الهاتف: 8157003567
الجذور التاريخية والجسور المعاصرة في العلاقات الهندية العربية
تمثل العلاقات الثقافية والأدبية بين الهند والعالم العربي نموذجاً فريداً للتفاعل الحضاري الذي يتجاوز حدود الجغرافيا والمصالح الاقتصادية الآنيّة، ليضرب بجذوره في أعماق التاريخ الإنساني المشترك. فلم تكن الهند يوماً غريبة عن الوجدان العربي، ولا العرب طارئين على الذاكرة الهندية؛ إذ تمتد خيوط التواصل بينهما إلى ما قبل بزوغ فجر الإسلام بقرون عديدة، حيث مخرت السفن العربية عباب بحر العرب حاملة البضائع والأفكار والكلمات، ناسجة شبكة معقدة من التأثير والتأثر.
وفي هذا السياق التاريخي الممتد، برزت ولاية "كيرالا" كبوابة ذهبية عبرت منها الثقافة العربية والإسلامية إلى شبه القارة الهندية، وكنافذة أطلت منها الهند بحكمتها وفنونها على العالم العربي. في العصر الحديث، ومع تعاظم الحاجة إلى تجديد هذه الدماء في شرايين العلاقة بين الحضارتين، برزت قامات علمية وأدبية حملت على عاتقها مسؤولية هذا التجديد. ويقف الدكتور محيي الدين الآلوائي في طليعة هذه القامات، بوصفه علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي في الهند، وجسراً ثقافياً حياً ربط بين ضفتي بحر العرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
![]() |
| الدكتور محيي الدين الآلوائي |
تسعى هذه الدراسة لتقديم مسح شامل لحياة وإسهامات الدكتور الآلوائي، عبر تفكيك مشروعه الفكري والأدبي، وتحليل إسهاماته في الترجمة، والصحافة، والدعوة، والتعليم الأكاديمي.
الجذور الاجتماعية والبعثة الأزهرية
ولد الدكتور محيي الدين الآلوائي في الأول من يونيو عام ١٩٢٥م في قرية "وليتناد" من مدينة "الواي" بجنوب الهند. ولم يكن هذا الموقع الجغرافي مجرد إحداثيات مكانية، بل كان فضاءً مشحوناً بالدلالات التاريخية؛ فكيرالا تُعرف بأنها أول بقعة أشرقت بنور الإسلام في القارة الهندية.
نشأ الآلوائي في بيت علم ودين، حيث كان والده الشيخ "مقار المولوي" عالماً فاضلاً، شكلت مكتبته المدرسة الأولى التي نهل منها الابن مبادئ العلوم الدينية واللغة العربية. واصل تعليمه في المعاهد الإسلامية الكبرى في كيرالا، ليصبح في مقتبل شبابه خطيباً مفوّهاً.
تاقت نفس الآلوائي إلى التبحر في علوم الدين في منبعها الأصيل، فكانت قبلته "القاهرة"، وتحديداً "الأزهر الشريف". حصل الآلوائي على منحة دراسية مرموقة من "المجلس الهندي للروابط الثقافية"، مما مكنه من السفر إلى مصر لمواصلة دراساته العليا.
كانت رحلته إلى مصر نقطة تحول مفصلية. وقد عاد إلى القاهرة مرة أخرى في عام ١٩٦٣م، مصطحباً معه أسرته، في خطوة دلت على رغبة عميقة في الانغماس الكامل في البيئة العربية، وتكوين "أسرة هندية مثقفة بثقافة عربية إسلامية".
توجت رحلته العلمية بحصوله على درجة الدكتوراه مع "مرتبة الشرف" من قسم الدعوة بكلية أصول الدين في عام ١٩٧١م. كانت أطروحته بعنوان "الدعوة الإسلامية وتطوراتها في شبه القارة الهندية"، وهي عمل بحثي رائد استحق عليه درجة بحثية خاصة. لم تكن هذه الأطروحة مجرد متطلب أكاديمي، بل وثيقة تاريخية أضافت للمكتبة العربية مرجعاً أصيلاً عن تاريخ الإسلام في الهند.
المنجز الفكري: بين التأريخ للدعوة وحماية العقيدة
كرس الدكتور الآلوائي قلمه وفكره لمعالجة القضايا الإسلامية الكبرى، مع إيلاء عناية خاصة للسياق الهندي، ويبرز ذلك جلياً في كتابه المحوري "الدعوة الإسلامية وتطوراتها في شبه القارة الهندية"، الذي يُعد حجر الزاوية في مشروعه التاريخي. استعرض المؤلف في هذا العمل الموسوعي أربعة محاور رئيسية، مبتدئاً بتأصيل العلاقات العربية الهندية قبل الإسلام لإثبات ألفة البيئة الهندية للثقافة العربية، ثم انتقل لتتبع مسارات وصول الدعوة، مفنداً الروايات التي تحصرها في الغزو العسكري ومبرزاً الدور السلمي للتجار والدعاة. كما عكف الآلوائي على تحليل مراحل نمو المجتمع الإسلامي الهندي، مختتماً دراسته بتوثيق دقيق لإسهامات علماء الهند الكبيرة في إثراء المكتبة الإسلامية باللغة العربية، مما جعل الكتاب مرجعاً لا غنى عنه في بابه.
وعلى صعيد الدفاع عن العقيدة، خاض الآلوائي معركة فكرية رصينة ضد التحيزات الغربية عبر كتابه "الرسالة المحمدية وشبهات المستشرقين". وقد خصص الجزء الأكبر من هذا المؤلف للرد التفصيلي والممنهج على الاتهامات التي أثارها المستشرق "شلومو دوف جويتين"، حيث لم يكتفِ بالرفض المجرد، بل قام بتفكيك حججه ونقضها مستنداً إلى الأدلة التاريخية والتحليلات اللغوية الدقيقة، مقدماً نموذجاً للرد العلمي الهادئ.
وفي مجال التنظير الدعوي المعاصر، قدم الآلوائي رؤية عملية ومنهجية في كتابه "دستور الدعاة". تناول فيه الأسس الشرعية للدعوة والصفات الأخلاقية التي يجب أن يتحلى بها الداعية، مع تركيز لافت على الجانب النفسي والاجتماعي؛ حيث شدد على أهمية فهم سيكولوجية المدعوين وضرورة تنويع الأساليب والوسائل لتتلاءم مع خلفياتهم الثقافية وبيئاتهم المختلفة، مما يعكس وعياً متقدماً بمتطلبات الخطاب الديني الحديث.
ولم تنحصر جهوده في التأليف فحسب، بل امتدت إلى الميدان الأكاديمي، حيث سجل سابقة تاريخية في جامعة الأزهر بكونه أول من يُنتدب لتدريس مادة "الدراسات الإسلامية" باللغة الإنجليزية في تاريخ الجامعة. ولخدمة هذه الغاية النبيلة، ألّف كتابه "جوهر الإسلام" ليكون مقرراً دراسياً يعين الطلاب، هادفاً من وراء ذلك إلى إعداد جيل من العلماء القادرين على شرح الإسلام وتبليغ رسالته إلى العالم بلسان عالمي مبين
ريادة الترجمة والمثاقفة الهندية العربية
يُشكل قيام الدكتور الآلوائي بترجمة رواية "شمين" (الجمبري) من الماليالامية إلى العربية حدثاً أدبياً فارقاً؛ إذ تُعد أول ترجمة مباشرة بين اللغتين دون وسيط. وتغوص هذه الرواية، التي خط يراعها الروائي الهندي "تاكازي سيفاسانكارا بيلاي"، في أعماق مجتمع الصيادين لتعالج تشابكات الحب والفصل الطبقي والمعتقدات الشعبية. وقد تجلت براعة الآلوائي في قدرته الفائقة على نقل هذه البيئة المحلية الصرفة والمصطلحات البحرية الدقيقة إلى لغة عربية فصحى رصينة، مع الحفاظ الكامل على حرارة النص الأصلي وتدفقه العاطفي، وقد رأت هذه الترجمة النور عام ١٩٧٠م لتقدم للقارئ العربي نافذة حية على الوجدان الهندي.
![]() |
| الدكتور محيي الدين الآلوائي واقفا أمام جامعة الأزهل (مصنوعة الذكاء الاصطناعي) |
وفي حركة ثقافية معاكسة تهدف إلى رد الجميل المعرفي، قام الآلوائي بترجمة العمل الموسوعي الخالد لأبي الريحان البيروني "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" من العربية إلى الماليالامية، ليعيد بذلك تقديم التراث الهندي العريق - الذي حفظه عالم مسلم - إلى الهنود بلغتهم الأم. ولم يكتفِ الآلوائي بالترجمات الفردية، بل سعى لرسم صورة شاملة للمشهد الأدبي عبر كتابه "الأدب الهندي المعاصر"، الذي قدم فيه خريطة بانورامية استعرضت اللغات الهندية المتعددة ومسارات تطورها وأبرز تياراتها، ساداً بذلك فراغاً ملحوظاً في المكتبة العربية التي كانت تفتقر بشدة إلى المصادر الموثوقة حول الآداب الآسيوية الحديثة.
الصحافة والدبلوماسية الثقافية في تجربة الآلوائي
اتخذت الصحافة عند الدكتور الآلوائي بعداً دبلوماسياً رفيعاً، تجلى بوضوح إبان توليه رئاسة تحرير مجلة "صوت الهند" الصادرة عن السفارة الهندية بالقاهرة في الفترة ما بين عامي ١٩٧٠م و١٩٧٧م. ففي تلك الحقبة، لم يكتفِ الآلوائي بالدور التحريري التقليدي، بل نجح باقتدار في نقل المجلة من مجرد نشرة إخبارية رسمية إلى منبر ثقافي رصين يجسد عمق الصداقة الهندية العربية، موظفاً إياها كصوت داعم ومناصر للقضايا العربية المصيرية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
ولم ينحصر الحضور الإعلامي للآلوائي في أروقة "صوت الهند"، بل تشعب ليشمل منافذ متنوعة عبر فترات زمنية مختلفة. فبعد عودته الأولى من مصر عام ١٩٥٥م، أطل عبر الأثير مترجماً ومذيعاً في القسم العربي بـ إذاعة الهند في نيودلهي. وعلى الصعيد الأكاديمي والأدبي، شغل منصب محرر القسم الإنجليزي في مجلة الأزهر العريقة، ورفد مجلة الرسالة بمقالات نقدية رائدة حول "الآداب الشرقية المعاصرة". واختتمت هذه المسيرة الإعلامية الحافلة بمرحلة خليجية بين عامي ١٩٨٥م و١٩٨٩م، حيث عمل في دولة قطر محرراً بجريدة "الخليج اليوم" ومجلة "الميزان"، مؤكداً بذلك دوره كجسر تواصل دائم بين الثقافات.
وفاته
بعد رحلة طويلة قطع فيها الفيافي والبحار، وجال بفكره بين ثقافات الشرق والغرب، حط الدكتور محيي الدين الآلوائي رحاله الأخير في مسقط رأسه بمدينة "الواي". ففي الثالث والعشرين من يوليو عام ١٩٩٦م، .


0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا