الخطابة في عهد على بن أبي طالب
للأستاذ احمد احمد بدوى
ارتقت الخطابة في عهد على بن أبي طالب ارتقاء واضحاً وصارت سلاحاً قوياً يلجأ إليه الخليفة وخصمه ؛ يثيران بها الأنصار ، ويحفزان النفوس الى الغارة والحروب ؛ ولقد خلف لنا هذا العصر قدراً كبيراً من الخطب ، لم يؤثر مثله طول عهد الخلفاء الراشدين ؛ وليس ذلك بعجيب ؛ فان المسلمين لم يقفوا موقفاً يحتاج الى كثرة الخطابة ، كهذا الموقف الذى وقفوه أيام على ومعاوية .
لم يقف المسلمون قبل اليوم يحارب بعضهم بعضاً ، وانما كانوا يجتمعون لحرب المشركين ، ونشر لواء الدين ، تملأ قلوبهم الروح المعنوية ، والايمان القوى المتين ، وتحدوهم العقيدة أن احدى الحسنيين ؛ فكان لهم من أنفسهم وازع أى وازع ؛ قلبهم يدفعهم ، وعقيدتهم تقودهم ؛ فلم يكونوا يوم خرجوا المحاربة الفرس والروم فى حاجة الى اطالة القول والإطناب في الخطابة لأن الدين الجديد وعقيدتهم في وجوب نشره كان يحفزهم الى الجهاد ، ويملأ قلوبهم ثقة بالنصر ، معتقدين أن الله يمدهم بزوح من عنده ، وأن المجاهد منهم تنتظره جنات وعيون ، أو نعيم الدنيا وما يغنمه من العدو ، وما يناله من القيء .
أما اليوم فهم مدعوون لحرب قوم لا يشركون بالله ، ولا ينكرون محمداً ، بل هم على دينهم وعقيدتهم ، ومن جنسهم وملهم ولذلك كان الموقف الجديد في حاجة الى خطيب يبرر حرب المسلم أخاه المسلم وقتل العربى بنى قومه العرب ، واحتاج قادة الفريقين وزعماؤهم الى الخطابة يقوون بها الروح المعنوية ، ويخلقون في نفوسهم الايمان بأنهم يحاربون من أجل الحق والدين الذي آمنوا به ، وبأن جهادهم ليس إلا لتمكين الاسلام ، وتنفيذ أحكامه ، وكان المتحاربون فى حاجة إلى هذه الروح حتى تشتد سواعدهم على قتل إخوانهم وذوى قرباهم ، وكان الزعماء يلجأون إلى الخطابة كثيراً ، حتى لا تفتر هذه الروح ولا تضعف ؛ وكثرة تكرار القول تدخل فى النفوس توهم صدقه وصحته ، وذلك هو السر فى كثرة ما ورثناه من خطب هذا العصر كثرة لم نعهدها في خطب الخلفاء حينما كانوا يحضون المسلمين على حرب المشركين .
ولكن الذي بين يدينا من خطب على وصحبه ، أكثر مما ورد لمعاوية وأركان حربه ، ويمكن أن ترجع ذلك إلى أن كثيراً من آثار معاوية وأنصاره ، قد امتدت إليه يد النسيان والضياع ، بعد سقوط دولتهم ، وتشتت شمل معاونيها ، فان الدولة الأموية بعد سقوطها لم يحاول أنصارها يوماً رفع رءوسهم ولا محاولة رجوعها ، ففقد بفقدانها الكثير من آثار خلفائها ؛ أما العلويون فمع أنهم كانوا يحاربون ويُقتلون ، ويلاقون من الحياة الشدة والعناء ، كان لهم فى كل مكان الأنصار والمروجون لدعوتهم والساعون إلى إقامة خلافتهم ، وقد نجحوا في كثير من الأحيان فكان من الضرورى لهم أن يحفظوا كلام إمامهم ، وأن يتناقلوا أحاديثه وخطبه .
ويمكن أن نرجعه إلى أن كثيراً من الخطب التي نسبت إلى على وضعت بعد عصره وضعاً ، وأضيفت إليه من غير أن يكون قد قالها ، ولا نريد الآن أن نمحص هذه الخطب ، وأن نبين ما وضع منها وما لم يوضع، ولكن نقرر أن كثيراً من هذه الخطب ألصق به إلصاقاً ؛ فكان سبب ما نراه من كثرة كلام على كثرة يقل أمامها ما قاله معاوية ؛ هذا إلى أنه مما لا شك فيه أن علياً كان أبين من معاوية قولا وأفصح منه لساناً.
ويمكن أن يكون السبب قلة حاجة معاوية إلى الخطابة بالنسبة إلى على ، فلقد كانت الروح المعنوية في نفوس أهل الشام أقوى وأشد منها في نفوس أهل العراق ، لأن معاوية قد ألقى في روعهم أنهم إنما قاموا يقتصون لخليفة قتل مظلوماً ، ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً ؛ ومن أولى بالدفاع عن حق عثمان من معاوية ؟ وكان مكر معاوية ودهاؤه حين يقول : إننا لا نريد منهم سوى قتلة عثمان ، فليدفعوهم إلينا ونحن نبايع صاحبهم - يحرك الشاميين إلى الأخذ بثأر عثمان ، فلا حاجة إلى كثرة الخطابة وتكرير القول ، هذا إلى أن أهل الشام كانوا أطوع لمعاوية من أهل العراق لعلى . فمعاوية وأبوه وأخوه من قوادهم يوم حارب المسلمون فى الشام ، وإلى أن الشاميين كانوا في موقف المدافعين عن بلادهم، الذائدين عن حياضهم وعن أبنائهم ونسائهم ، وهذا مما
يقوى في نفوسهم روح الجهاد ويدفعهم إلى الحرب والقتال . وهناك سبب آخر هام دعا إلى كثرة خطابة على وصحبه ، فلقد كان الخلاف يمشى إلى قلوب أنصاره ، وكان المخالفون يبينون رأيهم بالخطابة فكان من الضروري أن يقف بينهم خطباء يدعونهم إلى الألفة واجتماع الشمل ؛ هذا إلى أن أصحاب على قد خذلوا خليفتهم ، وتقاعسوا عن نصرته ، فاضطر إلى أن يرقى ذرا المنابر . وأن يرسل فيهم الصيحة تلو الصيحة يحرضهم على مناجزة أعدائه . وللإمام وأنصاره خطب كثيرة في هذا الغرض. على أن معاوية كان يلجأ إلى الخطابة الصامتة : فما كان عليه الا أن يعلق على المنبر أصابع زوج عثمان التي قطعت في الدفاع عنه ، وقميص عثمان ، فيغنيه هذا عن تدبيج القول واطالة الحديث؛ اذ يجد من حوله ينادون : هيا الى الأخذ بالثأر ، هيا الى الحرب والقتال ؛ وقد يكون السبب مزيجاً من ذلك كله .
لم يكن لعلي بد من أن يخلق في أنصاره الروح المعنوية ، وأن يبرر لهم موقفهم من حرب قومهم واخوانهم ، وأن يملأ قلوبهم بالحماسة والبسالة ، ويوغر صدورهم ضد عدوه معاوية ومن معه ، فأحياناً يلجأ إلى العاطفة الدينية يثيرها فيظهر أعداءه في مظهر المارقين عن الدين، والهادمين لأسسه ومبادئه ، هذا الدين الذي كان أجل ما يعتزون به ويحاربون في سبيله ، فيقول على في خطبة : «وايم الله ماوتر قوم قط بشيء أشد عليهم من أن يوتروا دينهم ، وان هؤلاء القوم لا يقاتلونكم الا عن دينكم ؛ ليميتوا السنة ، ويحيوا البدعة ، ويعيدوكم في ضلالة قد أخرجكم الله عن وجل منها بحسن البصيرة ؛ فطيبوا عباد الله أنفساً بدمائكم دون دينكم ، فإن ثوابكم على الله ، والله عنده جنات النعيم ؛ وان الفرار من الزحف فيه السلب للعزّ ، ومغلبة على الفيء ، وذل المحيا والمات ، وعاب الدنيا والآخرة ، وسخط الله وأليم عقابه » وهذه الفكرة قد تكرّرت في أكثر خطب على لتتأكد في نفس أصحابه ؛ ولتصبح عقيدة إلى جانب عقيدتهم ، تدفعهم إلى حرب قومهم وبنى ملتهم .
وأحيانا يثير فيهم الأنانية ، فيبين لهم سوء المغبة إذا انتصر معاوية عليهم ، ويحدثهم عما سوف ينالهم على يديه من والهوان ، فيقول : «أما والله لكن ظهروا عليكم بعدى ، لتجدنهم أرباب سوء ، كأنهم والله عن قريب قد شاركوكم في بلادكم ... وكأني أنظر إليكم تكشون كشيش الضباب ، لا تأخذون لله حقاً ، ولا تمنعون له حرمة ، وكأني أنظر إليهم ، يحرمونكم ويحجبونكم ، ويدنون الناس دونكم » . وأحسب أن المرء حين يغرس في نفسه أنه إنما يدافع عن كيانه ، ليحفظ على نفسه حياتها وسعادتها وأمنها - يدافع عن حياضه ببسالة وقوة وهو مايرى إليه على مخطابته .
وتارة يلجأ إلى ماضى أعدائه ؛ فيذكرهم به ، ويتحدث عما كان لهم ولابائهم من قبلهم من خصومة للإسلام ، وسعي إلى تحطيم أساسه ، ثم يأخذ في بيان ماله من مآثر ومزايا ، تجعل الموازنة بينه وبين معاوية ضربا من العبث ؛ قال عليٌَ : « . . . لم يرعنى إلا شقاق رجلين قد بايعانى ، وخلاف معاوية ، الذى لم يجعل الله له عز وجل سابقة فى الدين ، ولا سلف صدق في الاسلام ، طليق بن طليق ، حزب من الأحزاب ، لم يزل الله عز والجل ، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمسلمين ـ عدواً ، هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين ؛ فلا عزو إلا خلافكم معه ، وانقياد كم له ، وتدعون آل نبيكم صلى الله عليه وسلم ، الذين لا ينبني لكم شقاقهم ولا خلافهم ، ولا أن تعدلوا بهم من الناس أحداً » و بیان مآثر على ومزاياه ، ونقائص معاوية والطعن في أعراضه ومقاصده ، أهم مايدور عليه خطب العلويين حين يدعون قومهم إلى الحرب والقتال .
أما معاوية بن أبي سفيان فقد لجأ أيضاً إلى الناحية الدينية يثيرها فى نفوس قومه ويحفزهم بها إلى الجهاد والقتال ؛ ينثر أمامهم حجته الوحيدة التى دفعته إلى الخلاف وشق عصا الطاعة وهي قتل عثمان ، وادعاؤه أن علياً آوى قتلته ولم يأخذ بثأره ، ولذلك كان هو ومن معه قوماً نكثوا البيعة ، وسفكوا الدم الحرام في البلد الحرام.
وهناك شيء آخر يستطيع أن يستغله معاوية في إثارة حفيظة قومه : ذلك أن علياً وصحبه قوم أقبلوا من بلادهم ، واعتدوا على حرمة الشاميين وحرمة ديارهم ، فليس أمامهم إن أرادوا الحياة خالية من العار إلا أن يقاتلوا ويذبوا عن نسائهم وأبنائهم ، قال معاوية يحرص قومه على القتال : « . . . أنظروا يا أهل الشام إنكم غدا تلقون أهل العراق ؛ فكونوا على إحدى ثلاث خصال : إما أن تكونوا طلبتم ماعند الله في قتال قوم بنوا عليكم ؛ فأقبلوا من بلادهم حتى نزلوا بيضتكم ، وإما أن تكونوا قوماً تطلبون بدم خليفتكم وصهر نبيكم ؛ وإما أن تكونوا قوماً تذبون عن نسائكم وأبنائكم ، فعليكم بتقوى الله والصبر الجميل واسألوا الله لنا ولكم النصر ... » .
وأيضاً كان يلجأ معاوية وصحبه في تقوية الروح المعنوية إلى الحديث عن ضعب جيش العراق وتفرق كلمته وإدبار أمره ولا ريب أن مثل ذلك الحديث يشجع قومه ويغريهم بالثبات ، حتى يتم الانتصار ؛ قام عمرو بن العاص يحرض أهل الشام على القتال فقال : « إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم وأوهنوا شوكتهم ، وفلوا حدهم ، ثم إن أهل البصرة مخالفون لعلى ، قد وترهم وقتلهم وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل ، وإنما سار في شرذمة قليلة منهم من قد قتل خليفتكم ؛ فالله الله في حقكم أن كورة فالله تضيعوه ، وفي دمكم أن تطلوه.
أما العلويون فإنهم لم يستغلوا هذه الناحية أيما استغلال ، مما يدل على أن جيش معاوية لم يدع لهم هذه الفرصة ، بل كان جيشاً متحداً متماسكا ، ولكنهم استغلوا ناحية أخرى ؛ هي أن معاوية ليس معه من له قدم سابقة فى الاسلام ، أما هم فمعهم جلة الصحابة والأنصار والبدريين ؛ قال الأشتر النخعي يحث العلويين على الحرب : « ... إنما تقاتلون معاوية وأنتم مع البدريين قريب من مائة بدرى ، سوى من حولكم من أصحاب محمد ، أكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فمن يشك في قتال هؤلاء إلا ميت القلب ! . . . » وهذا هو الحق فلقد كان أكثر الصحابة منضمين تحت راية على ، ولكن ذلك لم يستطع الوقوف أمام دهاء معاوية وعمرو بن العاص ؛ فقد استطاعا بفضل ما أوتياه من الحصافة والمكر أن يظهرا بقلهما على كثرة على ومن تبعه من صحابة وأنصار.
لم يكن التحريض على القتال هو كل أغراض الخطباء في ذلك العهد ؛ بل كان من أغراضهم أيضاً الصلح بين المتقاتلين ؛ فلقد سمت الرسل بين الفريقين تريد حقن الدماء ، وكانت الخطابة عماد أحاديثهم ، وإن لم يوفق الخطباء إلى أداء مهمتهم ؛ فلقد كانوا مهددين أكثر منهم سياسيين دهاة ، يستلون السخائم من الصدور واستمع إلى حبيب بن مسلمة رسول معاوية إلى على يقول : . . . أما بعد فإن عثمان بن عفان رضى الله عنه كان خليفة مهديا يعمل بكتاب الله عز وجل ، وينيب إلى أمر الله ؛ فاستثقلم حياته واستيطأتم وفاته ، فعدوتم عليه ، وقتلتموه رضى الله عنه ، فادفع إلينا قتلة عثمان ؛ إن زعمت أنك لم تقتله ، نقتلهم به ثم اعتزل أمر الناس ، فيكون أمرهم شورى بينهم ، يولى الناس أمرهم من أجمع عليهم رأيهم » ولذا قال له على : « وما أنت لا أم ( لك ) والمذل ؟ ! » . ويقول عدى ابن حاتم رسول على إلى معاوية : أما بعد فإنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله عز وجل به كلمتنا وأمتنا ويحفن به الدماء ، ويؤمن به السبل ، ويصلح به ذات البين إن ابن عمك سيد المسلمين ، أفضلها سابقة ، وأحسنها في الإسلام أثرا، وقد استجمع له الناس ، وقد أرشدهم الله عز وجل بالذى رأوا ؛ فلم يبق أحد غيرك وغير من معك ، فانته يا معاوية ؛ b لا يصبك الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل » . فلما انتهي ، قال معاوية : كأنك جئت مهدداً ، لم تأت مصلحاً.
والحق أن الخطابة التي كان يقوم بها سفراء الزعيميين لم تكن لتدل إلا على أنهما يرغبان فى أن يستخلصا حقهما بالسيف ؛ أما السفارة فلكيلا يكون تمت مدعاة للوم أحدهما إذا اضطر إلى امتشاق الحسام.
وكان من أغراضها أيضاً نصح الصحب ، وإرشاد المقاتلين إلى ما يجب أن يفعلوه فى الحرب كما يفعل القائد قبل الهجوم ، يوصي جنده ويمنحهم نصائحه : قال على يرشد مقاتلته : « معاشر المسلمين ، استشعروا الخشية وتجليبوا السكينة ، وعضوا على النواجد فإنه أتى للسيوف عن الهام، وأكملوا اللأمة ، وقلقلوا السيوف فى أغمادها قبل سلّها ، والحظوا الخزر ، واطعنوا الشرر ونافحوا بالظبا ، وصلوا السيوف بالخطا ، واعلموا أنكم بعين الله ومع ابن عم رسول الله . . . »
ومن أغراض الخطابة لذلك العهد الدفاع عن الرأي ، ومقارعة الحجة بالحجة ، وتفنيد براهين الخصم ، وأظهر مثال لذلك الخطب التي قالها على والخوارج ؛ فهي خطب مليئة كلها بالحجج والبراهين من جانب الخوارج ومن جانب الامام.
كانت أساليب الخطابة لذلك العهد رصينة في جملتها ، سهلة الألفاظ إلا فى القليل ، لها مميزات الخطابة القوية ، تعتمد على الألفاظ الضخمة ، وعلى الجمل القصيرة يقل فيها السجع إلا إذا جاء عرضاً غير مقصود ، فالخطبة ترسل إرسالا ، لا تكان فيه ولا تنميق ، ومع ذلك تكون قوية الأسر ، متينة السبك ، ولا غرو فلقد كان القائلون مقاويل العرب وأبلغهم وكان المقام يتطلب لساناً بليغاً يحرضهم ويدعوهم.
ولقد كثر الاقتباس من القرآن ، وكان على وصحبه أكثر غراما بالاقتباس يدخلون الآية والآيات في معرض خطبهم.
هناك ملاحظة تبدو فى خطب على وتظهر ظهوراً واضحاً إذا أنت وازنت بين خطبه التي قالها في أول النزاع وآخره ؛ فانك تجد خطيه التي قالها بعد التحكيم ، والتي يستفز فيها القوم إلى حرب معاوية ، ضخمة فى ألفاظها ، قوية في أسلوبها ، متينة فحمة ، أمتن وأقوي من تلك الخطب التي قالها فى أول النزاع ، وكانت خطبه تشتد وتقوي ، كلما ضعف أمله في نصرة قومه ، وزاد توا كلهم ) و مخاذهم ، وحسبك أن ترجع إلى خطبته التي قالها لرؤساء أنصاره ووجوههم بعد أن رجع من حرب الخوارج ؛ أو إلى خطبته بعد أن أغار النعمان بن بشير على عين التمر ، أو عندما أغار الضحاك من قيس على الحيرة ، أو حينما أغار سفيان من الغامدي على الأنبار ، واستمع إلى السيل المتدفق من فم على حين يقول : ... ألا وإنى قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً وسراً وإعلاناً ، وقلت لكم اغزوهم من قبل أن يغزوكم ، فوالله ما غنى قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا ، فتخاذلتم وتوا كليم ، وثقل عليكم قولى واتخذتموه وراءكم ظهريا ، حتى شنت عليكم الغارات ، وملكت عليكم الأوطان ؛ هذا أخونا مد قد وردت خيله الأنبار ، وقتل حسان بن حسان البكرى ورجالاً منهم كثيراً ونساء ، وأزال خيلكم عن مسالحها ، والذي نفسي بيده ، لقد بلغني أن كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة ، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعنها ، ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترخام، ثم انصرفوا وافرين، ما قال رجلا منهم كلم ، ولا أريق لهم دم ، فلو أن امرأ مسلما مات من دون هذا أسفا ما كان عندى فيه ملوما ، بل كان به عندى جديرا .
يا عجباً كل العجب ! عجب يميت القلب ، ويشغل الفهم ، ويكثر الأحزان ، من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم ، وفشلكم عن حقكم ، حتى أصبحتم غرضا ، تُرمون ولا ترمون ، ويغار عليكم ولا تغيرون ، ويعصي الله عز وجل فيكم وترضون ، إذا قلت لكم اغزوهم في الشتاء ، قلتم هذا أوان قُروص ، وإن قلت لكم : إغزوهم في الصيف ، قلتم : هذه حمارة القيظ ، أنظرنا ينصرم الحر عنا ؛ فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون ، فأنتم والله من السيف أخر ، يا أشباه الرجال ولا رجال ! ويا طعام الأحلام ! ! ويا عقول ربات الحجال : لوددت أنى لم أركم ، ولم أعرفكم ، معرفة والله جرت ندما، وأعقبت سدما ! قاتلكم الله ، لقد ملأتم قلبي قيحا ، وشحتم صدري غيظا ، وجرعتمونى نفس الهمام أنفاسا ، وأفسدتم على رأيي بالعصيان والخزلان ....
وتعليل هذه الظاهرة سهل يسير ، هو ذا التخاذل الذى بدا من القوم بعد التحكيم ، فلقد سئموا القتال وملوه ، وركنت نفوسهم إلى الهدوء والدعة ، واستسلموا إلى الراحة ، ووجدت الفرقة سبيلها إلى قلوبهم ، فكان الإمام فى أشد الحاجة إلى ما يبعت الحياة فيهم ، ويعيد الحماسة اليهم ، فلا عزو ، كان يلجأ إلى الخطابة فيجعلها قوية الأسر ، مليئه بالألفاظ الضخمة التي تثير النفس ، وتبعث النخوة ، مفعمة بالتحذير والإنذار ، علها يحي الميت أو تبعث الروح في الجماد .
نستطيع أن تقول : إن الخطب في عهد على تؤرخ ننا الحالة السياسية ، وتسجل أهم ما كان في فترة خلافة على ، وفضلا عن ذلك نستطيع إذا أنت تتبعت الخطب ، أن تلمس الحوادث التي قيلت فيها لمسا، وهى تكشف لك في صراحة نفسية الامام على ، وتبين الأدوار التي مرت فيها آماله : من النهوض والتفاؤل في أول الأمر ؛ إلى اليأس والقنوط في آخره ، كما أنها تكشف أيضا نفسية قومه ، وتضعها أمامك فى صورة واضحة ، وإن المؤرخ ليجد في هذه الخطب معينا لا ينضب ، يساعده على فهم نفسيات المتقاتلين ليدرك النتائج التي وصلت اليها الحرب ، وكيف كانت طبيعية لا بد من حدوثها .
0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا