مقدمة في تقسيم الشعر
اتجه تقسيم الشعر في أدبنا - على الأغلب - إلى اعتبار الوزن والقافية والرديف وغيرها، وبذلك انحصرت أغراض الشعر في القصيدة والغزل والمديح والمثنوي وما شابهها. ومن الواضح أن الناحية المعنوية ما روئت في هذا التقسيم مع أنها تستحق عناية أكثر. والمحققون الذين يسمونه أديباً قد ألقوا الضوء على ألوانه الأخرى التي لا تختلف في البحر والوزن والقافية والرديف عن ألوان الشعر السائدة، ولكنها مختلفة بالنظر إلى المعنى. ونظرًا لهذا التقسيم المعنوي يجب أن نفهم الأدب بجميع نواحيه مع ملاحظة ما قال المحققون فيه.
إن الثعالبي قد قسم الأدب في ١٢ قسمًا، منها ما جعله أصلاً كالصرف والنحو والاشتقاق واللغة والقافية والعروض والمعاني والبيان، ومنها ما جعله فرعًا كعلم الخط والإنشاء والشعر والتاريخ، وتكتفي هنا بعد جامع موجز الأدب.
إن إبراز الشخصية الذهنية والرومانسية بالحروف يسمى أدبًا، وبخاصة شعريًا أو مسرحيًا.
وهكذا يدخل الشعر في نوع الأدب الذي يسمى بالفنون الجميلة، وهي توفر للإنسان الغذاء الروحي والعاطفي والفكري. والفنان يصور عواطفه وانطباعاته تصويرًا حيًا مؤثرًا مفعمًا يهيج المشاعر ويثيرها، فلا يلبث قلب الإنسان وفكره إلا أن يتأثر به. وقد جعلت الفنون الجميلة للطبيعة، ومن الطبيعي أن الإنسان حينئذ يتأثر بتأثير شيء، ويقدم عواطف فرحه في ثوب الألفاظ للآخرين، فكأنه بهذا يقارب بين إحساسيهم وبين الحقيقة الداخلية يكشف آثار الطبيعة المؤثرة لقلوب وأفكار الآخرين، وهذا هو الأصل.
تقسيم الأدب إلى نظم ونثر
وتقسيم الأدب إلى النظم والنثر ليس إلا بالنظر إلى الصورة، وأما بالنظر إلى المعنى فلا يتم تقسيمه الحقيقي بعد. ويؤيد رأينا هذا بيان معنى الشعر الذي فهمه قدماء العرب، فكما يقول العلامة طه حسين حاليًا: كان العرب يسمون كل من يلقي خطابًا بليغًا بارعًا فوق مستوى العامة شاعرًا، وفي الشعر الجاهلي القديم نجد كثيرًا من المقطوعات والأمثلة المرتجلة التي تمتاز وترتفع عن مستوى الكلام العادي للعرب. ولذلك نرى أن قريشًا حينما سمعت أسلوب القرآن البارع لم تحسّه كلام الله بل جعلت اسم النبي صلى الله عليه وسلم شاعرًا، مع أن النظم لم يكن ملتزمًا به في القرآن...
وفرق وملأت بين الشعر والنثر بالحماسة والجد، وهذا صحيح إلى حد ما ولكن لا يُطمئن إليه بالكلية.
وقد جعل ما زال الشعر لسان الخيال والعواطف، ومن الحقيقة أيضًا أن قلب الإنساني ملتقى الأحاسيس المتنوعة، فحينًا يشعر يفرح وحينًا يتألم ويحزن، فحينما يمتلئ قلبه فرحًا يحب الحياة بجميع ألوانها ويسرّ بكل صغير كبير، وحينما يضيق قلبه بالهمّ يتوحّش من الحياة وتتناوب عليه عواطف الخوف والرغبة والغضب.
والحقيقة أن حال الشعر هو هذه الكيفية للقلب الإنساني، فتجب مراعاتها في تقسيم أغراض الشعر حتى تتم تسميته كل غرض على حدة حسب تباين العواطف. فالشعراء إذا تغنوا في عواطف الفرح تشكّل غضبهم بشكل الهجاء ورغبتهم في صورة المديح والشكر، خوفهم في صورة الاعتذار والاستعطاف.
ومن الأدباء من قسم الشعر أساسًا إلى قسمين، وهما المدح والذم، وجعل سائر الأقسام متعلقة بهما، فالوصف والرثاء والفخر، والتشبيب والغزل والتشبيه والاستعارة والمثل والزهد والتقوى والوحش والنصيحة تدخل في المدح، وغيرها من الأغراض تندرج تحت الهجاء.
(وموضوع المقال) أي المديح النبوي يدخل في قسم الأول ويعبّر عنه بالتعريف والمدح.
ومعظم هذا المديح بالعربية قد قيل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. ونظرًا إلى ذلك يمكن أن يُسمى بالرثاء، ولكن الأمر ليس كذلك لا في العربية ولا في الفارسية والأردية والتركية، وسبب ذلك أن هناك ميزة للنبي صلى الله عليه وسلم وصلحاء الأمة فيخاطبون بعد وفاتهم أيضًا بأسلوب الإحياء. ثم إن المؤمنين يعتقدون أنه عليه الصلاة والسلام أصل الحياة، وأن الصالحين قد وُهِبوا حياة خالدة بفضله. وبجانب هذا فالمرثية تهدف إلى إبداء الحزن وبث الشكوى على وفاة رجل، ولكن المديح النبوي يهدف إلى إعلان محاسن الدين وشمائل الرسول صلى الله عليه وسلم مع تقديم عواطف الاحترام والتكريم حتى يتقرّب إلى الله. وبناء على ذلك نُسمّي هذا النوع من الشعر مدحًا، نعم في شعراء المديح من نظم الأبيات ولكن في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أو يمكن أن يُسمى هذا رثاءً، وهذا التفريق يصح بعد الاطلاع على محتوى الشعر ومضمونه.
لوازم المديح
من المعلوم أن عدد شعراء المديح كبير، فكل صغير وكبير من الشعراء أسهم في هذا المجال حبًا للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم الشعراء الذين ينشدون للعامة الناس، ولكن الحقيقة أن هذا الموضوع ليس بحيث يتناوله كل من شاء بالتفكير والتخيّل، فإن الشاعر يلاقي في هذا المجال صعوبات ومشاكل، فعليه أن يدقّق في اختيار الكلمات الملائمة للموضوع وأن يراعي جانب الخطاب والبيان وتفاصيل العقيدة وأسرارها وأن يلتزم جانب الصدق حتى لا يسلمه الخيال إلى الغلو فيخرج المديح من موضوعه. وقد رأينا أن الله تعالى قد أوضح لنا أنه من إساءة الأدب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن تُرفَع أصواتنا فوق صوته عليه السلام. فهذا المجال واسع وفي نفس الوقت ضيق، فأما الأول فلأن مناقب الممدوح كما كانت كثيرة كان الموضوع متسعًا أمام الشاعر وهو يتمكّن من إعمال فكره وتخيّله بدون أن يضطر إلى الغلو والإغراق في الإفراط والتحسين، وحيث جازت مناقب الممدوح حدود المبالغة يفجّر الخيال في أسمى صورة عن البلوغ إليها. وشاعر المديح النبوي يسرح في الأفلاك إذا تناول مناقبه صلى الله عليه وسلم بالتشريح والتوضيح، وهو شاهد مكانته عليه السلام تاركًا الكواكب والنجوم وراءه، فتكون الأفلاك مسرحًا لخياله ويكون الممدوح يحلّ على العرش والكرسي. وهكذا يتسع المجال أمام الشاعر الذي يمدح النبي عليه السلام وفي نفس الوقت يرتفع عن مآخذ النقاد ويحتمي معتقداته من سهام نقدهم.
أما كونه ضيقًا فإنه يصعب على المتخيّلة مجاراة ذلك العلو مع اتساع المجال والموضوع، والشاعر يحتاج في ذلك إلى مقدرة فائقة، فإن هذا المديح ليس عبارة عن قصة الحب والغرام فيقول فيها كل شاعر ما يريد، بل إنه مدح شخص لا يُتقرَّب إليه بالغلو في الثناء عليه ولا يقبل كل ما يخلو من الصدق. ثم إنه يجب لفهم حياة الصدق والزهد أن يصل الشاعر إلى حقيقة الصدق والشعور والزهد ويتكيّف بكيفياتها. والحاصل أن فهم روح النبي صلى الله عليه وسلم وشرح مكانته يتطلبان العلم والفضل والبصيرة والقدرة الشعرية، ومن المعلوم أن اجتماع مثل هذه الصفات في رجل واحد عسير، وبالتالي يتعسر القيام بمسؤولية المديح النبوي على فرد واحد أو الشاعر الواحد مهما أوتِيَ من الخيال والبديع الصريح الفياض والشعور المتحرّك.
دوافع شعر المديح
شعر المديح النبوي من مقدمات الشعر الديني الذي يصدر عن العاطفة الدينية والإخلاص في الصدق وحب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو قيل إن بداية الشعر الإسلامي بشعر المديح فكان أصح. والحقيقة أن شعر المديح النبوي قد هيّأ للأدب الإسلامي مجالاً واسعًا عظيمًا، فلننظر بالإجمال إلى دوافع هذا النوع من الشعر.
إن حب الله ورسوله مما يجب على المؤمن في الإسلام وهذا يُستفَاد من الأحاديث التي وردت بهذا الصدد تؤكد المعنى، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث من كُنَّ فيه وجَدَ بهنَّ حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبُّ إلا لله، وأن يكرهَ أن يعودَ في الكفر بعد أن أنقَذَهُ اللهُ منه كما يكرهُ أن يُقْذَفَ في النار...
وهذا الحديث يُعدُّ مهمًا جدًا في أصول الإسلام، فإنَّ الحلاوة لا تُمْكَنُ إلاَّ بالإيمان، والرغبة في الطاعة لا تَثْبُتُ إلاَّ بالحلاوة. والحبُّ هو الذي يحْمِلُ على الإيثار الذي لا بُدَّ منه في سبيل مَرْضَاةِ اللهِ، والطاعةُ في الحقيقةِ هي عبارةٌ عن الميلِ القلبيِّ.
من دوافع الحبِّ والغرامِ، الجمالُ، وهو على نوعينِ: ظاهريٌّ وباطنيٌّ، وهما متوفرانِ في شخصيَّةِ حبيبِ الكَوْنَيْنِ، فإنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ كَمَالَ الْخَلْقِ الَّذِي اسْتَجْمَعَ صُوَرَ الْجَمَالِ كُلَّهَا. ثُمَّ إِنَّ الْكَمَالَ الَّذِي يَسْتَمِيلُ الْقُلُوبَ وَيَزِيدُ فِي الرَّغْبَةِ الطَّبِيعِيَّةِ كَانَ قَدْ تَوَفَّرَ فِيهِ، وَحِينَمَا تَقْوَى مَعْرِفَةُ الْحَقِيقَةِ وَالْحَقِّ بِحَيْثُ يَشْعُرُ بِهَا الْمُؤْمِنُ مَعَ كُلِّ مَنْ يَسْرِي الْحُبُّ النَّبَوِيُّ فِي عُرُوقِهِ وَأَنْفَاسِهِ، وَبِفَضْلِهِ يَفُوزُ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَالشَّفَاعَةِ وَالسَّعَادَةِ وَيَنْجُو مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَيُكْرَمْ بِالْجَنَّةِ، وَمِنَ الطَّبِيعِيِّ أَنْ يَغْلِبَ هَذَا الْحُبُّ عَلَى حُبِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي يَقُولُ: لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ...
وقد ورد في حديث: عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
وبجانب هذا يُعدُّ الحديثُ الآتِيَ دَافِعًا قَوِيًّا مُهِمًّا مِنْ دَوَافِعِ أَدَبِ الْمَدِيحِ، وَقَدْ أَوْجَبَ الْمَدِيحَ النَّبَوِيَّ فِي بِدَايَةِ كُلِّ كَلاَمٍ مُنْثُورٍ وَمُنْظُومٍ وَخُطْبَةٍ وَمَقَالٍ، وَهَكَذَا تَقَيَّدَ الْأَدَبُ بِهَذَا الْقَيْدِ: كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يَبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالصَّلاَةِ عَلَى فَهُوَ أَقْطَعُ أَبْتَرُ مِنْ كُلِّ بَرَكَةٍ، أَخْرَجَهُ الزَّهَاوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينِ وَالدَّيْلَمِيُّ فِي سُنْدِ الْفِرْدَوْسِ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ...
وبذلك نرى أنَّ الْأَدَبَ الْإِسْلاَمِيَّ بِنَوْعَيْهِ مِنَ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ يَبْدَأُ جَمْعًا فِي الْحَمْدِ وَالْمَدِيحِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَاعِرٍ يَدْخُلُ فِي شُعَرَاءِ الْمَدِيحِ النَّبَوِيِّ نَعَمْ يُفْرَقُ بَيْنَهُمْ بِأَنَّ الْبَعْضَ تَنَاوَلَ الْمَدِيحَ النَّبَوِيَّ جَرْيًا عَلَى الْعَادَةِ أَوْ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ أَوْ لِتَمْهِيدِ الْكَلاَمِ، وَبَعْضَهُمْ قَدْ تَنَاوَلَهُ عَلَى أَسَاسِ الْحَسَّةِ الدِّينِيَّةِ وَأَكْثَرَ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ تَقْسِيمُ شُعَرَاءِ الْمَدِيحِ النَّبَوِيِّ فِي ثَلاَثِ طَبَقَاتٍ: -الْأُولَى مِنْ جَاءَ الْحَمْدُ وَالْمَدِيحُ فِي كَلاَمِهِمْ تَوْطِئَةً وَتَمْهِيدًا. وَالثَّانِيَةُ مِنْ يُوجَدُ فِي كَلاَمِهِمْ فَلَهُ كَبِيرٌ مِنَ الْمَدِيحِ بِجَانِبِ الْأَلْوَانِ الْأُخْرَى، وَالثَّالِثَةُ مِنْ جَاءَ كَلاَمُهُ فَلَهُ أَوْجَلَهُ فِي الْمَدِيحِ.
أقسام المديح النبوي
إنَّ شِعْرَ الْمَدِيحِ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
- الْأَوْلُ: الَّذِي قِيلَ قَبْلَ الْعَقِيدَةِ وَتَمَرْكَزًا وَجَرْيًا عَلَى الْعَادَةِ
- الثَّانِي: الَّذِي قِيلَ مُسْتَقِلًّا وَلِتَحْقِيقِ غَرَضٍ
- الثَّالِثُ: الَّذِي قِيلَ لِلْإِصْلاَحِ وَهَذَا يَنْدَرِجُ فِي الْحَقِيقَةِ تَحْتَ الْقِسْمِ الثَّانِي.
1 - المديح العادي
يَتَضَمَّنُ كُلُّ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الشِّعْرِ وَالنَّثْرِ فِي الْأَدَبِ الْإِسْلاَمِيِّ الْحَمْدَ وَالْمَدِيحَ النَّبَوِيَّ، فَكَمَا أَنَّ الصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُجِبُّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَلَوْ مَرَّةً فِي الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ رَأَى كُلُّ شَاعِرٍ وَكَاتِبٍ أَنْ يُدْخِلَ الْحَمْدَ وَالْمَدِيحَ فِي كَلاَمِهِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنْ ذَكَرْنَا الْحَدِيثَ الَّذِي وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ وَبِنَاءً عَلَيْهِ قَدْ اهْتَمَّ الشُّعَرَاءُ بِالْمَدِيحِ وَلَوْ عَادَةً، حَتَّى إِنَّ الشُّعَرَاءَ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا قَدْ قَلَّدُوا الشُّعَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا وَتَكْثُرُ أَمْثِلَةُ ذَلِكَ فِي شِعْرِ الْفَارِسِيِّ وَالْأُرْدُوِّيِّ.
2 - المديح المستقل (أو المقصود)
إذا تعين لأمر تحدد و تحرك له الفكر فتنظم الجهود و تتّسق ، و يتوفر الاخلاص و يظهر التاثير و تتدفق العواطف حماسا و تثور ، و لكن الفنان إذا خلا من التفكير المقصود تشرد ذهنه و تاه ، كما قيل في كل . واد يهيمون ، إنه يستميل طوب الناس بأنا شيده العذبة مؤقتاً و لكن مثل هذا الكلام ينشوش المشاء ويقلقه و يثبط الهم و يوحش الطبائع إن الشعر الهادف يمثل الحياة وعاطفته الخالدة تحركها ونغماته تتسرب إلى أعماق القلب وتحدث صداها بعد الوصول إلى القلوب و الخلود على الحياة تاركة آثارها و في . الحقيقة بصوت الحق و الصدق و مثل هذا الكلام يمثل و إن من البيان لسحر ، من ناحيته و من ناحية أخرى بصدق عليه ، إن من البيان الحكمة.
و هكذا حينما يكون الشعر هادفا يعبر بكل نغمة من نغماته عن صورة الحياة التي يقصدها ، و يترك على الحياة تاثيراً عميقاً و يوقظ المواهب الخفية و يثير عواطف الجمال و يشغلها لبناء الحياة ، وكما ان الجمال الظاهري يستميل القلوب فكذلك يتحول إلى معلم روحي وخلقي فيغير الاقدار و الحقيقة أن هذه الوظيفة للشعر الهادف تستطيع أن تقضى على فوضى الحياة.
إن نظرية الفن و الحياة تعرض بصور شيء ، و لكن أصحاب هذه النظرية يتقون على أن الفن تفسير للحياة و تعبير عنها و لكن الحياة نفسها ما هي ؟ إن الاجابة على هذا السوال المهم المحبر تحل نظرية الفن للحياة و لا يمكن فهم أسرار الحياة و الاحاطة بأهدافها وغايتها إلا إذا صح تفكيرنا حول قيم الحياة و معنى التزكية و تصور و مستوى العدالة وكيفية السماحو غيرها من المسائل . و النظرة الحكيمة تحاول حلها بالعقل ، و لكن قصور الفهم الانساني يحول دون الوصول إلى الحقيقة ، و من ناحية أخرى تعجر المحاولات الانسانية عن سد الخليج الذي يوجد بين الصور النظرية و العملية و يجب لهذا أن يكون اما منا نموذج للحياة الذي يكشف لنا الحياة نظرياً و يعطينا أسوة حسنة و يقول: هذا التصور التصور لا للحياة صحيح من الناحية العملية أيضاً لما هو صحيح من الناحية النظرية.
وَلَوْ جَعَلْنَا هَدَفَ الْفَنِّ التَّعْبِيرَ عَنْ هَذَا الْخَلْقِ الْعَلِيمِ أَظْفَرْنَا بِمَوْضُوعٍ صَالِحٍ لِلْبَيَانِ يَسَعُ جَمِيعَ تَفَاصِيلِ الْحَيَاةِ، وَهَذَا التَّعْبِيرُ يَتَضَمَّنُ النَّاحِيَةَ الدِّينِيَّةَ وَالْخُلُقِيَّةَ وَالرُّوحِيَّةَ وَالْإِقْتِصَادِيَّةَ وَالْإِجْتِمَاعِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ وَالْأُخْرَوِيَّةَ وَالْجَمَالِيَّةَ وَالْجَلاَلِيَّةَ مِنْ نَوَاحِي الْحَيَاةِ، وَلَوْ كَانَ مَوْضُوعُ الْفَنِّ الْحَيَاةَ فَلْيَكُنْ حَيَاةً كَامِلَةً، حَيَاةً تَعْجِزُ أَمَامَ جَمَالِهَا مَنَازِلُ الرَّقِيِّ وَطُمُوحُ النَّظَرِ وَالتَّفْكِيرِ، وَحِينَمَا يَصِيرُ كَمَالُ الْحَيَاةِ هَذَا مَوْضُوعًا لِلشِّعْرِ فَلاَ يَكُونُ الشِّعْرُ فِي الْحَقِيقَةِ شِعْرًا حَتَّى يُتْهَمَ بِالْخُلُوِ عَنِ الْهَدَفِ أَوْ بِالْفَوْضَى الْفِكْرِيَّةِ.
وَالْحَيَاةُ الَّتِي جَعَلَهَا شُعَرَاءُ الْمَدِيحِ النَّبَوِيِّ مَوْضُوعًا لِشِعْرِهِمْ تَقْدِمُ أُسْوَتَهَا حُلُولًا لِشُؤُونِ الْحَيَاةِ الْمُتَنَوِّعَةِ الطَّبِيعِيَّةِ مِنْهَا وَالْفِكْرِيَّةِ، وَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ يُوصَفُ شِعْرُ عَلَامَةِ الدُّكْتُورِ إِقْبَال بِالشِّعْرِ الْهَادِفِ وَأَنَّ فَنَّهُ مُنْسَجِمٌ مَعَ الْحَيَاةِ. وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ شِعْرَهُ هَذَا أَيْضًا يَعْبُرُ عَنِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي نُسَمِّيهَا بِالْحَقِيقَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَعَلاَمَةُ إِقْبَالُ قَدْ عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ بِالرَّجُلِ الذَّاتِيِّ، وَالرَّجُلِ الْكَامِلِ وَالرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ وَالرَّجُلِ الْعَاقِلِ، وَبِالْعِشْقِ وَالْعَقْلِ وَالْحِكْمَةِ، وَلَيْسَ شِعْرُ الْعَلاَمَةِ إِقْبَالِ إِلاَّ تَمْثِيلاً لِأُسْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسْنَةِ، وَهُوَ يُؤَدِّي رِسَالَةَ الْحَيَاةِ بِالْجَمَالِ الْأَدَبِيِّ وَالْحِكْمِيِّ وَبِنَغْمَاتِهَا الْحَيَّةِ.
أَمَّا شِعْرُ الْمَدِيحِ النَّبَوِيِّ فَقَدْ كَانَ فِي الْبِدَايَةِ مَادِيًّا وَلاَ شَكَّ، وَالشَّاعِرُ الْأَوْلُ لِلْبَلَاطِ النَّبَوِيِّ الَّذِي يَصْدُو لِمَدْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الصَّدْقِ وَالْحَقِّ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ يَرُدُّ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَشِعْرُهُ كَانَ تَمْثِيلاً لِلْأَخْلاَقِ النَّبَوِيَّةِ وَتَعَالِيمِهَا مُصْوِبًا لِمَوَاطِنِ الْإِخْلاَصِ وَالْحُبِّ.
قَدْ فَعَلَ حَسَّانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِلِسَانِهِ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْخُطَبَاءُ بِبَيَانِهِمِ السَّاحِرِ، وَحَيْثُ لَمْ يُنْجَحْ مُحَاوَلاَتُ الْتَّرْغِيبِ وَالتَّحْرِيضِ نَجَحَ الشَّاعِرُ بِكَلاَمِهِ، وَحَيْثُ لَمْ يَنْفَعْ تَضْحِيَاتُ الْمُجَاهِدِينَ نَفَعَ كَلاَمُ الشَّاعِرِ الْحَمَاسِيِّ الْجَمِيلِ. قَدْ وَضَّحَ سَيِّدُنَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَايَةَ شِعْرِهِ فِي الْمَدِيحِ النَّبَوِيِّ فَقَالَ:
هَجَوْتُ مُحَمَّدًا وَأَحْبَبْتُ عَنْهُ
وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ
وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ غَرَضَ مَدِيحِهِ هُوَ الذُّبُو عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبْلِيغُ تَعَالِيمِهِ وَإِظْهَارُ الْإِخْلاَصِ وَالْحُبِّ وَرَجَاءُ الْمَثُوبَةِ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ.
0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا