقموقة فى تاريخ الدروس المساجدية بولاية كيرالا.و لما لبى لنداء ربه سنة 899 الهجري قام ابنه فخر الدين ابوبكر الكالكوتي بالتدريس والتعليم. ومنهج الدراسة التى صممها الأستاد فخر الدين عرف ب"السلية الفرشية". والمخدوم الكبير الذى أثار نهضة علمية دينية كان من نتائج هذا الدرس أمنتظم اسسها الاستاذ فخر الدين ابوبكر الكالكوتي
فنان
مسجد فنان يعد من أقدم  المساجد ببلاد كيرالا ومن أهم مراكز الثقافة الاسلامية فى القرون الماضية،.لصيته الذائع ومكانته البارزة فى غرس بذور العلوموتنمية وتربية العلماء سميت بمكة مليبار. أسرة العلماء التي تسمى ب "المخدوم"[2]قد فازت فى تصميم خطة دراسية تنفع المتعلمين المتخرجين من شتى المدارس المتواجدة فى أنحاء البلاد. وتعرضه للبلاد الأجنبية وتعلمه في المعاهد المشهورة مثل جامعة الأزهر وغيرها تأثر فيهوساعده ليكون على بصيرة نافذة. وتتلمذه لشيخ العصر الأستاذ زكريا الأنصاري رحمه الله أحد رموز الفقهاء الشافعية يميزه من بين علماء كيرالا الأقدميين.صار مسجد فنان مصنعا دينيا ينتج العلماء المتضلعين فى العلوم والفنون وكان هي الكلية العليا أو ما يكون مكانها فى ذلك العصر. المخدوم بمسجد فنان لم يزل يقتبس من نوره عطشان العلم وراغبوه.قد سجل المؤرخونأن درس مسجد فنان كانميدان العلوم الدينية وما يساعدها من العلوم المادية مثل الرياضيات والجغرافية وغيرها. يشهد سطور التاريخ أن صيته بلغت الآفاق وكانت الطلاب الأجانب يرتاد إليه حتى من اندونيسيا وماليزيا وسيلان وبلاد العرب ومصر واليمن وغيرها. والدورة الأخيرة فى منهج التعليم فى ذاك الوقت كانت " الجلسة حول المصباح" وكل من تأهل لهذه الجلسة المرموقة المرغوبة كان يعد قد أكمل وحصل على مرتبة فائقة فى دراسته الدينية وتأهل للعليم والفتوى.
والعلماء المخدوميون رسموا واثبتوا لكيرلا مكانا فى صحائف التاريخ بمؤلفاتهم ومصنفاتهم القيمة مثل تحقة المجاهدين الذى حرض اهل الهند للمقاومة ضد القوات الأجنبية مثل البرتغالين وغيرهم ممن سيطر على بلدنا الأم وحاولو استغلالنا ماديا وروحيا واستعبدنا فترة من الزمان.
لقلة تسهيلات المرور وللتكاليف الباهظة والعقبات التي يشق على المتعلم اقتحامها لم يجترئ اكثرهم النفوذ والرحال (الرحلة) إلى الولايات الأجنبية (الخارجة رغم الكليات العليا والدراسات المتفوقة هناك مثل دار العلوم بديوبند، وغيرها. كيف يجترأ من لم يتقدم للتعلم إلا رغبة لما يجد لسد رقمه أن يشوق طوقا بعيدا ليصل البلاد الأجنبة مهما كانت أوصاف وأخبار الكليات هناك فضلا الترحال اليها.
شاليم
ومن الدروس المساجدية المهمة إلى جانب فنان مسجد شاليم الذى قام بالتدريس فيها عباقر العلماء أجيالا كثيرة. ومسجد شاليم لم يكن ولا يكون منهلا يروي ويمير منه عطشى العلم ومكتبته المشهورة الثرية  بكتب يندر وجوده فى الاسواق من المخطوطات والمطبوعات تستوقف انتباه الباحثين والمتعلمين. والأستاذ احمد كويا الشالياتى كان أيقونة العلماء فى ذلك العصر ومساهماته لتربية الثقافة الاسلامية ولتطورها لا نظير لها فى ديار مليبار.
وكان فى كيرلا مدارس شتي قام بالتدريس فيه فطاحل العلماء وجحافل الأمة، وتعداد اسمائهم سيؤدينا إلي تسويد صحائف ولا أجترئ عليها خوف التطويل
نشأة كليات الشريعة
بعد عقود شاهدت كيرلا خطوة جديدة جادة وذلك ثورة كليات الشريعة التى قدمت الطلاب التسهيلات الأساسية مثل المطبخ والمسكن وما إلى ذلك ليعينهم على التعلم بشكل نظامي. ومع كر الزمان وانصرام الأيام تعددت الكليات وجعل المدارس التابعة للمساجد تضمحل اهميتها ومكانتها من أنها المراكز الوحيدة للتعلم والتعليم. ومن الكليات القديمة فى كيرالا كلية دار العلوم بوازكاد، جامعة النورية، جامعة دار السلام، مركز الثقافة الإسلامية، جامعة السعدية وغيرها.
ولكن لما دار الزمان وتطورت العالم انحدرت مكانة العلوم الديني فى منظور العامة وصارت كليات الشريعة يعانى من قلة من يرغب فى  الالتحاق بها والتعلم فيها. وأظهر الجيل الناشي رغبتهم عن العلوم الدينية المحض وعزفوا عنه. ولما تبصر أجلاء علماء الأمة أن كليات الشريعة لا مستقبل لها لو لم يعالج القضية بما يشفى عليل الجيل ويروي عطشهم شدوا المئزر ولم يأل جهدا حتى فتحوا نافذة جديدة فى مجال التعلم التى تحس نبداة العصر وتغيرات الجديدة المعاصرة فى حقول الدراسة. تلبيا لنداء العصر أبدوا رغبتهم فى تاسيس كليات الدعوة التي يزدوج فيه علوم الدين والدنيا وتنتج علماء متسلحين بكافة أنواع العلوم التي يحتاج إليها الاسلام والمسلمون لحماية الملة الحنيفية السمحاء على ثراثها ومبادئها الصافى لا تلاخطها كدر البدعة والنهضات المتزايفة.
وقد كان تأسيس كليات الدعوة فى بداية الأمر مثيرا للنقاش والجدال حيث أظهر علماء الدين المخلصين خوفهم وجزعهم عما ينجر اليها بنا كليات الدعوي. لكن تسديدا لجيمع التوهمات سطرت كليات الدعوة ثورة تربوية قياسية فى تاريخ المسلمين بالهند. بدأ من مجمع الدعوة الاسلامية باريكوت التى لعبت فى تأسييها منظمة الطلبة السنية دورا هاما صعدت عدد كليات الدعوة فى ربوع كيرلا شرقا وغربا ونجحت فى استرداد الحيوية إلى ثراث المدارس الديينة حيث قدمت الكليات الجدد جميع أنواع العلوم المادية مزدوجة مع علوم الدين وشجعت الطلبة على التغلب على جميع عقبات الحياة مع ما زودهم من الدورات التجارب اللغوية والتجرب على الكمبيوترو ودورة تدريب الخطابة والكتابة وما إلى ذلك.
وفى السنوات الأخيرة، قررت الهيئة العليا لعلماء السنية بعموم كيرلا أن يوحد مناهج جميع الكليات التي تعمل تحتها ولعقد الامتحانات على شكل عامي متحد ليحقق النجاج والهدف المقصود الأساسي من هذه الكليات. وتنفيذ تلك الخطط قد تمت إلى حد كبير وانجبت النتائج المرجوة خلال سنوات حيث أدت إلى عقلية منافسية بين الكليات والطلبة . ويشمر جميع الكليات لإحراز المنصب الأول والمراتب الأولى فى الامتحانات لما فيه مما يشيع صيت كليباتهم ويطير بشهرتهم.
وما نريه اليوم من كليات الدعوة ليس إلا ما نبتت من بذور المدارس التابعة للمساجد فى قديم الرمان التي غرسها فى حقول العلماء الأمة المخلصين المتبصرين المتحرسين على أن لا يضاع العلوم والتراث. ومن دواعى السرور أن نعرف الآن بكيرالا ما يربوا على مائة كليات تعمل مصادر العلوم الدينة.



[1]سنن الترمذي
[2]ويقال لهم المعبريين ايضا . نسبة إلى معبر بينها ويبن قايل نحو مرحلتين. السنا الباهر 255.
واصل المخدوميين كان بجنوب الهند وان بعض اجدادهم وصل إلى تامل ناد فى حدود القرن السادس الهجري ثم انتقل جدهم احمد المعبري إلى كوشن.

مواضيع ذات صلة
تاريخ الهند, ثقافة كيرالا, دراسات, كيرالا,

إرسال تعليق

0 تعليقات