ادعمنا بالإعجاب

رحلة أدبية في كتابات الشيخ سعيد رمضان البوطي(Saeed Ramazan Boothi)

سهيل محمد الوافي
ومن حظوظ الإنسان أن يذكر بين البشرية جمعاء بعد أن توارى عليه التراب بانتاجاته القيمة وانبثاق قلمه من العلوم وآراءه ووعيه بين الناس. هذه المواصفات تمت صلة بفضيلة الشيخ سعيد رمضان البوطي بكل معناها. وما أدق عنه قول الشاعر:

يا عالما بالشام أشرق نوره                      
والخير والبركات ركن الدين
يا شيخنا مازلت فينا حاضرا      
تمشي ونمشي خلفكم بيقين[1]
نشأته وولادته

الحفيد والشهيد
ولد محمد سعيد رمضان البوطي سنة 1929م في قرية جليكا التابعة بوطان التي تقع على ضفاف نهر دجلة عند نقطة التلاقي بين حدود سوريا والعراق وتركيا. ولما بلغ من العمر أربعة سنوات هاجر مع والده ملا رمضان البوطي إلى دمشق في عام 1933م بسبب "اضطهاد أتاترك" وانتشار الفكر الكمالي. ترعرع هذا الطفل بين أحضان والديه كانا صالحين كريمين معروفين بالصلاح والتقى. لقد تأثر هذه الحضانة والحماية في شخصيته مصداقا لقول الله سبحانه "والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا"[2]

حياته الشخصية
بعد أن تم تلقيه العلوم في شتى مجالاتها لقد أكب على حقل التدريس والنشاطات الدعوية فلم يترك مجالا من مجالات الدعوة ولا ساحة من ساحات التبليغ إلا استغله لنشر الخير والدعوة إلى الله تعالى.بالإضافة إلى ذلك كان حكيما في دعوته فيلقي الكلمة المناسبة للشخص المناسب في الظرف المناسب. ففي المساجد يخاطب العامة بالتمسك بالشريعة وتقوية النزعة الإيمانية، كما أنه يتحدث عن الأخلاق والعلاقات البينية، ويكون منهجه بهذه الأبحاث التي تعنى بذلك مثل كتاب رياض الصالحين والسيرة النبوية وما إلى ذلك.لقد صنفالكتب التي تبلغ عددها أكثر من ستين. فهذا العدد الجم خير شاهد على أنه عالم بارع متبحر سلط على كل ألوان الفنون وأشكالها.وكان يتحلى بأخلاق سامية يملأ بكلامه السمع والبصر والفؤاد حيث يأوي إليه الخلق من كل فج عميق. عند ما نترحل فيما أنتجه الإمام البوطي من المؤلفات العديدة يطول الكلام ولذا نسرد هنا مؤلفاته الأدبية فقط.
إقباله على الأدب:
قبل أن نتطرق إلى العنوان لا بد من أن نشير إلى ماهية الأدب ومعياره. إن القوى الأدبية هي العقل المفكر الذي يجرد الصور ويبني أبنية الفكر، والمخيلة التي تنقل المحسوسات وتزخرف بها وتلون وتضخم؛ والعاطفة التي تنفعل وتحيي؛ والذوق الذي يبعد عن كل شذوذ[3]. وفي رأي البوطي أن الأدب هو صياغة سامية مضمخة بالعطر تقدم إلى العقول اللينة لمد الله سبحانه لتحبب إليها الحقائق أو ما يصور للناس أنه حقائق[4].
بدأ الدكتور حياته بالدراسات العربية في النحو فحفظ ألفية ابن مالك وشروحها ودراسة عقود الجمان في البلاغة للسيوطي وقرأ كتب المنفلوطي وابراهيم المازني والعقاد وأولعبكتب الأديب مصطفى صادق الرافعي. وهذه الدراسات أحيت في نفسه الإتجاهات للكتابات الأدبية. ولقد واقف هذه نزعه الأدبية وروحه الشاعرية فحمل قياثارة اللحن الأدبي الشاعري وراح يضرب على أوتارها برفق فيصدح لحنا عذبا صافيا طرب له كل من سمعه.
لا شك لكل قارئيه يظهر قدرته التعبيرية العالية وبلاغته السامية التي يشهد له بها كل من قرأ أبحاثه ومؤلفاته. وقد كتب في البلاغة (البلاغة النبوية ومن روائع القرآن). ولا ننسى أنه عاش شبابه في الخمسينات والستينات كان تلك الأيام أيام ثورة الأدب والتأليف الأدبي وكونه أقام في مصر لسنوات تآثر بالكتاب المصريين أمثال الرافعي والمنفلوطي وطه حسين وغيرهم. فهذه الشخصية الفذة البارزة يعتز أمامنا معترفا بقدرته الأدبية العالية حيث قال: "ولإن كنت اليوم في تصور بعض الناس ذا اختصاص شرعي مجرد فإنني أملك من وراء ذلك قاعدة أدبية راسخة لا أزال أعز بها. ولست ممن يجهل أدب الرواية وأصولها ومقوماتها الفنية. وإن تحت يدي مما قد كتبه ذات يوم روايات وقصصا قصيرة لو نثترها نشرتها بين الناس لنسج لي صورة جديدة بل اختصاصا جديدا في أذهانهم"[5]. ولكن الحقيقة البصيصة التي تجلب انتباهنا لأن هذا الشيخ الكبير يذكر حينا فحينا إمامنا الشافعي(ر) كما رجع من الأجواء الأدبية بعد ان امتص عصارة الأدب والشعر والبلاغة إلى الجانب الديني والشرعي. ومما يشير إليه قوله: يوم انصرفت عن الأدب إلى هذا الذي شرفني الله به من خدمة الدعوة الإسلامية ممثلة في جلية حقائق الإسلام بموازين العلم والنظر[6].
آراءه عن الأدب والأديب
والدكتور يلفت الإنتباه في كتاباته إلى حاجة المكتبة الأدبية الإسلامية وأسلمة الأدب وينصح الأدباء أن يكتبوا في هذا المضمار وأن يكون مضمون النص الأدبي نظيفا وناصعا وطاهرا حافظا الشباب من ورود المنزلقاتالموجودة في مستنقعات الرذيلة من القصص الأدبية التي تشجع على الفحش والخطيئة كتلك التي كتبها بعض من الأدباء والتي تجرف الشباب إلى الدون من الأخلاق والسفاسف من الطباع الردية. ويرشد جميع الأدباء وأهل اللغة أن ينطلقوا في علومهم من القرآن وبلاغته ونحوه. وعلى سبيل المثال لما أتى إليه شاب متخرج من الجامعة قسم اللغة العربية وقرأ عليه آيات من القرآن بشكل ركيك. ولما سأل الدكتور عن سببه قال له: أنا مختص بالأدب العربي ولست مختصا بالدين فأجابه: إسمع ياهذا، إن ثمة حقيقة لا مرية ولا جدال فيها وهي أن العربية بكل قواعدها وبلاغتها مرتكزة على القرآن. وقواعد البلاغة والبيان لم تؤسس إلا على محور القرآن ولم تستنبط إلا من أسلوبه وطريقة تعبيره. 
سعيد رمضان البوطي في ميزان الأدب واللغة 
وليس عندنا ميزان يزن به الشيخ البوطي ولكن نحاول أن نسير ونترحل معه. لأنه يتخاطب مع القرآء بمشاعره ووجدانه الرائع ويسرد النقل ويبسط بالعقل ويلفت المخاطب إلى ما يتركز به ويطبقه كيف ما شاء على منوال سذاجة اللغة وبساطتهبأسلوب لين ومنطق سهل. وذلك يظهر في كتبه شخصيات استوقفتني، وكبرى اليقينيات الكونية، وفقه السيرة النبوية وما إلى ذلك. ومن هنا نحن نورد بعضا من مؤلفاته الأدبية ونحاولأن نقيمها ونقدرها.
يعد من كتبه الأدبية كتابه "من روائع القرآن: تأملات علمية وأدبية في كتاب الله عز وجل" لقد تم تأليف هذا الكتاب لما كان مدرسا في جامعة اللاذقية وجامعة دمشق لمادة القرآن وبلاغته لطلاب اللغة العربية. لقد تضمن المؤلف في هذا الكتاب تفاسير الآيات باسهاب من حيث اللغة والبيان والتفسير على الرغم من كونه كتاب يتعلق بموضوعات شرعية. وكتابه "من الفكر والقلب" نص يفيض ضراعة وانكسارا ولذة بمناجاة الحق سبحانه فيصف حال قلبه وسبب انكساره ثم يذكر أسباب انبجاره. لا شك أن هذا النص لوحة فنية رائعة الجمال سكب فيها البوطي بيانه وبلاغته وأظهر فقره لله وعبوديته له. وترجم أحاسيسة بأدب ساحر خلاب وبأسلوب جذاب.
              ومن الجدير بالذكر هنا، قصته "مموزين" هي قصة حب نبت في الأرض وأينعت في السماء. كتبها شعرا الشاعر الصوفي الأديب الكردي أحمد خاني وقد جعلها في 1200بيت من الشعر جعل مقدمتها300بيت تتعلق بالتوحيد والإيمان وترجمها البوطي. هي تتمثل أمامنا حب شاب بين فتاة إبتدأت بالنظر ثم ترعرعت إلى عشق وحال بينهم حائل الشر والقطيعة فمنع اللقاء فتصاعد حبهم للسماء وتعلق بالواحد الأحد ثم يتوفى على هذه الحالة من السمو الروحي. وفي الحقيقة، ظهرت في هذه القصة براعة البوطي وفنه الأدبي في نقل الوصف والأحداث في أجلى صورة وأبهى تعبير. حتى قال:"أنفقت عليها دموعي أكثر مما استهلكت من مداد قلمي.."[7]
            وقصته "سيامند فتى الأدغال"هي قصة طفل نشأ في أحضان البؤس، وشب تحت جنح الأسى ورضع لبان الظلم أشد ما يكون مرارة وقسوة، حتى استوحش من دنيا الناس وأخذ يركن إلى أدغال الوحش ويأنس في أوكارها[8]. فبطل القصة هو سيامند هو طفل توفيت أمه ثم توفي أبوه تاركا له إرثا عريضا، فتزوجت امرأة أبيه رجلا حاقدا ظالما وأقام عندهم في البيت ولكنه سرعان ما طارد سيامند بالتعذيب والتهجير مما دفع سيامند للهجرة على الغابات والجبال، ثم لجأ إلى بلدة موش فعاش عند أميرها فجرحته ابنته حتى وافته المنية عندها. أراد الكاتب أن يكشف عن صور الظلم الرهيب الذي يقع على الضعفاء، فاغتصاب الحقوق وتشريد أهلها والتنكيل بهم دأب الظالمين في كل زمان ومكان. وفي هذه القصة يتمتع الكاتب بحس مرهف ومشاعر رقيقة وعاطفة جياشة وحنين إلى ربوع الوطن.       
            نعم هذه الشخصية لم تزل تعجبنا ثم تذكر فيضان ربنا على أهل العلم والدراية. الشيخ سعيد رمضان البوطي أديب رفيع المستوى وهو لا يقل رتبة عن الرافعي والمنفلوطي، ولذا اختير الشخصية الأدبية في سنة 2011ولكن لقلة آثاره الأدبية بقيت شخصيته الأدبية في الظل ووراء السدول. وما أحسن قول الشاعر:
            رحل السعيد فيا لطول أنيني       
            وسلوا دمشق فنوحها يبكيني
المراجع والمصادر:
             1 .      البوطي، سعيد رمضان البوطي، شخصيات استوقفتني، دار الفكر، دمشق ط1، 1999.
             2.      البوطي، سعيد رمضان البوطي، في الحديث الشريف والبلاغة النبوية، دار الفكر، دمشق ط1، 2011.
             3.      البوطي، محمد سعيد رمضان البوطي، من الفكر والقلب، دار الفقيه، 1997.
              4.      البوطي سعيد رمضان البوطي، هذه مشكلاتهم، دار الفكر، دمشق،1990.
             5.      البوطي، سعيد رمضان البوطي، سيامند فتى الأدغال، دار الفكر، 1998.
          6.      البوطي، سعيد رمضان البوطي، مموزين، دار الفكر، دمشق، 1977.
         7.     محمد عثمان، سعيد رمضان البوطي وآثاره الأدبية، وان، تركيا، 2015
            8.      تيمور تاش، عبد الهادي تيمور تاش، محمد سعيد رمضان البوطي وشخصيته الأدبية، مقالة.
             9.      حنا الفاخوري، الجامع في تاريخ الأدب العربي،دار الجيل، بيروت، لبنان، 1986 







[1]عثمان الحسين،محمد سعيد رمضان البوطي وآثاره الأدبية، ص 23
[2]الأعراف 59
[3]حنا الفاخوري، الجامع في تاريخ الأدب العربي، ص11
[4]البوطي، هذه مشكلاتهم، ص 226
[5]البوطي، محمد سعيد رمضان البوطي، هذه مشكلاتهم، ص230.
[6]البوطي، مقدمة مموزين، ص1
[7]البوطي، مقدمة مموزين، ص10
[8]البوطي، مقدمة سيامند،

مواضيع ذات صلة
الأعلام،, التاريخ الأسلامي, دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات