ادعمنا بالإعجاب

تفسير إشارات الإعجاز فى مظان الإيجاز للإمام سعيد النورسي دراسة تحليلية

بقلم  الدكتورعرفات ظفر استاذمساعد قسم اللغة العربية وآدابها،جامعة لكناؤ لكناؤ- الهند

كان الإمام بديع الزمان سعيد النورسي ( 1876 – 1960 ) من العلماء الربانيين والمصلحين المتنورين ومن المفسرين الملهمين ومن أولياء الله المجددين للدين ، أنه ولد فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر بتركيا ، ونشأ وشب فى مجتمع ساده الجهل والفقر والانشقاق واللادينية ، وفى هذا الجو أنه اعتنى أولا بتعلم العلوم العربية والإسلامية وقرأ على كبار علماء عصره ، فتبحر فيها وكان معروفا بسرعة استيعابه للعلوم حتى أنه حفظ ما يقرب من تسعين كتابا من أمهات الكتب و هكذا أنه تفقه فى الدين ، وبسبب حدة ذكائه وقوة حافظته وعلمه الغزير وطلاعه الواسع أنه سمّي " بديع الزمان " كنوع من الاعتراف من قبل اساتيذه واصحاب العلم والمعرفة.


ثم انصرف إلى تعلم العلوم الحديثة وسبر اغوار هذه العلوم بنفسه دون معونة أحد ودون اللجوء إلى مدرس يدرسه إياها حتى تعمق فيها. وهكذا أنه جمع بين القديم والحديث وأصبح مجمع البحرين وذاعت شهرته إلى أقاصي البلاد وأدانيها ، حتى قيل :  " إن علمه ليس كسبيا وإنما هو هبة إلهية وعلم لدني ". (1)
وبعد النبوغ فى العلوم الدينية والعصرية أنه نذر حياته لإعلاء كلمة الله وتوضيح عقيدة الإسلام وبيان احكامه وعللها وقام باصلاح المجتمع التركي وإيقاظه وإعادة الروح الديني فيه ودحض الافكار المنحرفة وأبطل الفلسفات الجديدة من خلال كتاباته وخطاباته لكي ينجوالمسلمون عامة ومسلمو بلاده خاصة من الغزوالفكري والمادي الذي قد تعرضوا له.
وفى هذا الصدد أنه قام بتربية الشباب على منهجه الخاص لكي يقدروا على مواجهة الهجوم الغربي والصراع الحضاري ومقاومته الذي كان يتسلل رويدا رويدا إلى المجتمع الإسلامي ويزعزع بنيانه فى معظم البلدان الإسلامية.
ومن المعلوم أنه بسبب رفع صوته ضد النظام واستبداده وبدعوته إلى الالتزام بالشريعة الإسلامية فى بلاده تعرض للسجن والنفي والإيذاء والمحاكمة ، فعندما سجنته الحكومة التركية آنذاك سنحت له الفرصة للتدبر فى معانى القرآن الكريم ومقاصده وانكشفت عليه مطالب جليلة ومفاهيم قيمة وجوانب بديعة من فيوض كتاب الله العظيم. وفى هذه الأثناء أدلى وزير من الحكومة البريطانية بتصريح قال فيه : " مادام القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم ، لذلك فلا مناص لنا من أن نزيله من الوجود أو نقطع صلة المسلمين به. " (2)
فزلزل هذا الخبر كيان الإمام النورسى وأقض مضجعه، ومنذ ذلك الحين أنه جعل خدمة القرآن الكريم هدفا لعلمه وغاية لحياته وقرّر أنه يستخدم جميع العلوم القديمة والحديثة – التى  حصل عليها حتى الآن – لإدراك معاني القرآن الكريم السامية وبيان اغراضه وإثبات حقائقه الغراء.
فبفضل ذلك المحصول العلمى الكبير الذي اكتسبه منذ طفولته حتى الآن أنه تمكن من تأليف الكتب والرسائل لنشر الحقائق والمعارف الإسلامية باللغتين العربية والتركية واشتهرت هذه الرسائل فيما بعد بإسم " رسائل النور" والجدير بالذكر أن رسائله باللغة العربية سبقت الرسائل باللغة التركية ، لأن التأليف باللغة العربية قد انقطعت بانتهاء الدولة العثمانية.
ومن باكورة اعماله التأليفة تفسيره القيم الذي سماّه " إشارات الإعجاز فى مظان الإيجاز، وألّفه باللغة العربية ، إنه قام بتأليف هذا التفسير اذ كان يقاتل على جبهة قفقاص ضد الجيش الروسى خلال الحرب العالمية الأولى وحسب قول الشيخ صدرالدين البدليسي " كان الأستاذ يناضل ويطلق بندقيته فى صدور الأعداء من جهة ويضع فى مصنع دماغه قنبلة اعجاز القرآن الذرية ليحطم بها بنيان الكفر والضلال من جهة أخرى ، ..... إن ذلك الوقت العصيب والموقف الرهيب لم يدهش المؤلف ولم يذهل فكره الثاقب عن الجولان فى مناحى اعجاز القرآن المبين. " (3)
ويعتبر الباحثون والمحللون هذا التفسير بمثابة البذور الأولى لتلك المؤلفات و الرسائل التي قدمها الإمام النورسى باسم رسائل النور إلّا أنه وجّه خطابه فى هذا التفسير إلى خاصة تلاميذه ، كما يقول الدكتور محسن عبد الحميد فى هذا الخصوص:
" إنه ما من فكرة شرحها أو بسطها أو مثل عليها إلّا تجد لها بذورا موجزة أو مفصلة فى هذا الكتاب العلمى الرصين ( إشارات الإعجاز ) ، ..... غير أنه اتجه فى كتابه هذا إلى مخاطبة خاصة تلاميذه " (4)
وأما تفسيره " إشارات الإعجاز " فهو تفسير غير مكتمل ويشتمل على تفسير البسملة وسورة الفاتحة وثلاث وثلاثين آية من أوائل سورة البقرة ، ولم يكتب المؤلف رحمه الله أية مقدمة مستفيضة لهذا التفسير حيث يوضح منهجه فى التفسير ويلقي الضوء على خصائص تفسيره ، ولعل السبب فى ذلك أنه ألف هذا التفسير فى خضم المعارك  كما سبق ذكرها، وهذا التفسير – كما يترشح من إسمه – يشير إلى إعجاز القرآن ووجوهه بغاية الايجاز والاختصار.
وفى البداية كان الشيخ يود أن يؤلف هذا التفسير هيئة عالية من العلماء المتخصصين الحائزين على اعتماد الجمهور وثقتهم ، ليكون تفسيرا يستجيب لحاجات القرن العشرين ومرجعا لجميع طبقات المسلمين ،  كما هو يقول:
" لما كان القرآن جامعا لأشتات العلوم وخطبة لعامة الطبقات فى كل الاعصار ، لا يتحصل له تفسيرلائق من فهم الفرد الذي قلما يخلص من التعصب لمسلكه ومشربه ، ..... وكذلك لابد لكشف معاني القرآن وجمع المحاسن المتفرقة فى التفاسير وتثبيت حقائقه .... من انتهاض هيئة عالية من العلماء المتخصصين المختلفين فى وجوه الاختصاص ، ولهم مع دقة نظر وسعة فكرلتفسيره. " (5)
ولكن لم يتم تشكيل هذه الهيئة العالية من العلماء المتميزين والإخصائيين البارزين فى مختلف مجالات العلوم والفنون ، وبعد انتظار طويل أنه بدأ العمل وحيدا فى هذا المجال ، وفى هذه الأثناء اندلعت الحرب العالمية الأولى ، فكان الإمام النورسى يجاهد فى ساحات القتال ويفسّر القرآن فى ساعات الفراغ ، كما يقول نفسه فى هذا الشأن :
" ثم إني بينما كنت منتظرا ومتوجها لهذا المقصد بتظاهر هيئة كذلك – وقد كان هذا غاية خيالي من زمان مديد – إذ سنح لقلبي من قبيل الحس قبل الوقوع تقرب زلزلة عظيمة ( يعنى الحرب العالمية الأولى ) ، فشرعت – مع عجزي وقصوري والإغلاق فى كلامي – في تقييد ما سنح لي من إشارات اعجاز القرآن فى نظمه وبيان بعض حقائقه ، ولم يتيسر لي مراجعة التفاسير ، فإن وافقها فبها ونعمت وإلّا فالعهدة علي ...... فوقعت هذه الطامة الكبرى ..... ففى أثناء اداء فريضة الجهاد كلما انتهزت فرصة فى خط الحرب قيدت ما لاح لي فى الأودية والجبال بعبارات مختلفة باختلاف الحالات ، ..... فأعرضها لأنظار أهل الكمال، لا لأنه تفسير للتنزيل بل ليصير – لو ظفر بالقبول – نوع مأخذ لبعض وجوه التفسير ، وقد ساقني شوقي إلى ما هو فوق طوقي فإن استحسنوه شجعوني على الدوام " (6)
ومن ابرز ميزات هذا التفسير أن الإمام النورسي قد أولى فيه اهتمامه بالجانب البلاغي وبيان ألفاظها وإشاراتها و التزم فيه ببيان النظم بين الآيات المختلفة ويرى أن النظم القرآني هو الوجه الأول والأظهر من وجوه اعجاز القرآن الكريم ، ولإظهاره وبيانه أنه ألف هذا التفسير القيم ، ولابد من الإشارة هنا إلى أن الإمام النورسي لم يؤلف كتابا مستقلا لبيان آرائه فى نظم القرآن وتوضيح أفكاره حول إعجاز القرآن ، كما ألف عدد من العلماء المتقدمين ومن المتأخرين المفسر الهندي الجليل الإمام عبدالحميد الفراهي.
وأما نظرية النظم فلم تكن نظرية جديدة ، بل تناولها العلماء فى تفاسيرهم تناولا جيدا وتحدثوا عنها فى مؤلفاتهم باسهاب ، فقد أخذ الإمام النورسي هذه النظرية من العلامة عبد القاهر الجرجاني وتأثربه تأثرا بالغا وأعجب بنظريته فى نظم القرآن إعجابا كثيرا ، ولكنه لما ألقى النظر فى تفاسير القدماء وجد أن هولاء العلماء لم ينجحوا فى تطبيق هذه النظرية عند التفسير ، كما يقول الدكتور محسن عبد الحميد فى مقدمته لإشارات الإعجاز:
" وكأني بالأستاذ النورسي درس نظرية النظم هذه دراسة متقنة ، ثم ظهر له أن المفسرين الذين سبقوه كالزمخشري والرازي وأبي السعود لم يحاولوا تطبيقها من حيث هي منظومة متكاملة تشمل ترتيب السور والآيات والألفاظ سورة بعد سورة وآية بعد آية ولفظا بعد لفظ ، بتفاصيلها الكاملة فأراد أن يقتدي بهولاء المفسرين العظام ويؤلف تفسيرا يطبق فيه نظرية النظم تطبيقا تفصيليا شاملا من حيث المباني والمعاني ومن حيث المعارف اللغوية والعقلية والذوقية ، الكلية منها والجزئية ، والتى اعتمد عليها فى الكشف عن تفاصيل المنظومة القرآنية التي بها يظهر الإعجاز. وتتكشف دقائق خصائص الأسلوب القرآني التى خالفت خصائص التعبير العربي البليغ قبله والتي حيّرت البلغاء وأخرست الفصحاء ليحق عليهم التحدي المعجز إلى يوم القيامة. " (7)
فقد أخذت مسألة النظم من الإمام النورسي كل مأخذ ، فذهب يعمق الحديث فيه لأنه يرى أن إعجاز القرآن الكريم مكنون فى بلاغته وموجود فى حسن نظمه ، وقد صّرح مرارا وتكرارا فى كتاباته بأن النظم هو أساس الإعجاز ، كما أشار فى ثنايا هذا التفسير أيضا إلى هذا الوجه البارز من وجوه الإعجاز أكثر من مرة ، فهو يقول :  " إن مقصدنا من هذه الإشارات تفسير جملة من رموز نظم القرآن ، لأن الإعجاز يتجلّى من نظمه ، وما الإعجاز الزاهر إلا نقش النظم. " (8) وقوله فى مكان آخر : " إعلم أن أساس إعجاز القرآن الكريم فى بلاغة نظمه (9) " ويشير إلى نفس الشيئ بهذه الكلمات : " وأدق وجوه إعجاز القرآن الكريم ما فى بلاغة نظمه. " (10)
وأما منهجه فى تفسير القرآن الكريم وبيان نظمه فهو يبدأ بمقدمة وقد تليها مقدمة ثانية أو أخرى يجعلها مدخلا لتفسير آية أو مجموعة آيات ، ويتركها أحيانا ، ثم يبين بعد التفسير نظم الآية مع ما قبلها وما بعدها من الآيات ، ثم نظم الجمل فى الآية ، ثم نظم الكلمات والحروف فى الجملة ، وعلى هذا النحو أنه يحلل الآية لغويا ونحويا وبلاغيا ويستمد من الأبيات العربية والأحاديث النبوية والآيات المماثلة الأخرى توضيحا لمعناها وتأييدالرأيه.
كان الإمام النورسى يود أن يكون هذا الجزء من التفسير وقفا على توضيح الإعجاز النظمي من وجوه إعجاز القرآن وأن تكون الأجزاء الأخرى منه وقفا على بيان سائر أوجه الإعجاز ، ولكن من المؤسف جدّا أنه وقف عند هذا المجلد من التفسير ودفعته ظروف عصره ومصره إلى مواجهة التحديات العصرية والقضايا المعاصرة ومقاومة الحضارة الغربية المادية ، لأن ما أثاره الأعداء فى ذلك الزمن لم يكن متصلا بالطعن فى بلاغة القرآن أو مناقشة ما يتعلق بإعجازه أو بتناسب سوره وآيه وكلماته ، وإنما كان يركز على شن هجوم شامل على أصول الإيمان وحكمة التشريعات ومحاولة تفكيك النظام الأخلاقى الذي جاء به القرآن الكريم.(11)
لاشك فى أن الإمام سعيد النورسي قد أوضح من خلال هذا الجزء منهجه فى التفسير وأثبت إعجاز القرآن من ناحية النظم بين الآي والسور. ولو أكمل الإمام هذا العمل حسب خطته لكان تفسيرا بديعا جامعا للقرآن المعجز البيان.
وأما أسلوب الإمام النورسى فى هذا التفسير فهو يتسم بالإيجاز والاختصار، كما يتضح من إسمه أيضا ، ولها أسباب عديدة ، فقد اقتضت ظروف الحرب الشاقة وما يواكبها من حرمان أن يكتب هذا التفسير في غاية الإيجاز والاختصار، كما أن ذلك الزمان لم يكن يسمح بالإيضاح، نظرا إلى أن سعيد القديم ( أي سعيد قبل الحرب العالمية الأولى ) كان يعبر بعبارات موجزة وقصيرة عن مرامه ، وفضلا عن ذلك كان الإمام النورسي يضع درجة أفهام طلبته الأذكياء جدا موضع اعتبار ولم يكن يفكر فى فهم الآخرين ، وكذلك إذ أنه كان يبين فى تفسيره هذا أدق وارفع ما فى نظم القرآن من الإيجاز المعجز ، جاءت العبارات قصيرة ورفيعة. (12)
ومن الملاحظ هنا أن الإمام النورسي قبل الشروع فى التفسير قدّم تعريفا بليغا موجزا مؤثرا للقرآن الكريم بعنوان " لمعة من تعريف القرآن " ومن خلالها أنه أوضح مكانة هذه الرسالة الإلهية وماهيتها وغايتها لا للمسلمين فقط بل للإنسانية جمعاء.
وفيما يلي نقدم أمثلة ونماذج من هذا التفسير حيث يوضح المؤلف رحمه الله مطالب الآيات ويبين الوحدة الموضوعية المتواجدة بين مختلف الآيات ويبرز الربط والنظم الموجود بين الآيات والكلمات القرآنية المختلفة ، لكي يتضح أمامنا منهجه فى التفسير ، ففي بداية الكلام تحدث الإمام النورسى عن مقاصد القرآن الأساسية ، فيقول : " إن المقاصد الأساسية من القرآن وعناصره الأصلية أربعة : التوحيد والنبوة والحشر والعدالة." ثم استطرد قائلا : " إن قلت أرني هذه المقاصد الأربعة فى " بسم الله " وفى " الحمدالله " ، قلت : لما أنزل " بسم الله " لتعليم العباد كان " قُل " مقدرا فيه وهو الأم فى تقدير الأقوال القرآنية ، فعلى هذا يكون فى " قل " إشارة إلى الرسالة .... وفى " بسم الله " رمز إلى الألوهية .... وفى تقديم الباء تلويح إلى التوحيد ..... وفى " الرحمن " تلميح إلى نظام العدالة والإحسان .... وفى " الرحيم" إيماء إلى الحشر (13)
ثم يوضح النظم بين " الله " و " الرحمن الرحيم " قائلا : إن الله لفظة الجلال جامعة لجميع الصفات الكمالية ، فهذا يستدعي اتصافه تعالى بالجلال والجمال ، فانهما أصلان تسلسل منهما فروع كالأمر والنهي والثواب والعذاب والترغيب والترهيب ، ... وإذا كان لفظ الجلال يتجلى منه الجلال فالرحمن الرحيم يتراءى منهما الجمال ، فذكرهما استكمال للفضل الإلهي. (14)
ثم يلتفت الإمام النورسي إلى تفسير سورة الفاتحة ويقول فى هذا السياق:
            وكذلك فى " الحمد لله " إشارة إلى الألوهية ..... وفى لام الاختصاص رمز إلى التوحيد ... وفي " رب العالمين " إيماء إلى العدالة والنبوة ايضا ، لأن بالرسل تربية البشر .... وفي " مالك يوم " تصريح بالحشر. (15)
            وضمن تفسير سورة الفاتحة يوضح النظم فى " الرحمن الرحيم " ويقول : إنهما إشارتان إلى أساسي التربية ، إذ " الرحمن " لكونه بمعنى الرزاق يلائم جلب المنافع ، و " الرحيم " لكونه بمعنى الغفار يناسب دفع المضار وهما الأساسان للتربية. (16)
            ثم يبين نظم " مالك يوم الدين " مع الآية السابقة أي " الرحمن الرحيم " قائلا : " إنه كالنتيجة لسابقه ، إذ الرحمة من أدلة القيامة والسعادة الأبدية ، لأن الرحمة إنما تكون رحمة والنعمة نعمة إذا جاءت القيامة وحصلت السعادة الأبدية ". (17)
            وعند تفسير الآية " أياك نعبد وإياك تستعين " يقول صاحب هذا التفسير إن تقديم " إياك " للإخلاص الذي هو روح العبادة وأن فى خطاب الكاف رمزا إلى علة العبادة لأن من اتصف بتلك الأوصاف الداعية إلى الخطاب استحق العبادة ، ..... وأضاف قائلا : إن " إياك " يتضمن الامتثال بهذا الحديث النبوي " أعبد ربك كأنك تراه " (18)
            ثم يبرز نظم الآية " إياك نعبد وإياك نستعين " ويقول : إعلم أن نظم " نستعين " مع " نعبد " كنظم الأجرة مع الخدمة ، لأن العبادة حق الله على العبد والإعانة إحسانه تعالى لعبده ، وفى حصر " إياك " إشارة إلى أن بهذا النسبة الشريفة التي هي العبادة والخدمة له تعالى يترفع العبد عن التذلل للأسباب والوسائط ، بل تصير الوسائط خادمة له وهو لا يعرف إلا واحدا ، ..... ومن لم يكن خادما له تعالى بحق يصير خادما للأسباب ومتذللا للوسائط. " (19)
            وفى بداية تفسير السورة الأولى من الزهراوين ( سورة البقرة ) تناول الإمام النورسي قضية التكرار فى القرآن الكريم كالبسملة و " فبأي آلاء " و " ويل يومئذ " وقصة موسى وأمثالها وأوضح الجهات البلاغية التي تتحصل من هذا التكرار، وشبهه بغذاء الإنسان وضياء الشمس الذي لا يمل به الإنسان ، كما أنه تحدث عن حروف المقطعات وبيّن جهات متنوعة واغراض مختلفة لاستعمالها.
وعلى هذا النحو أنه قدّم بحثا دسما قيما شافيا على كون القرآن الكريم معجزة تحت تفسير الآية " وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فآتوا بسورة من مثله. ويقول فى صدد هذا البحث :
" واعظم المعجزات هو القرآن ، وادق وجوه إعجازالقرآن ما في بلاغة نظمه ، ثم أنه اتفق الإسلام على أن القرآن معجز ، إلا أن المحققين اختلفوا في طرق الإعجاز ، لكن لا تزاحم بين تلك الطرق ، بل كل اختار جهة من جهاته ، فعند بعض إعجازه : إخباره بالغيوب ، وعند بعض : جمعه للحقائق والعلوم وعند بعض : سلامته من التخالف والتناقض ، وعند بعض : غرابة أسلوبه وبديعته في مقاطع ومبادئ الآيات والسور ، وعند بعض : ظهوره من أمي لم يقرأ ولم يكتب ، وعند بعض : بلوغ بلاغته نظمه إلى درجة خارجة عن طوق البشر ، وكذا وكذا. " (20)
 كما أنه جاء بحديث قيم لطيف ضمن تفسير الآية " وعلم آدم الأسماء " ولا اعرف مفسرا أتى بحديث مثله قبل الإمام النورسى وذلك أن الإبداعات والمستجدات العلمية والتطورات التكنولوجية الحديثة كلها مستنبطة ومستفادة من تلك الآيات التي ذكرت فيها المعجزات ، فيقول الإمام النورسى فى هذا الصدد:
            " إن التنزيل كما يفيدك بدلالاته ونصوصه كذلك يعلمك بإشاراته ورموزه ، إنى لأفهم من إشارات أستاذية إعجاز القرآن الكريم فى قصص الأنبياء ومعجزاتهم التشويق والتشجيع للبشر على التوسل للوصول إلى أشباهها ، كأن القرآن بتلك القصص يضع إصبعه على الخطوط الأساسية ونظائر نتائج نهايات مساعي البشر للترقي فى الإستقبال الذى يبنى على مؤسسات الماضي الذي هو مرآة المستقبل. وكأن القرآن يمسح ظهر البشر بيد التشويق والتشجيع قائلا له : اسع واجتهد فى الوسائل التى توصلك إلى بعض تلك الخوارق ! أفلا ترى أن الساعة والسفينة أول ما أهدتهما للبشر يد المعجزة " (21)
وهكذا أنه أصبح من رواد التفسير العلمي للقرآن الكريم وقيل عن تفسيره : " إنه تفسير بديع وخارق للعادة ". (22)واعترف الشيخ صدرالدين البديسى أيضا بهذا الجانب من هذا التفسير فى الكلمات التالية:
" إنه فريد فى بابه لم ينسج للآن على منواله أي تفسير ، لأنه يستجلى ويكشف الإعجاز المكنون فى نظم الكتاب المجيد بطريقة عجيبة مخترعة لم نرها ولم نصادفها فيما عثرنا عليه من مشهور التفاسير المتداولة كتفسير أبى السعود والفخر الرازي والبيضاوي وتفسير الأستاذ المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري الذى أفاض وأسهب فيه وبين كثيرا من العلوم المختلفة التى تشير إليها الآيات الكونية. " (23)
والجدير بالذكر أن صاحب هذا التفسير يفرض السؤال بقوله " إن قلت " ثم يرد على هذا التساؤلات والتعقيدات بكلمته " قيل لك " أو قلت " .
            فعلى هذا المنوال أنه يفسر ويوضح النظم بين الآيات تارة وبين الجمل والكلمات تارة أخرى ، والأن اكتفي بهذا القدر من النماذج ، وبها يتضح أمامنا منهج تفسيره وطريقة تطبيقه النظم فى الآيات القرآنية ، فلاشك في أن تفسيره " إشارات الإعجاز " تفسير قيم فى إثبات وجه النظم من الإعجاز ومملوء بالأسرار واللطائف والحكم القرآنية . وفى هذا التفسير قد يذكر الإمام النورسي الأبيات العربية للاستدلال على معاني المفردات القرآنية ومفاهيمها ويأتي بالأحاديث النبوية لشرح مقاصد الشريعة وأحكامها وينتهج منهج تفسير القرآن بالقرآن. ويبين بعبارات موجزة المطالب القرآنية والنكات البلاغية كلمة كلمة وآية آية وفق أسس البلاغة وقواعد العلوم العربية ، وهذه كلها بنية خالصة وإخلاص كامل، كما يقول الشيخ البديسى فى هذا الصدد:
            " إن فى عباراته عذوبة وحلاوة وطلاوة بديعة وتدقيقا خارقا جدا فى تحليل آي الوحي المنزل، إنه بين جهة مناسبة الآيات بعضها ببعض، وتناسب الجمل وتناسقها وكيفية تجاوب هيآت الجمل وحروفها حول المعنى المراد معتمدا فى ذلك على ادق قواعد علم البلاغة وعلى اصول النحو والصرف وقوانين المنطق ودساتير علم أصول الدين وسائر ماله علاقة بذلك من مختلف العلوم." (24)
            ومن الأهمية بالمكان أن نذكر فى نهاية المطاف أن الإمام النورسى وإن انتقل من كتابة التفسير إلى أعمال جليلة أخرى وألف كتبا ورسائل مختلفة ، ولكن القرآن وتفسيره ومخاطبة المسلمين بآياته لم يبارح قط فكر النورسى ومخيلته إلى آخر لحظة من لحظات حياته ، فرسائله كلها تستمد وتستوحي من القرآن الكريم وتستنير من لمعاته ،وبهذا السبب يقال إن " رسائل النور" تفسير معنوي للقرآن الحكيم ، غير أنها ليست حسب المنهج المتداول للتفسير ، أما " إشارات الإعجاز " فهي تشبه التفاسير المتداولة باللغة العربية. والإمام النورسى بنفسه صرّح بأنه فى جميع مؤلفاته ورسائله لا يعتمد إلّا على القرآن فقط دون الرجوع إلى المصادر الأخرى ، كما هو يقول:
            " إن رسائل النور ليست كالمؤلفات الآخرى التى تستقي معلوماتها من مصادر منحدرة من العلوم والفنون ، .... فلا مصدر لها سوى القرآن ، ولا أستاذا لها إلّا القرآن ، ولا ترجع إلّا إلى القرآن ، ...... فهي ملهمة مباشرة من فيض القرآن وتنزل من سماء القرآن ومن نجوم آياته الكريمة. " (25)
            وبهذا السبب كان الإمام النورسى يود أن يقوم أحد من طلاب النور ويدون تفسيرا على منهجه فى ضوء تفسيره ورسائله ومرة أعرب عن هذه الأمنية قائلا :
            " لعل الله يبعث هيئة سعيدة من المنورين تجعل من هذا الجزء ( إشارات الإعجاز ) ومن الكلمات والمكتوبات الست والستين بل المأة والثلاثين من أجزاء رسائل النور مصدرا وتكتب فى ضوئه تفسيرا من هذا القبيل. " (26)
            فخلاصة القول أن الإمام النورسى خدم القرآن الكريم خدمة لا مثيل له فى هذا الزمان ، وأما تفسيره " إشارات الإعجاز " فأنه يدل دلالة واضحة على ولوعه البالغ بالقرآن الكريم ونبوغه فى علوم اللغة والبلاغة ، فحقا كان رائدا لحركة الرجوع إلى القرآن الكريم وداعيا إلى التمسك بالكتاب والسنة في تركيا الحديثة.
المصادر والمراجع

(1)    جوانب من حياة بديع الزمان،ص ،مقال متوفر على الانترنت ( WWW.Nursistudies.com)
(2)   سيرة ذاتية مختصرة لبديع الزمان سعيد النورسي،ترجمة واعداد:احسان قاسم الصالحي،ص 20-21
(3)   إشارات الإعجاز فى مظان الإيجاز،للشيخ بديع الزمان سعيد النورسى،تحقيق احسان قاسم الصالحي،ص 247
(4)   المصدر السابق ، ص 10
(5)   المصدر السابق ، ص 21
(6)   المصدر السابق ، ص 22
(7)   المصدر السابق ، ص 8
(8)   المصدر السابق ، ص 24
(9)   المصدر السابق ، ص 114
(10)المصدر السابق ، ص 180
(11) المصدر السابق ، مقدمة الدكتور محسن عبد الحميد ( أستاذالتفسيروالفكر الإسلامي، جامعة بغداد ) ص 9
(12) المصدر السابق ، مقدمة الترجمة التركية ، ص 18
(13) المصدر السابق ، ص 25
(14) المصدر السابق ، ص  26
(15) المصدر السابق ، ص 25
(16) المصدر السابق ، ص 29
(17) المصدر السابق ، ص 30
(18) المصدر السابق ، ص 31
(19) المصدر السابق ، ص 32
(20) المصدر السابق ، ص 180
(21) المصدر السابق ، ص 239
(22) المصدر السابق ، ص 244
(23) المصدر السابق ، ص 246
(24) المصدر السابق ، ص 247
(25) ضوابط التدبر القرآني فى ضوء رسائل النور، إعداد – الدكتور يوسف حمداوي ، مقال موجود على الأنترنت
(26) إشارات الإعجاز ، مقدمة الترجمة التركية ، ص 19








مواضيع ذات صلة
أدبيات, دراسات, شأون الخارجية, مقالات دينية,

إرسال تعليق

0 تعليقات