ادعمنا بالإعجاب

تطور الرواية التاريخية في الأدب العربي

 سالم سعيد مسعود الكندي، سلطنة عمان / نزوى

المصدر: مجلة كيرالا ، مجلة محكمة نصف سنوية (تأسست عام ٢٠١٠ - رقم ISSN: ٢٢٧٧-٢٨٣٩) رقم تسجيل RNI: KERBIL/2017/73653، العدد: الحادي والعشرون، تصدر من قسم اللغة العربية بجامعة كيرالا - الهند

الملخص

يهدف المقال إلى رصد تطور الرواية التاريخية العالمية، وأثر ذلك على الرواية التاريخية العربية من خلال الوقوف أولاً إزاء البعد الاصطلاحي لمفهوم الرواية التاريخية، يعقب ذلك تناول تطور هذا المفهوم في شكله الروائي، ثم المراحل الأدبية التي تطورت فيها البنية الروائية التاريخية من وعائها الكلاسيكي عبوراً إلى ما انتهت إليه الرواية التاريخية في شكلها الجديد، عبر الكشف عن التقنيات التي منحت الرواية جدتها المعاصرة في الكتابة محاولين أن نضع الرواية العربية في مسارها الفني في درب تطور الرواية التاريخية.

الكلمات الرئيسية المفتاحية: الرواية التاريخية، الأدب العربي

المقدمة

تعد الرواية التاريخية أهم أنواع الرواية بشكل عام، بل أن أول رواية كتبت كانت في حضرت التاريخ وقد تعددت تعريفات النقاد لها، إلا أن جميعها تتفق على أن الرواية التاريخية تستند على التاريخ مادة أساسية للعمل الروائي، ولعل هذا التمايز بين النقاد في مفهوم الرواية التاريخية مرده إلى تحديد الهدف والغاية من كتابتها ويمكن أن نحدد الغاية الأولى من كتابتها تمثل في إعادة إحياء الحدث التاريخي في الذاكرة الجمعية، لأجل التعليم، وتعرّف هنا على أنها «سرد قصصي يرتكز على وقائع تاريخية تنسج حولها كتابات تحديثية ذات بعد إيهامي معرفي، وتنحو الرواية التاريخية - غالباً إلى إقامة وظيفة تعليمية وتربوية» (١)، وقد يدخل الخيال في استكمال تفاصيل الوثيقة التاريخيّة، ويبقى دورها واضحاً فهي سرد قصصي يدور حول حوادث تاريخية وقعت بالفعل، وفيه محاولة لإحياء فترة تاريخية بأشخاص حقيقيين أو خياليين أو بهما معاً» (٢).

وتتشكل معالم الرواية التاريخية في ضوء إطارين يمنحانها خصائص النوع الروائي: الإطار التاريخي الذي يستند إلى ما وثقته المصادر التاريخية من أحداث شكلت ملامح الحقبة الزمنية الغابرة سواء تعلق الأمر بالبحث في الحروب والوقائع المشهورة، أو الشخصيات الحاضرة في مسار التاريخ، والإطار الثاني متعلق بالبناء الفني لأسلوب القص الذي يحقق للرواية التاريخية شرط الانسجام الداخلي الذي يتم من خلال المنطق الظاهر أو الخفي الذي ينتظم مختلف مقومات النص، ويجعل منه وحدة بين عناصرها تضامن وتكامل» (٣).

مضمون البحث

فالرواية التاريخية بمعناها الاصطلاحي ظهرت في مطلع القرن التاسع عشر والإشارات التاريخية تنسبها إلى الروائي الأمريكي ستيفن كراين Stephen Crane برواية "شارة الشجاعة الحمراء" لكن التوظيف الكامل للعناصر الفنية كان على يد والتر سكوت Walter Scott الذي وفق في الجمع بين الشخصيات الواقعية والشخصيات المتخيلة، وأحلها في إطار واقعي وجعلها تتحرك في ضوء أحداث كبرى" اتفق القوم على اعتبارها مفاصل أساسية في مسار الأمم والدول (٤) فقد كتب سكوت رواية «إيفانهو» (١٨١٩)، و«الطلسم» (١٨٢٥) فضلاً عن خمس وخمسين رواية جسدت التاريخ الأسكتلندي لذا عده النقاد أب الرواية التاريخية». (٥)

وقد ظهرت الرواية التاريخية بمفهومها الأول في الفترة التي انتشرت فيها الحركة الرومنسية في أوروبا التي سعت نحو إنعاش الذاكرة القومية بالبطولات الغابرة لبث روح المقاومة الشعبية» وإلى بلزاك ينسب فضل إدخال العادات والتقاليد إلى الرواية التاريخية، وانتقل تأثير سكوت إلى أوروبا كلها فكتب في فرنسا ألكسندر ديماس Alexandre Dumas الأب (١٨٠٢-١٨٧٠) التاريخ الفرنسي ابتداء من عصر لويس الثالث عشر حتى عودة الملكية وتبعه في فرنسا فيكتور هيجو Victor Marie Hugo فكتب "نوتردام دوباري" (١٨٣١) وكاتر فان تريز (١٨٧٣) ومن ثم انتقل اللون الروائي التاريخي إلى سائر الآداب العالمية وكانت الحرب والسلام لتولستوي من أعظم الروايات التاريخية (٦).

وهذا ما يراه بعض النقاد العرب في أن بروز الرواية التاريخية الغربية توافق مع صعود مجموعة من التحولات الاجتماعية التي دفعتها إلى الظهور: الثورة العلمية والبرجوازية والثورة القومية التي شكلت ملامح المجتمع الغربي الجديد المؤمن بالحرية والعدالة والمساواة، أما الرواية التاريخية العربية، فقد ظهرت بعيداً عن شروط مثيلتها الغربية، أي أنها انطوت على مفارقة ظاهرة، ذلك أنها ولدت في شرط غير روائي» لم تنجز فيه البرجوازية العربية ثورتها ولم يعرف الواقع العربي فيه ثورات جذرية. كأن هذه الرواية ولدت معوقة وافدة شديدة التلعثم لحظة، ومليئة بالوهم ترهن المقاومة، لحظة أخرى، وهي في الحالين بعيدة البعد كله عن الشرط الأوروبي الذي سوّى روايته «(٧).

وفي كل الأحوال فقد جذب هذا الشكل الروائي العديد من كتاب الرواية العربية في الفترة الأولى من عمر الرواية العربية فلم تكن تحتفي بالمتعة والجمال الروائي بقدر ما كانت ومازالت «فناً على تباين مستواه - يؤدي دوراً نشطاً في تحريك الأذهان، وشحنها بالقيم والأفكار تجاه الماضي والواقع معاً، والتطلع نحو الغد انطلاقاً من هذه الأفكار وتلك القيم» (٨)، ويعد الكاتب الروائي سليم البستاني أول من كتب رواية تاريخية في أدبنا العربي تحت عنوان (زنوبيا) عام ١٨٧١م، والتي تم نشرها متسلسلة في مجلة الجنان ثم كتب (بدور) في أعداد ١٨٧٢م، ثم كتب رواية (الهيام في فتح بلاد الشام) عام ١٨٧٤، من جانب آخر يعد الكاتب الروائي العربي جرجي زيدان من رواد الكتابة التاريخية في الأدب العربي «بحكم ما أعلنه من رغبة صريحة في تعليم التاريخ العربي والإسلامي للقراء ومحدّري الثقافة أو بحكم ما أنتجه من روايات تاريخية وصلت إلى ثلاث وعشرين رواية وفقاً للإحصاء المرجح» (٩)، وقد كان زيدان يسعى بشغف نحو نشر الثقافة والمعرفة بتاريخ الأمة العربية والإسلامية بين الأفراد من خلال مجلته «الهلال« التي أسسها عام ١٨٩١ وقد جاهر زيدان بسرّ كتابته للرواية التاريخية في مقدمة كتابه «تاريخ التمدن الإسلامي» الصادر عام ١٩١٠، يكتب:» أخذنا نهيئ أذهان القرّاء على اختلاف طبقاتهم، وتفاوت معارفهم ومداركهم، لمطالعة هذا التاريخ بما ننشره من الروايات التاريخية الإسلامية تباعاً في الهلال لأن مطالعة التاريخ الصرف تثقل على جمهور القراء، وخصوصاً في بلادنا، والعلم لا يزال عندنا في دور الطفولة، فلا بد لنا من الاحتيال في نشر العلم بيننا بما يرغب الناس في القراءة، والروايات أفضل وسيلة لهذه الغاية (١٠).

وعلى هذا تكون الرواية التعليمية هي أول أشكال الرواية التاريخية في أدبنا العربي. بدأ عهدها على يد جرجي زيدان وكان الهدف من الكتابة مطالعة التاريخ، والتعرف على أشهر أعلامه من خلال أسلوب شائق يجذب القارئ إليه، ويدفع عنه الملل من جمود المادة التاريخية الصرف، وقد شحنت هذا النوع من الروايات التاريخية بالقيم والفضائل والأفكار التي تعالج الواقع المعاش في تلك الحقبة، وتقوم بهدف آخر يمكن أن نقول عنه استشرافي تجاه المستقبل، والناشئة هم الأجدر بهذا النوع من الإنتاج لذلك كتبت في إطار التربية والتعليم و ضمنت في المقررات المنهجية التي تدرّس الطلاب، فكان الإنتاج ضخماً في هذا الاتجاه لكثرة الطلب، ومن أشهر كتاب هذا النوع من الروايات طه حسين علي الجارم عبد الحميد جودة السحار، وأبو الحسن إبراهيم أبو الحسن، وإبراهيم الترزي، وإبراهيم الأبياري وأحمد كمال زكي (١١).

وفي دراسة تطبيقية للدكتور حلمي القاعود صنّف ثلاثة ألوان للروايات التعليمية التاريخية التي راجت في تلك الحقبة بناءً للهدف من الكتابة، فقد أبدع عبد الحميد جودة السحار في تقديم المعلومات التاريخية في مجموعته الروائية "محمد رسول الله والذين معه"، وللهدف نفسه كتب طه حسين وجرجي زيدان وإبراهيم الأبياري أما الهدف الآخر فكان تعليم الصياغة وأسلوب التعبير من خلال الرواية التاريخية، وانبرى لهذا اللون الكاتب علي الجارم في روايات «غادة رشيد، هاتف من الأندلس، فارس بني حمدان«، وظهرت روايات الترجمة الأدبية لشخصيات أدبية في تاريخنا العربي، و رائد هذا النوع من الكتابة هو الدكتور أحمد كمال زكي في روايات: "الأصمعي والجاحظ"، و"فارس الفرسان" حيث ظهر في هذه الروايات نمط البحث العلمي ملطفاً بالشكل السردي (١٢).

وقد تلى هذا النوع الروائي التاريخي منجز ضخم من الروايات التاريخية التي يمكن أن توسم بأنها ناضجة فنياً، حيث استفاد الجيل الثاني من كتاب الروايات التاريخية من منجز الروائيين المؤسسين، فظهرت أعمال تحفل بالبناء الفني الروائي المتكامل، وما تحتويه من لغة وحوار وحبكة وتشويق مع توظيف الشخصية الروائية بصورتها المباشرة، أو الحدث التاريخي أو استلهام أحدهما، ولعل أكثر كتاب الرواية التاريخية الناضجة هم من كتاب الرواية التاريخية الأولى، وتلتهم مجموعة من الروائيين الذين استلهموا من إنجازات الروائيين الرواد، واستفادوا في الوقت نفسه من معطيات الرواية التاريخية الناضجة في العالم إن الإنتاج الروائي العربي المعاصر، يصل إلى درجة من الأصالة تجعل من المذهل حقاً أن يكون هذا الفن وليد عشرات السنين فحسب، كما تجعل من المتعذر على التفكير العلمي أن يقبل ما يردده الكثيرون من أن هذا الفن مستحدث في أدبنا العربي لا جذور له نقلناه مع ما نقلنا من صور الحضارة الغربية وقلدناه محاكين ما نقلناه ثم بدأنا بعد هذا ننتج ألواناً متفردة من هذا الفن الجديد على أدبنا .... والأدب ليس بدعة تنتقل فتحتذى ثم ما تلبث أن تؤصل نفسها عند المقلدين، إنما الأدب جزء من طبيعة الشعب» (١٣)، ويرى الباحث أن الفن القصصي له أصوله المتجذرة في أصول التراث العربي، وقد لعبت الترجمة في إعادة تشكيل بناء الخطاب الروائي لهذا الفن، ولذا استطاع كتاب الرواية في هذه الفترة أن يكتبوا روايات فنية تحفل بعناصر البناء الروائي المتكامل، واستطاعوا في الوقت نفسه أن يوظفوا أحداثاً تاريخية وشخوصاً لها بصمة في مجرياته بغية معالجة قضايا معاصرة محتفظين في الوقت نفسه بالواقعة التاريخية وطبيعتها.

وفي هذه المرحلة تبنى أصحاب الروايات التاريخية المذهب الرومانسي من خلال حرصهم على تمجيد التاريخ القومي، على نحو ما نجد عند نجيب محفوظ في رواياته التاريخية مثل «عبث الأقدار» ١٩٣٩ و«رادوبيس» ١٩٤٣، وكفاح طيبة« ١٩٤٤، وروايات محمد فريد أبي حديد ومنها «المهلهل» ١٩٤٤، و«أبو الفرسان» ١٩٤٧، وروايات محمد سعيد العريان «على باب زويلة» ١٩٤٥، و«قطر الندى» ١٩٤٥، وبعض روايات علي الجارم مثل «هاتف من الأندلس» وفارس بني حمدان» وعلي أحمد باكثير مثل «إخناتون ونفرتيتي» و»وإسلاماه» (١٤)

وقد أحدث جنوح الرواية إلى الواقعية بقصد تسجيل الواقع المعاش إلى تحول الرواية التاريخية تجاه الواقع بعد أن كانت تبتني إطارها الرومانسي من خلال اعتمادها على الخيال في تشكيل عمقها السردي باعتمادها على الوهم والخيال، وقد بدأت ملامح هذا المذهب تظهر تدريجياً في أوروبا بعد منتصف القرن التاسع عشر ويعرف رينيه ويليك Rene Wellek الواقعية بأنها "هي التمثيل الموضوعي للواقع الاجتماعي المعاصر (١٥)، وقد دار سجال كبير بين أصحاب هذه المذاهب في العالم وقد امتد لأمد طويل ثم سيطرت الواقعية بعد ذلك على كل شيء، وتربعت على عرش الأدب والفن، ودعا روادها ومن أبرزهم شانفلوري إلى رفض كل أشكال الأدب الرومانسي الخيالي (١٦). إن هذا التحول في التفكير السردي دفعته أسئلة شغلت أقلام الروائيين تتمثل في مدى جدوى تدخل الفن الروائي في الحياة السياسية، فيطرح جيسي ماتز نماذج لهذا الطرح فيسأل: «هل يمكن للرواية أن تحقق المتطلبين معاً أن تكون مادة ابتكارية على الصعيد الجمالي وأن تنغمس في معضلات العالم الواقعي وموضوعاته؟ ثم ما هي بعض الوسائل التي تمكنها من فعل هذا الأمر فيما لو حاولت أصلاً أن تفعله؟» (١٧).

الواقعية، وسعت الرواية إلى أن "تعمق صلتها بالحاضر والواقع المعيش، ولم تعد تبدي ذلك الاهتمام المرضي بالحادثة التاريخية، بقدر اهتمامها بما تمنحه الحادثة للراهن (١٨).

لقد تمسكت الرواية التاريخية بالواقع العربي بقوة شديدة، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بالأحداث التي يمر بها الوطن العربي مع مطلع القرن العشرين وما خلفته الحربين العالميتين الأولى والثانية من أحداث اجتماعية وسياسية واقتصادية أدت إلى تمزق الوطن العربي مع الأطماع الاستعمارية الغربية، فضلاً عن الجرح الكبير المستمر المتمثل في الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، لذا سعى الروائيون إلى البحث في النماذج التاريخية المشابهة للواقع المعاش في تلك الفترة؛ ليسقطوا عليها واقعهم؛ سعياً منهم في بعث الأمل الجديد وفي بث روح الأمة العربية والإسلامية رغم ما يعتريها من ضعف وهوان ليزداد وعي وتزداد معه قدرته على التحليل والملاحظة والاستقراء ويصبح مؤهلاً لوعي الواقع وقادراً على تغييره» (١٩)، فقدموا نماذج تاريخية حقيقية مشرقة يمكن أن تكون الأنموذج الذي يُحتذى به لتغيير الواقع الرهيب.

وقد شرعت روايات نجيب محفوظ درباً جديداً واتجاهاً مغايراً للرواية التاريخية في الأدب العربي لتتجاوز مرحلة الاستعانة بالتاريخ لأجل التعليم إلى حقبة أخرى من الكتابة الأدبية التي تستند بالتاريخ وتتوسله لأجل تصوير الواقع، ومناقشة قضاياه، وقد كانت مصر في تلك الفترة خاضعة للاحتلال البريطاني الذي نصّب ملكاً على مصر كان يراه المصريون ظالماً ومتعاوناً مع المحتل هذا الأمر ألقى بظلاله على الحياة عند المصريين، لذا حاول نجيب محفوظ أن يتخفى خلف الرمز التاريخي ويستعين به لأجل الإجابة عن سؤاله: كيف تتخلص من الاحتلال وعملائه؟ لذا كان العصر الفرعوني هو قناع محفوظ الإسقاط واقع الحياة المصرية فكتب "عبث الأقدار" عام ١٩٣٩، ثم رواية "رادوبيس" عام ١٩٤٣، و"كفاح طيبة" عام ١٩٤٤، وحول هذا المنجز الروائي يقول: استوحيت روايتي رادوبيس وعبث الأقدار من أسطورتين، أما كفاح طيبة فقد كانت انعكاساً للظروف التي تمر بها مصر وقتئذ، ولهذا تجد الجوانب التاريخية عندي ضعيفة (٢٠)، وتظهر هنا بوادر محفوظ في الكتابة وتتجلى الإحساس القومي المتولد لدى المصريين ورغبتهم الجامحة في تجاوز الظلم والقضاء على الطغيان والتحرر من قيود الاحتلال.

وفيما لجأ نجيب محفوظ إلى الأساطير الفرعونية رمزاً يسقط عليه مأساوية الواقع المعاش لجأ علي أحمد باكثير إلى التاريخ الإسلامي فكتب خمس روايات تاريخية: «سلامة القس« ١٩٤٤، و«والإسلاماه» عام ١٩٤٥، و«الثائر الأحمر« عام ١٩٤٨، و«سيرة شجاع» عام ١٩٥٦، و«الفارس الجميل« عام ١٩٦٥. هذه الروايات منحت باكثير ريادة الرواية التاريخية الإسلامية؛ فقد التزم فيها بجانبه الفكري الإسلامي منطلقاً للكتابة فضلاً عن تطويره للجانب الفني السردي «اعتمد تكنيكاً جديداً في بناء رواياته، وأفاد كثيراً من التقنيات الفنية المتوفرة آنذاك، فخرجت رواياته بذلك عن المواصفات التقليدية للرواية، وقد بدت هذه الروايات جرأته الفنية في تطوير الشكل والمضمون وتقديم صياغة جديدة لم تُعهد في روايات من قبله» (٢١).

image 1
صورة رمزية للموضوع

وفي الفترة التي كانت الرواية الحديثة الواقعية تأخذ شكلها وأبعادها الفنية في المنجز الروائي العربي كان هناك اتجاه قد فرض وجوده في الكتابة الروائية الغربية، وقد أحدث هذا الاتجاه انقلاباً في طريقة التشكل الروائي، وقد بدت بوادره في التشكل عالمياً في النصف الثاني من القرن العشرين على يد مجموعة من الكتاب الفرنسيين البارزين أمثال: ميشيل بوتور Michel Butor وروب جربيه Robbe-Grillet وناتالي ساروت Nathalie Sarraute حيث، بدأ مصطلح الرواية الجديدة بالبروز في الربع الأخير من القرن العشرين وقد ظهر مصطلح الرواية الجديدة بمصطلحات عدة للمفارقة مع الرواية الحديثة معنى ومبنى منها رواية اللارواية Anti Novel والرواية التجريبية Experimental Novel، ورواية الحساسية الجديدة، والرواية الطليعية والرواية الشيئية، والرواية الجديدة "New Novel" (٢٢).

أما في الوطن العربي فيرى بعض الباحثين أن هزيمة ١٩٦٧ هي بمنزلة الحد الفاصل بين مرحلتين في حياة الرواية في الوطن العربي «فمع الهزيمة سقطت قيم كثيرة، وقد جاءت الهزيمة تعبيراً حاداً وصارخاً عن تفسخ الأيديولوجيا السائدة آنذاك... وبهذا المعنى فإن الهزيمة أحدثت خلخلة في هذه الأبنية، وفي منظومة القيم السائدة، ومنها القيم الفنية والمعايير الجمالية، كما جعلت الشخصية المحلية تهتز من جذورها» (٢٣). فالأسئلة تبدلت وما عادت مهمة الرواية إيهام القارئ بالواقع، فالهزيمة جعلت الروائي يتبنى أيديولوجيات مغايرة، فقد اعتمدت الرواية الجديدة «الشذرات والتداعي الحر، وتقطيع الزمن، واستخدام تقنية تعدد الرواة والصيغ، إيذاناً بإعلان ضرورة نهاية الصوت الأحادي السائد... وكان كل ذلك تجسيداً لقلق وجودي يتمركز حول الذات ضداً على الواقع والمجتمع على اعتبار أنهما سبب في كل ما جرى» (٢٤).

الخاتمة

ذلك موقع السارد فضلاً عن حضور تقنيات حديثة مع بروز التقنيات السينمائية في النص الروائي، لذا نجد اللغة الإيحائية حاضرة وبقوة» لتكون الحكاية فيها مجرّد خلفية يجتهد القارئ في جمع نثارها» (٢٥). ومن هذا نتبين أن الرواية الجديدة شقت طريقها خارج القوالب والأنماط الثابتة للرواية التقليدية بأدواتها الجاهزة واستثمرت ثلاثية المؤلف والنص والقارئ الإبداع روائي معاصر» فالرواية الجديدة لا تناضل ضد اغتراب الإنسان عن طريق مضامينها فحسب بل هي تناضل ضد كل العناصر الصانعة لاغتراب الإنسان عن طريق بنائها، وأساليب السرد فيها أيضاً، بما تمنحه هذه الأساليب وهذا البناء من اهتمام عالٍ بالفرد وبرؤيته الخاصة وللحقائق بتعدد دلالاتها وانفتاحها» (٢٦).

إن كتاب الرواية التاريخية الجديدة لا يضعون الحقيقة التاريخية موضع اهتمامهم الأول بقدر ما يسخرون أدواتهم في تأسيس بناء قائم على الحقيقة السردية التي تتشكل معالمها من خلال فعل الكتابة، لذا لن يعود الزمن الحقيقي الأول يحتفظ بقوته وسطوته على فعل الكتابة بل سيحل مكانه زمن جديد يحمل في تفاصيله فكرة الكاتب وغايته.

نتائج البحث

لم تكن الرواية التاريخية العربية بمعزل عن التطور النوعي الذي ارتبط بالتقنيات الفنية الحديثة في مدرسة الرواية الجديدة بإيجاد مساحة أكبر من الأدبية في بناء الرواية المعاصرة التي استندت على التاريخ مادة لتشكيل روائي ينظر إلى الإبداع بمعزل عن تاريخية الحدث للاستفادة من التجارب الماضية إسقاطاً للحاضر واستشرافاً للمستقبل بتوظيف تقنيات الكتابة الحديثة التي تعالج الماضي وتربط واقع الإنسان بالمستقبل.

وقد ظهر جيل ثالث من كتاب الرواية التاريخية بصورتها المعاصرة في مختلف أصقاع الوطن العربي كتبوا روايات ما زالت دور النشر تعيد طباعتها لأنهم وظفوا أدوات مغايرة وغير معهودة للكتابة أو لأنهم أعادوا طرح القضايا التاريخية بأسلوب معاصر يواكب التطور التقني الحالي.

التوصيات

ونرى أهمية تنفيذ دراسة نقدية حول «روايات تيار الوعي والرواية الجديدة« وعلاقتها بالرواية التاريخية المعاصرة في الأدب العالمي، وكيف استفاد كتاب الرواية العربية من هذا البناء الفني في منجزهم الروائي المعاصر، وذلك من خلال دراسة المتغيرات الحاصلة في البنية السردية للخطاب الروائي.

الهوامش

(١) سعيد علوش، معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط ١، ١٩٨٥، ص ١٠٣.

(٢) مجدي وهبة وكامل المهندس، معجم المصطلحات العربية في اللغة والنقد مكتبة لبنان، بيروت، ط، ١٩٨٤، ص ١٨٤.

(٣) محمد القاضي وآخرون معجم السرديات، دار محمد علي للنشر، تونس، ط ١، ٢٠١٠، ص ٢١١.

(٤) محمد القاضي وآخرون، معجم السرديات، ص ٢١٠.

(٥) زياد الأحمد، مقال العلاقة بين الرواية والتاريخ، ص ١٢.

(٦) نفسه، ص ١٢.

(٧) فيصل دراج، الرواية وتأويل التاريخ، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط ١، ٢٠٠٤، ص ٥.

(٨) حلمي محمد القاعود الرواية التاريخية في أدبنا الحديث، ص ١٥.

(٩) عبد المحسن طه بدر، تطور الرواية العربية الحديثة دار المعارف، القاهرة، ط، د ت ص ١٠٠.

(١٠) جرجي زيدان تاريخ التمدن الإسلامي، مؤسسة هنداوي، القاهرة، ج ١، ٢٠١٢، ص ٧.

(١١) حلمي محمد القاعود الرواية التاريخية في أدبنا الحديث، ص ١٦.

(١٢) نفسه، ص ١٦-١٧.

(١٣) فاروق خورشيد، الرواية العربية (عصر التجميع)، دار الشروق، مصر، ط ٣، ١٩٨٢، ص ٩.

(١٤) عبد البديع عبدالله الرواية الآن، مكتبة الآداب القاهرة، ط ١، ١٩٩٠، ص ١٥-١٦.

(١٥) رينيه ويليك مفاهيم نقدية، تر / محمد عصفور، مطابع الرسالة، الكويت، ١٩٨٧، ص ١٩٧.

(١٦) فيليب فان تيغيم المذاهب الأدبية الكبرى في فرنسا تر فريد أنطونيوس عويدات، بيروت، ط، ١٩٨٣، ص ٢٤١.

(١٧) جيسي ماتز، تطور الرواية الحديثة، تر/ لطفية الدليمي، دار المدى بغداد، ط ١، ٢٠١٦، ص ١٨٨.

(١٨) محبة حاج معتوق، أثر الرواية الواقعية الغربية على الرواية العربية، دار الفكر اللبناني، بيروت، ط١، ١٩٩٤، ص ١٥.

(١٩) جمال الغيطاني، نجيب محفوظ يتذكر، دار المسيرة بيروت ١٩٨٠، ص ٤٤.

(٢٠) المصدر السابق، ص ٤٤.

(٢١) عبدالله الخطيب روايات علي أحمد باكثير قراءة في الرؤية والتشكيل دار المأمون، الأردن، ٢٠٠٩، ص ٨.

(٢٢) يوسف حطيني، مصطلحات السرد في النقد الأدبي، عالم الكتب الحديثة، الأردن، ط ١، ٢٠١٩، ص ١٤٤.

(٢٣) شكري عزيز الماضي، أنماط الرواية العربية الجد، ص ١٤.

المصادر والمراجع

١- جرجي زيدان تاريخ التمدن الإسلامي، مؤسسة هنداوي، القاهرة، ج ١، ٢٠١٢.

٢- جمال الغيطاني نجيب محفوظ يتذكر، دار المسيرة بيروت ١٩٨٠.

٣- جيسي ماتز، تطور الرواية الحديثة، تر/ لطفية الدليمي دار المدى بغداد، ط ١، ٢٠١٦.

٤- حلمي محمد القاعود الرواية التاريخية في أدبنا الحديث.

٥- رينيه ويليك، مفاهيم نقدية، تر / محمد عصفور، مطابع الرسالة، الكويت، ١٩٨٧.

٦- سعيد علوش، معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط ١، ١٩٨٥.

٧- سعيد يقطين قضايا الرواية العربية الجديدة الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ط ١، ٢٠١٢.

٨- شكري عزيز الماضي، أنماط الرواية العربية الجديدة سلسلة عالم المعرفة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآدب الكويت ٢٠٠٨.

٩- عبد البديع عبد الله الرواية الآن، مكتبة الآداب، القاهرة ط١، ١٩٩٠.

١٠- عبدالله الخطيب روايات علي أحمد باكثير قراءة في الرؤية والتشكيل، دار المأمون، الأردن، ٢٠٠٩.

١١- عبد المحسن طه بدر، تطور الرواية العربية الحديثة دار المعارف، القاهرة، ط، د ت.

مواضيع ذات صلة
الأدب العربي العالمي, الرواية العربية, دراسات أدبية,

إرسال تعليق

0 تعليقات