ادعمنا بالإعجاب

فاتح الهند محمد بن قاسم الثقفي

   زين الدين ب ت
حسب المعلومات المتوافرة بدأت استطلاعات العرب المسلمين نحو بلاد الهند والسند في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين وجه عثمان بن أبي العاصي والي عمر في بلاد البحرين وعمان تحت قيادة أخيه الحكم جيشا إلى منطقة "تانه" في الهند في سنة 15 هـ. وفي خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه توجه إلى ثغر الهند حارث بن مرة العبدي في أواخر سنة 38 هـ وفي أوائل سنة 39 هـ. وفي أيام معاوية رضي الله عنه غزا ذلك الثغر المهلب بن أبي صفرة ووصل إلى منطقة "بنه" بين كابل وملتان. وفي حملة أخرى هاجم سنان بن سلمة بن المحسن الهذلي تخوم الهند ففتح بلاد مكران ثم غزا القيقان حتى أتوا بلاد القندهار. عندما ولي حجاج بن يوسف الثقفي
العراق ولى سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي بلاد مكران وبعده مجاعة بن سعر التميمي الذي فتح طوائف من قندبيل. وعلى هذا السبيل حاول العرب الهجوم على حدود الهند في ايام الخلفاء العديدة إلا أنهم لم يتمكنوا من إثبات القدم على بلاد الهند. وقد تمكن هذا الأمر تحت قيادة شخصية بارزة أحبها أهالي الهند بعد أن تجربوا تجربة حسنة في المروؤة والوفاء وحسن المعاشرة وعدالة الحكم. وكانت هذه الشخصية محمد بن قاسم الثقفي.

محمد بن قاسم الثقفي
وهو علم من أعلام الفتوحات الإسلامية في جميع العصور الذي اشتهر بفاتح السند والهند. محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب بن مالك بن كعب بن مالك من أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم داعيا قومه إلى الإسلام فقتلوه. وكان أبوه القاسم بن محمد والي البصرة من قبل حجاج بن يوسف. وكان محمد بن قاسم ابن عم حجاج بن يوسف حيث يجتمعان في النسب في الحكم بن أبي عقيل.
ولد محمد بن القاسم في منتصف العقد السابع من القرن الأول الهجري في مدينة البصرة حيث كان أبوه أميرا. يعد محمد بن القاسم من التابعين، لأن أنس بن مالك رضي الله عنه كان آخر الصحابة موتا بالبصرة. وكان موته سنة 91 هـ وفي رواية أخرى 93هـ. هناك احتمال لمعاينة محمد بن القاسم أنس بن مالك رضي الله عنه. وعلى كل حال كان من معاصري التابعين بلا شكوك. وكان محمد بن القاسم الثقفي شخصية قوية وداهية من دهاة العرب حربا وإقداما. وقد جاهد في بلاد فارس وفتح كثيرا من المدن في أيام وليد بن عبد الملك. وأعجب حجاج بن يوسف بكفاءة محمد بن القاسم الثقفي الذي ملأ بلاد الفارس بالمهاجمات والفتوحات حتى زوج ابنته له. وقال بعض المؤرخين إن الحجاج بن يوسف عرض عليه أخته زينب التي كانت امرأة حسناء وهو ابن سبع عشرة. وهذه الروايات كلها تشير إلى إعجاب الحجاج بمحمد بن القاسم الثقفي. وفي سنة 83 هـ تولى محمد شيراز وفارس فحارب الأكراد وتولى عمارة شيراز وجعلها معسكرا ومنزلا للمسلمين.
فتوحات محمد بن القاسم في بلاد الهند
قبل تولية محمد بن القاسم الثقفي بلاد السند والهند حدثت هناك حادثة أدت إلى ثأر الحجاج بن يوسف على ملك من ملوكها في مدينة ديبل. يقول عبد الحي الحسني في كتابه " الهند في العهد الإسلامي " : ثم استعمل الحجاج بعد مجاعة بن محمد بن هارون بن ذراع النمري فأهدى إلى الحجاج في ولايته ملك جزيرة الياقوت نسوة ولدن في بلاده مسلمات، ومات آباؤهن، وكانوا تجارا، فاراد التقرب بهن، فعرض للسفينة التي كان فيها قوم من ميد الديبل في بوارج، فأخذوا السفينة بما فيها. فنادت امرأة منهن وكانت من بني يربوع: يا حجاج" وبلغ الحجاج ذلك، فقال: يا لبيك!" فأرسل إلى داهر يسأله تخلية النسوة، فقال: إنما أخذهن لصوص، لا أقدر عليهم" فأغزى الحجاج عبيد الله بن نبهان الديبل، فقتل، فكتب إلى بديل بن طهفة البجلي وهو بعمان يأمره أن يسير إلى الديبل، فلما لقيهم نفر به فرسه، فأطاف به العدو فقتلوه.
عندما قتل القائدان في المعركة مع داهر ملك الديبل اضطر الحجاج إلى الاعتماد على محمد بن القاسم الثقفي، وقد أعد له الحجاج جميع العدة والعتاد ومرافق العيش. وقد أشار إلى ذلك البلاذري في كتابه فتوح البلدان: ولى الحجاج محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل في أيام الوليد بن عبد الملك فغزا السند. وكان محمد بفارس. وقد أمره أن يسير إلى الري، وعلى مقدمته أبو الأسود جهم بن زحر الجحفي، فرده إليه، وعقد له على ثغر السند، وضم ستة آلاف من جند أهل الشام، وخلقا من غيرهم، وجهزه بكل ما يحتاج إليه حتى الخيوط والمال، وأمره أن يقيم بشيراز، حتى يتأم إليه أصحابه، ويوافيه ما عد له، فعمد الحجاج إلى القطن المحلوج فنقع في الخل، الخمر الحاذق، ثم جفف في الظل، فقال: إذا صرتم إلى السند فإن الخل بها ضيق، فانقعوا هذا القطن في الماء ثم اطبخوا به واصطبغوا" وفي بعض الكتب أن محمد بن القاسم سار قاصدا السند، وله قوتان، قوة برية وقد بلغت عشرين ألف مقاتل وفيهم فرسان من جنود الشام الذين كانوا ذراعا وغوثا للدولة الأموية، والقوة الثانية هي قوة بحرية سارت تحمل جنود الأسطول وعتاده ومؤونة الجيش والآلات الثقيلة المهياة لحصار الحصون وفيها مجانيق ضخمة تقذف بالقذائف فتدرك كل شامخ" وهذه العبارات كلها دليل على استعداد الحجاج ومحمد بن القاسم الثقفي لفتح الهند.
سار محمد بن القاسم إلى "مكران" فأقام بها أياما، ومنها إلى "قزبور" ثم أتى "أرمانيل" وفتحها. ورسم بها خطة لمهاجمة الديبل، و نفذها كما يأتي: يقول البلاذري: ثم سار محمد بن القاسم من "أرمائيل" ومعه جهم بن زحر الجعفي فقدم "الديبل" يوم الجمعة، ووافته سفن كان حمل عليها الرجال والسلاح والأداة، فخندق حين نزل "الديبل"، وركزت الرماح على الخندق، ونشرت الأعلام، وأنزل الناس على راياتهم، ونصب منجنيقا تعرف ب"العروس" كان يمد فيها خمس مائة رجل. وكان بالديبل بد عظيم عليه دقل طويل، وعلى الدقل راية حمراء إذا هبت الريح أطافت بالمدينة، وكانت كتب الحجاج ترد على محمد وكتب محمد ترد عليه بصفة ما قبله، واستطلاع رأيه فيما يعمل به في كل ثلاثة أيام، فورد على محمد من الحجاج كتاب: أن انصب العروس، وأقصر منها قائمة، ولتكن مما يلي المشرق، ثم ادع صاحبها فمره أن يقصد برميته للدقل الذي وصفت لي" فرمى الدقل فانكسر، فاشتد طرة الكفر من ذلك، ثم إن محمدا ناهضهم، وقد خرجوا إليه فهزمهم حتى ردهم، ومكث محمد يقتل من فيها ثلاثة أيام، وهرب داهر عنها، وقتل سادني بيت آلهتهم، واختط محمد للمسلمين بها، وبنى مسجدا وأنزلها أربعة آلاف. وعلى هذا النحو استطاع محمد أن يحقق أكبر فتوحاته في بلاد السند.
ومنها ذهب إلى "البيرون" وسالم أهاليها وسار إلى "سهيان" وفتحها، وتتابعت الفتوحات في مهران، مدوسان، الزط (جات)، بلاد راسل في قصة (كجه) وكان داهر ملك ديبل مستخفيا بقصه بعد هروبه من الديبل، ودارت معركة دامية بين محمد وداهر الذي أتى على فيل وحوله الفيلة الكثيرة، وفي تلك المعركة قتل داهر وانهزم المشركون. ثم فتح محمد بن القاسم مدينة "راور" عنوة، كما فتح "برهمناباد" العتيقة، ومنها سار إلى "ألرور" و "بعزور" و"ساوندري" و"بسمد" وقد صالح أهالي هذه البلدان معه واشترط عليهم ضيافة المسلمين. وفي"الرور" إنه حاصر المدينة وفتحها صلحا على أن لايقتلهم ولايعرض لبدهم. وبعد ذلك فتح "السكة" و"بياس" ثم قطع نهر بياس إلى "ملتان" فقاتل قتالا شديدا وانهزم المشركون فدخلوا المدينة. وفي ملتان أصاب كثيرا من المال والذهب، وسبب ذلك أنه كان في ملتان بد تهدى إليه الأموال، حتى سميت "الملتان" بفرج بيت الذهب.
وقد أفادت هذه الفتوحات خزانة الأمويين بأموال طائلة حتى حصلوا على ضعف ما أنفقوا في تلك المهاجمات إلى جانب السيطرة على البلدان المفتوحة. يقول بعض المؤرخين: قالوا: ونظر الحجاج فإذا هو قد أنفق على محمد بن القاسم ستين ألف ألف ووجد ما حمل إليه عشرين ومائة ألف ألف، فقال: شفينا غبظنا وأدركنا ثأرنا وازددنا ستين ألف درهم ورأس داهر".
وكان محمد بن القاسم يريد التقدم إلى بلاد "كنوج" في الهند، ولكن أتت عليه وفاة حجاج بن يوسف، وكان ذلك في رمضان سنة 95 هـ ، ورجع عن الملتان إلى الرور وبغرور، وكان قد فتحها فأعطى الناس، ووجه إلى "البيلمان" جيشا فلم يقاتلوا واعطوا الطاعة وساله أهل سرست، ثم أتى محمد "الكيرج" فخرج إليه دوهر فقاتله فانهزم العدو، وهرب دوهر أو قتل. هكذا أصبح محمد لا يمر بمدينة إلا فتحها، وفتح اليعقوبي: وكتب إلى الحجاج يستأذنه في التقدم، فكتب إليه: أن سر فأنت أمير على ما فتحته. وكتب إلى قتيبة بن مسلم عامل خراسان: أيكما أسبق إلى الصين فهو عامل عليها وعلى صاحبها. فمضى محمد بن القاسم وجعل لايمر ببلد إلا غلب عليه، ولامدينة إلا فتحها صلحا أو عنوة.
أخلاقه وسياسته 
اشتهر محمد بن قاسم الثقفي بأخلاقه الرفيعة وسياسته القيمة في كل بلدان اعتمره، وقد قام بنشر العدالة والمساواة بين أهالي البلاد، واشتهر بسماحته ومروؤته. ولم يكن جبارا عنيدا، بل كان يعامل الرعايا وأعضاء القوة معاملة حسنة، ويقول فيه الشاعر:
إن السماحة والمروؤة والـندى                         لــمـحمـد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة              يا قرب ذلك سؤددا من مولد
عندما كان في شيراز جعلها معسكرا ومنزلا لولاة فارس، حتى قال ياقوت الحموي عن شيراز في أيام محمد بن القاسم : شيراز مما استجد عمارتها وختطاطها في الإسلام" ويقول المباركفوري في كتابه "العقد الثمين" وبقي محمد يفتح بلادا من الهند فوق ما فتح وينشر العدل الإسلامي ويسيطر بخلقه وحسن سيرته فوق ما يستولي بجنده، فانجذبت إليه القلوب والتفت حوله النفوس، حكومة عادلة وسياسة رفيقة، ولقد ترك هناك من فضائله ما جعل أهل السند يتعلقون به ويتفانون لأجله، لقد نشر محمد في عماله منشوره أو دستوره القيم الذي يقول فيه: أنصفوا  الناس من أنفسكم، وإذا كانت قسمة فاقسموا بالسوية، وراعوا في فرض الخراج مقدرة الناس على أداءه، ولا تختلفوا ولا تنازعوا فتشقى بكم البلاد." ومن هذه العبارة يتضح  ما كان لدى محمد بن القاسم الثقفي من العدالة والمساواة والإنصاف في القضايا المتعلقة بعامة الناس وخاصتهم سواء كانوا من الجنود أو أهالي البلاد المستضعفة، إنه لم يفرق بين العرب والعجم، ولا بين الولاة والقضاة وعامة الناس، فأصبح شخصية محبوبة عند سكان الهند حتى دخل الهنود في الإسلام ، لا بقوة عسكرية بل بقوة روحية كان يتمتع بها هذا القائد الإسلامي الكبير.
وفاته

وبعد موت حجاج بن يوسف الثقفي وموت وليد بن عبد الملك انقلبت الأمور، ولم يحصل محمد بن القاسم الثقفي على المساعدة مثل ماحصل في أيام حجاج بن يوسف. وفي أيام سليمان بن عبد الملك أصبح صالح بن عبد الرحمن والي العراق، وولى يزيد بن أبي كبشة السكسكي السند. وكان بين الحجاج وصالح بغضاء في بعض الأمور. وذلك أن حجاج قتل آدم أخا صالح، وكان آدم من أتباع الخوارجة، فجعل صالح ينتقم ممن ساعد الحجاج في أيام ولايته، وأدى إلى الانتقام من محمد بن القاسم الثقفي أيضا. ألقى يزيد بن أبي كبشة القبض على محمد بن القاسم وحمله مقيدا مع معاوية بن مهلب إلى العراق. كانت هذه الحادثة ضربة قوية على أهل الهند الذين يحبون هذا القائد حبا كبيرا ويرون تحت رعايته الارتقاء والنمو في  جميع مرافق الحياة. فبكى أهل الهند على محمد بن القاسم الثقفي، وصنعوا له تمثالا في مدينة "الكيرج" تكريما له.
حبس صالح محمد بن القاسم في مدينة واسط، وعذبه ومن كان معه في آل أبي عقيل حتى قتلهم جميعا، هكذا انتهت حياة محمد بن القاسم الثقفي أبرز حملة لواء الإسلام في الهند.
ويروى أنه أنشد هذه الأبيات عندما حبسه يزيد "أضاعوني وأي فتى أضاعوا       ليوم كريهة وسداد ثغر"
وقال أيضا:
لئن ثويت بواسط وبأرضها               رهن الحديد مكبلا مغلولا
فلرب فتية فارس قد رعتها               ولرب قرن قد تركت قتيلا
ومن قوله أيضا:
ولو كنت جمعت الفرار لوطئت          إناث أعدت للوغى وذكور
وما دخلت خيل الكاسل أرضنا           ولا كان من عك علي أمير
ولا كنت للعبد المــزونــي تابعا          فيا لك دهر بالكرام عـــثور
يقول ابن كثير في"البداية والنهاية": فكانت  سوق الجهاد قائمة في بني أمية، ليس لهم شغل إلا ذلك، قد علمت كلمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وبرها وبحرها. وقد أذلوا الكفر وأهله، وامتلأت قلوب المشركين من المسلمين رعبا، لا يتوجه المسلمون إلى قطر من الأقطار إلا أخذوه، وكان في عسكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون والأولياء والعلماء من كبار التابعين في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه." ونحن لا نشك في أن محمد بن القاسم الثقفي أيضا كان من تلك الشرذمة التي نصر الله بها دينه الإسلام، وإلا لما استطاع أن يسيطر على قلوب أهالي الهند أكثر مما سيطر على بلاد الهند. وبه جعل الله الهند فردوسا من فراديس الإسلام في جميع العصور.
المراجع:
1.     القاضي ابو المعالي أطهر المباركفوري، العقد الثمين في فتوح الهند ومن ورد فيها من الصحابة والتابعين، 1968
2.     عبد الحي بن فخر الدين الحسني، الهند في العهد الإسلامي، دار عرفات، 2001
3.     عبد الحي بن فخر الدين الحسني، نزهة الخواطر ج 1
4.     أبو الحسن البلاذري، فتوح البلدان
5.     بسام العسلي، المسلمون على تخوم الهند، دار البيارق بيروت، 1994


مواضيع ذات صلة
دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات