ادعمنا بالإعجاب

حب إقبال للعرب وعشقه للعربية الدكتور عبد الناصر علي


كان لمحمد إقبال حب كبير للإسلام والمسلمين وخاصة للعرب الذين تشرفوا بالإسلام أولا في المعمورة كلها فع  زت مكانة العرب وأهاليها في الأرض كلها، واتسعت ثقافة إقبال في التعرف على حقيقة الإسلام وتاريخه المشرق وأراد إعادة مجده وشوكته من جديد، ولهذا الغرض السامي رهن مقدرته الفياضة وصلاحيته النادرة وفكرته البالغة في رفع مجد الإسلام ونشر تعاليمه على حقيقتها وأساسها، وكتب عن بدء الإسلام والحضارة الإسلامية وخصص العرب لأن الإسلام أولا وصل في العرب ومن هنا اقتبس العالم نوره، وحقيقة الأمر أن ثقافة إقبال إسلامية في أساسها وجوهرها، وفي سالف الأيام خصوصًا كان حتمًا على كل من أراد من العلم تضلعًا وفي الأدب تبحرًا أن يحيط شامل الإحاطة بثقافة الإسلام في أشتات جوانبها، فجرت عادة المتعلم والمتأدب في بلاد الهند والفرس والترك بأن يدرس العربية على أنها لغة القرآن والحديث والشرع، كما أنها أعظم اللغات الإسلامية في الأهمية.


وحسبنا في تبيان ذلك أن نقول أن الفارسية مدينة في نشأتها للعربية، فبعد الفتح العربي لإيران، ذاعت لغة العرب في البلاد وشاعت، وحلت لغة الغالبين محل المغلوبين، وأفضى اختلاط العرب بالفرس إلى نشأة لغة جديدة هي مزيج من العربية ولغة الفرس الفهلوية، وقد أصبحت لغة إيران الإسلامية المعبرة عن تراث حضاري من أروع ما عرفت الإنسانية. وجدير بالذكر أن حشدًا زاخرًا من ألفاظ عربية وجد السبيل إلى هذه الفارسية حتى أصبحت أشبه شيء بلغة عربية تتخللها ألفاظ فارسية. كما تأثرت هذه اللغة في أدبها أبعد التأثر وأعمقه بأدب العرب.
وجمهرة كتب إقبال بالفارسية التي كانت بدورها سببًا في تشكيل لغته الأوردية. فلما فتح الفرس شمال الهند في القرن الرابع الهجري وعايشوا أهلها، انبثقت في الوجود لغة تتألف من لغة الفرس ولغة الهند نسبت إلى معسكر الفرس فسميت أوردو بمعنى المعسكر في التركية وقد رجع العنصر العربي في الأوردية لما فيها من فارسية محملة بالعربية.
فلغة العرب التي كانت من مقومات ثقافة إقبال أثرت التأثير الأعمق في فارسيته وأورديته جديرة بأن تجعله على ذكر من العرب ومن المؤكد المقطوع به أن لغة العرب عزت بكونها لغة القرآن الكريم والحديث الشريف، وأحاطت بها من القداسة هالة لم تحط بغيرها. وإذا ذكرنا أن الدين الحنيف هبط وحيا على النبي العربي صلوات الله سلامه عليه، وفقد تذكرنا أن القرآن نزل بلسان عربي مبين. يقول ابن خلدون أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه[1]. غير أن حكم ابن خلدون لا يصح على إطلاقه، فلا يصح في العقل أن يفهمه العرب جميعًا جملة وتفصيلا. بل إن الصحابة كانوا يختلفون في تفسيره، ولقد مست الحاجة من بعد إلى تفسير القرآن لاستنباط أحكام الدين وتفهم ما فيه من روائع البلاغة والوقوف على حقيقة من ذكر فيه من أقوام خفيت أخبارهم من سالف الدهر. وأخذت الرغبة في الإحاطة علما بهذا كله بعد انتشار الإسلام في الآفاق على الخصوص إلى نشأة العلوم الإسلامية من تفسير وفقه ولغة وبلاغة وتاريخ ونحو وما يجري هذا المجرى. ويتلو القرآن في صفاته ومنزلته الحديث الشريف وها نحن أولاء نتوارد اليوم مع الثعالبي في أمسه البعيد حين قال إن من أحب الله أحب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن أحب النبي العربي أحب العرب  ومن أحب العرب أحب لغة العرب التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. والإقبال على تفهم العربية من الديانة، إذ هي أداة العلم ومفتاح التفقه في الدين و سبب إصلاح المعاش والمعاد [2]
وهذا كله صريح في دلالته على أن ظهور الإسلام في العرب وتوجيه كلام الله ورسوله إلى البشرية بلسان العرب، رفع منزلة العرب فوق غيرهم من الشعوب الإسلامية درجات ولو في الاعتبار، وإن كان الدين الحنيف لا يفضل عربيًا على غيره من المسلمين إلا بالتقوى، ومصداق ما تذهب إليه قول للشاعر الفارسي الشعوبي مهيار الديلمي الذي تعصب للفرس على العرب، غير أنه لم ينس أن الإسلام ظهر فيهم وهو حتى حين يفخ  بالفارسية يعجز كلية أن يجحد فضل العرب الذي شرفوا بظهور الإسلام فيهم، وكأنما أفلت الزمام من يده فمدحهم ضمنًا هويمدح الفرس بمثل قوله:
قد قبست المجد من خير أب                        وقبست الدين من خير نبي
وضممت الفخر من أطرافه                            سؤدد الفرس ودين العرب
فيؤخذ من هذا أن العرب في رأيه إنما تنحصر مفاخرهم في الإسلام. وإذا كانت الحضارة منبثقة من الدين والعلم والفن، فنحن نوقن بأن الحضارة الإسلامية في معظم مقوماتها ومظاهرها مشتقة من الدين. ولقد أسلفنا أن علوم الإسلام استمدت كيانها من الرغبة في تفسير كتاب الله، ونضيف إلى ذلك أن المسلمين أشفقوا من تسرب اللحن إلى القرآن الكريم فوضعوا علم النحو، كما كان المسجد أروع صورة لفهم المعماري. فمن حيث كان هذا شأن العرب وتلك صلتهم الوثقى بالإسلام وحضارته، كان المتوقع من إقبال وهو شاعر الإسلام الحق بالمعنى الأصح الأدق، أن يكون على ذكر دائم من بني يعرب وما يموج به عالمهم من أحداث وينعقد بينهم وبين غيرهم من أسباب صلات.
اشتغل إقبال بتدريس العربية وتمنى لو كان في قدرته أن يعالج النظم بلغة الضاد. وهذا من الدليل على شغفه بلغة الدين والعلم أساسًا، ورغبته في توجيه الخطاب إلى أهلها بلسان يفهمون. أما أرض العرب أو على التحديد أرض الحجاز موطن أوائل المسلمين، فقد كان مشوق القلب إليها لزيارة بيت أراد حجه وإن حمله في قلبه كما قال. سرى حنينه إلى ناقته فسارت سيرًا عنيفًا، وقد أنسيت أنها تحمل شيخًا ضعيفًا ونقلت خطاها في أرض  وعرة، وكأنما على الحرير كان خطوها، وبلغ من حبه لأرض الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن يرغب إلى من يجتاز بها أن يخفف الوطء على أديمها، لأن كل حبة رمل من رمالها قلب كقلبه الخفاق بحبها، هذا من قوله في رباعياته الفارسية، أما في خاتمة كتاب "رموز نفي الذات" فتمنى الموت في الحجاز [3]، وهو يقول: 
 أنا من إظهاره في خجل                  منك لطف يسر الجرأة لي
يا رحيمًا بك للناس مفاز                                كل ما أبغيه موتي في الحجاز
وكان محمد إقبال شديد الصلة بالإسلام والمسلمين، وهو الذي أحب العرب بحبه للإسلام، وتمنى أن يكون متمكنا من نظم مشاعره بلغتهم وهو أول من دعا العرب إلى النهوض – كما قال الأستاذ أنور الجندي – بوصفهم حملة رسالة الإسلام، والذين دفعوها إلى الآفاق، والذين تبقى لهم مزية القدرة على حمل الصحوة الإسلامية مرة اخرى. ويقول الدكتور حسان حقي الذي كان صديقا حميما لإقبال: ومما لاحظته فيه انه كان ميالا للعرب؛ لا بل كان يحترمهم إكراما للنبي العربي صلى الله عليه وسلم.
ونجد كثيرًا أن إقبال يخاطب في شعره المسلم والعرب ويخبر بما كانت لهم مكانة في العالم من سيادة وقيادة وتسعد بها كرة الأرض، وهم أصل الكون في هذا العالم المادي الزائل الزائف يقول: إن كل ما في العالم  من الظواهر الكونية، أو الأجرام الفلكية، راحل زائل، وغائب آفل، أنت أيها الإنسان المسلم بطل المعركة وقائد الجيش، وكل ما حولك من سافل وعال،  ورخيص وغال، من جنودك وأتباعك، أسفًا لك، أيها الرجل، لم تقدر نفسك، ولم تحسب لها حسابًا، ما أشد جهلك وما أضيق نظرك! إلى متى تجري وراء الدنيا الذليلة، وتعبدها وتخضع لها؟ إما أن ترفضها رفضًا باتًا، وتزهد فيها وتتبتل، وإما أن تملك ناصيتها وتسود وتحكم، ولا منزلة بين المنزلتين ولا توسط بين النهايتين [4]
حقيقة الأمر أن إقبالا يمكن أن يعد مؤرخًا للعالم العربي في الغابر والحاضر، لأنه ناط عنايته بما ماج فيه من تيارات روحية وسياسية واجتماعية، وله الفضل الذي لا يجحد على المؤرخ بالمفهوم الدارج، لأنه يستقرئ ويستخلص ويبرز من المعالم ما يفوت غير البالغين شأوه في صحة الفكر ورجاحة العقل وسداد الرأي ورهافة الحس ودقة الشعور، وهو يقول: "ليت شعري من خلفكم في الحياة ؟ إن العصر الحاضر وليد نشاطكم وكفاحكم، وصنع جهادكم ودعوتكم، ومازلتم سادته ولاته حتى أفلت زمامه فتبناه الغرب وامتلكه، ومنذ ذلك اليوم فقد المجتمع الإنساني شرفه وكرامته، وأصبح تحت ولاية الغرب، بعد ولايتكم أيها العرب منافقًا خليعًا، ثائرًا على الدين. فيا أيها العربي، عد إلى قوتك وعزتك، وامتلك ناصية الأيام، وخذ عنان التاريخ وقد قافلة البشرية إلى الغاية المثلى. إنك أيها المسلم في العالم وحدك، وما عداك سراب خادع، ودرهم زائف، إن إيمان المسلم هو نقطة دائرة الحق، وكل ما عداه في هذا العالم المادي وهم وطلسم ومجاز، المسلم الضعيف يعتذر دائما بالقضاء والقدر أما المؤمن القوي فهو بنفسه قضاء الله الغالب، وقدره الذي لا يرد، إن المؤمن إذا نادى الآفاق بآذانه أشرق العالم واستيقظ الكون [5]
ومن المعلوم أن محمد إقبال كان على الدوام داعية إلى فهم تعاليم الإسلام على حقيقتها والاعتصام بها فيما يصح به حال المسلمين في الدنيا والدين، وهو لا ينسى العالم العربي يما يميزه من بلغاء، فيعقد فصلا ف  هدية الحجاز لتوجيه الخطاب إلى شعراء العرب في شمول وعموم دون أن يعين أحدا من قدمائهم أو محدثيهم. وفي الرباعية الأولى من هذا الفصل يبلغ شاعر العرب أنه يغض من قيمة ياقوت الشقاه، لأنه قبس من القرآن نورًا
جعل به الليالي سحرًا. وقد أراد بذلك أن يقول أنه استمد من معاني القرآن شعره وصحة فهمه لأحكام الإسلام. وأراد لهذا الشعر أن يكون وسيلته إلى التعبير عن ذلك، وما أراد به أن يحاول البلاغة ولا أن يكون المتفنن الذي يأتي بالمطرب المعجب ويهيم في كل واد، وتوجيه الكلام إلى شعراء العرب دليل على أنه يبوئهم ذروة الفصاحة ويخصهم بهذه الميزة بالذات دون  غيرهم من شعراء الأمم الإسلامية. وكان من المتوقع أن يذكر شعراء  الفرس مثلا وهو في عدادهم والناظم بلغتهم، كما أنه يذكر شعراء العرب بقرآنهم العربي الذي يجد فيه غنية عن أن يطرق فنون الشعر، لأنه يمده بزاده من المعاني، ولا يجد هذا في مصدر سواه.
شهدنا الصبح في ليل مبينا                           تجلت فيه أنوار لسينا
صححنا من رياح البيد روحا                      فمنها القوم كانوا القادمينا [6]
وفي هذا ما فيه من تمجيد للعرب الأقدمين عمومًا، فضلا عن ضرب المثل بشخصيات منهم خصوصًا كالخليفة أبي بكر الصديق الذي كان ثريا واسع الثراء، إلا أنه أنفق ماله على الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يخلف لمن بعده شيئا مذكورا، وإقبال يضرب به المثل في غنى النفس, يشير كذلك إلى الخليفة عمر بن الخطاب المخشوشن المتقشف بالمفهوم الصوفي، وهو القناعة بكل ما تنطوي عليه الكلمة من معنى، وخلاص النفس من الطمع  فالفقر ليس عدم الملك وقلة المال، ولكنه ألا تكون الدنيا في قلب الإنسان وإن كانت في يده. فهذا ما يرتضيه إقبال للمسلم ويعجب به عند أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب من خلفاء العرب [7]
وفي مواضع عدة من كتابه ضرب الكليم يتحدث إلى أمراء العرب مذكرا إياهم بأن العرب هم الذين حملوا رسالة الإسلام إلى الناس كافة في سالف الزمان، فقبيح بالقائمين بالأمر في تلك الأمة أن يتقاعسوا في يومهم عما سعى إليه واضطلع به أسلافهم في أمسهم، وهو يشيد بفضل أمة العرب على غيرها من الأمم، على أن الفضل للمتقدم، فأولى بأمراء العرب أن  يذكروا تلك السابقة بالخير و الحسنى، ويتخذوا منهم ذلك الحافز الذي يبعثهم على وصل ما انقطع من مساعيهم في هذا السبيل، وينعى عليهم وقفة المتهاون بلا وجه، المتردد من غير ما سبب في طريق سلكها الأجداد من بدايتها، فحقيق بالحفدة أن يمضوا فيها إلى نهايتها.
وهذا آكد دليل على أنه يخص العرب بما لم يخص به سواهم من دعوة إلى صنيع ما له إلا وحدهم، فعليهم ذلك أوجب واجب لا يملكون تنصلا من أدائه على وجهه، لأن لهم في السابقين نسبًا كريمًا، وجميل بهم أن يكونوا الأمناء على وديعتهم.
نجد في كتاب رسالة الشرق منظومة عنوانها نغمة حادي الحجاز، وفيها يعرض لمناجاة الناقة ووصفها بكيفية توهمنا أننا نقرأ شاعرًا يجوب البيداء في الحجاز قلب البلاد العربية. وهو يكرر بيتًا في تلك المنظومة  يرغب فيه إلى ناقته أن تحث خطاها لأن المنزل يقترب، وفي هذا ما فيه من تعبير عن شوقه وتوقه إلى أرض العرب. كما صور ناقته تصويرًا لا عهد لنا بمثله في لغة الضاد، فمن حيث كانت الناقة من أخص ما تعرض شعراء العرب لذكره ووصفه وكانت صحراؤهم ونياقهم في الخيال لازمًا وملزومًا، كان وصف إقبال للناقة بالخيال الفارسي الدقيق وفي نشوة الإيمان العميق أشبه شيء بتحيته إلى عالم العرب وإيمائه الخفي إلى رمزه الجلي [8]
ونرى أن إقبالا وهو يتصدى للعرب في العهد الحاضر أيضًا، ويتأمل أحوالهم ونظم الحكم عندهم، ويبذل لهم النصح ليهديهم سواء السبيل ويوصيهم بالتمسك بأهداب الدين ويحذرهم من التهافت على تقليد الفرنجة،  ويلفتهم إلى أن المستعمرين إنما يسعون سعيًا حثيثًا في صدع وحدته والتفرقة بينهم بكيفية تفضي إلى شقاقهم والقضاء على تضامنهم وهدم كيانهم وإذهاب ريحهم وسلبهم قوة اتحادهم التي تقف في سبيلهم نحو الرغبة الجامحة في التسلط عليهم وابتزاز ثرواتهم، ولا يحب لهم نسيان هدي القرآن الذي يريد لهم وللمسلمين أجمعين أن يكونوا المتآخين المتحدين، ولقد عقد فصلا في مثنوي له يسمى بس جه بايد كرد، بمعنى ما العمل إذن، تحت عنوان كلمات مع الأمة العربية، يستهله بتمجيد العرب الذين عزوا  بالدين الحنيف، فهم أول من قال لا إله إلا الله وأنار سراج الهداية، ومنهم سيد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي جاء بدين الحق:
 رمز (إلا الله) من قد لقنوه                            ذلك المصباح أين أوقدوه
نفس الأمي مشهور اللقب                             جعل البستان صحراء العرب
وفي جاويد نامة تحت عنوان ظهور درويش السودان بسط الكلام عن لورد كتشنر، فذكر بعض ملوك العرب لأسمائهم وهم على التحديد فؤاد ملك مصر وابن السعود ملك الحجاز وفيصل ملك العراق، وقد حكموا في سالف الأيام، ووجه إليهم صريح الخطاب الذي يتكشف عن مبدئه في الدعوة إلى إصلاح حال الشعوب العربية على الخصوص، لأنه حثهم على إحياء تعاليم الإسلام كيفما تصلح الأمور لبلادهم وتنهض شعوبهم من كبوتهم بعد أن أراد المستعمرين لبعضها أن ترزح تحت وطأته متخلفة عن ركب شعوب أوربا في سيرها قدمًا نحو آفاق النور، ورغب إلى هؤلاء الملوك أن يوقدوا في__ الصدور نارًا أخمدت ويرجعوا أيام دنيا ضيعت، وتمنى لوادي البطحاء أن ينجب مثل خالد بن الوليد، وأن يغرد فيه التوحيد، كما صاح بهم صيحة راغب في تحريك همتهم إلى مجاهدة الغربيين الذين يتسلطون عليهم ويستعبدون شعوبهم ويكره لهم أن يكونوا المتواكلين المستضعفين ويحب لهم أن يكونوا المنطلقين الغاضبين لامتحان كبريائهم واغتصاب حقوقهم، وهو في عنفه بهم في دعوته، يمزج عبوس العضب بابتسام الأمل يقول:
أمة الإيمان يا سود الجلود                           منكم أستاف عطرا للخلود
فإلام تجهلون سيركم                                       وتولون سواكم أمركم
ليت شعري هل تخافون البلاء                    البلاء كان للمرء الصفاء [9]
يصف إقبال مصر في نهضتها برمزية تمثالها العجيب، مشيرا إلى قوة التطور التي يتبدل بها سير الشعوب وينبغي لتلك القوة أن تنبثق من العقل، ثم يضرب المثل لتلك القوة الحكيمة بحسام المصطفى صلى الله عليه وسلم وعصا موسى عليه السلام، وهذا منه تخبيل وتمثيل غاية في الروعة، واستلهام تمثال مصر إحلال لهذا البلد العربي مكانة مرموقة تجري عليه صفة الهادي إلى ماعلا من مثل، بما فيه صلاح أمر الأمم، فكانت له الريادة والسبق إلى الدعوى. وهكذا لم يترك الشام وفلسطين، فيذكر مدينة حلب في ماض من الأعوام وقد دخل الفرنج عليها بتقاليدهم ومقيت من عاداتهم، وعبر عن كراهته لمثل تلك الظاهرة الاجتماعية في بلد عربي، ثم عرض لقضية فلسطين وأورد قياسا هو الصواب الأصوب، فقال إن اليهود إذا توهموا لهم في فلسطين حقا، فحري بالعرب أن تكون لهم إسبانيا ثم ندد بسياسة الاستعمار الإنجليزي التي تخدع العرب عن أنفسهم وتريد للبهتان أن يستر الحقيقة وللزور أن ينطلي عليهم، فما أراد المستعمرون للبلاد عمرانًا كمايدعون مكذبين، لأن ما خفي من مقاصدهم ليس من ذلك في كثير ولا قليل، كما نصادف عنوانا هو "إلى عرب فلسطين"، لندرك منه أنه يخاطبهم ناصحًا لهم موقظا هممهم مذكرًا بضرورة شدة استمساكهم بحقهم، مستوجبًا منهم أن يجابهوا اليهود بعزم أكيد، فهؤلاء القوم الظالمون المغيرون يريدون غصب أرضهم وغلبهم على حقهم، ورغب إليهم أن يذكروا مجد المسلمين الأوائل وكيف تأتي لهم بصدق إيمانهم أن يطوعوا التاريخ لإرادتهم، ولقد كانت حميتهم ناراً، فجدير بتلك النار ألا تخمد في صدور عرب فلسطين، ثم يعبر عن اعتقاده الجازم بعدم جدوى المحادثات والمؤتمرات في لندن ولا  جنيف لحل مشكلة فلسطين، مادام اليهود مسيطرين على الغربيين متعهدين لأعمالهم وأحوالهم [10]
قد وجه محمد إقبال خطابه إلى الأمة العربية خاصة وإلى المسلمين عامة، ناصحًا لهم وموقظًا من سباتهم العميق لأن يعرفوا مكانتهم وقدرهم في سيادة العالم وقيادته، وهو في الواقع يريد استرجاع مجد الإسلام والمسلمين الذي كانوا يتمتعون به في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين، وهو يقول أن المسلم المؤمن هو أصل العالم وسر هذا الكون: المسلم لم يزل يتحف كل عصر بعلومه وتوجيهاته، وينير ظلمات كل عصر بنوره وضيائه، ويضرب على وتر واحد، ويكرر رسالة الأنبياء، ويقول لكل جيل: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، فهو كالصبح جديد وقديم، فهو في جدته ليس أجد منه، وهو في قدمه ليس أقدم منه، هو قديم لكنه يتجدد به العالم وتتجدد به الكائنات، وتنعش به القوى، وتستيقظ به الأجسام والقلوب والعقول، ثم هو جديد بنفسه، تتجدد قواه ويتجدد نشاطه، تتفتح قريحته مع العصور، علمه سيار وعقله مبتكر، ونفسه طموح وهمته وثابة، وهو كالمطر كل قطرة غير الأولى، ولكنها قطرات مطر، كلها تحيي الأرض، وكلها تنبت النبات، وكلها تسقي المزارع والأشجار، وكلها تفتح الأزهار، وكلها تكون الأنهار، وهو معنى قول النبي  صلى الله عليه وسلم: أمتى كالمطر لايدري أوله خير أم آخره [11]
وبكى مجدهم الغابر في الأندلس و حين زار مسجد قرطبة عام١٩٣٢ م، فصلى فيه وتذكر حضارة وأمة العرب التي كانت بالإسلام خير أمة أخرجت للناس، وكان محمد إقبال أول مسلم يسمح له بالصلاة في ذلك المسجد منذ خروج المسلمين من الأندلس في عام ١٤٩٢ م. وقد عبر عن مشاعره في تلك اللحظات بقوله : انظر أيها المسجد إلى هذا الهندي الذي  نشأ بعيدًا عن مركز الإسلام، ومهد العروبة، نشأ بين الكفار وعباد الأصنام كيف غمر قلبه الحب والحنان؟ وكيف فاض قلبه ولسانه بالصلاة على نبي الرحمة الذي يرجع إليه الفضل في وجودك، كيف ملكه الشوق؟ وكيف سرى في جسمه ومشاعره التوحيد والإيمان !!
وقد قال في المؤتمر الإسلامي الذي عقد في القدس عام ١٩٣١ م: إنني على إيمان ويقين أن مستقبل العرب مرتبط بالإسلام، وبالإسلام فحسب، ولابد من توحيد واتحاد صفوف المسلمين في المعمورة؛ لأن مصير المسلمين عربا وعجما، مصير واحد. لست خائفا من أعداء الإسلام، إنما أخشى من التفكك والتفرقة في صفوف المسلمين
أمة الصحراء يا شعب الخلود                      من سواكم حل أغلال الورى
أي داع قبلكم في ذا الوجود                          صاح: لا كسرى هنا لا قيصرا
من سواكم في حديث أو قديم                      أطلع القرآن صبحا للرشاد
 هاتفا في مسمع الكون العظيم                    ليس غير الله ربا للعباد
حبه للغة العربية: أحب إقبال العرب وُفتن بلغتهم العظيمة، ولا غرو فهي لغة القرآن، لغة السماء زيادة على كونها لغتهم. وهو قد شحذ بأفكاره وأشعاره همم الهنود وأجج بحماسته عزائم الفرس وأطرب بنغماته الكواكب والأفلاك حتى وصلت إلى السماء السابعة. ولكنه تمنى لو تصل أصوات نايه الرخيم العذب القوي إلى مسامع العرب وتبلغ فحواها قلوبهم فيجمعوا شملهم ويعودوا أمة واحدة بعد أن صاروا أجزاء متفرقة وأباديد، ويستأنفوا سبيل مجدهم الصاعد. لقد آلمه تفرقهم وتصدعهم فهو يتلهف على جمع شملهم.
فقد درس العربية عام ١٨٩٥ م بعد أن أكمل تعليمه الثانوي في الكلية الحكومية بلاهور، وأتم دراسته إلى أن حصل على شهادة الماجستير، فعين أستاذًا للغة العربية في الكلية الشرقية بلاهور، في مايو-أيار، عام ١٨٩٩ م تسعة وتسعين وثمان مئة وألف للميلاد، مدة أربع سنوات.
ولدى إقامته في جامعة لندن؛ د رس اللغة العربية مدة قصيرة، وفي لندن اض ُ طر الأستاذ أرنولد إلى الانقطاع عن عمله أستاذًا للغة العربية في جامعة لندن بضع َ ة أشهر؛ فاختار محمد إقبال ليحل محله أستاذًا للغة العربية مدة ستة أشهر.
أما عن الشعر العربي وأدبه؛ فقد كان له باع طويل فيه، فكيف لا يكون وهو الشاعر الذي لا يشقُّ له غبار، وهو المطَّلع على الكثير من آداب الشعوب الإسلامية والأجنبية، وهو القارئ الجيد للثقافة العالمية. وهكذا كان شعر إقبال ينبض بالعربية، المستمدة من روح الإسلام وتعاليمه السمحة،  ونجد أن محور فلسفته قام على هذا الروح.         
يقول عنه أبو الحسن النَّدوي: قدمت إليه ترجمتي لقصيدته البديعة "القمر" فتصفحها محمد إقبال، ووجه إلي أسئلة عن بعض شعراء العربية يختبر بها دراستي وثقافتي، وانتهى المجلس ورجعت معجبا بتواضع الشاعر العظيم، وبساطة مظهره، وعدم تكلفه في المعيشة والحديث [12]
وهو يقول عنه: "تحدث إقبال عن الشعر العربي القديم وتحدث عن إعجابه بصدقه وواقعيته، وما يشتمل عليه من معاني البطولة والفروسية، وتمثل ببعض أبيات الحماسة، وذكر أن الإسلام أثار في أتباعه روح الكفاح، وحب الواقع، ........... ، وذكر أن أوروبا إنما نهضت وملكت العالم لما ثارت على هذه الفلسفة ما بعد الطبيعة، وبدأت تشتغل بعلوم الطبيعة المجدية المنتجة، ولكن قد حدث وثار منه المسائل في هذا العصر ما يخاف معه أن ترجع أوروبا القهقري، وذكر أن العقل العربي كان أقوى على إساغة الإسلام إساغة صحيحة، وأجدر بحمل أمانته" [13]
كان إقبال متمكنًا من اللغة العربية، فقد حصل على البكالوريوس فيها من جامع بنجاب، لهذا ترى في أشعاره كثيرًا من الكلمات العربية، إلى جانب التركية والفارسية، وكلها مذابة في اللغة الأردية، وقد رأى إقبال في الشعب العربي خير سند للإسلام، فخصه بعناية واهتمام، وكان ينظر إلى العرب واللغة العربية نظرة احترام وتقدير، والشعوب الإسلامية تعتقد اعتقادًا راسخًا أن اللغة العربية مفتاح الثقة في الدين فهي لغة القرآن والحديث والأدب، لقد ملك حب العرب قلبه وكان متفتح النفس تجاه جميع الأمم[14]
كان إقبال يعرف اللغة العربية، ترى في قصائد كثيرًا من الكلمات العربية إلى جانب التركية والفارسية وكلها مذابة في الأردية، ونظر إقبال إلى العربية نظرة احترام لأنها لغة القرآن والحديث، وكان متفتح النفس تجاه جميع الأمم، أنه كاشف صادق لجوهر الحياة، وإقبال كان داعية من دعاة الإسلام الصادقين، وكان يعد نظام الإسلام حلا واقعيًا للمشكلات، وكان يعتبر النظم الوضعية مرفوضة، لأنها لا تهتم بطمأنة الروح، وأراد إقبال أن يقدم للمسلمين ما رأى أثناء رحلاته من مساوئ وأضرار، وأوضح أن الإسلام دين إنساني يدعو إلى المساواة بغض النظر عن الجنس واللون والمذهب، والحدود الجغرافية في نظره عقبة تمنع التقدم، ويرى إقبال أن الأمة الإسلامية يجب أن تعيش في اتحاد ووئام، فديننا واحد، ورسولنا واحد، وقرآننا واحد، ومما يؤكد عالمية نظرته، إلحاحه على مبدأ وحدة الأصل الإنساني [15]
وينقل أبو الحسن الندوي حدي َ ث إقبال إليه عن اللغة العربية، فيقول:" قال: أشر ُ ت على بعض أمراء المسلمين، أصحا ِ ب الإمارات الهندية؛ بنشر الإسلام في غير المسلمين، ونشر الثقافة الإسلامية، وإحياء اللغة العربية وآدابها في هذه البلاد" [16]
ويبقى إقبال عبقرية أهداه الزمن إلينا ليبين لنا قيمة العربي عنده وإخلاصه للغة القرآن في إعجازه وبيانه وصوره ولأن منبعه كان القرآن كان بلاغيا مبدعا ، وجعل الرسول قدوته فهو القائل
: نفس الأمي مشهور اللقب                            جعل البستان صحراء العرب__





[1] مقدمة ابن خلدون، ص ٤٠٨ - نقلا عن إقبال الشاعر الإسلامي الفيلسوف ، مرتبه الدكتور شبير عالم، ص ٢

[2] الثعالبي، فقه اللغة، ص ٣- نقلا عن إقبال الشاعر الإسلامي الفيلسوف ص ٢٧٥

[3] ١إقبال والعالم العربي مقالة الدكتور حسين مجيب المصري من كتاب إقبال الشاعر الإسلامي الفيلسوف ص ٢٧٦

[4] ١ روائع إقبال للأستاذ أبي الحسن علي الحسنى الندوي ص ١١٣

[5] روائع إقبال للأستاذ أبي الحسن علي الحسنى الندوي ص ١٢٩

[6] هدية الحجاز للعلامة محمد إقبال ص ١٢

[7] إقبال والعالم العربي مقالة الدكتور حسين مجيب المصري من كتاب إقبال الشاعر الإسلامي الفيلسوف ص ٢٨٣

[8] الدكتور حسين مجيب المصري: إقبال والعالم العربي، نقلا عن كتاب إقبال الشاعر الإسلامي الفيلسوف ص ٢٨٧

[9] الدكتور حسين مجيب المصري: إقبال والعالم العربي، نقلا عن كتاب إقبال الشاعر الإسلامي الفيلسوف ص ٢٨٩
[10] الدكتور حسين مجيب المصري: إقبال والعالم العربي، نقلا عن كتاب إقبال الشاعر الإسلامي الفيلسوف ص ٢٨٧
[11] روائع إقبال للأستاذ أبي الحسن علي الحسنى الندوي ص ١٠٠
[12] روائع إقبال للأستاذ أبي الحسن علي الحسنى الندوي ص ١٤
[13] روائع إقبال للأستاذ أبي الحسن علي الحسنى الندوي ص ١٦
[14] صفاء الدين محمد أحمد: إقبال شاعر الحب والإيمان، نقلا عن إقبال الشاعر الإسلامي الفيلسوف ص ٤٥٢
[15] الأستاذ علاء الدين حسن: محمد إقبال رائد التجديد،نقلا عن إقبال الشاعر الإسلامي الفيلسوف ص ٤٤٣
[16] روائع إقبال للأستاذ أبي الحسن علي الحسنى الندوي ص ١٨

مواضيع ذات صلة
الأعلام،, دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات