ادعمنا بالإعجاب

مساهمة الهند في التواصل العلمي بين الأقطار الإسلامية

المأخذ:مجلة "الرابطة"العدد: ٦٠ محرم ١٤٣٨ ه أكتوبر 2016 م

بقلم: محمد سكحال-باحث برابطة العالم الإسلامي-

ما اختزنه التاريخ في سجلاته من الصلة العلمية بين الأقطار الإسامية في المشارق والمغارب، وسام من أوسمة المجد، وخصيصة من الخصائص البارزة في تاريخ أمتنا الثقافي على مداه الطويل.
وقد نشأت حركة التواصل العلمي مع نشأة المدائن الإسلامية الكبرى، فتحاً كقرطبة ودمشق، أو تأسيساً كبغداد وفاس، وانتشار العلم في مضاربها باستقطاب العلماء. ومن البواعث التي حركت ذلك التفاعل المعرفي والتلاقح العلمي، ما أنزله الله تعالى في كتابه العزيز، وأنطق به رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، في بيان فضل العلم وشرف أهله الوُعاة منهم والرواة، والترغيب في طلبه والرحلة في سبيل ذلك، والحث على بثه في الناس وبذله لطلابه. فنشطت الأمة في الاشتغال بمختلف علوم الشرع، كالحديث والفقه والتفسير والعقيدة، وما يتصل بها من العلوم التكميلية التي
تجري منها مجرى الوسيلة والآلة، كعلوم اللغة والأصول والحساب والفلك، ونفقت سوق التدوين والتصنيف والنسخ والوراقة، وتنافس الطلاب في غشيان حلق العلم، ومجالس الشيوخ، وتجشموا الأسفار وقطع الأنجاد والأغوار، متنقلين بين الأقطار والأمصار، ما قصا منها والداني، في طلب الحديث النبوي الشريف ولُقِي حفظته، وكان هذا في أول الأمر، ثم صارت الرحلة سنة متبعة في طلب كل علم نافع.
وساهم كل إقليم من الأقاليم الإسامية الشهيرة، بجزء مقسوم من العطاء العلمي في تكوين الوعاء العام للثقافة الإسامية، وخدمة تراث الأمة وإغناء خزائنه، وسالت أوديةٌ بقدرها من كنوز المعارف في علوم القرآن والسنة والفقه والأصول والعقائد واللغة العربية، والتاريخ والجغرافيا، والرياضيات والطب والفلك، وأسدى كل صقع من أصقاع العالم الإسامي للأمة ثلة من الأعلام الأفذاذ في مختلف المجالات، أفادوا من أدركهم وسمع منهم من أهل بلادهم والوافدين عليها من الغرباء، بما بثوا من علم في الحلق الخاصة والمجالس
العامة، والمناسبات المختلفة، وأفادوا من لم يدركهم من الأجيال اللاحقة، بواسطة ما حفظ عنهم تلاميذهم من علومهم، وبما ألفوا من كتب ورسائل سلمت من عاديات
الزمان.
 وغير خاف على ذي نباهة، أن أخوة الدين التي تربط المسلمين بعضهم ببعض، وتؤلف بينهم وحدة فكرية وشعورية، وتعقد توأمة بين أوطانهم، هي الباعث الحثيث أهل كل بلد على استطلاع ما أنتجه أهل البلاد الأخرى، والاهتمام به والحرص على اقتنائه والإفادة منه، وبهذا السبب حُملت كثير من كتب التراث من مواطن تأليفه إلى آفاق سحيقة، وانتشرت بين أهلها حتى كأنها ألفت فيها، واشترك في نقلها وتوفيرها بين الطلاب والعلماء وعمارة الخزائن بها، النّساخ الوراقون، والطلاب البحاثون، والعلماء الرحالون، والتجار المتسببون، والملوك المحبون للعلم المقربون للعلماء.
وكان - ولا يزال- الحرمان الشريفان مكة المكرمة أم القرى والمدينة المنورة دار الإسلام الأولى، واسطة بارزة في التنمية والاستمرار للتواصل العلمي بن الأقاليم المتباعدة، بسبب تردد المسلمين عليهما حاجين ومعتمرين وزائرين ومجاورين.
وعلى الرغم من الحواجز اللغوية بين الشعوب العربية ومسلمي شبه القارة الهندية، فإنها أكثر بلاد العجم مساهمة في خدمة تراث الأمة، وتنمية للعلوم والمعارف الإسلامية، وتواصلاً مع العالم العربي عن طريق الحرمين الشريفين، ولا سيما في المائتين والخمسين سنة الأخيرة، فقد انبعثت في شتى مناحيها حركة علمية نشطة، على الرغم من وقوع البلاد تحت الاحتلال الإنجليزي، الذي أنهى دولة المغول الغزنويين الإسلامية فيها، واستولى على كثير من الآثار الهندية والكنوز المعرفية الإسلامية وغيرها، وأغنى بها المتاحف والمكتبات العامة والجامعية في بلاده، واستهدف بطغيانه وعدوانه المتجرد من كل هوادة، العلماءَ والأوقافَ ومؤسسات التعليم بدرجة خاصة ومركزة، تمهيداً لقطع صلة المسلمين بدينهم وثقافتهم وسياقهم الحضاري، وربطهم بدينه وسياقه الثقافي والحضاري.
فعلى الرغم من تلك الحقبة الحرجة العسرة التي ابتلي بها مسلمو الهند، لم تلن لهم قناة ولا استجابوا لما كان يراد بهم، بل على العكس من ذلك بذل المخلصون من علمائهم غاية ما في وسعهم، من أجل إنقاذ هوية أبناء بلادهم الدينية من الاستلاب، وتراثهم الإسامي من الضياع، وبرز في هذه الحقبة كثير من العلماء الأعلام في مختلف العلوم ولا سيما في الحديث وفنونه، وأولعوا بجمع الكتب واقتنائها، وبذلوا في تحصيل النفيس النادر منها أموالاً باهظة، وأنفقوا  الأوقات الطويلة في نسخها قبل وصول الطباعة إليهم، وأنشأوا المدارس بكثرة ولا سيما في ديوبند وما حولها، والمكتبات التي يُعد بعضُها مراكز علمية استقطبت الكثير من الطلاب والعلماء والباحثين، ومن أمثلة ذلك مكتبة خدا بخش الشرقية العامة، بمدينة بتنا في ولاية بيهار، وهي تُعد أهم مركز للمخطوطات في الهند، تضم زهاء عشرين ألف مخطوط، منها تسعة آلاف بالعربية والأخرى بلغات أخرى كالفارسية والأردية.
 ومثلها مكتبة جامعة عليكرة، التي أسسها السير أحمد خان، فإنها زاخرة بالمخطوطات والمطبوعات الإسلامية العربية والفارسية والأردية والتركية. ودائرة المعارف العثمانية في حيدر آباد الدكّن، التي لها الفضل في طباعة الكثير من الكتب في مختلف الفنون الشرعية والعربية.
 وأنشئت دار العلوم في ديوبند التي تخرج فيها كبار العلماء، وكانت مثالاً يحتذى لما تأسس بعدها من دور العلوم والجامعات الإسلامية، ومن أهمها دار العلوم في ندوة العلماء بلكنؤ، التي تخرج فيها كثير من رجال العلم والفكر والدعوة.


وأعلام المسلمين الذين أنجبتهم الهند في القرون الثلاثة الأخيرة، بدءاً من الإمام شاه ولي الله  الدهلوي) 1110-  1176 ه(  كثيرون لا يكاد يحصيهم العد، عرف بهم وبجهودهم العلامة الطبيب عبد الحي الحسني الندوي، في كتابه الفذ في تاريخ أعلام الهند المسمى نزهة الخواطر، وتجاوزت شهرة الكثير منهم النطاق الهندي، فعرفوا في عالمنا العربي بسبب غزارة إنتاجهم في التأليف والتحقيق، وأثرهم العظيم في نشر العلم والدعوة والإصلاح والذب عن الإسام، ويكفي أهل الهند شرفاً في خدمة السنة وفخراً بما أسدوا من أعمال جليلة إلى إخوانهم العرب، أن أخرجوا لنا رجالاً من أمثال أشرف علي التهانوي وأنور شاه الكشميري، وخليل أحمد السهارنفوري،
زكريا الكاندهلوي
وشمس الحق العظيم آبادي، وعبدالرحمن المباركفوري، ومحمد زكريا الكاندهلوي، وثناء الله الأمرستري مباهل القادياني المتنبئ، وعبدالحي اللكنوي، وصديق حسن خان القنوجي، وأبي الحسن الندوي، وأخرجوا لنا من الكتب أمثال عون المعبود في شرح سنن أبي داود، وتحفة الأحوذي في شرح الترمذي، وأوجز المسالك في شرح الموطأ، وفيض الباري في شرح البخاري، وكنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، وتحقيق تحفة الأشراف للمزي، وطباعة الكثير من الكتب الحديثية قبل أن تطبع في بلادنا العربية.

 فلكم منا يا أهل الهند جزيل الشكر، وجميل الاعتراف بما أسديتم لنا من التآليف والتحقيقات العلمية العظيمة، التي خدمتم بها الإسام، ولا سيما في مجالي السيرة والسنة النبوية، وهما أهم ما يعتمد عليه في الدعوة والتعليم الإسامي، بعد كتاب الله تعالى.

مواضيع ذات صلة
العلاقات الهندية،, تاريخ الهند, تراث الهند،, دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات