ادعمنا بالإعجاب

أفغانستان بين التفسخ والأطماع

مجلة الرائد، العدد : 184 الموافق في جمادى الثانية 1417 هجري  11 / 1996 ميلادي

حضرت لقاءً أخوياً عندما زار زعيم الحزب الإسلامي قلب الدين حكمتيار ألمانيا عام 1409هـ/1988م ، وفي هذا اللقاء الصغير سئل حكمتيار عن المشكلات الكبرى التي يتوقعها إذا انسحب الروس من أفغانستان ، وسقط نظام كابل الشيوعي ؟

فذكر أن هناك خطرين أساسيين :
الأول : ترتيب الحياة السياسية… ففي ظل تعدد فصائل المجاهدين ، وفي أيديهم السلاح ، فإن حكومة ائتلافية تقوم على توزيع الغنائم « الحقائب الوزارية » ستكون عاجزة ؛ لأن كل وزير إنما يتلقى تعليماته من جماعته ، وهذا قد يفتح أبواباً لتدخلات إقليمية عالمية. ونخشى أن تنتهي العلاقات التوازنية « الائتلافية » إلى حرب أهلية مدمرة.

الثاني : إعادة تعمير البلاد… فأفغانستان تحتاج إلى جهود مضنية لتطهيرها من الألغام ، وبناء « البنية التحتية » وما هدمته الحرب ، ومواجهة ضرورات المستقبل ، ورعاية أسر الشهداء والمعاقين ، و… و… إلى آخر قائمة الضروريات.
والحاجة إلى المال وإلى الخبرات ستفتح شهية جهات التمويل الخارجية ، الحكومية والمؤسساتية ، وهذه الجهات تعودت على دفع المال بيد ، وأخذ قيمته من الاستقلال الحقيقي باليد الأخرى… وليس أمام أفغانستان سبيل إلى توفير ما تحتاج إليه من داخل البلاد !!.
وسئل عن المخرج من أزمة ترتيب الحياة السياسية ؟
فأكد أن حل مشكلة ترتيب الحياة السياسية لن يكون إلا بإجراء انتخابات عامة ، تشرف عليها حكومة انتقالية محايدة ، فإذا قامت حكومة قوية تحظى بولاء الأفغان فإنها تستطيع تخفيف الأخطار الناجمة عن تدفق المال من الخارج لإعادة تعمير البلاد.
وسئل عن موقف فصائل المجاهدين من مسألة الانتخابات ؟
فذكر أنهم لا يرون فائدة من إجرائها الآن ، وأن الاتجاه العام يذهب إلى تكوين حكومة ائتلافية.
قيل له : من المعلوم أن الجمعية الإسلامية (رباني) والحزب الإسلامي (حكمتيار) يشكلان القوة الكبرى عدداً وعتاداً ، وأن اتفاقهما يحمل الآخرين على الموافقة… فما هي فرص نجاح اتفاقهما .
فكان فحوى جوابه : هذه حقيقة… ولكن فرص الاتفاق غير مشجعة على التفاؤل.
وجاءت طريقة انهيار النظام الشيوعي في كابل مربكة للمجاهدين… واحتاروا في التعامل مع الوضع الجديد… ولكنّ الضغوط الإقليمية ، ومصلحة كل فصيل آنئذٍ ، جعلتهم يوافقون على طريقة استلام السلطة ، والإشراف على إدارة البلاد. وحين جاء وقت التنفيذ بدأت الخلافات حول فهم الاتفاق ، وتصاعدت وتيرة الاختلافات ، وتركزت حول مراكز القوة في الدولة ، وبخاصة وزارة الدفاع ، وانتهت الأمور إلى صراع مسلح رهيب بين الجمعية الإسلامية والحزب الإسلامي… هذا الصراع المحموم الكريه فرض على الناس داخل أفغانستان وخارجها مواقف ، ووفّر ظروفاً دعت إلى إعادة تشكيل العقليات والواقع.
ولم يستجب طرفا الصراع الوحشي إلى مساعي وساطة رجال الدعوة الإسلامية ، وأخفقت جهود الدول المجاورة ، ومنظمة المؤتمر الإسلامي في التوصل إلى حلول تُسكت السلاح !! ، وتدخلت هيئة الأمم المتحدة ولم تفلح !!
¯      ¯      ¯

نتائج القتال داخل أفغانستان : يمكن ذكرها في عناوين جامعة :
¨   إضعاف أطراف النزاع.
¨   تشويه الصورة الجميلة للجهاد وقادته.
¨   تحطيم معظم إمكانات البلاد المادية والبشرية.
¨   تمزيق أفغانستان… واقعياً.
¨   بروز قوى ترفض قيادات المجاهدين ، وتفكر في تخليص العباد والبلاد من حالة الدمار والانهيار.
نتائج الحرب خارج أفغانستان :
1- صُدمت الحركة الإسلامية في أنحاء الأرض بإصرار طرفي النزاع على المضي في حرب الإبادة… على الرغم من أنهما يريان ألواناً كريهة من الدمار قد حلت في بلادهم وأهلهم ! ، وأنهما قد أضحيا الجانب الأضعف في مواجهة التحديات. وتحطمت آمالٌ طالما تغنى بها المسلمون أيام الاحتلال والجهاد… وتطلعوا إلى تحقيقها على أيدي رموز أحبوها مثل « رباني » « حكمتيار » « مسعود » !!.
2- طَرِب العلمانيون والمتغربون… حكاماً وأحزاباً وأفراداً بحمامات الدم ومستنقع الكراهية الأفغاني ! ، وأشاعوا في عدد من بلدان المسلمين أن التيار الإسلامي ليس مهيأ أصلاً لقيادة الناس إلى البناء والتقدم والحرية ، وأن الإسلاميين لا يجيدون إلا لغة السلاح والقهر ، حتى مع الذين يلتقون معهم في الفكر والمنهج ولكنهم يخالفونهم في الرأي ! ، وأن مصير عدد من المسلمين سيكون قريباً مما يجري في أفغانستان… إذا أيّد العامة عاطفياً التيار.
3- واستغلت دول الجوار إفرازات الصراع الدامي :
*   فدعمت أوزبكستان ، ومن ورائها روسيا وبقية ما يسمى مجموعة الدول المستقلة ، الجنرال « دوستم » الأوزبكي ؛ لاعتبارات عرقية وفكرية ومصلحية ، وجعلت منه قوة لا يستهان بها ، وتمكن دوستم من إبعاد قواته عن التورط في « حرب الإفناء ».
*      وسعت إيران إلى دعم الشيعة ، وأوجدت لهم كياناً له وزنه الآن.
*   وكان الدور الأكبر في التدخل لباكستان ، التي تملك قوة معتبرة إقليمياً ، ولديها علاقات دولية تمدها بالسلاح والمال اللازمين ، وتعتمد على عصبية البشتون الذين يشكلون امتداداً لبشتون أفغانستان. ونظراً لكون باكستان تمثل الرئة التي تتنفس بها أفغانستان ، ونظراً لمصلحة باكستان الحيوية إلى استقرار الأوضاع في أفغانستان… بما يوفره ذلك من فرص الهدوء والنمو… ولكون أفغانستان الطريق الوحيد المأمون الذي يصل بين باكستان و « الجمهوريات الإسلامية » ومن وراءها.
نظراً لهذه العوامل… فإن باكستان تبنت ودعمت حركة طالبان الناشئة والرافضة لقيادات المجاهدين الذين دمروا البلاد.
4-  أما أمريكا… فإن مصلحتها في استمرار الأزمة في أفغانستان بصورة تحقق لها ما تريد… فاضطراب الأوضاع يجعل دول المنطقة في تنافس ، ووجود جماعة مثل « طالبان » تتحرك بقوة معتبرة سيؤزم إيران ويزعجها. واستمرار الصراع باسم الإسلام يعطي الدليل تلو الدليل على إخفاق الحركة الإسلامية في تجاوز أزماتها… فكيف تستطيع قيادة الشعوب ؟!. كل ذلك يجعل أمريكا مؤيدة بطريق غير مباشر لحركة طالبان « مرحلياً »!!.
¯      ¯      ¯


     الأوضاع الراهنة :
*  اضطر رباني وحكمتيار ومسعود إلى نوع من التحالف القسري ، وهم جميعهم عاجزون عن الصمود أمام قوة طالبان ، لذلك سارعوا إلى عدوهم دوستم ، وإلى الشيعة ، يطلبون العون… وهم يعلمون أنهم يتعاملون بطريق غير مباشر مع روسيا وبقية  مجموعة الدول المستقلة ، وإيران ، وحتى الهند !!. وهذه الدول تجد نفسها مضطرة لتقديم الدعم السياسي والمساعدة بالسلاح… لاعتبارات أمنية وعرقية ومصلحية ومذهبية.
*  والتحالف الجديد ضد طالبان سيدفع هؤلاء إلى مزيد من الاعتماد على الدعم الباكستاني… ومن ورائه أمريكا ودول التمويل العربية !!. والعجيب الغريب أن يتهم كل طرف خصمه بالاعتماد على الجهات الخارجية… في الوقت الذي يمارس فيه الجميع هذه اللعبة !!.
*  وشروط أفغانستان الداخلية إما أن تقود إلى مزيد من سفك الدماء والدمار ، أو تفرض على الجميع اتفاقاً هشاً يكون فيه لدوستم وقوى أخرى دور قيادي. ولكن سواء استمرت الحرب الأهلية أم هدأت بهدنة مريبة… فإن هذا لا يغير كثيراً من إخفاق الإسلاميين في أفغانستان ، وعجزهم عن تحقيق المشروع الإسلامي في حدود بلادهم وإمكاناتهم العلمية والمادية والبشرية… وأن هذا الإخفاق قد أدمى قلوب المسلمين في أفغانستان ، وملأها بالأحقاد والكراهية… وأنه حسرة طعنت آمال التيار الإسلامي في مقتل !!
إن التفسخ الداخلي في أفغانستان العزيزة هو الذي أضعف مناعة البلاد ، وسمح لجراثيم الأطماع الخارجية بالعبور إلى أنسجة المجتمع الأفغاني… وهذا يجعل معالجة الأدواء من أعسر المهمات.

وإن الذي حصل في أفغانستان جدير بالدراسة المتأنية… المستوعبة لسنن الله في المجتمعات… حتى تفهم هذه التجربة بإنصاف… وهذا ينفع الحركة الإسلامية في ضبط برامج التربية ، ومنهج العمل ، حتى لا تتكرر مأساة أفغانستان الجريحة.


مواضيع ذات صلة
شأون الخارجية,

إرسال تعليق

0 تعليقات