ادعمنا بالإعجاب

الحج من منارات الشريعة


جعفر على الأصلحي فتاميي
"وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق" هو الأمر الرباني فضل به النبي خليل الله إبراهيم عليه أفضل الصلوات عند ما قام ببناء أول بيت وضع للناس ببكة مباركة, وذاك الإعلان الإبراهيمي لا يزال يستمر صداه من مئات من السنين,

ويأتي الأناس محرمين ملبين من كل فج عميق ومن كل مضيق وطريق رغم ما يتجبل أمامهم من عراقيل فخمة, ويرجعون بقلوب طرية بما قد سعدت عيشة سعيدة بالقيام بأداء فريضة الحج المبرور, ومن العجب العجيب أن كل من يتشرف بالتوجه إلى تلك البقعة المباركة بأفئدة تقاتل فيها الآراء يرجع منها بنفوس تصافح في سطحها الأفكار والأنظار المتقطعة وتتحد ذاتية أواحدة, وبذاك المقام بميدان عرفة في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة تبرز البشرية العالمية وحدة شملها التي بغبتها تواجه اليوم عدة المشاكل في شتى المجالات, وهذا هو الإعلان القرآني ’’يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم‘‘, إنما ينطبق تنوع معانيه المحسنة بمثل هذه  المناولة الشرعية من الجماعة المستحسنة في الصلوات الخمس أعمدة الدين الحنيف الوتيدة, فبأداء تلك العبادات حق الأداء من القواعد والمشروعيات يتولد لكل واحد من مرتكبيها قلب تقي خالص يتقوى لرد سائر المفاسد، وليس بعيدا القيام بإدراك المصالح الصحية المادية لمعادل هذه العبادة مع ما هي باهرة في الوجهات الصوفية الخاصة.

والله الواحد علق مسئولية فريضة الحج على كل من جملته الصحة البدنية والمالية والطرقية, كأنما قد عهد إليه بواجبة أداء حقوق الإنسانية مع سائر من يستحقها على وجه الأرض, فبتعميم تلك الفكرة القويمة وغرسها في باطن قلوب المجتمع البشري وسقيها بمياه الحب والإتحاد بين الأفراد تتزين أجساد العباد بملابس التعاون والتساوي, وقد ذم النبي حبيب الله صلى الله عليه وسلم  من سعد بتعانق تلك المشروعيات لوجوب هذه الفريضة ولم يقم بأدائها بل فر منها هاربا, ولقد أحسن من أعلن" الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة", فهذه الإرشادات تظهر فضيلة هذه الفريضة في فاظورة شريعة الإسلام, مع أنها محفلة الوحدة والمساواة والأخوة والمواساة بأجمعها.
ثم الفرق الآخر توحد به هذه العبادة فقط أنها قد شرعت من أول يوم تخطى فيه أبو البشر نبي الله آدم عليه الصلاة والسلام على واجهة الأرض كما قد غلب عليه القضاء.
صدى المجتمع الحاضر
فالمجتمع البشري المعاصر ما زال مسيره في سبل صعبة قد قل صاحبها الزاد ومل عليه المقصد, والقوارع بأنوعها تنوشه من كل حدب وصعب, وتخط الأخلاق الجميلة  نالت بها الأمة معظم ما نالت, وتنهار مبانيها يوما فيوما, ومن جراء هذه الحالة الحزنة قد اطفأت المنارة الإسلامية الخلقية وقد نورت هي المجتمع كله أو جله من ظواهر أعضائه أو نفس البواطن له, وقد وردت الآية بقوله تعالى ’’أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين‘‘ ومعنى هذه الإشارة الإلهية قد تجمل الآن بثيابه الحقيقة, فعلو هذه الأمة المسلمة وسموها قد لعبا دورا عظيما في بناء شرافة المجتمع الإسلامي عند كل من له عقل عاقل ممن على الرصيف المعارض للإسلام والمسلمين, فإن الإتحاد الإسلامي والمواساة القومية إمتازت بهما مشروعية هذه الأمة قد تعانقتها الأجواء الغابرة والحاضرة معا, وماصدقات قوله تعالى ’’يا أيها الناس إنا خلقناكم ....... إلخ‘‘ قد أعجب بوادر كل المفكرين حسا وشرعا, ما أجمل هذه المقالة السماوية بلفظها ومعناها, وإن كان على  وجه الأرض أية ديانة مخلقة أم غيرها تنبه على أهمية الإنسانية المتحدة عنقا فعنقا وعقبا فعقبا, فإنها قد قصرت في تحقيق دعاياتها في الميدان العملي, وما هو ببعيد عن فكر ونظر أي من له تنبه يسير عن الحضارة الهندية أنها كانت مواقع الإنقسام الطائفي والإنفراد الحزبي على مواد اللغة والبقعة والطائفة واللون واللسان, وكل من يقوم بأداء فريضة الحج المبرور وسنة العمرة المقبولة لينسحب إلى قعر قلبه معاني المواساة الإنسانية بأفضل التصاوير.
الحج منارة التوحيد
فالمحرم بالحج مسافر إلى مرضاة الله زاده التقوى ومراده الفوز الأبدي في الأولى والآخرة, فإنهم لا يرتحلون إلى الله قد تركوا وراء ظهورهم العيال والأموال والموطن والمسكن إلا برجاء رضى الرحمان الواحد وهو على كل شيئ قدير, وما يتحملون مختلف المشاكل والعراقل رغم الانهيار الاكتسابي والتهور النسبي معا إلا رضاء بقضاء الله تعالى, وبالعكس لا يعتد بحجه ولا بعمرته وقد تلوثت بوساويس الفضيلة والمكرمة والرئية في أعين البشر بدرجة عليا, فالحج أوله وأوسطه وآخره بالتوحيد فقط وليس هناك أي عمل شرعي يتد على مواد التوحيد والإخلاص, مثل ما يقوم الحج بعمله حيثما كان بجلاء الصدور أم بخفائها.
تذكار لنبي الله وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد فدى بنفسه ونفيسه في سبيل الله الوحيد الفريد, ورمى به إلى اضطرام النيران تأسيسا للتوحيد على وجه الأرض, والقرآن الرباني يتكلم عنه بقوله تعالى" قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم"و فقد جعل عليه الصلاة والسلام ماله ومناله كله لله الواحد وفدى به لمرضاته, فلا يكون في وسعة أي حاجي أن يطوف بالكعبة المشرفة إلا هو يتجرع تذكار خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام جرعة انجرعته أو يعتبر بمساعيه الحميدة.
فبالإحرام بالحج والعمرة يتقرب الحاجي إلى الذكر والفكر عن الله تعالى لحظة فلحظة قولا وفعلا وقلبا, فما يزجر المطيبات والمجملات بأجمعها إلا تفضلا بتزيين لسانه بكلمة القولية بقول لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة والملك لك لا شريك لك, فبأية إجابة يجيب بها الحاجي بهذه الكلمات؟ وعند ما يتفضل الحاجي بالدخول إلى المكة المكرمة والمدينة المنورة أولا تتفاقم في صدوره الأفكار وتتخاصم فيها الأنظار عن سعي النبي حبيب الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام أنجم السماوات لإعلاء كلمة الله على وجه الكون ولتكون كلمة الله هي العليا, فأي مؤمن لا يفرح قلبه ولا يبتشر بهذه الأفكار ويرتاح روحه بهذه المشرفة, والحق أنهم ما كلفوا بهذه البلوى الشعواء إلا لتأييد التوحيد.
فما عين إلا قد ذرف وما قلب إلا قد خاف وما صدر إلا قد اضطرب فرحة وسرورا وتقوى وإخلاصا, ولا يسع به ذكر الذاكرين وقلم الكاتبين عند ما يحظى عيناه بالنظر إلى الكعبة المباركة التي توجه إليها كل يوم خمس مرات وراء البعد البعيد فلا يزال توحيده تعالى يزداد في قلبه و يتمجد ويكونه سعيدا بالسعي بين الصفا والمروة ولا يزال صدره يضطرب بالطرب والحب بذكر الله وفكره, والتشرف بالرمي إلى الجمرة المشعرة الشيطانية لا يقوي إلا التوحيد الإلهي في قلبه وقوله.
 فيتنور هنا ما قاله حجة الإسلام الإمام الغزالي في صدر كتابه المسمى بإحياء علوم الدين عن الرمي إلى العقبة بمعنى: وتقصد بالرمي بالأحجار إلى العقبة محض الإظهار بالعبودية وتعمد أنك تقدم الإمتثال المحض على الحكمة والمعقول وترى أنك تفعل مثل ما فعل النبي خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما شغله عن مقصده الشيطان الملعون، وقد أمر الله تعالى بالرمي بالأحجار لزجر الملعون، تفكر أنك ترمي إلى العقبة.
  وبالحق إنك ترمي الشيطان وتكسر صدره عقبه لمالا طاقة لأحد  بصد  الشيطان ومضادته إلا بامتثال أوامر الله تعالى والتبعد عن الحكمة المحضة والمعقول المخلل، وبالخلاصة أن الاشتغال بالحج والعمرة ليهدي إلى الميدان المبارك بالعبادة والطاعة الخالصة مع تغرس هذه الرسالة في أعماق قلوبنا كل من قام بأدائها حق الأداء .
وقد تنور قلبه وتنضر وأحظى بولادة ثانية مزهرة بالأصلحيات وحدها بعد أن قد رجع من تلك البقعة المباركة, وقد قام بالحج والعمرة بحضرة قلبه وعاطفه وقد تجرد عن كل الملاهي المهلكة، فالآن لايرى في أي جانب الا وجه الله المنان الذي يبشره بنعم الجنة في الدار الآخرة وينذره بنقم النار الملتهبة معا، فلا يكون في وسعه التقدم بخطواته في العادة اليومية إلى ساحات المهلكات من الذنوب والمعاصي، وهذا هو المقصود الأبدي بعيشة العباد في هذه الدار دار الفناء وبعوده إلى دار البقاء.


مواضيع ذات صلة
أدبيات, الأشعار, الكتب, دراسات, مقالات, نداء الهند،،نداء الهند,

إرسال تعليق

0 تعليقات