ادعمنا بالإعجاب

محمد صلى الله عليه وسلم رسول السياسة: بقلم =إسماعيل الفيضي كاينا



بسم الله الرحمن الرحيم والحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
مفهوم السياسة:
كلمة السياسة مصدر للفعل (ساس) ومضارعه (يسوس)، واستخدم (لسائس) الخيل أي من يرعى شؤونها، فالمعنى اللغوي لكلمة السياسة هو رعاية الشؤون، وكلمة (سياسة) كغيرها من الكلمات ذات الدلالة العلمية والفنية المستعملة عند العلماء والكتاب والمفكرين وغيرهم، فهي تحمل معنيين اثنين : معنى لغوياً، ومعنى اصطلاحياً.
   المعني اللغوي : ان الكلمة سياسة تعني في المدلول اللغوي ما يأتي.

السياسة: القيام على الشيء بما يصلحه".وتعني أيضاً: الترويض والتدريب على وضع معّين، والتربية والتوجيه، واصدار الأمر والعناية والرعاية، والاشراف على شيء، والأهتمام به والقيام عليه.
المعني الاصطلاحي: ومفهوم السياسة كغيره من المفاهيم الفكرية يختلف حسب العقيدة والمبدأ والنظرية التي يستفاد منها، أو يعتمد عليها، لذا فقد عُرّفت السياسة بتعاريف عديدة، وفهمت بصور واشكال مختلفة.
ويهمُّنا في هذا البحث ان نعرّف (السياسة) تعريفاً اسلامياً مستفاداً من النظرية الإسلامية ، إلا أنه من المفيد ان نتناول بعض التعاريف، وصور الفهم غير الإسلامية للسياسة. فقد عرّفت بتعاريف عديدة من قبل بعض الكتاب السياسيّين، المختلفين في مذاهبهم، ونظرياتهم السياسية، لنعرف الفارق بين مفهوم السياسة في الإسلام، ومفهومها في المذاهب غير الإسلامية.
فقد عرّفها سقراط الفيلسوف اليوناني بأنها :"فن الحكم، والسياسي هو الذي يعرف فن الحكم".وعرّفها أفلاطون بأنها:"فن تربية الأفراد في حياة جماعية مشتركة، وهي عناية بشؤون الجماعة، أو فن حكم الافراد برضاهم، والسياسي هو الذي يعرف هذا الفن".وعرّفها ميكافيلي بأنها: "فن الابقاء على السلطة، وتوحيدها في قبضة الحكام،
بصرف النظر عن الوسيلة التي تحقق ذلك". ويرى دزرائيلي :"إنّ السياسة هي فنّ حكم البشر عن طريق خداعهم".وهكذا نلاحظ الفوارق في الفهم والتعريف، وتحديد مفهوم السياسة وهويتها بين الكتاب والمفكرين والفلاسفة غير الإسلاميين، متأثّرين بفلسفتهمالعّامة، وفهمهم للحياة والمجتمع والأخلاق، وحركة التاريخ، وباستقرائهم لمجلات النشاط السياسي، وتحديدهم لها في ظروف الممارسات المنحرفة، أو القاصرة للسياسة، فانتزعوا من هذين المصدرين فهمهم للسياسة، فقد رأينا أنّ بعض الكتّاب السياسيين يرى السياسة بأنّها: (فن الحكم)، ويراها فريق آخر بأنهّا : فن الصراع من أجل السلطة والإبقاء عليها
 واستخدم الإسلام هذا اللفظ بمعناه مضيفاً إليه ضوابط الرعاية ومجالها، والأساس الذي تستند عليه، فأصبح المعنى الشرعي لكلمة (السياسة)، رعاية شؤون الأمة داخلياً وخارجياً بحسب أحكام الإسلام، وقد ورد هذا اللفظ بهذا المعنى في حديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (لقد كان من قبلكم تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، إلا أنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول فإن الله سائلهم عما استرعاهم ... أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه.
التجليات السياسية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أولاً: في العهد المكي
1 تميز العهد المكي بمراحل ثلاث مرت بها دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت أولها مرحلة الدعوة السرية، حيث أنشأ فيها صلى الله عليه وسلم كتلة تألفت من الصحابة الكرام، رعى رسول الله صلى الله عليه وسلم شؤونها على خير ما يرعى مسؤول شؤون رعيته، فقد ثقفهم بالعقيدة الجديدة، وكوّن شخصياتهم تكويناً خاصاً أعدهم عن طريقها لخوض غمار المرحلة التالية.

2 المرحلة الثانية كانت المرحلة الجهرية التي تمثلت بالصراع الفكري والكفاح السياسي، حيث اصطدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مجتمع مكة، اصطدم بعقائده يكيل لها الضربات، واصطدم بقادة الكفر في مكة،(تبت يدا أبي لهب وتب..)، (فليدع نادية سندع الزبانية..)، وقال صلى الله عليه وسلم لأمية بن خلف عندما سأله:
أيحيي ربك هذه العظام؟ فأجابه بقوله صلى الله عليه وسلم: "نعم، ويدخلك جهنم"، وتعرض للعلاقات الموجودة في مجتمع مكة حيث كانت قائمة على عقيدة الكفر، فانتقد وأد البنات وذمه، ثم تحمل صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام أشد الأذى في سبيل ذلك، وكل ذلك ليجعل عقيدة الإسلام بعقائده ومعالجاته تحل محل الكفر بعقائده ومعالجاته وبقياداته، صلى عليك وسلم يا سيدي يا رسول الله.
ثم جاءت المرحلة المكية الثالثة، وهي مرحلة الاتصال بالقبائل، أو مرحلة طلب النصرة، ليوجد للإسلام قوة تحميه وتحمله.وتوجت هذه المراحل الثلاث بالحدث السياسي الأكبر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ألا إنه حدث الهجرة الذي كان إيذاناً بولادة الدولة الإسلامية الأولى، أول كيان سياسي يقوم على العقيدة الإسلامية يبين للناس نمطاً جديداً من رعاية الشؤون لم تعهده البشرية من قبل.
ثانياً: في العهد المدني
ظهرت التجليات السياسية في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعماله السياسية الكثيرة، حيث إنه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله بدأ بإرساء قواعد أول دولة سياسية قائمة على العقيدة الإسلامية، فبنى المسجد، وجعله مقراً لرئيس الدولة، فيه يعقد مجلس الحكم، ومجلس القضاء، ومجلس الشورى، ومجلس إدارة شؤون الدولة، ومجلس العلم والتعليم، فضلاً عن وظيفته الأساسية التي هي الصلاة والاعتكاف وملتقى المسلمين، يبحثون فيه شؤونهم.
ونظم وضع القبائل المجاورة للمدينة من اليهود، فاشترط عليهم ألا يخرجوا من المدينة إلا بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم، رئيس الدولة، وحرم عليهم انتهاك حرمة المدينة بحرب أو نصرةٍ على حرب، وحرّم عليهم أن يجيروا قريشاً ولا من نصرها، وأي خلاف ينشب فإن الحكم فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بوصفه رئيساً للدولة المدنية. فتركزت العلاقات في الدولة الإسلامية الناشئة على وضع ثابت الأساس، حتى اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بناء المجتمع السياسي، وأمن إلى حدّ ما غدرَ جيرانه اليهود ومحاربتهم، وأخذ يعمل لإزالة الحواجز المادية من طريق الدعوة الإسلامية بالتهيئة للقتال،
ومن تجليات السياسية النبوية، رعاية شؤون الداخل،كانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، كانت من خير الأمثلة على حسن رعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم لشؤون الأمة، شؤون الدولة الجديدة الفتية، فأرسى دعائمها لتقوم بوظيفتها
انطلق صلى الله عليه وسلم يرسل السرايا، ويفتعل الأحداث السياسية مع قريش والقبائل المجاورة، فمرة يعترض قوافلهم، وأخرى يعقد صلحاً مع قبيلة، وثالثة يعطي كتاباً لكيان آخر، ومرة يقاتل، وهكذا.. حتى حدث الصدام الكبير مع قريش، غزوة بدر، حيث كانت إعلاناً للدولة الإسلامية الجديدة على مستوى الجزيرة العربية، وأخذت قريش تحسب الحسابات لهذا الكيان السياسي الجديد.
وجاءت غزوة أحد، والتي كانت بغض النظر عن نتيجتها العسكرية، كانت اعترافاً صريحاً من قريش بهذا الكيان السياسي الجديد.
جاء صلح الحديبية، الذي كان من أكبر المناورات السياسية، حيث نجح رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحييد قريش عن ساحة الصراع المادي ليتفرغ لأمرين:ليتفرغ لباقي الكيانات السياسية في الجزيرة العربية، ليضمها إلى جسم الدولة الإسلامية.
وليعلن الدولة الإسلامية دولة كبرى في العالم، تؤثر في الموقف الدولي، بل تزاحم الدول الكبرى آنذاك، دولتي الفرس والروم، حيث تفرغ صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية لمخاطبة الدول العظمى في زمنه، وإرسال الرسائل للملوك والأمراء والكيانات السياسية الأخرى، وذلك ليبين للمسلمين أن وظيفة هذه الدولة الأساسية إنما هي تطبيق الإسلام في الداخل وحمل الإسلام إلى الناس كافة.ثم كان ما كان بعد ذلك من مواجهات سياسية ومواجهات مادية مسلحة مع الدولة العظمى آنذاك دولة الروم، لتصبح الدولة الإسلامية ثالث الدول العظمى بعد دولتي الروم والفرس.
وفي هذا الجانب، جانب تحويل الدولة الإسلامية إلى دولة عظمى، تجدر الإشارة إلى تشكيله صلى الله عليه وسلم جيشاً كبيراً أراد توجيهه إلى دولة الروم، ذلك الجيش الذي سمي بـ (جيش أسامة) أو (بعث أسامة)، وانتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وهو يكرر الوصية أنفذوا بعث أسامة، تأكيداً للصراع الدولي الذي يتحتم على دولة الإسلام أن تخوضه مع الدول العظمى، لتحل محلها، وتأخذ منها زمام المبادرة. وفعلاً أتم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم ما كانت تمر به الدولة الإسلامية بعد وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من عواصف قوية تمثلت في ارتداد قبائل من العرب عن الإسلام.
 ثم جاء فتح مكة، وتلاه عام الوفود الذي كان ضمّاً فعلياً للكيانات السياسية الموجودة في الجزيرة العربية إلى كيان دولة الإسلام، وهذا يعني امتداد دولته صلى الله عليه وسلم، وازدياد قوتها، مما وضعها في مصافّ الدول العظمى في ذلك الزمان قبل أن ينتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى.
وبناء على ما سبق، تبرز أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم السياسية،
ويمكن تصنيفها كما يأتي:
1         تنظيم العلاقات في المجتمع المدني، مجتمع المدينة المنورة الدولة الإسلامية.
2         تنظيم علاقة المسلمين بغيرهم من القبائل الأخرى المجاورة للمدينة المنورة من
1.        اليهود.
3         بيانه صلى الله عليه وسلم لقواعد نظام الحكم في الإسلام، وبيانه لأجهزة
2.        الدولة الجديدة.
4         رعاية شؤون المسلمين في الداخل بأحكام الإسلام.
5         العلاقات الدولية من معاهدات ومفاوضات، وجهاد لنشر دعوة الإسلام، ومناورات سياسية، والارتقاء بدولة الإسلام من دولة ناشئة فتية، إلى كيان سياسي تعترف به الجزيرة العربية، ويعترف به أكبر كيان سياسي في الجزيرة آنذاك وهو كيان مكة، ثم الارتقاء بهذا الكيان السياسي ليكون في مصاف الدول العظمى، فيزاحم الدولتين العظميين: الروم والفرس ليأخذ منهما بعد ذلك مقعد الصدارة، ومكانة الدولة الأولى في العالم.
 وأعماله السياسية عادت نتائجها على الأمة الإسلامية بالخير والازدهار في الداخل والخارج، ولم يتحيز صلى الله عليه وسلم لنفسه أو لقرابته مثلاً، بل إن عائد أعماله كان يصب في مصلحة المسلمين كافة.
لقد خط رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين ولأمة الإسلام من بعده هذه الخطوط السياسية المنبثقة عن العقيدة الإسلامية ليسير عليه المسلمون من بعده، وقد سار عليها الصجابة الكرام عليهم رضوان الله، وتابعوهم، وتابعوهم بإحسان إلى يوم الدين، واستمر المسلمون يحملون الإسلام حملاً روحياً وحملاً سياسياً لأن عقيدة الإسلام عقيدة روحية سياسية.
علاقة الدين بالدولة
قال تعالى ولقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ
الدين: -هنا- مجموعةُ العقائد والقواعد والأعمال المتلقاة للرسول من الله الخالق يَعدُ العاملين بها بالنعيم المقيم والمعرضين عنها بالعقاب.
وقد يُطلقُ على الشريعة -وهي سلسلةٌ محكمةٌ من القواعد والضوابط- المبادئ والأحكام التفصيلية، مغطيةً العقائدَ والأخلاق والسلوك والمعاملات في كل أبعادها، منظمةً علاقةَ الإنسان بربّه، وعلاقته بأبناء جنسه "البشر"، فكانت إيمانًا وعبادات مقرونةً بالعمل الصالح، مما جعل القيم أساسًا لقوانين المعاملات، إنَّه تسلسلٌ مترابطٌ نسيجُ وحده بين الإيمان والعمل والمعاملة ، يحقق العدالةَ والسعادة في حياة البشر، ويجنّبهم الظلمَ والطغيان والشقاء فلا يمكن فصل الدين عن الدولة وما عرف التاريخ إنساناً كمل في هذه الجوانب كلها إلى أعلى درجات الكمال غير محمد -صلى الله عليه وسلم- مع ملاحظة أن كمالاته هنا جانب من جوانب كمالاته المتعددة التي لا يحيط بها غير خالقها. ولنستعرض جوانب سيرة رسول الله، تلك الجوانب العملية لنرى تجليات مواقفه المتعلقة بالسياسة
ومنها انه طالب المشركون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من مرة أن يطرد المستضعفين من المسلمين حتى يجلسوا إليه، وفي كل مرة كان يتنزل قرآن ويكون موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم- الرفض، ومن هذه ما أخرجه أبو نعيم عن ابن مسعود قال : من الملأ (أي السادة) من قريش على رسول الله وعنده صهيب وبلال وخباب وعمار –رضي الله عنهم– ونحوهم وناس من ضعفاء المسلمين فقالوا (أي الملأ مخاطبين رسول الله): أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أفنحن نكون تبعاً لهؤلاء الذين منَّ الله عليهم؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك قال: فرفض رسول الله طلبهم  رواه والطبراني. والرسول -عليه الصلاة والسلام- استطاع أن يقود الناس بهذا الإسلام. فلا نجد موقفاً من مواقفه تناقض مع نصوص ومبادئ دعوته، وعلمت أنه ما من زعيم سياسي إلا ويضطر للتناقض، إما لاحقا مع سابق أو دعوى مع عمل أو داخلياً مع خارجي، أدركت مدى الكمال في القيادة المحمدية، وخاصة إذا عرفت أنه لم يستطيع أن يرتفع من حكّام الأمة الإسلامية إلى القيادة بالإسلام الكامل بحق، إلا أفراد منهم الخلفاء الراشدون الأربعة، أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد ساس الناس بالإسلام ولم ينزل بالإسلام إلى مستوى الناس، بل رفع الناس إلى مستواه على وتيرة واحدة ونسق واحد في الفكر والعمل.
ونجد أنه صلى الله عليه وسلم- قد نجح فيهما. فرغم تألب الجزيرة العربية كلها عليه، ورغم العداء العنيف الذي ووجه به، ورغم كل شيء فإن عملية التبليغ لم تنقطع لحظة من اللحظات.
أما للأمر الثاني، فأنت تلاحظ حكمة مواقفه تجاه العدو، فهو في مكة يصبر ويأمر أتباعه بالصبر، ولم يأمر بقتالهم، ولو فعل ذلك لخسر أتباعه قتلاً، ولشغل بذلك في قضايا الثأر، ولما أمكنه أن يتابع عملية التبليغ. فكسب بهذه الخطة كثيراً من القلوب. فإذا ما انتقل إلى المدينة رأيت تجدد مواقفه على حسب الظروف الجديدة من معاهدة إلى سلام إلى حرب إلى ضربة هنا ووثبة هناك. ولكن هذا كله لم يؤثر بتاتاً على عملية تبليغ الحق وإقناع الناس به على كل مستوى وبكل وسيلة ملائمة. وخلاصة القول: لا توجد حركة سياسية تقوم على أساس عقدي نجحت كما نجحت دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي فترة قصيرة، وهذا يدلنا على أن الأمر أكبر من أن يكون –لولا التوفيق الإلهي– لهذا الرسول الأعظم الفذ على مدى التاريخ بين الرجال وقدرته صلى الله عليه وسلم على استيعاب أتباعه تربية وتنظيماً وتسييراً ورعاية عندما لا يحس الأتباع بالرعاية الدائمة، والملاحظة التامة، وعندما لا يوضعون فيما يحس وضعهم به، أو عندما يحسون بأنهم منسيون، أو عندما لا يعرف الإنسان محله ومهمته بها، كل هذا يؤثر على نفسية الأتباع ويولد عندهم فتوراً عن الدعوة.
فنرى في الجانب الأول: تربية الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكيف أن الأمة الإسلامية كلها قد وُسعت تربية.  في الجانب الثاني: نرى الحركية الدائمة التي كان يجعل أصحابه دائماً يعيشونها. في الجانب الثالث: ترى دقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الرعاية والعناية والسهر على شؤون الأتباع بشكل عجيب، ولعل هذا الجانب أحق بالتمثيل:
وذلك لما ضاقت مكة وأوذي أصحاب رسول الله وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم وأن رسول الله لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله في منعة من قومه ومن عمه، لا يصل إليه شيء مما يكره، ومما ينال أصحابه. فقال لهم رسول الله: إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه. وقد وجههم مرتين إلى الحبشة. مرة في السنة الخامسة، ومرة في السنة السابعة. حيث كان المسلمون مقدمين على أعظم مراحل الاضطهاد مرحلة المقاطعة الشاملة.
والأمثلة كثيرة وفيها دلالة على مبلغ دقة الرسول - صلى الله عليه وسلم- في توجيه أصحابه بالشكل الذي يحمون فيه ويؤمنون، وكيف أنه لا ينسى أحدا منهم بل يستوعبهم جميعاً برعايته، وكيف يعدهم للخطة المناسبة، وكيف يسيّر كل واحد منهم بحكمة تناسب وضعه-
الشورى استخراج طاقات العقول بالشورى من عبقريات الرئاسة وحسن سياستها، واستخلاص الرأي الصحيح. وفي كل من هذين كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأسوة العليا للبشرونرى ان الشورى في فن السياسة عملية تستجمع فيها طاقات العقول كلها لاستخلاص الرأي الصالح، ويتحمل فيها كل فرد مسؤولية القرار النهائي، ويقتنع فيها كل فرد بالنتيجة. فيندفع نحو المراد بقوة وترتفع بها ملكات الفرد وروح الجماعة. ويبقى الإنسان فيها على صلة بمشاكل أمته وجماعته، ولذلك جعل الله أمر المسلمين شورى بينهم، حتى يتحمل كل فرد من المسلمين المسؤولية كاملة ولا يبقى مسلم مهملاً.
والظاهرة التي نراها في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كقائد. حبه للشورى وحرصه عليها ومحاولته توسيع دائرتها واستخلاصه الرأي الأخير في النهاية:قبيل غزوة بدر استشار الناس فأشار المهاجرون، فلم يكتف ثم استشار الناس فأشار الخزرج والأوس، ثم اتخذ قراره الأخير حتى يمحو أي تردد عن أي نفس. وقبيل يوم أحد استشار الناس وأخذ برأي الأكثرية. ويوم الأحزاب أخذ برأي سلمان الفارسي. ويوم الحديبية أشارت عليه أم سلمة زوجته فأخذ برأيها.
انها القيادة التي لا تستكبر أن تنزل على رأي مسلم كائناً من كان، ما دام الرأي سليماً صحيحاً. والقيادة الصالحة هي التي تعمم الشورى حتى لا يبقى أحد عنده رأي إلا قاله وخاصة فيما يكون فيه غرم.أما معرفة الرجال ووضع كل في محله المناسب له وتكليفه بالمهمة التي يصلح لها، فكذلك لا يلحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد فيها.
إن أبا بكر وعمر كانا في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلقبهما الصحابة بالوزيرين له، وكان يسمر معهما في قضايا المسلمين، ولما مرض -صلى الله عليه وسلم- أمر أبا بكر أن يصلي بالناس وهذا الذي جعل المسلمين يختارونه بعده خليفة، ثم كان عمر الخليفة الثاني، والناس يعرفون ماذا فعل أبو بكر وعمر يوم حكما الناس، فهل يشك أحد أن تركيز الرسول -صلى الله عليه وسلم- على هاتين الشخصيتين كان في محله، وأنهما من الكفاءة في المحل الأعلى، وأن رأي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهما في محله. وهذان مثلان فقط وإلا فما اختار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً إلا ورأيت الحكمة في هذا الاختيار.لكل مقام رجال وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر الخلق فراسة في اختيار الرجل المناسب للمقام المناسب.
لقد مضى على بدء الإسلام أربعة عشر قرناً، ولا زال الإسلام في انتشار، ولا زال يتوسع، رغم كل ما تبذله الدعايات الكافرة من أعدائه، سواء كانوا أصحاب دين أو غير أصحاب دين بطرق منظمة وغير منظمة، فلا زال الإسلام هو الإسلام ولا زال قادراً على الحركة. ورغم الملابسات التاريخية التي أوقعت العالم الإسلامي في قبضة أعدائه، ورغم سيطرة الأعداء فالإسلام باق. ورغم أن الكافرين استطاعوا أن يهيؤا لأعداء الإسلام وسائل الانتصار داخل العالم الإسلامي فالإسلام شامخ يتحدى ويقهر.
 ما استقر الرسول عليه الصلاة والسلام بالمدينة بعد هجرته كان لا بد له من أن يستعد لنزال قريش وخوض الحرب معها فما كانت قريش بالتي ترضى أن تكون للرسول في المدينة العزة والمنعة. وهي التي حرصت ثلاثة عشر عاماً على مناصبة دعوته العداء، فكيف وقد أفلت من يدها وأصبح في المدينة سيدها وقائدها ورئيسها المحبوب
لقد كان الصراع مع قريش بعد الهجرة – صراعاً حربياً – أمراً متوقعاً في نظر الرسول صلى الله عليه وسلم وكان في المدينة – مع الأوس والخزرج – عدد كبير من اليهود يسكنون في أراضيها أو على مواقع تحيط بها ، ولم يكن يتوقع الرسول من اليهود سلماً لدعوته ورضى بانتشارها وهم الذين كانوا يستولون على مقدرات سكانها من الأوس والخزرج ، ويثيرون العدوان بينهم ، لتظل لهم السيطرة السياسية والمالية عليهم ، فكيف يرتاحون إلى وحدة كلمة هؤلاء المؤمنين من جيرانهم ، وانتهاء الحروب والفتن الداخلية فيما بينهم ؟
هذا مع ما فاض به تاريخ اليهود من محاربة لرسل الله ، وقتل لأنبيائه ،وإثارة للفتن والعداء في كل مجتمع يعيشون فيه ، وبذلك واجه الرسول في المدينة جبهة أخرى معادية لدعوته ، بعد أن كان العداء بينه وبين خصوم الدعوة في مكة محصوراً في قريش ومن يناصرها .
 هنا تتجلى حكمة الرسول البعيدة المدى ، إذ بادر إلى عقد ميثاق بينه وبين يهود المدينة ليأمن شرهم ، ويمنعهم من مؤازرة قريش في معاركها المقبلة . ووضع الميثاق وأصبح اليهود مواطنين في المدينة يربطهم الميثاق الجديد بالدفاع عن المدينة ممن يقصد غزوها ، وبأن يكونوا مع المؤمنين فيها يداً واحدة على النوائب ومن هنا استطاع الرسول أن يتفرغ لرد عدوان قريش ، وأن يخوض معها بدراً وأُحداً وغيرهما من المعارك ، آمناً في جبهته الداخلية، مكفياً شر اليهودوهم أقدر على إيذائه من قريش إذ كانوا في أرباض المدينة وما حولها .
مفهوم السياسة في الإسلام:
كلمة (سياسة) تطلق على كل عمل يتعلق برعاية الأمة، وتدبير شؤونها.. سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو التعليمية، أو إدارة الدولة، أو نشاط الأفراد والأحزاب الإسلامية، أو القضاء وإدارة العلاقات الخارجية والدفاع عن الأمة والعقيدة والأوطان... الخ وإذن فالحكومة مسؤولية عن رعاية شؤون الأمة، والأمة مسؤولية عن رعاية شؤونها، ومن رعاية شؤونها، مراقبتها للسلطة، ومحاسبتها، وإسداء النصح والمشورة، وتحديد الموقف منها عند الانحراف، والخروج عن الخط الإسلامي..
وتسأل عن هذا الواجب ابتداء الأمة الإسلامية بأجمعها، ثم تتركز المهمة (بالسلطة الإسلامية) مع بقاء المسؤولية السياسية قائمة من خلال واجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على نحو الكفاية.
والواضح أنّ الرعاية، والاهتمام بشؤون الأمة ومصالحها، يدخل فيها فنّ الحكم، ونشاطات السلطة السياسية، ونشاطات الأمة السياسية، بما فيها الكفاح والثورة ضدّ الحاكم الظالم. وهكذا يتسع مفهوم السياسة في الإسلام، ليشمل كل ما هو رعاية لشؤون الأمة، ومصلحتها.وبعبارة أخرى أن السياسة: عمل تقوم به الأمة، وجهاز السلطة، من أجل تحقيق الأهداف الأساسية للرسالة الإسلامية التي لخّصها الفقهاء بـ"جلب المصالح ودرء المفاسد".
مفهوم السياسة في القرآن:
لقد تحدث القرآن الكريم عن السياسة والحكومة في موارد كثيرة من آياته، تحت عنوان الإمامة والخلافة والولاية والحكم فجعلها أمانة بيد الحاكم، وضرورة عقائدية لهداية الإنسان، واصلاح الحياة البشرية، لتحقيق العدل، وتطبيق القانون والنظام اللذين يحفظان ارادة الحق والعدل والخير في هذا الوجود، إرادة الله سبحانه.. وفيما يلي نقرأ مجموعة من الآيات الكريمة التي تعطينا صورة واضحة لمفهوم السياسة في الإسلام.
قال تعالى مخاطباً النبي داود (ع): (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ.أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) سورة ص
وقال ايضا ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (يونس
وقال وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً َقالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (البقرة
وقال إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء
وكما اثّبت القرآن تلك الأسس الفكرية للحكم والسياسة. ثّبت كذلك مبدأ الشورى والتشاور كأساس من أسس النظام السياسي في الإسلام.فقال تعالى مخاطباً نبيّه الكريم : (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) آل عمران/ 159.
وقال تعالى : واصفاً المؤمنين في حياتهم السياسية والإجتماعية: (.. وأمرهم شورى بينهم وممّا رزقناهم ينفقون) وفي موضع آخر تحدث عن البيعة والطاعة لولاة الأمور الذين يقيمون الإسلام وينفّذون سياسة الحقّ والعدل، واعتبرها واجبة على الأمّة
مفهوم السياسة في السنة المطهرة
وتتحدث النصوص الواردة عن رسول الله (ص) والأئمة الهداة (ع) والصحابة (رض) عن مفهوم السياسة والحكم والمسؤولية السياسية والعمل السياسي في الإسلام.كما توضح السيرة العملية للرسول الكريم محّمد(ص) مفهوم السياسة والحكم أفضل ايضاح، فقد أقام الرسول (ص) دولته المقدّسة في المدينة المنوّرة، وطبق المفاهيم الإسلامية لتكون نهجاً ودستوراً للحياة. ونختار من الأحاديث الشريفة،لنوضّح مفهوم السياسة في الإسلام وشموله ما يأتي:
 قال(ص):"كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته...".
   وروي عنه (ص) قوله:"ومَن لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم".
وروي عنه (ص) :" َمن ولي من أمر المسلمين شيئاً فولّى رجلاً، وهو يجد مَن هو أصلح منه للمسلمين، فقد خان الله وروسوله والمؤمنين"
وقال ص.ما من والٍ يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم، إلاحرّم الله عليه الجنّة".
   " وقال ص ما من عبد استرعاه الله رعيّة، فلم يحطها بنصح، إلا لم يجد رائحة الجنة".
روي البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قول النبي(ص):"إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قيل يا رسول الله وما اضاعتها، قال اذا وسد الأمر الى غير أهله، فانتظر الساعة".
     وروى عن رسول الله(ص) قوله :"إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر".
وروي عن الإمام الحسين علي بن أبي طالب(ع) قوله عندما أعلن الثورة على حكومة يزيد بن معاوية ورفض البيعة:"وإني لم أخرج اشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وانّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي رسول الله، أريد أن آمر بالمعروف وانهى عن المنكر.
فالسياسة في الإسلام تعني إدارة شؤون الحكم، وتربية الإنسان على القيم والمبادئ الإسلامية، وتعني المعارضة ومقاومة الحاكم الظالم، وتقديم الخدمات، واعمار البلاد وتطويرها، كما تعني توجيه شؤون لإقتصاد وترشيدها، وحفظ اموال الامّة وانمائها، كما تعني الإنتصار للمظلوم، والوقوف بوجه الظالم وكل علاقة يدخل فيها الحاكم والمحكوم ممّا يرتبط برعاية شؤون الأمّة وتدبيرها.
وتعني القيام بمهمّة القضاء، والدفاع، وحماية الأمن، وتمثيل الحاكم للأمة، والنيابة عنها، وحفظ حقوقها الأدبية والإنسانية...الخ.
  وقد عُرّفت السياسة في الفكر السياسي الإسلامي بأنّها:"رعاية شؤون الأمّة".
تميز الإسلام بأنه دين السياسة، وتميز رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسول  السياسي، ذلك أن الشريعة التي أوحى الله تعالى بها إليه شريعة شاملة جوانب حيا ة   البشر كافة من جميع نواحيها، لأنها عالجت مشاكل الإنسان بوصفه إنساناً، وقام       رسول الله صلى الله عليه وسلم بتطبيق هذه الشريعة تطبيقاً عملياً، لا غرو؛ فهو    المبلغ عن الله شريعته قولاً وعملا وسكوتاً، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين


مواضيع ذات صلة
النبويات, دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات