
في سطور التاريخ العلمي والدعوي لولاية كيرلا، تبرز أسماء قليلة أضاءت سماء الأمة علماً وعملاً، وكان لها الأثر البالغ في حفظ العقيدة وصيانة الهوية الإسلامية الأصيلة. من بين هؤلاء الأفذاذ، يبرز اسم الشيخ ك. وي. محمد مسليار ــ رحمه الله ــ علَماً من أعلام أهل السنة والجماعة، وركناً شامخاً من أركان الدعوة والعلم في الهند في القرن العشرين.
ولد الشيخ في زمن اشتدت فيه موجات البدع والانحرافات، فنذر حياته كلها لبيان العقيدة الصحيحة، وتفنيد الشبهات، وتأسيس المؤسسات العلمية التي خرّجت أجيالاً من العلماء والدعاة. لقد كان مثالاً للعالم العامل، والخطيب المؤثر، والقيادي الحكيم الذي جمع بين التواضع والصلابة في الحق.
في هذه المقالة، نسلّط الضوء على ملامح سيرته المباركة، ونتوقف عند أبرز محطّات حياته من تعليمه وتدريسه، إلى جهوده الإصلاحية ومواقفه الصلبة في وجه التيارات المنحرفة، ونُعرّج على مؤلفاته المباركة، والمؤسسات التي تركها أثراً طيباً باقياً في المجتمع الإسلامي في كيرلا.
مولده وأسرته:
لا يخفى على أحد أن ك. وي. محمد مسليار كان من سلسلة العلماء النوابغ في لجنة "جمعية العلماء لعموم كيرلا"، وأحد الذين حملوا لواء رئاستها في مراحل حياتهم. وُلِد عام 1915م في منطقة "كوتّناد" من إقليم "بالكاد"، لأبوين كريمين هما أحمد وآمنة، من أسرة دينية. ربَّيَاه على نهج الإسلام، وتلقى علوم الدين من بيئته الأسرية. كان والده حريصًا على رفعته منذ ولادته، فارتوى ذوق التعليم منذ نعومة أظفاره.
دراسته:
تلقى ك. وي. محمد مسليار مبادئ العلوم في المدارس المنتشرة آنذاك، فدرس العلوم الدينية والدنيوية، إلا أنه كان أكثر شغفًا بطلب العلوم الشرعية من كبار العلماء. درس في مراكز تعليمية تقليدية، كـ "وَلّبيا"، و"بلكرا"، و"وينكرا"، و"أركّلم"، و"بربنكادي"، و"بنكاتور"، حيث تلقّى علوم أصول الدين، والحديث، وأصول الفقه، والعقليات، واللغة العربية، وغير ذلك، على يد نخبة من العلماء العباقرة.
وقد تلقى العلم على أيدي علماء أجلاء مثل: عبد العلي المشهور بـ "قوم مسليار"، ومحمد مسليار، وكوتلنغادي باپ مسليار، فنهل من معينهم، وتربى على أيديهم، وتهذّب قلبه بنفحات أرواحهم.
وبعد تخرّجه، أصبح قدوة تحتذى، ومثالًا بارزًا في التواضع والعلم، وكان يخاطب الناس على قدر عقولهم، ويتحدث برفق، ويُحسن الاستماع والمخاطبة، ويقدم الحلول للمشكلات الدينية والنزاعات المحلية بحكمة ورفق.
محاولاته في مجال الخطابة:
حين نذكر الأستاذ، لا بد أن نُشيد بمحاولاته الجادة في الخطابة الدينية لترسيخ عقيدة أهل السنة والجماعة في نفوس الأمة، ورد شبهات المبتدعين الذين ظهروا في مطلع القرن العشرين في كيرلا.
يخطر في البال قوله تعالى:
"وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ".
فكان أسلوبه الخطابي قائمًا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح العقيدة، وإبقاء الشريعة حيةً في المجتمع. ركّز في خطبه على مواجهة الوهابية التي بثّت شبهاتها بين العامة، فكان يحذرهم منها ويوجّههم إلى الثبات على منهج أهل السنة. وكان يُقبل على الناس بحب، ويهديهم إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة.
المناصب التي تولاها:
خلال مسيرته العلمية والدعوية، تولّى ك. وي. محمد مسليار عددًا من المناصب في "جمعية العلماء لعموم كيرلا". لم يكتفِ بالتعليم، بل كانت همته في خدمة الإسلام والمسلمين، فكرّس حياته للجمعية، ساعيًا في قضاء حوائج الناس، عاملاً مخلصًا.
![]() |
صورة الشيخ ك. وي. محمد مسليار (عندما تم إنشاء الصورة الأصلية جديدةً باستخدام الذكاء الاصطناعي) |
في عام 1950م، صار من الأعضاء البارزين في الجمعية، ثم عُيّن أمينًا مشتركًا لها عام 1956م، وواصل العطاء حتى انتُخب رئيسًا لها عام 1962م. كما تولّى منصب نائب رئيس لجنة المعارف، وزعامة "جمعية المعلمين"، ورئاسة "جمعية الرخاء"، وساهم في تأسيس "جامعة نورية"، و"معونة الإسلامية"، و"مركز ولنتشاري"، وغيرها من الصروح العلمية.
مؤلفاته:
كان اهتمام الأستاذ منصبًّا على مسائل العقيدة، فألّف رسائل وكتبًا تركت أثرًا بليغًا بين العلماء. ومن كتبه:
"الإسلام والشيوعية"
"الزكاة في الإسلام"
وله كتاب في التوحيد بيّن فيه معناه الحق بأسلوب بيّن.
فتح الرحمن في تفسير القرآن:
هذا من أبرز مؤلفاته، فقد واجه فيه التحديات الفكرية لترجمة معاني القرآن إلى اللغة المحلية، فدحض مزاعم المبتدعين، وردّ على من حرّفوا المعاني القرآنية بحسب توجهاتهم الغربية. فجاء هذا التفسير نورًا يطفئ ظلمات البدعة، وسُمي بـ "فتح الرحمن"، وقد قام بتحقيقه الأستاذان: د. جمال الدين ود. بهاء الدين الندوي.
تميزت لغته بالأدب الراقي، حتى إن خصومه عجزوا عن مجاراته في الردّ، واشتهر بقدرته الفائقة في اللغة الملايالمية، مما جعله يستحق لقب:
"أمير المركزة الأدبية والسنة".
كلية دار الهداية والدعوة:
أسس عام 1998م كلية "دار الهداية والدعوة"، لتكون زادًا لآخرته، ومركزًا علميًا تُخرج منه مئات الطلبة. تُدرّس الكلية العلوم الدينية والمادية مجانًا لأكثر من 300 طالب، ضمن منهج "جامعة دار الهدى الإسلامية"، وبتكامل بين التراث والمعاصرة.
كما أسس عددًا من المعاهد، ومدارس تحفيظ القرآن، ومدارس أهلية تعتمد مناهج التعليم الرسمي والخاص.
وفاته:
بعد حياة حافلة بالعطاء، توفي الأستاذ في 11 محرّم عام 2000م، ففقدت كيرلا أحد علمائها المخلصين. نسأل الله أن يتقبل جهوده، ويجزيه خير الجزاء
قال الشاعر:
وقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا،
ولكن لا حياةَ لمن تنادي
.
0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا