ادعمنا بالإعجاب

نزعة التشاؤم في شعر فدوى طوقان

الدكتور بلال أحمد زرغر الكشميري
الملخّص:
ممّا لا شك فيه أن اسم فدوى طوقان أبرز الأسماء النسوية المعاصرة في الساحة الأدبية الأردنية والفلسطينية. وأنه من أبرز الأسماء النسوية التي استطاعت أن تشغل مكانة مهمة في الأدب العربي قديماً وحديثاً، و قد قام كثير من الباحثين بدراسة إنتاجاتها من نواحي مختلفة، و قد لفتت قصائدها انتباهي حينما وجدتها مغشّاة بمظاهر التشاؤم، فقمت في هذه المقالة بدراسة متواضعة لكلامها المنظومة في حزن وطنها حيث تترائي ملامح التشاؤم الأكيد في معظم أعمالها.
حياتها: إنها فدوى عبد الفتاح طوقان من مواليد عام 1917م على أرجح الأقوال حيث ضاع تاريخ ميلادها من ذاكرة والديها كما ضاع حبها في قلبيهما، ترجع أصول العائلة إلى قبيلة طوقان القادمة من تل طوقان في سوريا، عاشت في بيت محافظ؛ يجمع في أرجائه بين الأصالة والحضارة والرقي، كان بمثابة مجتمع صغير يجمع العائلة الممتدة من أعمام وعمات وأبناء وأحفاد، كما يحوي العديد من التناقضات التي أدركتها فدوى منذ نعومة أظفارها، كان ترتيب فدوى السابعة بين عشرة من البنين و البنات هم: أحمد، إبراهيم، بندر، فتايا، يوسف، رحمي، فدوى، أديبة، نمر، حنان.لم تحاول والدتها أن تجهض في أيٍّ من مرات حملها المتكرر، وجاءتها الفكرة في المرّة السابعة حين كان الجنين (فدوى) التي تولتها رعاية الله فثبتت في رحم أمها رغم المحاولة، من هنا تبدأ حكاية فدوى،تبدأ بما تسميه هي الإصرار والتشبث بالحياة"([1]).
"كان والد فدوى وأمها من مدمني قراءة روايات جرجي زيدان، ونفي أبوها فترة إلى مصر مع بعض رجال البلاد الوطنين (الشيخ رفعت تفاحة, وسيف الدين طوقان، وفائق العنبتاوي)على يد قوات الاحتلال البريطاني بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. كان ذاك مع بداية نموِّ حركة القومية العربية"([2])
"كانتفي نابلس مدرستان للبنات"المدرسة الفاطمية" و"المدرسة العائشية"  قد أمضت فدوى في "المدرسة الفاطمية " السنوات الثلاث الأولى، وبعد ذلك نقلت مع تلاميذ الصف كله إلى "المدرسة العائشية". ومضى عدة شهور، وفجأة انقطعت عن المجيء إلى المدرسة، بسب مرض معلمتها "ست زهوة العمد" التي أحبتها من كل قلبها، فعرفت الوحشة ، وذاقت مرارة غياب تلك المعلمة"([3])
"عكفت على الدراسة الشخصية في البيت، وتعدها شقيقها إبراهيم بالتعليم والتثقيف، وفتح عينيها على آفاق التراث الأدبي العريق، فتلقّت على يديه دروسا خاصة في اللغة الإنجليزية. ثم حرر ها من بعد من جو البيت الخانق المتزمت، إذ انتقل بها إلى قدس- حيث كان يعمل- لتعيش في كنفه ورعايته، هربا من ذلك الجو الضاغط من الأهل الذي ضيّق الخناق عليها. لكنها ما لبثت أن عادت إلى مسقط رأسها، ولم تستطع التحرر من قمقم الحريم – على حد تعبيرها- ­إلا في النصف الأول من الخمسينات. ورغم خروجها إلى الهواء الطلق، فإنها لم تعرف الإحساس الدائم بالجماعة، والالتصاق ق الوجداني الملازم بالقضية الجماعية، إلا بعد حرب  حزيران 1968، فكان التعبير الأول لها عن هذه المرحلة قصيدتها "لن أبكي" التي وجهتها إلى شعراء الأرض المحتلة"([4])
ولم يترك القدر لفدوى هذا السراج الذي لاح مضيئاً في سمائها المظلم، فقد أقيل أخوها من عمله في القسم العربي في الإذاعه الفلسطينية وغادر مع عائلته إلى العراق بضعة أشهر مرض فيها هناك، ثم عاد إلى نابلس ومات فيها، تقول فدوى: "وتوفي شقيقي إبراهيم فكانت وفاته ضربة أهوى بها القدر على قلبي ففجر فيه ينبوع ألم لا ينطفئ ومن هذا إلىنبوع تتفجر أشعاري على اختلاف موضوعاتها. وانكسر شيء في أعماقي، وسكنتني حرقة إلىتم"([5]) دخلت في عام 1939 مدرسة "راهبات مار يوسف" في نابلس لمدة عامين، حيث أكملت ما كانت بدأته في تعليم اللغة الإنجليزية، كما شاركت في تقديم بعض الأحاديث الإذاعية والتمثيليات والإنشاد مع فرقة الأناشيد في الإذاعة الفلسطينية.
سافرت إلى أوربا: هولندا والسويد، وزارت روسيا والصين الشعبية، وحضرت بدعوة رسمية "مؤتمر السلام العالمي" الذي انعقد في استوكهولم سنة 1965م. كما سافرت إلى إنكلترا في آخر شهر آذار سنة 1962، وعرّجت من ثم على بعض البلدان العربية. حضرت دورتين تدريبيتين صيفيتين في أكسفورد بلندن في عام 1962م. زارها في منزلها بنابلس سنة 1968م- بعد سقوط الضفة الغربية مباشرة- موشيه دايان، وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك، وجرى نقاش طويل بينهما نشرته الصحف العربية والإسرائيلية في ذلك الحين. وفي سنة 1968م إلى القاهرة للقاء الرئيس جمال عبدا لناصر.  توفيت الشاعرة فدوى طوقان في 11 كانون الأول سنة 2003م عن 86 عاما قضتها في صراع مرير مع الآلام كان آخر المرض الذي أودى بها في إحدى المستشفيات الفلسطينية.
كتبت فدوى شعراً مفعماً بالحياة، يضج بالحركة ومحاولة التغيير؛ كتبت مخلصة لأناها الفردية، ثم تحولت لتكتب للأنا الجمعية ممثلة في الوطن بأبنائه وزرعه وأرضه وحريته، والمتتبع لشعر فدوى عبر دواوينها الثمانية يجد أنها نصب في محاور دلالىة عديدة. يدرك الدارس لدواوين فدوى من خلال مفرداتها شفافية روحها ورقة مشاعرها، ويمكنه أن يصرح بكل جرأة أن محور الحب يتصدر معجمها الشعري، خاصة في دواوينها الأولى التي تعكس بمرآتها الذات والعواطف عند فدوى، ثم هو يلقي بظلاله على دواوينها الأخرى،في كسو مفرداتها بثوب الحب القشيب. يليه محور الوطن وقد يممت الشاعرة ــ بعد نكبة فلسطين عواطفها وكلماتها نحوه، فكانت وطنيتها تنضوي تحت جناح الحب، وكان حبها ينمو ويترعرع في أحضان الوطن، فأحبت ابن الوطن، وبنت  الوطن، أحبت ذرى الوطن وسهوله، أحبت جباله ووهاده. لذا كانت فدوى ما بعد النكبة هي نفسها فدوى ما قبل النكبة، رقةً وحباً ووطنية؛ وإن كانت دواوينها الأولى تعج بمفردات الحب البشري ودلالاته، فدواوينها الأربعة التالية تعجّ بحب الأرض وابن هذه الأرض، أما ديوانها الثامن والأخير (اللحن الأخير) فكُرّس للحبين معا:حبالبشر وحب الوطن.
نزعة الحزن و التشاؤم في شعرها:
عاشت فدوى طوقان حياة كئيبة مضطربة منذ بداية حياتها في بيتها الكبير، و ما كان في هذا البيت الذي يؤنس بها ويحب بها إلا أخوها الكبير إبراهيم طوقان، و كان أخوها إبراهيم طوقان شعر فيها ميلاً وشغفاً للعلم والأدب وكان معلمها في تلك الفترة من حياتها ويساعدها في تعلم العروض والشعر وعلم اللغة والأدب وكان يوصيها بقراءة القرآن الكريم الذي فتح لها ببلاغة ومعانيه أبواب الثقافة والحقائق الإنسانية والعلمية.
توفي أخوها إبراهيم طوقان عام 1941م فغابت عن فدوى بشاشتها حيث كان أخوها يربيها فسقاها الحب الأخوي. فحزنت فدوى على أخيها إبراهيم كما حزنت الخنساء من قبل على صخر و راحت تبكيه وترثيه ولكن فدوى التي سميت بشعرها الحزين "خنساء فلسطين" لم تتوقف على البكاء فقط بل تجاوزته إلى فنون أخرى وآفاق خارج نفسها التي كانت حبيسة التقالىد البالية. عندما توفي شقيقها إبراهيم فتقول فدوى على وفاته:
و مات من أحبني     مات أخي الذي أحبني ولم يكن هناك من أحبني سواه
وفي بيت آخر تقول:
وفي ليل سهدي يحرك وجدي           أخ كان نبع حنان وحب
وكان الضياء لعيني وقلبي       وهبت رياح ألردي العاتية
وأطفأت الشعلة الغالىة        وأصبحت وحدي ولا نور يهدي([6])
وما كان بوسعها أن تفهم أن أخاها يمكن أن يموت, بل تعتقد أن أخاها لن يموت أبدا، وأن روح أخيها لن تموت لأنها تؤمن إيمانا قويا بوجود الروح وخلودها حيث تقول:
أهكذا تمضي مضي الحلم طافت سراعا وتلاشت رواها
أهكذا تطويك أيدي العـدم في عمر الزهر وفجـر الحيـاة([7])
كانت مأساتها في وطنها وفقدها الأخ الحبيب مأساة قوية مزدوجة وموحدة. فقد كان أخوها لسانها وعواطفها وشعرها الذي تحمل في سبيل شعبه و فهم مشكلته فقالت:
أخــي  يــا  حـبيـب  نــداء  يـرف:  علـى شفـتي  مثـقـلا  بالحـنان
أخي لك نجواي مهما ارتطمت :   بقيد   المـكان  وقيـد  الـزمـان
أحـقـا   يحـول   الردى   بـيـنـنـا:  ويفصلني  عنك  سجن ([8])
فدوى طوقان ذاقت مرارة الوحدة والحرمان الروحي، و القلق الاجتماعي فصورت المأساة تصويرا جميلا. وفي دواوينها الثلاثة يستطيع الباحث أن يجد ظاهرة هذا الألم والمأساة الاجتماعية والسياسية والفكرية واضحة وملموسة. كان رثاؤها لشقيقها إبراهيم رثاءً يواكب صدى السنين، فقد رافقها مدة طويلة في حلها وترحالها، وكان لها خير معوان في حيلتها. ولكن حياته كانت قصيرة جدا حيث اختطفه الموت مبكرا، فحزنت فدوى على موته حزنا شديدا، وبكته بقصائد حزينة، كما بكت شقيقها نمر الذي افتقدته أيضا.  فكتبت قصيدة بعنوان "حلم الذكرى" استوحتها من الاعتداء الإسرائيلي على قرية "بقية" ووجهتها إلى "روح شقيقي إبراهيم" فتقول:
أخي، أمس  والليل  يعمـق  غـورا       : ويخضـن  قلـب   الوجود  الكـبير
و ذكــراك  تعـمــر  أقـطــار  نفســي          : وتمــلأ    قـلبــي   بفـيـض  غمـيـر
تـفـلـت   بــيـن   انعــتــــاق   الــرؤى          : خيــالك  في  غفوة  من  شعوري
تحـدر  من    شــرفــات    الخلود         :  على  هــودجٍ  مــن  غمـام  وثـير
وقوس السحاب على الأفق تحتك : تطـــويــه   مــــعبـر   لون    ونور
كــــــأن   يـد   الله   مــدتــه   دربــــا            : إلى   الخــلد  بـــين  حقول الأثير
أخــي، أمس والليــل  يعمق  غورا        : ويخضن   قلب  الوجـود الكبـير([9])
وقد وجهت قصيدة بعنوان "مرثية" – إلى روح عندليب العمد – و هي قصيدة  فيها حسرة وحزن، وإشادة مؤثرة بنضال قامت به صاحبتها عبر كفاح مستمر ونضال لا يخبو، وبذرت طبيبا، فكان الحصاد سخيّا والقطاف مستطابا، كتبتها بتاريخ كانون الأول سنة 1979م.
تخاطبها بحزن شديد وترجوها أن تهدأ و تستريح وتنام على تراب "القدس" تقول في المقطع الأول:
وصلت، إذن فاهدئي واستريحي          ونامـي علــى قدس هذا التراب
مـشيـت   طولا   بـدرب  الـحـيــاة           وكان مسيرك  جم  الصعــاب
ودارت علـيـك  اللـيـالى   بـكــأس            تفيـض  وتطفـح  مرا  وصاب
فمـا  هزمتـك  الـدواهـي  الـكـبــار           ولا  أقـعـدك  طـريـق  العـــذاب
طويت مآسـي حيـاتـك فـي  قلـب           ثم انطلـقت  انطـلاقا([10])
ثم تقول لها: ماذا يفعل جنود الاحتلال؟ فتعبّر بصورة بيانية وخيال واسع عن قوة المأساة والمقتل الدامي الذي أصاب الأمة في الصميم. فالجميع في بلاء، يكابدون من الغربة والعذاب، وقد تعمد بالدم جيلاً فجيل يعطي بغير حساب. إلى أن تقول:
بـلاد    الجـرح     يبـوس   جراحــك:   شـعـب  تـجـرّع    فـيـك   الـعـذاب
تصـوّف    فـي    عـشـقـه     لثـراك:   وتــمّ    حـلـولـك    فـيـه   وطــاب
فلسطيــن    مهما   أدلّهم   الفضاء: ومهما  تواري  السنى   بالحجاب
سيـبـقـى    لـشـعـبك    حلم    ونجــم: وبوصـله  عنــد   فوضى  العبـاب
حساب  الشـعوب   كمـــا    تعلمي :عسير يدكّ   الصخور  الصلاب ([11])
وتحتم الأبيات، وقد أعياها الصراخ والعويل وبلغ مداه، بأن الشعوب ستأخذ حقها وستصل إلى مبتغاها وهو أمر مشروع:
            وهذا زمان انفجـار الشعوب           وللشعب ظفر وللشعب ناب
            فلسـطين شعبـك جـذر عتيق          يغـوص بأعمـاق هذا  الـراب
            لأقسـم باسمـك لـن  يستـريـح        ولن ينثني قبل يوم الحساب ([12])
و"إلى روح لمى" التي كانت الأمل الكبير، والحلم الواعد بالعطاء الإنساني، ولمى هي ابنة فاروق طوقان، وقد فارقت الحياة مبكرة تقول هذه الأبيات:
نـحـبـكِ،    نـبـكـيـك    لا   تـبعـدي:حـنـانـك لا  تمعنـي  فـي المغيب
أ تمضين كالحلم؟ كيف وقــد كنت:مـلء العيـوب  و مـلء   القـوب
فـيـا  قســوة  الـموت  يـوم  طواك:  وحطّم  غصن  صبـاك  الرطيب
"لمى" لن تغيبي   يظـل  حضورك: أقوى من  الموت، لا لن  تغيبي([13])
النقاد يختلفون في معنى الموت لأنها لها معانٍ كثيرة تختلف من إنسان إلى آخر وللموت في مفهوم شعراء الأرض المحتلة معنى آخر...
"الموت، في شعر المقاومة، مرحلة لا بد منها للوصول إلى ما بعد الموت، إنه الواقع الذي فرض على أبناء فلسطين منفيين أم لا يزالون في ديارهم محاصرين وهو الحزن والعذاب والنفي والسجن والفقر والجوع والفراغ والفجر وكل المعانى التي تنطلق من الواقع النكبة العربية في فلسطين، وتنصب في أتون الوغي للتخلص من هذه النكبة"([14])
"إن فكرة الدفن ليست أكثر من رمز جنسي قد يحمل معنى الهروب من الجسد، و قد يحمل معنى الاستقرار في حياة رتيبة أما شجرة الزيتون بجمالها وثمرها، بزيتها وخضرتها الدائمة وحياتها الطويلة فهي الحياة التي تقابل الموت. وهي الخلود مقابل الفناء وهي الأخذ مقابل العطاء... إن اللقاء بين الجسد وشجرة الزيتون يحمل كل الخصب والتجدد... فيه معنى البعث الشجرة تمتصّ الجسد، والجسد يجعل الشجرة تزدهر" ([15])
حتـى إذا يــا خالـقـي  أفعمـت     عناصـري  أعصابهـا و الجذور
انـتـفـضـت    تـهـتـزُّ  أوراقـهــــا       من وقدة الحسّ و وهج الشعور
و أفــرعـت  غـيـنـاء   فـيـنـانـة        ممـا تـروّت من  رحيـق  الحيـاة
نشـوى بهـذا البعـث ما تأتلي     تذكـر حلـماً  قـد  تلاشـت روءاه ([16])
وهي تستعرض عناصر حياتها في أكثر من قصيدة وتذكر فجائعها بأركان أسرتها: أبيها وأخيها تبث الشعر ضيقها بوحدتها، فتظهر من خلال الشعر طفلة تحن إلى أهلها، ومراهقة تنحسر على شبابها، وتؤمن أنها ستعيش محرومة، وتموت دون أن يبقى بعدها إلا أصداء الحرمان... تقول:
حياتي دموع وقلب ولوع وشوق، وديوان شعر، وعود حياتي، حياتي أسىً كلهّا إذا ما تلاشى غداً ظلّها، سيبقى على الأرض منه صدى يردد صوتي هنا منشداً:         حياتي دموع وقلب ولوع وشوق، وديوان شعر،
في لحظة تذكر الموت الذي خطف أحباء لها ولا يبقى سوى الدموع في عالم جامد...بليل الشجون
وعمق السكونتمر أمامي كحلم سرى
طيوف أحبّاي تحت الثرى فتزعجُ ناريَ خلف الرمادِ
ويُغرق سيل الدموع وسادي        دموع الحنين
إلى راحلين مضوا وطواهم ظلام اللحود ([17])
وتصف الشاعرة حزنها الذي فجّر ينابيع الدموع وكهوف الوجع والقلق تقول:
حزينة أنا، حزينة تفجّري                          يا نبعةَ الدموع
يا فَرجَ المكروب                                           يا سخيةَ العطاء
تفجري من كهفِكِ السحيق،                   كهف الحزن-
والظلام والأسى الوجيع                             يا نبعةً بملح مائها
قد جُبِلت أرض الشجا                              والموت والشقاء
حين دفعت شاعرة فلسطين الكبيرة فدوى طوقان، بمجموعتها هذه إلى النور، لم تكن تطلب تأكيد وجود هو مؤكد بألف علامة وإشارة. وكما قلت في البداية، لم تضع لحناً أخيراً لاختتام الرحلة، بل كانت في صميم سيرورتها التي أدت إلى هذه الخلاصة الشعرية. لقد ابتدأت حياتها الوجودية والشعرية بالقول: حياتي وعود، وحزن وديوان شعر وعود. وظل الحزن وديوان الشعر علامتيها المتجددتين باستمرار، حتى ليمكن للقارئ المجرب أن يعرف أن هذه القصيدة أو تلك، من شعر فدوى حتى لو لم يكن اسمها مطبوعاً، ولا يعني هذا أن في الأمر تكراراً، بل هو العمل على ثيمة فنية ذات خصائص مميزة. لكنها تحمل ثراءها في داخلها من خلال اتساع التجربة الوجودية والثقافية. على أن فدوى المرتبط اسمها بجملة التجديد في الشعر العربي المعاصر، تبدو في هذه المجموعة أحياناً، وقد خفت قبضتها التي لم تكن متسامحة مع العبارات التقليدية، فوقعنا على كلام من نوع "الأمل المنشود ـ وهزيم الرعود ـ المساء الكئيب ـ أخو الروح ـ النبراس المضيء ـ الغيث همى ـ حبي الطاهر ـ شغاف القلب ـ رجع الصدى ـ سهام القدر ـ كأس الموت المرة ـ انقشع الوهم" وقد يكون من حق الشاعر الحديث أن يستخدم أمثال هذه الكليشهات، لكن في إطار النص الغائب، حيث يستحضر المألوف شاهداً أو مفارقاً لغير المألوف. أما أن يتم استخدامها كما يستخدمها الذين ثار جيل فدوى عليهم، فهو نوع من التساهل الذي يحرج حساسية الحداثة. إلا أنه من حسن حظ الشعر أن مثل هذه العبارات كانت تمر لماماً في "اللحن الأخير"، ولم تتنازل الشاعرة عن أي انتصار جوهري مما أحرزه الشعر الحديث، فضلاً عن أنها أنجزت مجموعة شعرية متجانسة، حتى لتبدو قصيدة درامية يحكمها الصراع بين المد والجزر، والشد والجذب، والحزن والفرح، واليأس والأمل. وقليلة هي المجموعات الشعرية التي تنشغل بالوحدة العضوية لا داخل القصيدة،  فذلك من تحصيل الحاصل إذا كنا نطلب شعراً حقيقياً، ولكن من داخل المجموعة كلها. بل إن شعر فدوى كله، بهذا المعنى، هو قصيدة متصلة تتجوهر وتتأصل وتتجدد. إنها لا تركن للمناسبة، لكنها تستطيع أن تفجر من المناسبة فضاء شعرياً عابراً للزمن، كما فعلت في رثائها لأخويها إبراهيم ونمر، وفي قصائدها المرتبطة بفلسطين نكبة وسؤالاً وثورة وانتفاضة. وإذا لم تمر فلسطين بهذه المجموعة الأخيرة، فلأن السياق لم يقتض ذلك.


[1]فتحية إبراهيم صرصور، خصائص الأسلوب في شعر فدوى طوقان، ص 10     
[2]ديوان فدوى طوقان، ص 6
[3]نجيب البعيني، موسوعة الشعراء العرب المعاصرين، ص 298-299
[4]نجيب البعيني، موسوعة الشعراء العرب المعاصرين، ص 299
[5]فدوى طوقان، رحلة جبلية رحلة صعبة، ص 67-68
[6]ديوان فدوى طوقان، وحدي مع الأيام، حياة، ص 79-80
[7]ديوان فدوى طوقان، وحدي مع الأيام، حياة، ص 543
[8]ديوان فدوى طوقان، وجدتها، حلم الذكرى، ص 171
[9]ديوان فدوى طوقان، وجدتها، حلم الذكرى، ص 512
[10]نفس المرجع، ص 172-173
[11]ديوان فدوى طوقان، على قمة الدنيا وحيداً، مرثية إلى روح اندليب العمد، ص 608
[12]المصدر السابق، ص 610
[13]ديوان فدوى طوقان، على قمة الدنيا وحيداً، إلى روح"لمى" فاروق طوقان، ص 618
[14]ياسين الأيوبي، الموت والحياة في شعر المقاومة، ص 210
[15]محي الدين صبحي، دراسات تحليلية في الشعر العربي المعاصر، 166-167
[16]المصدر السابق، ص 63-64
[17]المصدر نفسه، ص 77-78
تلامس الخوانَ والكتابَ والأوراق
استيقظي، حلمٌ ثقيلٌ لا يُطاق
وحدّقت عيناي في وريقة البريد-
من جديد

مواضيع ذات صلة
الأدب العربي العالمي, دراسات أدبية,

إرسال تعليق

0 تعليقات