١- النسب والمولد والوفاة
كما حدث عن نفسه فقال:
سمعت أبي رحمه الله – يرد أصلنا إلى الأكراد فالعرب، ويقول إن والده قدم هذه الديار - مصر - يافعًا يحمل وصاة من أحمد باشا الجزار إلى والي مصر محمد علي باشا، وكان جدي وأنا حامل اسمه ولقبه - يحسن كتابة العربية والتركية خطًا وإنشاء، فأدخله الوالي في معينه، ثم تداولت الأيام، وتعاقب الولاة الفخام، وهو يتقلد المراتب العالية، ويتقلب في المناصب السامية، إلى أن أقامه سعيد باشا أمينًا للجمارك المصرية، فكانت وفاته في هذا العمل عن ثروة راضية بددها أبي في سكرة الشباب، ثم عاش بعمله غير نادم ولا محروم. وعشت في ظله وأنا واحدة، أسمع بما كان من سعة رزقه - ولا أراني في ضيق، حتى أندب ذلك السفه، فكأنه رأى لي كما رأى لنفسه من قبل ألا أقتات من فضلات الموتى.
أما جدي لوالدتي فاسمه أحمد بك حليم، ويعرف بالنجدة لي، نسبة إلى نجدة إحدى قرى الأناضول، وفد على هذه البلاد - مصر - فتيًا كذلك، فاستخدمه والي مصر إبراهيم باشا من أول يوم، ثم زوجه بمعتوقة جدتي التي أرثيها في هذه المجموعة، وأصلها من مورة، جلبت منها أسيرة حرب لا شراء، وكانت رفيعة المنزلة عند مولاها، وكان زوجها محبوبًا عنده كذلك، فما زالا كلاهما مغمورين بنعمة هذا البيت الكريم حتى توفي جدي وهو وكيل الخاصة الخديوي إسماعيل باشا، فأمر بنقل مرتبه برمته إلى أرملته، وأن يحسب ذلك معاشًا لا إحسانًا.
وكان الخديوي المشار إليه يقول عنهما:
«لم أر أعف منه ولا أقنع من زوجته، ولو لم يسمه أبي حليمًا لحلمه لسميته عفيفًا لعفته».
وعقب شوقي على هذا بقوله:
«أنا إذن عربي، تركي، يوناني، جركسي يجدتي لأبي، أصول أربعة في فرع مجتمعة، تكفله لها مصر كما كفلت أبويه من قبل... على أنها بلادي، وهي منشئي ومهادي، ومقبرة أجدادي، ولد لي بها أبوان، ولي في ثراها أب وجدان، وببعض هذا تحبب إلى الرجال الأوطان».
٢- النشأة والتعليم والمنفى
نشأ أحمد شوقي منذ طفولته في سعة ورغد وصلة وثيقة بقصر الخديوي إسماعيل. قال:
«أخذتني جدتي لأمي من المهد، وكانت منعمة موسرة، فكفلتني لوالدي، وكانت تحنو عليّ فوق حنوهما، وترى لي مخايل في البر مرجوة. حدثتني أنها دخلت بي على الخديوي إسماعيل وأنا في الثالثة من عمري، وكان بصري لا ينزل عن السماء من اختلال أعصابه، فطلب الخديوي بدرة من الذهب، ثم نثرها على البساط عند قدميه، فوقعت على الذهب أشتغل بجمعه واللعب به، فقال لجدتي: اصنعي معه مثل هذا، فإنه لا يلبث أن يعتاد النظر إلى الأرض. قالت: هذا دواء لا يخرج إلا من صيدليتك يا مولاي، قال: جيئي به إلى متى شئت إلى آخر من ينثر الذهب في مصر».
ولا يزال هذا الارتجاح العصبي في الإبصار يعاودني، وكان المرحوم الشيخ علي الليثي كلما التقت عينه بعيني ينشد هذا المصراع للمتنبي:
محاجر مسك ركبت فوق زئبق.
تعلم شوقي بالمدرسة الابتدائية فالثانوية، وقضى بمدرسة الإدارة – الحقوق – سنتين يدرس القانون، فلما أنشئ بها قسم للترجمة تحول إليه، وأمضى به سنتين أخريين أتم بهما دراسته.
ثم أوفده الخديوي توفيق إلى فرنسا ليدرس القانون والأدب، فقضى هنالك ثلاث سنوات بين باريس ومونبلييه أكمل فيها دراسته، وعاد إلى مصر في ٢٥ نوفمبر سنة ١٨٩٣م، وألحق منذ عودته بقصر الخديوي توفيق ثم بقصر ابنه الخديوي عباس.
فلما خلع الخديوي عباس، وقامت الحرب العالمية الأولى سنة ١٩١٤م أشار الإنجليز بنفي شوقي من مصر، وخيرته الحكومة القائمة فاختار إسبانيا، ولم يعد إلا في سنة ١٩٢٠م.
٣- الأحداث الوطنية والسياسية
شهد شوقي أحداثًا شتى مرت بمصر، فأدرك ما كان قبل الاحتلال من شبه استقلال، وعاصر الثورة العرابية، وشاهد الاحتلال الإنجليزي لمصر، ثم عاصر اليقظة الوطنية بزعامة مصطفى كامل ومحمد فريد وانضم إليها، وآزرها بشعره.
فلما عاد من المنفى يوم ١٩ فبراير سنة ١٩٢٠م في أعقاب ثورة مصر سنة ١٩١٩م مجد الثورة مرات، وأشاد بالجهاد والمجاهدين، وحمل على الاحتلال وهو بالمنفى وبعد أن عاد من المنفى.
ولقد كان على صلة قديمة وثيقة بـسعد زغلول وبكثير من رجالات الوطنية، غير متشيع لفريق على فريق، ولا لحزب على حزب، لهذا لما انقسم المناضلون شيعًا لم ينضم إلى شيعة منهم، بل آثر الحيدة المطلقة والهتاف بمصر والتغني بها ولها.
وكان الزعماء جميعًا يكرمونه ويقدمونه. وقد رأى سعد زغلول باشا من تقدير شوقي وتكريمه أن يرشحه عضوًا بمجلس الشيوخ عن دائرة سيناء، وكان اختيار هذه الدائرة موفقًا، لأنها مهبط دين ومسرى وحي، ولأنها لا تحتاج إلى نضال حزبي أو صراع انتخابي، وقد نجح شوقي بالتزكية.
وعاش بعد ذلك يرقب الجهاد الوطني الذي يثب تارة فيغني له شوقي ويستحث خطاه، ويتعثر تارة فيأسى له شوقي، لكنه لا ييأس من النصر والنجاة.
٤- الأحداث الإسلامية والإصلاحية
كذلك عاصر شوقي الأحداث الجسام التي مرت بالعالم الإسلامي. فقد كانت تركيا - دولة الخلافة الإسلامية آنئذ - تنحدر من عليائها، وتفقد كثيرًا من ولاياتها:
- تخلت عن الجزائر لفرنسا سنة ١٨٣٠م.
- انسلخت منها ولايات أوروبية بمعاهدة برلين سنة ١٨٧٨م.
- تركت تونس لفرنسا سنة ١٨٨١م.
- حلت إنجلترا محلها في مصر والسودان سنة ١٨٨٢م.
- صار لفرنسا النفوذ في مراكش منذ سنة ١٩٠٤م.
- احتلت إيطاليا طرابلس سنة ١٩١٢م.
وكانت الدول الإسلامية المستقلة كالأفغان وإيران لا تسلم من حيل الاستعمار وألاعيبه.
واقترن هذا الضعف السياسي في الشعوب الإسلامية بالجهل والتخلف الاجتماعي والاقتصادي، ونجم عن هذا كله خضوع للخرافات والأوهام، ومجافاة لروح الإسلام. لهذا هب دعاة الإصلاح كـجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم، فصاحوا بالمسلمين أن ينهضوا من عثرتهم، وحضوهم على الكفاح، وحببوا إليهم الحرية والعلم، وأهابوا بهم أن يرجعوا إلى الإسلام الصحيح، ويعملوا بتعاليمه، وينبذوا الأباطيل التي رانت على بصائرهم وأبصارهم، وردوا على خصوم الإسلام ما وجهوا إليه من مفتريات.
![]() |
| مشهد خيالي لحافظ إبراهيم وأحمد شوقي وهما يتحدثان مع بعضهما البعض على ضفة النيل. |
كان هذا ينبوعًا آخر استقى منه شوقي، فهو مسلم معتز بدينه، وهو غيور على الإسلام أن يتهجم عليه خصومه، وغيور على المسلمين يحزنه تخلفهم عن الأخذ بأساليب القوة والعزة والمجد، ويؤلمه أشد الألم أن يرى ديارهم محتلة، وأمورهم مختلة، وشؤونهم كلها معتلة، وهو متأثر بالدعوات الإصلاحية التي كانت تتجاوب بها المجتمعات الراقية، والصحف الوطنية، والكتب الهادية.
٥- حب الشعر والآراء فيه
ولد شوقي مفطورًا على حب الشعر والتعلق به وقراءته وحفظه وقوله منذ كان طالبًا في مدرسة الحقوق، وكثيرًا ما باهى بشعره، كقوله موجهًا الخطاب إلى الخليفة العثماني:
لي في ثنائك وهو باق خالدشعره على الشعري المنيعة زارى
وقوله يخاطب أم المحسنين:
لا ترومي غير شعريإن شعري درجات الخالدين
وهو حينًا يطلق على نفسه اسم شاعر قديم، كقوله يخاطب السلطان عبد الحميد، ويسمي نفسه أبا نواس:
ملكت أمير المؤمنين ابن هانئبفضل له الألباب ممتلكات
أو يسمي نفسه حسان بن ثابت كقوله في القصيدة نفسها:
وما زلت حسان المقام ولم تزلتليني وتسري منك لي النفحات
وقد يفضل نفسه على الشعراء السابقين جميعًا، كقوله في وصف مرقص بقصر عابدين:
هاك مدحة الشعراء الأربلم يجئ بها شاعر ذهب
وقوله:
ولي درر الأخلاق في المدح والهوىوللمتنبي درة وحصاة
وقد لام الشعراء الذين أولعوا بالصناعة وآثروا ظلمات الكلفة والتعقيد، ولام الشعراء الجامدين الذين قيدوا أنفسهم بالقديم على قدمه، فوصفوا النوق على غير ما عهدها عليه العرب، وأتوا المنازل من غير أبوابها، وحمل على الشعراء الذين زعموا أن أحسن الشعر ما كان بواد والحقيقة بواد آخر.
كما جرح الشعراء الذين اتخذوا الشعر حرفة للكسب والتجارة، إذا شاء الملوك ربحت، وإذا شاء واخسرت، فلما لم يحقق لهم الشعر ما أرادوا ذموه، وزعموا أنه مجلبة للشقاء.
ورأى أن أمام الشعراء ملكًا كبيرًا خلقوا ليتغنوا بمدحه، ويفتنوا بوصفه، وهذا الملك هو الكون، فالشاعر من وقف بين الثريا والثرى، يقلب إحدى عينيه في الذر، ويجيل أخرى في الذرى، يأسر الطير ويطلقه، ويكلم الجماد وينطقه، ويقف على النبات وقفة الطل، ويمر بالعراء مرور الوبل، فهنالك ينفسح له مجال التخيل، ويتسع له مكان القول.
ويستفيد من جهة علمًا لا تحويه الكتب، ولا تعيه صدور العلماء، ومن جهة أخرى يجد من الشعر مسليًا في الهم، ومنجيًا من الغم... ومن جهة ثالثة لا يلبث أن يفتح الله عليه، فإذا الخاطر أسرع، والقول أسهل، والقلم أجرى، والمادة أغزر... أو لم يكن من الغبن على الشعر والأمة العربية أن يحيا المتنبي مثلاً حياته العالية التي بلغ فيها إلى أقصى الشباب، ثم يموت عن نحو مئتي صفحة من الشعر، تسعة أعشارها لممدوحيه، والعشر الباقي وهو الحكمة والوصف للناس.
ولم ينس شوقي أن يعقب على هذا بقوله:
هنا يسأل سائل: ما بالك تنهى عن خلق وتأتي مثله؟فأجيب بأني قرعت أبواب الشعر وأنا لا أعلم من حقيقته ما أعلمه اليوم... ثم طلبت العلم في أوروبا. فوجدت فيها نور السبيل من أول يوم... فجعلت أبعث بقصائد المديح من أوروبا مملوءة من جديد المعاني وحديث الأساليب بقدر الإمكان. إلى أن رفعت إلى الخديوي توفيق قصيدتي التي أقول في مطلعها:خدعوها بقولهم حسناءوالغواني يغرهن الثناء
على أنه يذكر أن الخديوي توفيق أرسل إليه يشجعه على أن يأتي من مدينة النور - باريس - بقبس تستضيء به الآداب العربية... فترجمت القصيدة المسماة بالبحيرة من نظم لامارتين، وأرسلتها إلى حسين رشدي باشا ليرفعها إلى الخديوي.
وجربت نظم الحكايات على طريقة لافونتين.
والخلاصة أنني كنت ولا أزال ألوي الشعر على كل مطلب، وأذهب من فضائه الواسع في كل مذهب.
ولقد نصح شوقي للمشتغلين بالشعر من أبناء الوطن العربي أن يراعوا أمورًا ثلاثة:
- ثقة الإنسان أن الشعر في طباعه.
- الاستزادة من العلوم والتجارب.
- ألا يتخذ الشعر وسيلة للكسب.
٦- فنونه الشعرية وإمارة الشعر
تغنى شوقي على أوتار شتى من قيثارته، فترنم بوصف الطبيعة والآثار والمخترعات الحديثة. وقال قصائد كثيرة في السياسة، والوطنية، والاجتماع، والمديح، والهجاء، والرثاء، والدعابة، والتاريخ، والدين، والأخلاق، وصاغ أناشيد وأقاصيص للأطفال.
وله فضل السبق إلى الشعر المسرحي.
وإذا ما رجعنا إلى مناسبات كثيرة من قصائده وجدناه لسان مصر الطليق البليغ المعبر عن آمالها وآلامها، ولسان العروبة الناطق بمشاعرها، وترجمان الإسلام والمسلمين.
ولقد كانت مدائحه ومراثيه بعد نفيه بخاصة إشادة برجالات الوطنية والسياسة والإصلاح والجهاد في مصر وفي العالم العربي والإسلامي... فانطلق يغرد لمصر وللعروبة وللإسلام بصوت أقوى، ونغم أشجى، ونفس أطول، وعاطفة أحد وأمضى، فاستحق أن يجتمع شعراء الأمة العربية في مهرجان كبير بالقاهرة سنة ١٩٢٧م بعد طبع ديوانه الطبعة الثانية ويبايعوه بإمارة الشعر في حفل كبير بدار الأوبرا تحت رعاية الملك فؤاد ورئاسة سعد باشا زغلول.
فصار يلقب بـأمير الشعراء - وكان يؤثر لقب أمير الشعر – وأنشد حافظ إبراهيم قصيدة بارعة في الاحتفال، بايعه فيها بإمارة الشعر جهارًا على ملأ كبير من الشعراء والمحتفلين، فقال:
أمير القوافي قد أتيت مبايعًاوهذي وفود الشرق قد بايعت معي
لهذا حق الشوقي أن يقول في قصيدته التي حيا فيها مكرميه وشكر لهم:
رب جار تلفتت مصر توليهسؤال الكريم عن جيرانهبعثني معزيًا بما قيوطني أو مهنئًا بلسانهكان شعري الغناء في فرح الشرقوكان العزاء في أحزانه
لكن أمير الشعراء أو أمير الشعر تعود ألا يلقي شعره، فقد كان خجولاً رقيق الصوت، فكان يلقي قصائده أفراد اختارهم، منهم الأستاذ عبد الله فكري أباظة، والأستاذ علي الجارم، والأستاذ محمد خلف الله أحمد والدكتور محجوب ثابت.
ولا يصح أن يتوهم أحد أن الشعر الديني لـشوقي مرتبط بشيخوخته...
ومن مفاخر شوقي ومآثره الخالدة أنه ابتكر الشعر المسرحي في قصص طويلة كاملة مثلت على المسارح هي:
- مصرع كليوباترة
- مجنون ليلى
- قمبيز
- علي بك الكبير
- الست هدى
كما أنه ألف مسرحيات نثرية، هي:
- عذراء الهند (سنة ١٨٩٧م)
- لادياس أو آخر الفراعنة (سنة ١٨٩٨م)
- وردة الآس (نثر غير مسجوع)
- أميرة الأندلس (نثر غير مسجوع، ألفها قبيل وفاته)
وما من شك في أنه ما زال الأستاذ الكبير والرائد الأول إلى الشعر المسرحي...
وحسبي في هذا المقام أن أستشهد بخليفته في الشعر المسرحي عزيز أباظة، فقد قدر شوقي في قوله:
«ثم أراد الله للشعر المسرحي أن يعرف في العربية ويزدهر، فهدى إليه شوقي شاعرنا الخالد فعالجه، واستطاع قبل أن يختاره الله لجواره ببضع سنوات أن يزف للشرق العربي مسرحياته النفائس».
... وما زالت أفانين شعر شوقي تهتف بالدارسين أن يتجهوا إلى دراستها، معتمدين على شعره، ومتذرعين بالإنصاف المطلق... فإنه لا بقاء لغير الحق.
المصادر
(۱) مقدمة الشوقيات طبعة ۱۹۹۸ صفحة ١٥ قال أنا اليوم أحبو إلى الثلاثين ، وكان ذلك سنة ١٩٩٨
(۲) القصيدة التي مطلعها :
خلقنا للحياة وللممات
ومن هذين كل الحادثات
(۳) مقدمة الشوقيات طبعة ۱۸۹۸ صفحة ١٥ .
(٤) أبى شوقى ١٣٦ .
(٥) مقدمة الشوقيات طبعة ۸۹۸ صفحة ٧ .
(٦) مقدمة الشوقيات طبعة ۸۹۸ صفحة ٧ .
(۷) من محاضرة لعزيز أباظة موضوعها شوقى ومسرح الشعر ألقاها بمعهد الدراسات والإحصاء في ٦ يناير . ۱۹۷۳

0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا