ادعمنا بالإعجاب

الهمزية النبوية لأحمد شوقي، كمال المدح النبوي

د/ عبد المجيد ت

الهمزية النبوية، هي إحدى قصائد أمير الشعراء أحمد شوقي (Ahmed Shawqi)، وهي قصيدة رائعة، والشاعر في هذه القصيدة يؤرخ الإسلام وظهوره وانتشاره وفضائله في صورة جاذبة ويمدح النبي ﷺ ويشرح مكانته فى المجتمع شرحا واضحا. و النص الأصلي للقصيدة يتألف من مائة وثلاثين بيتا، مكتوبة على نسق بحر الكامل 'متفاعلن متفاعلن متفاعلن'. وتبدو معاني أبيات 'الهمزية النبوية' كأنها مكتوبة الآن، وكأنها بما تضمه تمثل ردا بليغا ورائعا على ما ارتكبته الصحيفة الدنماركية من إساءات شنيعة وفظيعة ضد الإسلام وشخصية النبي ﷺ الزكية دون احترام لمقدسات المسلمين. ونشرت هذه القصيدة بجريدة الأفكار في سنة 1917. أراد شوقي بهذه القصيدة محاكاة الإمام البوصيري في همزيته الشهيرة التي مطلعها :
كيف ترقى رقيك الأنبياء
يا سماء ما طاولتها سماء
ولكنه أخذ منها القافية ولم يأخذ الوزن، كما أنه لم يستوف الموضوعات التي وردت في همزية البوصيري.
و لمس أمير الشعراء في قصيدته قضايا تطلبها العصر الحديث إذ أعلن منذ بداية القصيدة بقوله :
ولد الهدى فالكائنات ضياء
و فم الزمان تبسم و ثناء
أن ميلاد الرسول الأعظم كان نقطة تحول هامة في تاريخ الإنسانية كافة فمولده ﷺ لم يكن مولد إنسان عادي، يزداد به عدد البشر الموجودين في ذلك الوقت، بل كان مولده مولدا للهدى لكل أولئك البشر الحيارى التائهين في ظلمات الكفر و الجهل، كان مولده إيذانا بعموم الفرح والحبور وتحرير البلاد و العباد من ظلم الحكام ضلال الأفكار .
ثم يأخذ الشاعر في حديث مفصل عن ذلك الضياء الذي ملأ الكون و عن ذلك السرور الذي عم المخلوقات في الملأ الأعلى فيقول :
الروح و الملأ الملائك حوله
للدين والدنيا به بشراء
والعرش يزهو و الحظيرة تزدهي
والمنتهى و السدرة العصماء
وحديقة الفرقان ضاحكة الربا
بالترجمان شذية غناء
إن الفرحة العظيمة بمولد الهادي العظيم نراها من خلال تلك الكلمات التي أراد الشاعر أن يعبر بها عن تلك البهجة التي عمت الملأ الأعلى مثل (بشراء)، (يزهو)، (تزدهي) و(ضاحكة الربا) وهي كلها كلمات ينشر روح البهجة والسرور حتى ليصل أثرها إلى القارئ نفسه فيشعر بنفس الفرحة .
ثم يتحدث الشاعر عن اسم النبي ﷺ، وكيف أنه يتصدر قائمة أسماء الرسل والأنبياء في اللوح المحفوظ إكراما له، وكيف أن الله سبحانه قد رفع ذكر نبيه العظيم فاقترن اسمه بلفظ الجلالة في الشهادة اقتران الألف بالباء في ترتيب الحروف، وكيف كانت له المنزلة العظمى في بيت النبوة إذ صار خاتم الأنبياء والمرسلين فيقول :
نظمت أسامي الرسل فهي صحيفة
في اللوح و اسم محمد طغراء
اسم الجلالة في بديع حروفه
ألف هنالك و اسم (طه) الباء
يا خير من جاء الوجود تحية
من مرسلين إلى الهدى بك جاءوا
بيت النبيين الذي لا يلتقي
إلا الحنائف فيه و الحنفاء
خير الأبوة حازهم لك آدم
دون الأنام وأحرزت حواء
و بعد ذلك يعرج الشاعر على البشائر التي صاحبت مولده الشريف والذي كان بداية لنهاية الظلم و الكفر، فيذكر خمود نيران الفرس التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى، وسقوط شرفتين من إيوان كسرى وغيرها من إرهاصات المولد الشريف. يقتدي الشاعر في ذلك من سبقه من الشعراء الذين تناولوا نفس الموضوع، و لا ينسى الشاعر أثناء ذلك الحديث عن السمات الذاتية في محيا النبي الكريم و قسمات وجهه الكريم مبينا إن خلقه الكريم و سماته العالية هي أصدق دليل على نبوته عند كل ذي عقل فيقول :
و بدا محياك الذي قسماته
حق و غرته هدى و حياء
وعليه من نور النبوة رونق
و من الخليل و هديه سيماء
و من الحديث عن الميلاد وإرهاصاته ينتقل الشاعر للحديث عن طفولة النبي ﷺ وكيف نشأ يتيما تحوطه عناية الرحمن الرحيم حتى لا يكون لأحد من خلق الله يد على رسوله الكريم حتى أبيه وأمه، ولا عجب في ذلك فهو الإنسان الذي بعثه الله ليكون له اليد الطولى على كل خلق الله بعد ربه جل وعلا. ثم يذكر شبابه الطاهر المختلف كل الاختلاف عن شباب أقرانه ممن اتبعوا الشهوات والنزوات فيذكر صدقه وأمانته وطهره فيقول :
نعم اليتيم بدت مخايل فضله
و اليتم رزق بعضه و ذكاء
بسوى الأمانة في الصبا و الصدق
لم يعرفه أهل الصدق و الأمناء
ثم يتناول الشاعر الجانب الأخلاقي في حياة الرسول الكريم فيتحدث بالتفصيل عن خلقه الكريم وكيف أنه حاز على الدرجة العليا في كل خُلق من هذه الأخلاق حتى صدق فيه قول ربه جل وعلا (وإنك لعلى خلق عظيم). فكان في منتهى السخاء والكرم.
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى
و فعلت ما لا تفعل الأنواء
و هو المثل الأعلى في العفو عند المقدرة :
و إذا عفوت فقادرا و مقدرا
لا يستهين بعفوك الجهلاء
والرحمة كانت من أوصافه البارزة حتى وصفه الله تبارك وتعالى "بالمؤمنين رؤوف رحيم":
وَإِذا رَحِمـتَ فَأَنـتَ أُمٌّ أَو أَبٌ
هَذانِ في الدنيا هما الرُحماءُ
و من أوصافه الشريفة أنه (ص) كان لا يغضب إلا للحق :
وإذا غضبت فإنما هي غضبة
في الحق لا ضغن ولا بغضاء
أما عن رضاه فهو رضا لـالله لا يصدر إلا عن صدق فطري بعيد عن التكلف :
وإذا رضيت فذاك في مرضاته
ورضى الكثير تحلم و رياء
وكان صلى الله عليه وسلم خطيبا مصقعا الذي أوتي جوامع الكلم :
وإذا خطبت فللمنابر هزة
تعرو الندي و للقلوب بكاء
وهو القاضي العادل الذي
لا يؤخذ من غيره الحكم :
وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما
جاء الخصوم من السماء قضاء
وهو الجريء الشجاع الواثق من نصر الله له :
و إذا مشيت إلى العدا فغضنفر
و إذا جريت فإنك النكباء
ثم يتحدث الشاعر عن أصول الإسلام و مصادره فيذكر القرآن الأمين المعجزة الكبرى لـالنبي الكريم و كيف أن هذا الكتاب قد جاء ناسخا لما قبله من الشرائع و مهيمنا على ما سبقه من الكتب و كيف نزل هذا الكتاب في أسلوب هو آية في الإعجاز فأخرس البلغاء و الفصحاء :
الذكر آية ربك الكبرى التي
فيها لباغي المعجزات غناء
نسخت به التوراة و هي وضيئة
و تخلف الإنجيل و هو ذكاء
أزرى بمنطق أهله و بيانهم
وحي يقصر دونه البلغاء
أما الحديث الشريف لـالنبي الكريم فهو الحديث البليغ الفصيح الصادر عن أفصح خلق الله كيف لا و هو قول الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى :
أما حديثك في العقول فمشرع
و العلم و الحكم الغوالي الماء
هو صبغة الفرقان نفحة قدسه
و السين من سوراته و الراء
جرت الفصاحة من ينابيع الهدى
من روحه و تفجر الإنشاء
وينتقل الشاعر إلى الإسراء والمعراج في عشرة أبيات ويتحدث عن الروح والجسد فيهما:
يا أيها المسرى به شرفاً إلى
ما لا تنال الشمس والجوزاء
يتساءلون، وأنت أطهر هيكل
بالروح أم بالهيكل الإسراء
بهما سموت مطهرين كلاهما
نور وريحانية وبهاء
فضل عليك لذي الجلال ومنة
والله يفعل ما يرى ويشاء
تغشى الغيوب من العوالم كلما
طويت سماء قلدتك سماء
في كل منطقة حواشي نورها
نون وأنت النقطة الزهراء
أنت الجمال بها وأنت المجتلى
والكف والمرآة والحسناء
الله هيأ من حظيرة قدسه
نزلا لذاتك لم يجزه علاء
العرش تحتك سدة وقوائم
ومناكب الروح الأمين وطاء
والرسل دون العرش لم يؤذن لهم
حاشا لغيرك موعد ولقاء
ثم يبين الشاعر أن ذلك الكتاب الرباني و ذاك الهدي النبوي هما الأساس في بناء وقيام الدولة الإسلامية، تلك الدولة التي يسهب شوقي في بيان ملامحها و سماتها، فهي دولة تقوم على المساواة الكاملة بين رعاياها، شعارها الوحيد قوله تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وهي دولة تقوم على البيعة الحقة و الشورى و العدالة الاجتماعية التي تضمن الحقوق لأصحابها :
بك يا ابن عبد الله قامت سمحة
بالحق من ملل الهدى غراء
فرسمت بعدك للعباد حكومة
لا سوقة فيها و لا أمراء
الله فوق الخلق فيها وحده
والناس تحت لوائها أكفاء
والدين يسر و الخلافة بيعة
والأمر شورى و الحقوق قضاء
كما أنها دولة كتب على أبنائها الجهاد لرد الباغين المعتدين و نصرة المستضعفين من عباد الله :
والحرب في حق لديك شريعة
ومن السموم الناقعات دواء
أما عن التكافل الاجتماعي فكانت دولته عليه السلام أولى الدول التي أرست دعائمه وجعلت للفقير حق معلوم عند الغني يأخذه منه وهو عزيز النفس لأنه شرع الله :
والبر عندك ذمة و فريضة
لا منة ممنونة و جباء
جاءت فوحدت الزكاة سبيله
حتى التقى الكرماء و البخلاء
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى
فالكل في حق لديك سواء
و لا ينسى الشاعر أن يتحدث عن حملة هذا الدين من أصحاب رسول الله فيقول :
نسفوا بناء الشرك فهي خرائب
واستأصلوا الأصنام فهي هباء
يمشون تغضي الأرض منهم هيبة
وبهم حيال نعيمها إغضاء
حتى إذا فتحت لهم أطرافها
لم يطغهم ترف و لا نعماء
وإنه يشير إلى أن شريعة الإسلام تتضمن من أسس العدل والخير والشر والديمقراطية ومن روح اشتراكية وغيرها مما يفتخر بها العالم الحديث.
الاشتراكيون أنت إمامهم
لولا دعاوى القوم والغلواء
وفي الختام يتوجه الشاعر إلى الحاضر الذي تعيشه الأمة الإسلامية وهو حاضر في أمس، الحاجة إلى استدعاء الماضي المجيد و إلى التداوي بما فيه من الدواء الناجح الذي لا سبيل إلا العلاج و الشفاء إلا به فيقول لمن خصه بتلك القصيدة :
أدعوك عن قومي الضعاف لأزمة
في مثلها يلقى عليك رجاء
أدرى رسول الله أن نفوسهم
ركبت هواها و القلوب هواء
رقدوا وغرهم نعيم باطل
و نعيم قوم في القيود بلاء
ظلموا شريعتك التي نلنا بها
ما لم ينل في رومة فقهاء
مشت الحضارة في سناها و اهتدى
في الدين و الدنيا بها السعداء
و يتضح لنا مما سبق أن الغرض الأدبي من هذه القصيدة هو مدح النبي ﷺ والثناء عليه. وقد قالها يحاكي بها من سبقوه من شعراء المسلمين، إلا أن محاولته تلك لم تكن مجرد تقليد أعمى بل أضاف من خلالها إلى القصيدة الدينية معاني جديدة تتواءم وتليق بظروف العصر الحديث كما انه اتخذ من تلك المحاكاة وسيلة للتفوق والمنافسة .
وعاطفة التدين الحارة قد سيطرت على الشاعر طوال القصيدة التي جعلته يهيم بشخص النبي الكريم و شمائله العطرة و استطاع بهذا الصدق أن يؤثر تأثيرا شديدا في القارئ فلا يكاد أحد يقرأ هذه القصيدة إلا و يشعر بشعور الحب العميق الشديد لشخص من نظمت في مدحه تلك القصيدة. والحق أن انتماء شوقي لـالمدرسة الكلاسيكية والتي تعد امتدادا لـمدرسة الإحياء والبعث بزعامة البارودي والتي كان شعارها التجديد مع المحافظة على القديم قد ظهرت آثاره جلية في هذه القصيدة. إذ نرى التزام الشاعر بوحدة الوزن والقافية والروي كما نشاهد تمسك الشاعر وحرصه على اللفظ العربي الأصيل.
أما عن ملامح التجديد في القصيدة فيتمثل في لجوء الشاعر في الختام إلى رسول الله يشكو إليه حال الأمة وما أصابها من الضعف والوهن وكذا التركيز على أهم ما نادت به شريعته الغراء من مبادئ كثر المتكلمون بها في العصر الحديث. واختفت آثارها مثل التكافل الاجتماعي و مبدأ الشورى و العدالة الاجتماعية وغيرها .وهذا الشاعر الكبير يتألم تألما شديدا لما أصاب المسلمين من الأوجاع والمصائب لسبب بعدهم عن الشريعة الإسلامية ويرغب في أن ينزل المسلمون الشريعة الغراء في المكان اللاحق لها.
وفي جانب الصور والخيال فقد أكثر شوقي من التشبيهات والصور الجزئية عموما والتي تؤدي دورها في خدمة المعاني بالتشخيص والتجسيم والتوضيح. وقد جاءت ألفاظ الشاعر قوية جزلة تتناسب موضوع القصيدة.
المراجع: كرمة ابن هانئ و الشوقيات لـأحمد شوقي و مواقع انترنت.

مواضيع ذات صلة
أحمد شوقي, الأدب العربي العالمي, النبويات, دراسات, دراسات عن المديح النبوي, شوقيات,

إرسال تعليق

5 تعليقات

  1. الموضوع شيق ما شاء الله والتحليل كذلك تخدموننا حق الخدمة نسأل المولى عز وجل أن يتغمدكم بالصحة والعافية والسعادة والرخاء والازدهار في حركاتكم ونشاطاتكم وأن يجعل أعمالكم هذه في ميزان حسناتكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم آمين يارب العالمين

    ردحذف
  2. أريد كتاباعن تحليل وشرح همزي أحمد شواقي

    ردحذف

أكتُبْ تعليقا