ادعمنا بالإعجاب

الشيخ أبو بكر بن كنج كويا الأغاتي رحمه الله تعالى

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد. 

لما نعيت الشيخ العلامة الفلكي أبا بكر الأغاتي طلب مني الكثير من الإخوة العرب ترجمة مختصرة له، فنزولا عند رغبتهم كتبت هذه الترجمة الموجزة، رحم الله الفقيد رحمة واسعة. 

*الشيخ أبو بكر بن كنج كويا الأغاتي* رحمه الله تعالى 

ولد الشخ في غرة شهر رمضان سنة ١٣٩١هـ الموافق لـ ٢١ من أكتوبر ١٩٧١ في إحدى جزائر تقع جنوب الهند والتي تسمى بـ "أغاتي" ابنا  لكنج كويا -رحمه الله-، وبعد أن تلقى القرآن الكريم من بلده رحل الشيخ إلى ولاية كيرلا يطلب مناهل العلوم الشرعية حتى وجد الشيخ محمد علي الدارمي، ومكث عنده ست سنوات، ثم صحب الشيخ محمد الباقوي خمس سنوات، ثم واصل مسيرته العلمية متلقيا العلوم عند عدة مشايخ، منهم الشيخ العلامة أبو بكر أحمد شيخ جامعة مركز الثقافة السنية  والشيخ الأستاذ إسماعيل النلكتي الشهير بشيخ الحديث في مليبار والشيخ الفقيه أُحيمِد (Cherushola Kunjahammed musliyar) رحمهم الله تعالى رحمة واسعة. 

وقد اختار فضيلته جامعة معدن الثقافة الإسلامية التي أسّسها فضيلة الشيخ السيد إبراهيم  البخاري مركزا  لخدمته ونشاطاته المتنوعة، وقضى من عمره ما يقارب ٢٥  سنة في حرم  هذه الجامعة الميمونة،  وقد خرّج في جامعته جيلا متسلحا بالعلمين الشرعي والكوني مزودا بكل ما يحتاج إليه الداعية المعاصر، وقد زرع فيهم فضيلته عشق التراث ومحبة  الكتب والميل لتحقيق المخطوطات، وقد أخذ الإجازة في مطالعة الكتب من الشيخ الجليل السيد أحمد زين الدين العيدروسي وهو تلميذ العلامة النحرير أحمد كويا الشالياتي -رحمه الله -، وكان أَثَرُ هذه الإجازة ينعكس في حياته العلمية كما أخذ إجازات كثيرة من عدة مشايخ، منهم المحدث الشهير الشيخ محمد مطيع والشيخ محمد عيد الحسيني النقشبندي والشيخ الحبيب أحمد بن عبد العزيز الحداد والشيخ الفقيه المعمّر محمد بن علي الشافعي، ودخل الشيخ في طريق السادة آل باعلوي  على يدي السيد محمد عمر الفاروق البخاري المليباري (posotu thangal). 

له مؤلفات نافعة ومقالات ممتعة باللغة العربية والمليبارية من أهمها: 

  •  شرح لقط الجواهر 
  •  شرح عقيدة العوام 
  •  مصطلحات الفقه الشافعي

وكان يصارعه أمراض مختلفة في حياته حتى إنه تعرّض لعشر عمليات في جسده، وصبر على ذلك صبرا جميلا محتسبا أجره عند الله، وتوفي فضيلته سنة ١٤٤٦هـ في يوم السبت السادس عشر من شهر ربيع الثاني الموافق لـ ١٩ أكتوبر ٢٠٢٤م.

من مفاتيح شخصيته:

١) الجمع بين القال والحال

كان لا يصلي إلا جماعة، ويلتزم بالرواتب ويصوم السنن، ولا يترك الضحى والوتر ويبدأ يومه بالتهجد، ثم بالتصدق ويباشر التدريس بعد صلاة الصبح، وذلك بعد أن قرأ الفواتح إلى أرواح الأئمة والمؤلفين ويطول الدرس  غالبا إلى ما بعد العشاء ويمتد في بعض الأيام إلى الفجر وكانت معه كوكبة من الطلاب تستفيد من معينه وتستزيد من منهله وتشجعه على مواصلة الدرس، وكان يصلى بعد المغرب صلاة الغائب على أموات المسلمين، وكان يقول عن ذلك لعلّ أحد من صلى عليه  يشفع له في آخرته.


ومما يجب الإشادة به اهتمامه بتلاوة القرآن وقراءة الأذكار والوظائف، لا يتخلى عنها مهما كانت شغلته الشواغل وصرفته الصوارف، وكان له دفتر يسجل فيه الفوائد التي فطن إليها أثناء القراءة، ويحث طلابه كذاك على القراءة الواعية المتأنية والتفكير الدقيق العميق في معاني القرآن، وكان يبيت في المعهد أوائل التدريس حتى لا  يشغله عن العلم شاغل، ويزور الأسرة مرة في الأسبوع، ولكن عندما مرض  أجبرته الوالدة على المبيت في البيت المستأجر القريب من المعهد، وكان الكتاب رفيقه حتى في طريقه إلى بيته الذي لا يبعد عن المعهد إلا مسافة عشر دقائق بالكثير. 

٢) عشقُه للبحثِ والتحقيقِ ومحبّته للمخطوطات: 

كان الفقيد رحمه الله بحّاثة جماعة لنوادر الكتب وفرائدها، يقطع من أجلها المسافات الواسعة والأميال الشاسعة، ويزور المكتبات خارج الهند وداخلها كما يتردد إلى الجامعات، وإن وقعت عينه على كتاب مليح أو عنوان طريف يشتري أو يصور ولا يتردد في ذلك لحظة حتى أصبحت مكتبته عامرة بالنوادر وحافلة بالنفائس، ولم يكن هذا الميل لكتب التراث وذاك العشق للمخطوطات موجودا عند غالب بني جلدتنا حيث يعكفون على الكتب التي في سلم التعليم، وإذا انقدح في باله إشكال عند التدريس لا يكتفي بمطالعة الحواشي، بل لا بد من الرجوع إلى المخطوطات حتى يتحرى كل ما حول النص من أشياء ، وربّى فضيلته الطلابَ على ذلك أيضا، حيث اضطروا لمواكبة شيخهم فيما يأمرهم من البحث والتحقيق.

ومما يحكى في هذا الباب أنه كان ينسخ مخطوطة لكتاب"  القلائد" للحافظ إبراهيم الناجي رحمه الله، فاحتاج إلى مخطوطة أخرى كانت هي في اليمن، والتكلفة كانت غالية لاستقدامها إلى الهند، والشيخ اشترى المخطوطة غير آبه ولا مبال  بثمنها الباهظ، لأنه يعلم أن العلم مهره غال، وهذا  إن دل على شيء فيدل على حبه المنعدم النظير للكتب وعلى عشقه المنقطع المثيل للتحقيق، ربما يمكث فضيلته عند المكتبات أياما لتصوير ما فيها وترتيبها وتنسيقها، وعندما يرجع الشيخ بعد الترتيب يعطيهم قرصاً فيه جميع ما في المكتبة من كتب، فيتعجب إدارة المكتبة من حسن صنيعه، ربما يستقبله بعض أصحاب المكتبات بالجفاء والنكارة فلايسمحون له بالتصوير، فيعود الشيخ إلى المعهد، ثم يزور الشيخ المكتبة مرة أخرى بعد تغير الإدارة، فتسمح له فيقوم بالترتيب والتنسبق، وكان الشيخ يعتصره الهم ويغتاله الغم عندما لا تحظى الكتب بعناية من الإدارة، فتتلف صفحاتها وتنمحي سطورها، فالشيخ  ينبّههم على خطورة خدمة التراث خدمةً تليق به، وللشيخ منة على أهل مليبار قاطبة حيث حفظ لهم التراث من الضياع والإهمال. 

٣) حب الخير للجميع:

من عادة المحققين للكتب أنهم إذا حصل على مخطوطة نادرة أو كتاب نفيس  يبخلون بها ويضنون ولا يعطيها أحدا، بل لا لا يتحدثون عنها إطلاقا حتى يتم تحقيقه، ولكن الفقيد ـ رحمه الله ـ لم يكن كذلك،  يخبر الباحثين بالنفائس، بل يَطلب ممن يشمُّ فيهم الأهلية تحقيقَ الكتاب؛ لأنّ غاية همه خروج الكتاب إلى النور، لا نسبة الفضل إلى نفسه، بل كان لا يكتب اسمه في الكتب التي ألّفها وحقّقها  في البداية، ثم بعد موت والده بدأ يكتب اسمه رجاءَ دعاء الناس لوالده الكريم.

ولكاتب هذه السطور تجربة شخصية في رحابة صدر الفقيد، حيث طلبت منه مخطوطة لكتابٍ في الفقه الشافعي وأنا كنت طالبا في السنة الثالثة في كلية الشريعة، جامعة الأزهر، وليس لي أي عنوان علمي سوى أني طالب في الأزهر، ولكن فضيلته لم يقصر في خدمتي، أرسل إليّ ثلاث مخطوطات للكتاب، وكانت هذه المعاملة جاذبة لقلبي نحوه، وهذه ليست إلا غيضا من فيض أو قطرة من بحر من ضمن تلك الحكايات التي حصلت للكثيرين، وهكذا المخلصون لا يهمهم إلا العلم ونشره، وأما نسبة الفضل وحبّ الشهرة فلا تجدان إليهم طريقا.

٤) تبحره في علم الفلك: 

مما يميّز فضيلته كذلك أنه لا يباريه مبار في ميدان الفلك ولا يجاريه مجار في ساحة الحساب، بل كان النهايةَ فيهما، وكانت له مواقف مشهودة عندما حصلت المشاكل حول رؤية الهلال في بلده، وعليه اعتمد الناس في تحديد أوقات الصلاة وإعداد التقويمات، وكان قد انتهى قبل الموت من تحديد أوقات الصلاة للسنة القادمة، وكان في مكتبته أكثر من مائة كتاب في الفلك، أكمل قراءة سبعين منها من أوله إلى آخره، ولقد اهتم بالفلك الحديث والنظريات كما درس الفلك القديم وأفكاره.

وفي الحقيقة لا أبالغ إذا قلت إنه كان نظير نفسه ونسيج وحده في شخصيته وتوجهاته، رحمه الله رحمة واسعة، جزاه الله عن العلم وأهله خيرا كثيرا

.

   كتب هذه  الترجمة المختصرة محبه المخلص  عبد الحكيم الأزهري.

مواضيع ذات صلة
تراجم العلماء,

إرسال تعليق

0 تعليقات