إعداد: د. / صالح سالم سليمان الصاعدي
أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية جامعة الأمير سطام بن عبد العزيز المملكة العربية السعودية
المصدر: للمجلة العلمية بكلية الآداب، العدد ٥٧ أكتوبر لسنة ٢٠٢٤
الملخص:
تسعى هذه الدراسة إلى الكشف عن مراحل نشأة الرواية في الأدب العربي الحديث وتطورها بصفة عامة وفي الرواية السعودية بصفة خاصة، فالرواية فن مستقل له ميزاته وحضوره في الثقافة العربية والغربية، فقد أصبحت الآن تكتب بجميع اللغات، وتناقش كل القضايا وتهدف إلى تغذية كل الثقافات البشرية، فهي فن أدبي عالمي مر بمراحل متعددة كغيره من الفنون الأدبية منذ النشأة وحتى النمو والازدهار.
هذا وقد توصلت الدراسة إلى العديد من النتائج، جاء من أهمها أن الرواية السعودية مرت بأربع مراحل في تطورها، وهي مرحلة النشأة، ومرحلة التأسيس، ومرحلة الانطلاق، ومرحلة التحولات الكبرى، ويمكن لنا أن نجد هذه المراحل بأشكال متعددة في تاريخ الرواية العربية أيضًا؛ ف(التمرحل) سمة تكتنف تطور وتغير الفكر البشري والآداب العالمية، ولا يمكن أن نغفل دور الجوائز وأثره على الإبداع؛ ليس فقط في الحث على الكتابة الإبداعية فقط بل في إطلاعنا على العديد من الروائيين وأعمالهم السردية التي يتم ترشيحها للجائزة، ولهذا فإن الجوائز المهتمة بالرواية العربية سبب أساس في تطويرها والأخذ بها على سبيل التميز والإبداع؛ مع عدم غفلتنا عن أثر الجوائز السيئ في تحوير اتجاه الإبداع إلى فكرانية الجائزة واتجاهها إلا أننا نتلمس الجانب الإيجابي لها.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد عليه وعلى آله وصحابته الكرام أفضل الصلوات وأتم التسليم، ثم أما بعد
فإن البحث في الرواية العربية يضعنا إزاء مصطلحين: (السرد) و(الرواية)؛ وقد شكل هذان المصطلحان إثارة مهمة في دراسة الأجناس الأدبية، وتطور البحث فيهما حتى وصلنا إلى (السردية) أو (نظرية السرد). والأكثر دلالة على هذه الإثارة المعرفية في دراسات الأدب هو تلقي الرواية كفن أدبي من جميع الثقافات البشرية حتى صارت اليوم تكتب في كل الثقافات وليست العربية فقط.
ولهذا فإن الحديث عن الرواية (والعرب يدل على اهتمام بالسرد عمومًا وبفن الرواية في الثقافة العربية؛ وكيف تلقاها المبدعون العرب؟ وما الذي يمكن أن يضيفوه عليها؟! وهل هم سابقون لها أم مقلدون؟! وهل نجح تقليدها كنجاحها عند منتجيها؟!، ولعل الدراسة في هذه الورقة تحاول الإجابة عن هذه الأسئلة المهمة في علاقة المبدعين العرب بالرواية.
أهمية الدراسة:
تكمن أهمية هذه الدراسة في الكشف عن مراحل نشأة الرواية العربية وتطورها، والحديث عن الرواية السعودية بصفة خاصة وعلاقتها بالمنجز الروائي العربي، مع بيان أثر الجوائز التشجيعية والتحفيزية على الرواية وكتابها.
منهج الدراسة:
أما عن المنهج المتبع في هذه الدراسة فقد اتبعتُ عدة مناهج منها المنهج التاريخي عند الحديث عن مراحل التطور والنشأة والمنهج الوصفي التحليلي في التعامل مع الأدوات الفنية والنصوص الروائية عند الكتاب، فالمنهج المتبع في هذه الدراسة منهج متكامل مكون من عدة مناهج مختلفة تعمل جميعها على إبراز مدى تطور الرواية العربية.
خطة الدراسة:
ومناقشتي للرواية العربية في هذه الدراسة ستكون في عدة محاور بعد المقدمة والتي تناولت فيها أهمية الدراسة والمنهج المتبع في الدراسة وخطتها
المحور الأول: نشأة الرواية العربية
أولًا: التعريب بوابة الإبداع.
بدأ الاهتمام بالرواية الغربية من خلال التعريب؛ والتعريب هنا هو درجة أقل من الترجمة؛ لأن التعريب يمكن له التصرف في العمل الإبداعي بالتغيير؛ كتغيير الشخصيات والمكان والزمان بينما تكون الفكرة ذاتها أو متقاربة.
وقد كان التعريب في بداياته يوافق النهج العربي من خلال الاهتمام بالمواضيع الأخلاقية التي تعزز القيم؛ وقد كان المعرّبون يختارون من الروايات الغربية تلك التي توافق نسق المرويات السردية... وبالموضوعات الرومانسية التي تتخللها حكاية حب لها مغزى قيمي واعتباري؛ وتجسد بصورة ما موضوع الصراع بين الخير والشر "(1)".
وقد قام التعريب في بدايته ليس على دقة الترجمة بل اجتاحته تغييرات عديدة؛ وقد أسهمت الصحف العربية في القرن التاسع عشر دورًا مهمًا رياديًا في إمكانية تعريب الروايات الغربية؛ كصحيفة (حديقة الأخبار) التي عرّب فيها (سليم نوفل) رواية (المركيز دي فونتاج) ورواية (الجرجسين) دون أن يذكر اسم الروائي الذي أبدعها (2).
وكذلك العديد من التعريبات كتعريب محمد مصطفى لرواية (فولتير) التي صدرت عام ١٨٤٢؛ وتعريب (بطرس البستاني) لرواية (روبنسون كروزو) ل(دانيال ديفو). واشتهر بين النقاد أن أول رواية تم تعريبها هي رواية (تليماك) التي عربها رفاعة الطهطاوي لكن عبد الله إبراهيم يخالف في هذا ويعرض للكثير من سبقه بالتعريب بالخصوص المنشورة في الجرائد في تلك الفترة (3). وقد عرّبت العديد من الروايات المشهورة كرواية (البؤساء) التي عربها حافظ إبراهيم؛ ورواية (آلام فرتر) ل(غوته) التي ترجمها الزيات، وقد عرّب المنفلوطي مسرحية لفرانسوا كوبيه وحولها إلى رواية بعنوان (في سبيل التاج)؛ وعرّب رواية (تحت الزيزفون) لألفونس كار بعنوان (ماجدولين) لكنه أضاف عليها الكثير من الأحداث التي لم تكن موجودة في الرواية الأصل (4).
ولهذا فإن التعريب فتح مجالًا شاسعًا في العمل الروائي العربي؛ وأتاح فرصة كبرى للمبدعين العرب أن يقدموا الرواية كمنتج أدبي عربي مستقل عن موضوعات الرواية الغربية.
ثانيًا: مقدمات الإبداع الروائي العربي.
الكتابة عن السرد العربي الحديث لا يعني عدم حضوره في التراث العربي؛ فحضور السرد شامل للثقافات البشرية؛ لا تتميز به ثقافة عن ثقافة أو حضارة عن حضارة. فالسرد "أضخم ديوان للعرب"(5)؛ وهو موجود كإبداع لكنه حديث كتنظير مثله مثل التناص (6)، فنجد السرد مبثوثًا في كتب
الأدب والنقد قديمًا كالبيان والتبيين للجاحظ والأغاني للأصبهاني وغيرها (7)، ولهذا فإن السرد ليس حديثًا بل تقنيات الرواية بمفهومها الحديث يمكن أن نرى تميزها بين الثقافات؛ كما هي عند الأدب الغربي.
ويرى غنيمي هلال أن القصة العربية (ويقصد الرواية مرت بأربع مراحل وهي (8):
1- التأثر بالتراث العربي كألف ليلة وليلة؛ كليلة ودمنة المقامة العربية؛ ويعطي أمثلة ب(حديث عيسى بن هشام لالمويلحي).
وفي أواخر التاسع عشر وأوائل العشرين بدأ بتعريب" موضوعات القصص الغربية وتكييفها لتطابق الميول الشعبية؛ كتعريب الطهطاوي والمنفلوطي وحافظ إبراهيم.
وفي مرحلة أخرى "نهض الوعي الأدبي ونهض الجمهور ثقافيًا؛ فتطلب الترجمة الصحيحة" كترجمات طه حسين وعبد الرحمن بدوي وغيرهم
- "وأخيرًا" بدأت القصة العربية تتأثر بالاتجاهات الفلسفية والواقعية في معالجة الحقائق الكبرى أو المشكلات الاجتماعية؛ كقصة (أنا الشعب محمد فريد أبو حديد؛ (عودة الروح) توفيق الحكيم، (الأرض) عبد الرحمن الشرقاوي، قصص نجيب محفوظ.
وقد بدأ الاهتمام بالعمل الروائي في الأدب العربي مع ظهور الجرائد في منتصف القرن التاسع عشر؛ فنجد أن المجلات اهتمت بها نشرًا ونقدًا وتقريضًا؛ فهناك تحليلات نقدية مفصلة لأكثر من ٣٦٠ رواية قبل عام ١٩١٤م؛ منها أكثر من ٢٠٠ رواية معربة؛ وأكثر من ١٦٠ مؤلفة (9)
ومما يدل على الاهتمام بالرواية في منتصف القرن التاسع عشر نجد مؤلفات اهتمت بالنقد الروائي ولم تقتصر على تقريضات الجرائد؛ ومنها كتاب كلمات في علم الروايات لحكمت شريف عام ١٨٩٤م.
وعند نقاش (الأولية) في الرواية العربية فإننا نجد الخلاف الواسع بين النقاد ومؤرخي النقد حول الرواية العربية الأولى في العصر الحديث؛ فمنهم القائل بأولية رواية (زينب) لمحمد هيكل؛ بينما يرى البعض أولية رواية (وي، إذن لست إفرنجي) لخليل الخوري ١٨٦٠م.
و يرفض عبدالله إبراهيم (10) جعل رواية (زينب) هي الأولى في الرواية العربية من عدة اتجاهات؛ فنية وتاريخية وموضوعية، فمن الناحية التاريخية فإنه يسبقها العديد من الروايات المنشورة منذ عام ١٨٦٠ م حتى عام ١٩١٢م تاريخ رواية (زينب) (11)؛ ومما يسبقها رواية خليل الخوري (وي؛ إذن لست إفرنجي) ١٨٦٠م؛ ورواية (غابة الحق) لمراش ١٨٦٥م؛ ثم روايات سليم البستاني بين عامي ١٨٧٠ م - ١٨٧٨ م منشورة في مجلته (الجنان)؛ وأيضًا روايات تسبق (زينب) بسنوات قليلة كرواية (عذراء دنشواي) محمود طاهر ١٩٠٦م، ورواية (القصاص) حياة عبد الحميد البوقرقاصي ١٩٠٥م، وروايتي (الأميرة يراعة - ابنتي سنية) ١٩١٠م. وهذا العرض للجانب التاريخي يدل على عدم أسبقيتها التاريخية.
ومن الناحية الموضوعية فقد نفى عبد المحسن بدر كون رواية (زينب) هي الأسبق في موضوع الريف من الناحية المكانية في السرد؛ وقد سبقه محمود خيرت بروايتيه (الفتى الريفي - الفتاة الريفية) بين عامي ١٩٠٣ - ١٩٠٥م.
وأما الناحية الفنية فيرفض عبد الله إبراهيم كونها الرواية المؤسسة فنيًا للرواية العربية؛ بل يعتبرها "آخر النصوص في الحقبة التأسيسية "(12)؛ كما أنها "لوحة إنشائية شديدة الاضطراب في سردها؛ فصيغ السرد تتصف بفوضى لا يمكن ضبطها (13)، وهي بهذا تسقط من كونها الرواية العربية الأولى من عدة اتجاهات موضوعية وفنية وتاريخية.
وبرأيي أن البحث في الأولية يدل على انفصال عن التراث السردي العربي؛ وكأن السرد العربي انبثق في مرحلة معاصرة بعيدًا عن تطوره في التراث العربي؛ وبالتالي فإن البحث عن إمكانية تطوره عبر السرد العربي يكون أكثر نجعة من البحث في أوليته لإثبات تأثره الغربي؛ وهذا لا يعني عدم التأثر والتأثير بقدر ما يعني البحث في إمكان التطور.
ثالثًا: التأثر الغربي:
يمكن لنا أن نعيد القول في التأثر بالرواية الغربية إلى عدة اتجاهات اهتم بها النقاد العرب على النحو الآتي:
1 - عدد كبير من النقاد يعتبرون الرواية العربية ذات منشأ غربي؛ بدأ بالتعريب ثم بالترجمة؛ ومنهم مارون عبود، يحيى حقي سهيل إدريس، جورجي زيدان؛ محمد غنيمي هلال وغيرهم)؛ فيرى غنيمي هلال أنه: " أننا اتجهنا نحو الأدب القصصي - مسرحيًا- كان أم غير مسرحي - بفضل تأثرها بالآداب الغربية في العصر الحديث (14).
2 - وهناك من يرى أن القول بالتأثر الغربي إنما هو " من تحيزات الخطاب الاستعماري"(15)؛ ويرفض كونها نشأت من خلال تأثرها الغربي بل هي نتاج تطور سردي عربي على مر تاريخ السرد العربي منذ التراث القديم حتى الآن. ويستشهد على عدم تأثرها بالرواية الغربية أنه لا تكاد توجد رواية في مرحلة التعريب خضعت للرواية الغربية تمامًا بل دخل عليها التغيير لموافقة الثقافة العربية كما عند المنفلوطي (16).
وضمن الاتجاه الذي يرفض نشأتها بالتأثر الغربي نجد من يعيد النشأة إلى تطور السرد العربي حتى وصل إلى العمل الروائي؛ فهي على مراحل عدة (17):
أولًا: مرحلة كتب الأخبار التي ظهرت في العصر الأموي واستمرت إلى العصر العباسي... ككتب وهب بن منبه، وابن هشام.
ثانيًا: مرحلة التأليف المعاصر لأواخر العصر الأموي وأوائل العباسي؛ ككليلة ودمنة؛ وسيرة ابن إسحاق.
ثالثًا: القصص الشعبي المجمع في أمثال كتاب ألف ليلة وليلة.
رابعًا: صورة الرواية في سيرة عنترة؛ وذات الهمة؛ والظاهر بيبرس وغيرها.
و هناك من حاول التوفيق بين الرأيين ك روجر ألن الذي يعتبرها جاءت من خلال تلاقح التراث العربي الكلاسيكي بالثقافة والرواية الغربية؛ بل إنه يعتبرها حافزًا في تطوير الرواية في العالم وليس فقط متأثرة بالغربي (18).
رابعًا: التطور والتغيير
يلحظ الناقد تطور مسيرة الرواية العربية منذ نشأتها حتى المرحلة الآنية؛ وتنوع هذا التطور بين التقني الفني والموضوعي؛ واتبعت آليات السرد التي ناقشها النقاد منذ النشأة حتى الرواية المعاصرة؛ وقد اهتم العديد من النقاد بهذا التطور كما نجده عند شكري عياد
يرى أن الرواية العربية تنقلت بين ثلاثة أنماط أو مراحل وهي (19):
أ- الرواية التقليدية ومن ملامحها الاهتمام بالوقائع أو الأحداث أكبر بكثير من الاهتمام بالشخصيات وقسماتها (20)، وقد هيمنت على حقل الرواية (يقصد العربية عقودًا زمنية متعددة (21).
ب- الرواية الحديثة وتتمثل في تجسيد رؤية فنية؛ أي تفسير فني للعالم؛ والرؤية كشف جديد لعلاقات خفية؛ ومن خلال هذا الكشف الجديد تتولد المتعة أو التشويق والجاذبية (22)؛ وهناك عوامل عدة أثرت في تحول الرواية من التقليدية إلى الحديثة منها التأثر الغربي؛ اتساع القاعدة المادية لفن الرواية كزيادة تعداد السكان وغيرها من العوامل.
ج- الرواية الجديدة وقد ركز عياد بحثه عليها؛ وهي تهتم بتجسيد لرؤية لا يقينية للعالم "(23)؛ وقد تعددت أسماؤها (رواية اللارواية - الطليعية - الشيئية وغيرها. وتعمد على كسر التسلسل
الزمني؛ وتستند إلى جماليات التفكيك؛ وقد أثرت عوامل عدة في عالمنا العربي في بزوغ الرواية الجديدة منها: الانفتاح على التراث القصصي القديم؛ هزيمة ١٩٦٧م، التأثر بالرواية الغربية (24).
ونجد طرحًا آخر لتطور الرواية العربية ومستقبلها عند يمنى العيد التي ترى هذا التطور مستقبليًا يكمن في فرعين التوثيق التاريخي في الرواية؛ والسرد السيرذاتي؛ إذ يمكن القول بأن الرواية المستعينة بالتوثيق المحيل على التاريخ المكتوب... تبدو أفقًا مستقبليًا للرواية العربية، غير أن ذلك لا يعني أنها الأفق الوحيد؛ إذ تبدو رواية السيرة الذاتية... أفقًا آخر تتجه نحوه الرواية (25)؛ وتكتب يمنى العيد هذا الاستشراف المستقبلي للرواية العربية في العام ٢٠٠٦ م؛ مع اتكائها على تنظيرات ما بعد الحداثة التي أشارت إليها باقتضاب إلا أن هذه النظرة تحصر الرواية العربية في مجالين محددين ضمن أجناسية الرواية عمومًا وهما الرواية التاريخية؛ والسيرذاتي ولا تفتح المجال لتطور أكثر اتساعًا لما يمكن أن تبحث فيه الرواية العربية خلال مسيرتها التطورية.
وربما نجد الثيمة الأكثر حضورًا في الرواية العربية تكمن في (الواقعية)؛ والواقعية هنا تُسرد بحسب رأي الروائي؛ فهي تحكي الواقع من منظور المبدع، ونجد هذا منذ أواسط القرن العشرين مع نجيب محفوظ ومن بعده من الروائيين الذين تأثروا به كثيرًا حتى مرحلتنا المعاصرة؛ والواقعية في السرد حينما تتضمن الترميز تعطي له وهجًا نحو التفكير والتأويل؛ وتتحول من كونها تسجيلية إلى ناقدة أو ساخرة فتحفز المتلقي على المشاركة في العمل السردي من خلال التأويل؛ ولنا مثال في هذا مع رواية (فرانكشتاين في بغداد) لأحمد السعداوي؛ التي مزجت الواقع البئيس للتقتيل في العراق مع الترميز بشخصية (فرانكشتاين) الذي جمع أشلاءه من الجثث التي قضى عليها الحرب، ولهذا فإنه يمكن لنا أن نفكر في الواقعية التي عمت الرواية العربية عند عبد الرحمن منيف؛ إميل حبيبي؛ أمين تاج السر؛ اسيني الأعرج؛ حتى الرواية في السعودية، من خلال المزاوجة بين العجائبي والواقعي؛ لننظر للواقع من خلال الترميز / التأويل حتى نُشرك المتلقي في التفكير في العمل السردي.
كما أننا نجد ثيمة أخرى بزغت في الرواية العربية المعاصرة منذ سنوات عدة وهي حضور الحرب في الرواية؛ ونلحظ هذا الحضور في العديد من الروايات كرواية (بائع الكتب في حرب العراق مع أمريكا) و(السبيليات) في حرب العراق مع إيران؛ فرانكشتاين في بغداد في حرب العراق مع أمريكا؛ (القارورة) حرب الكويت مع العراق (مملكة الفراشة) في حرب الجزائر، وقد تم ترشيح العديد من هذه الروايات لالبوكر؛ وفاز بعضها في البوكر (فرانكشتاين في بغداد)؛ وفازت (مملكة الفراشة) بجائزة كتارا.
ومما يغيب كثيرًا عن ساحة الرواية العربية؛ تفلسفها، فالسرد له تواشج إيجابي ومهم مع التفلسف والفلسفة؛ إلا أننا نكاد لا نجد هذا التفلسف؛ وحضوره يكون قليلًا إن لم يكن نادرًا؛ بل هو شبه معدوم في الرواية السعودية؛ مع إمكانية توظيف فلسفة الدين بها أكثر من غيرها لحضوره وتمكنه من الفكر في السعودية؛ وسرد الدين والتدين في السعودية يظهر على ضعف؛ ومناقشته ربما تنحصر في آليات معينة تفرضها السلطتان الدينية والسياسية؛ مع إمكان سرد فلسفة الدين بشكل أكثر عمقًا من رجل هيئة الأمر المعروف والنهي عن المنكر الذي يلاحق الشباب والبنات.
المحور الثاني: الرواية في السعودية وعلاقاتها بالمنجز الروائي العربي
ينطلق اهتمام الباحث بالرواية في السعودية باعتبارها رواية عربية أولًا؛ ثم هي الرواية التي تصدر من إقليمنا الجغرافي وثقافتنا في السعودية؛ وبهذين المنظورين حاولت مقاربة تطور الرواية في السعودية.
وقد أعاد الدكتور حسن النعمي تطورها في السعودية إلى أربع مراحل
أولًا: مرحلة النشأة:
وهي التي نشأت مع رواية (التوأمان) لعبد القدوس الأنصاري في عام ١٩٣٠م؛ ورواية (فكرة) لأحمد السباعي ١٩٤٧ م ورواية (العبث) لمحمد مغربي ١٩٤٨م.
وتتسم هذه المرحلة الممتدة من العام ١٩٣٠ م إلى ١٩٥٤م بقلة الإنتاج الروائي؛ بالإضافة إلى ضعف المستوى الفني؛ كما غلبت على هذه الروايات النزعة الإصلاحية الاجتماعية (26).
ثانيًا: مرحلة التأسيس:
وهي المرحلة الممتدة منذ ١٩٥٤ م حتى نهاية السبعينيات الميلادية، والرواية المؤسسة لهذه المرحلة هي رواية (ثمن التضحية) لحامد دمنهوري ١٩٥٩م "حيث شكلت قفزة فنية وبداية واعدة للتطور الفني في صناعة الرواية (27)؛ وأيضًا روايته (ومرت الأيام) ١٩٦٣م.
وفي حقبة الستينيات نجد إبداع الروائي إبراهيم الحميدان بالعديد من رواياته (ثقوب في رداء الليل - سفينة الموتى).
كما نجد بزوغ الرواية النسائية في هذه المرحلة التي نشأت مع سميرة خاشقجي بروايتها (بريق عينيك)؛ إلا أنها تعتبر كتابة من خارج المجتمع السعودي؛ بعيدة عن تكونات المجتمع (28).
ثالثًا: مرحلة الانطلاق
وهي مرحلة الثمانينيات الميلادية التي عُرف فيها الكثير من الروائيين في السعودية؛ وقد واكبت التنمية الاقتصادية والانفتاح الاجتماعي؛ ومن روائيي هذه المرحلة عبد العزيز مشري؛ برواياته (الوسمية - الغيوم ومنابت الشجر - الحصون - ريح الكادي)؛ ورجاء عالم بروايتها (٤ / صفر)؛ وعبد العزيز الصقعبي بروايته (رائحة الفحم)؛ وحمزة بوقري بروايته (سقيفة الصفا). "ويسجل لهذه المرحلة والتي تليها بدء تسارع إيقاع الإنتاج الروائي وزيادة تراكمه؛ وتنوع موضوعاته وتطور تقنياته " (29)
رابعًا: مرحلة التحولات الكبرى
وهي مرحلة التسعينيات والألفية الثالثة؛ واتسمت بالعديد من السمات كالتغير الاجتماعي الذي شهده الواقع السعودي؛ وأحداث سبتمبر؛ وقد أثر في بداية هذه المرحلة روائيان مهمان وهما: تركي الحمد وغازي القصيبي بالعديد من رواياتهم ك (شقة الحرية) (وثلاثية تركي الحمد) "فهما اللذان صنعا إيقاع الرواية المتسارع وحرضا جيلًا من الكتاب والكاتبات على جرأة غير معهودة في الطرح الروائي (30).
وممن بزغ في الإبداع الروائي في نهاية التسعينيات عبده خال؛ وقد تطورت تجربته الروائية؛ وتعتبر مسيرته مهمة في الرواية السعودية.
وقد حضرت الرواية النسائية في هذه المرحلة بشكل أكثر من قبل؛ فظهرت لنا العديد من الروائيات أمثال رجاء عالم؛ نوره الغامدي؛ ليلى الجهني؛ مها الفيصل؛ بدرية البشر وغيرهن.
ويمكن لنا أن نجد هذه المراحل بأشكال متعددة في تاريخ الرواية العربية أيضًا؛ ف(التمرحل) سمة تكتنف تطور وتغير الفكر البشري والآداب العالمية؛ وعند مقارنة مراحل الرواية في السعودية بمراحلها في نشأة الرواية العربية نجد هذا التوافق كثيرًا؛ وبهذا فإن الرواية في السعودية ربما تكون مقبلة على تميز ظاهر في ساحة الرواية العربية عمومًا؛ وبالخصوص مع كثرة المنجز الروائي في السعودية كما؛ فالكم الهائل سبب مهم في تطورها وبث المنافسة في صقل موهبة الإبداع السردي لدى المبدع في السعودية.
المحور الثالث: أثر الجوائز على الرواية العربية
للجوائز تأثير مباشر أو غير مباشر على الإبداع؛ ليس فقط في الحث على الكتابة الإبداعية بل أيضًا في إطلاعنا على العديد من الروائيين وأعمالهم السردية التي يتم ترشيحها للجائزة.
وتتنافس الرواية العربية على جائزتين مهمتين في واقعنا العربي وهما جائزتا (البوكر) نشأت ٢٠٠٩م، و(كتارا) نشأت ٢٠١٤م. ويظهر الارتباط الكبير في مرحلتنا الآنية بين الجوائز والرواية العربية؛ إذ ينتظر المبدعون والنقاد الإعلان السنوي لهاتين الجائزتين لمحاولة تحليل بوصلة الرواية العربية من خلال المنجز المرشح لهذه الجوائز، ولا يعني هذا أن الرواية الفائزة هي الأكثر تميزًا على غيرها؛ بقدر ما يعني أن هناك تنافس بين هاته الروايات المرشحة للجائزة؛ إذ يخضع الترشيح دائمًا لاهتمام لجنة الترشيح في اتجاهاتهم النقدية التي تؤثر على قراراتهم، ولهذا فإن اطلاعنا على القائمة الطويلة والقصيرة لهذه الترشيحات هو الأكثر أهمية للمتلقي والناقد.
وربما يظهر لنا أثر هذه الجوائز على الرواية العربية حينما نعلم أن عدد الترشيحات لجائزة كتارا في العام ٢٠١٥ م هو (٧١١) رواية؛ وفي عام ٢٠١٦م (١٠٠٤) رواية؛ وفي عام ٢٠١٧م (١١٤٤) رواية (31). وهذا الكم الهائل لا يعني التميز كما أنه لا يعني الترهل في العمل الروائي؛ بقدر ما يعني أن هناك إقبالًا على الرواية مما يجعلها تتميز في مستقبلها القريب.
ولهذا فإن الجوائز المهتمة بالرواية العربية سبب أساس في تطويرها والأخذ بها على سبيل التميز والإبداع؛ مع عدم غفلتنا عن أثر الجوائز السيئ في تحوير اتجاه الإبداع إلى فكرانية الجائزة واتجاهها إلا أننا نتلمس أيضًا الجانب الإيجابي لها.
الخاتمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد عليه وعلى آله وصحابته الكرام أفضل الصلوات وأتم التسليم، ثم أما بعد
وبعد أن انتهيت من هذه الدراسة التي تناولت فيها الحديث عن مراحل نشأة الرواية العربية وتطورها، ومراحل التطور الخاصة بالرواية السعودية، وبيان مدى أهمية الجوائز في دفع عملية الإبداع وتشجيع المبدعين، والسير قدُمًا نحو العالمية، هذا وقد توصلت الدراسة إلى العديد من النتائج جاء من أهمها ما يلي:
- فتح التعريب مجالًا شاسعًا في العمل الروائي العربي؛ وأتاح فرصة كبرى للمبدعين العرب أن يقدموا الرواية كمنتج أدبي عربي مستقل عن موضوعات الرواية الغربية.
- إن البحث في الأولية يدل على انفصال عن التراث السردي العربي؛ وكأن السرد العربي انبثق في مرحلة معاصرة بعيدًا عن تطوره في التراث العربي؛ وبالتالي فإن البحث عن إمكانية تطوره عبر السرد العربي يكون أكثر نجعة من البحث في أوليته لإثبات تأثره الغربي؛ وهذا لا يعني عدم التأثر والتأثير بقدر ما يعني البحث في إمكان التطور.
- القول بالتأثر المطلق بالرواية الغربية فيه نظر، فقد انقسم النقاد في ذلك إلى اتجاهات متعددة منهم من يعتبرون الرواية العربية ذات منشأ غربي؛ بدأ بالتعريب ثم الترجمة مرورًا بما وصلت إليه في الوقت الحاضر، ومنهم من يرى أن القول بالتأثر الغربي إنما هو " من تحيزات الخطاب الاستعماري، وهناك من حاول التوفيق بين الرأيين كروجر ألن الذي يعتبرها جاءت من خلال تلاقح التراث العربي الكلاسيكي بالثقافة والرواية الغربية
- يغيب كثيرًا عن ساحة الرواية العربية؛ تفلسفها، فالسرد له تواشج إيجابي ومهم مع التفلسف والفلسفة؛ إلا أننا نكاد لا نجد هذا التفلسف؛ وحضوره يكون قليلًا إن لم يكن نادرًا؛ بل هو شبه معدوم في الرواية السعودية؛ مع إمكانية توظيف فلسفة الدين بها أكثر من غيرها لحضوره وتمكنه من الفكر في السعودية.
- ينطلق اهتمامنا بالرواية في السعودية باعتبارها رواية عربية أولًا؛ ثم هي الرواية التي تصدر من إقليمنا الجغرافي وثقافتنا في السعودية؛ وبهذين المنظورين حاولت مقاربة تطور الرواية في السعودية.
- مرت الرواية السعودية بأربع مراحل في تطورها، مرحلة النشأة، ومرحلة التأسيس، ومرحلة الانطلاق، ومرحلة التحولات الكبرى، ويمكن لنا أن نجد هذه المراحل بأشكال متعددة في تاريخ الرواية العربية أيضًا؛ ف(التمرحل) سمة تكتنف تطور وتغير الفكر البشري والآداب العالمية.
- تؤثر الجوائز تأثيرًا مباشرًا أو غير مباشر على الإبداع؛ ليس فقط في الحث على الكتابة الإبداعية فقط بل في إطلاعنا على العديد من الروائيين وأعمالهم السردية التي يتم ترشيحها للجائزة، ولهذا فإن الجوائز المهتمة بالرواية العربية سبب أساس في تطويرها والأخذ بها على سبيل التميز والإبداع؛ مع عدم غفلتنا عن أثر الجوائز السيئ في تحوير اتجاه الإبداع إلى فكرانية الجائزة واتجاهها إلا أننا نتلمس الجانب الإيجابي لها.
هذا، وبعد أن انتهيت - بفضل الله تعالى - من هذه الدراسة أوصي الباحثين بمزيد من الدراسة والتعمق حول الأجناس الأدبية بصفة عامة والرواية والقصة القصيرة بصفة خاصة؛ لما يتميز به هذا الجنس النثري من أدوات فنية رائعة وعناصر بنائية ذات تشويق وإثارة تحمل في طياتها أسس جمالية وأدبية هادفة تعمل على التعمق داخل المجتمع والتماس معه في جميع قضاياه
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا
المصادر والمراجع:
إبراهيم؛ عبدالله السردية العربية الحديثة تفكيك الخطاب الاستعماري وإعادة تفسير النشأة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، ٢٠١٣م.
روجر آلن، الرواية العربية مقدمة تاريخية نقدية، ترجمة حصة إبراهيم المنيف، المجلس الأعلى للثقافة، ضمن المشروع القومي للترجمة، ١٩٩٧م،
سعيد يقطين، السرد العربي مفاهيم وتجليات، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، ومنشورات الاختلاف الجزائر، الطبعة الأولى ١٤٣٣ هـ، ٢٠١٢م.
شكري عزيز الماضي؛ أنماط الرواية العربية الجديدة (الفصل الأول / الرواية الجديدة)، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت، ٢٠٠٨م.
فاروق؛ خورشيد؛ الرواية العربية عصر التجميع، مطبوعات الجمعية الأدبية المصرية، الدار المصرية للطباعة والنشر، ١٩٥٠ - ١٩٦٥، الإسكندرية
محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، أكتوبر ١٩٩٧م.
النعمي؛ حسن؛ الرواية السعودية واقعها وتحولاتها، وزارة الثقافة والإعلام، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى ٢٠٠٩م.
يمنى العيد؛ الرواية العربية المتخيل وبنيته الفنية، دار الفارابي للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، ٢٠١١م
المواقع الإلكترونية:
موقع كتارا http://www.kataranovels.com/prize/statistics-
الحواشي
(1) إبراهيم؛ عبد الله السردية العربية الحديثة ص ١١٨
(2) المصدر السابق ص ١٢٠
(3) المصدر السابق ص ١٢٣ - ١٤٣
(4) المصدر السابق ص ١٥٨
(5) سعيد يقطين، السرد العربي مفاهيم وتجليات ص ٧٢
(6) المصدر السابق ص ٦٥
(7) المصدر السابق ص ٧٤
(8) محمد غنيمي هلال؛ النقد الأدبي الحديث ص ٤٩٩
(9) عبد الله إبراهيم السردية العربية الحديثة ص ١٦٤
(10) وأعتمد في هذا التحليل على كتاب السردية العربية الفصل الرابع إعاد تركيب سياق الريادة الروائية وقد وجدت عمقًا عند عبد الله إبراهيم أكثر مما هو عند غيره ممن كتب عن نشأة الرواية العربية
(11) وهناك خلاف واسع حول تاريخ إصدارها أشار إليه عبد الله إبراهيم بين عامي ١٩١٢ - ١٩١٤م
(12) عبد الله إبراهيم، السردية العربية ص ٢٨٤
(13) المصدر السابق ص ٢٩٣
(14) محمد غنيمي هلال النقد الأدبي الحديث ص ٥٠٠
(15) عبد الله إبراهيم، السردية العربية الحديثة ص ١٨٤
(16) المصدر السابق ص ١٩٥
(17) فاروق؛ خورشيد؛ الرواية العربية عصر التجميع ص ٧٥
(18) روجر آلن، الرواية العربية مقدمة تاريخية نقدية ص ٢٨-٣١
(19) شكري عزيز الماضي؛ أنماط الرواية العربية الجديدة (الفصل الأول / الرواية الجديدة
(20) المصدر السابق ص ٩
(21) المصدر السابق ص ٨
(22) المصدر السابق ص ١١
(23) المصدر السابق ص ١٤
(24) المصدر السابق ص ١٧
(25) يمنى العيد؛ الرواية العربية المتخيل وبنيته الفنية ص ٢٦٦
(26) النعمي؛ حسن الرواية السعودية واقعها وتحولاتها ص ٢٠
(27) المصدر السابق ص ٢٠
(28) المصدر السابق ص ٢٥
(29) النعمي؛ حسن الرواية السعودية واقعها وتحولاتها ص ٢٨
(30) المصدر السابق ص ٣١
(31) http://www.kataranovels.com/prize/statistics-٢٠١٧/#prettyPhoto موقع كتارا
0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا