ادعمنا بالإعجاب

أثر التصوف في نمط حياة مسلمي كيرالا


د. منير جي. بي الهدوي

مقدمة
التصوف أو الصوفية ليس ابتكارا أو ابتداعا وليست مذهبا خاصا بل عبارة عن خلاصة مركزة وتيار تحتي للأيديولوجية الإسلامية. ويتبين هذا الأمر من الحديث النبوي الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه.

عن أبي هريرة بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبته إلى ركبتيه، ووضح كفيه على فخذيه، وقال: "يا محمدأخبرني عن الإسلام"، فقال له: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا)، قال: "صدقت"، فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: "أخبرني عن الإيمان"، قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، قال: "صدقت"، قال: "فأخبرني عن الإحسان"، قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
وحسب رأي المحدثين العظماء فإن الإحسان موضوع الحديث الثالث هو المراد بالتصوف أو الصوفية وهذا الحديث يؤكد أهمية التصوف في الإسلام كونه مع الإيمان حيث إن الإسلام أسست قواعده على العقيدة والفقه. ولا يستقيم الإسلام بدون توافر هذه الأركان الثلاثة الإسلام والإيمان والإحسان.  يقول الصوفي الجليل العلامة الشيخ/ شهاب الدين السهروردي في كتابه عوارف المعارف (الباب الأول) وإن لم يوجد مصطلح "الصوفية" في القرآن يوجد في القرآن لفط"المقرب" في أماكن مختلفة وهذا اللفظ يشير إلى نفس المعنى الذي يحتويه لفظ الصوفي هذا أدل دليل على أن القرآن أيضا يسلط الضوء إلى أهمية التصوف. وقد حاول بعض المستشرقون الغربيون لربط الصوفية إلى مختلف المصادر مثل الهيلينية والمسيحية والبوذية وفيدا وفي الحقيقة أن القرآن والحديث هما المصدران للتصوف دون غيرهما. أن السيد/ماغليتون العالم الأوربي يصدق هذا الدعوى وقد أعلن أن التصوف لا ريب من الإسلام وهذا النمط المتطور من المبادئ الإسلامية الموضحة في القرآن والسنة وأن النبي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حلقة الوصلة الأخيرة في السلاسل الصوفية بارتقاءه إلى السماء ولقاء الله تبارك وتعالى ويشير إليه سورة الإسراء هذا هو النموذج الأصلي للصوفية فهي محاولة للارتفاع إلى حضور الله سبحانه وتعالى ومعيته. فالتصوف إنما هو أحد أركان الدين الثلاثة (الإسلام، الإيمان، الإحسان)، فمثلما اهتم الفقه بتعاليم شريعة الإسلام، وعلم العقيدة بالإيمان، فإن التصوف اهتم بتحقيق مقام الإحسان (وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهو منهج أو طريق يسلكه العبد للوصول إلى الله، أي الوصول إلى معرفته والعلم به.
وولاية كيرالا تقع في جنوب الهند وتمتاز بالمزايا الحصرية الثقافية والاجتماعية التي لا توجد في الولايات الأخرى في شمال الهند. ومسلمو كيرالا وإن كانوا شرذمة قليلون وعددهم  ضئيل جدا بالنسبة لمسلمي  الولايات الأخرى، إنهم تركوا أثرا كبيرا خالدا ظاهرا للعيان في مرآة  تاريخ العالم.
وفي الحقيقة فإن جذور التصوف والصوفية في كيرالا لم يتناولها البحوث الأكاديمية مع الجدية والاهتمام المطلوب كما ينبغي. ومعظم العلماء الذين حاولوا دراسة تاريخ مسلمي كيرالا وتطورهم وتحولهم قد تغافلوا أو فشلوا في تحديد آثار أو دور ومساهمة التصوف والصوفيين حق قدره ومقداره. وفي هذا السياق يمكننا قراءة بيان السيد/ أي أتش قريشي في كتابه المشهور"مسلمو الهند وباكستان" (Indo- Pakistan Muslim Communities) أن أنشطة الصوفيين والتصوف موجودة في جميع أنحاء الهند إلا في جنوبها. وهذا يدل على إهمال أو عدم وجود البحوث الكافية في التصوف والصوفية بولاية كيرالا. وكذلك السيد/ رولاند ئي ميلار والذي أجرى بحوثا جديرة بالثناء عن مسلمي كيرالا، لم يحاول قط لسبر غور الأثر الذي تركه الصوفيون في مسلمي كيرالا قلبا وقالبا. ويتضح لنا هذا الأمر من تكريره لقول السيد/ أي أتش قريشي بهذا الخصوص ووصوله إلى النتيجة والنظرية التي ابتدعه حيث يكتب "نظن أن أنشطة الصوفيين لم يكن لها أثر في مراحل تطور المجتمع".
وعندما نتابع الجذور التاريخية للتصوف وتمدد عناصر التصوف في نمذجة مسلمي كيرالا، فليس مهمة سهلة بل يحتاج إلى مثابرة لسبب شح الدراسات الأكاديمية الكافية ولعدم محاولات جادة بهذا الخصوص في الزمن المنصرم ولسبب غياب المصادر الرئيسية أو فقدانها.
ونشرت حركة التصوف في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنزعات فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة، ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرقا مميزة متنوعة معروفة باسم الطرق الصوفية.التاريخ الإسلامي زاخر بعلماء مسلمين انتسبوا للتصوف مثل شمس التبريزي وجلالالدينالرومي والنووي والغزالي والعز بن عبد السلام كالقادة مثل صلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح  وزاد انتشار الصوفية في القرن الثاني عشر والثالث عشر الميلادي  في مختلف بقاع المسلمين في العالم كما يتبين من الوثائق، كانت بيئة مسلمي أيضا قابلة لاستقبال هذا التطور  ويقال أن الإمام الجيلي واحد من مريدي الشيخ محي الدين عبد القادر الجيلاني والمنتمي إلى الطريقة القادرية ومصنف كتاب التصوف المشهور واسمه الإنسان الكامل قد وصل إلى كوتشين من إحدى مرافئ ولاية كيرالا لأجل الدعوة والإرشاد.  وبما أن هذه المقالة تهدف فقط تسليط الضوء إلى اثر التصوف في حياة كيرالا، لم تتنال المقالة البحوث الجدية الخطيرة حول نشأة وانتشار الصوفية في كيرالا.
أثر التصوف في نمط حياة مسلمي كيرالا
قد توطدت جذور الصوفية في مسلمين كيرالا  في جميع نواحي حياتهم وفي جميع الشعوب الأخرى في كيرالا عموما. ويظهر آثار الدعوة الصوفية وتأثرها وضوح الشمس في رابعة النهار في كافة أوساط الناس في كيرالا في حياتهم الشخصية والاجتماعية والسياسية وأنماط الحياة وأشكاملها والصيغ العقائدية والمفاهيمية وفي سلوك الناس وعاداتهم وأفكارهم وفي كافة نواحي الحياة بخذافيرها. وجدير بالذكر أن الفئات المعارضة لأفكار التصوف ايضا يخضعون طوعا وكرها لتأثر أفكار التصوف والصوفيين ولا يستطيعون إطفاء نور مقتبس من مشكاة التصوف في حياتهم.
عندما نتفكر عن وجود ونمو مختلف الطرائق الصوفية وممارستهم وطقوسهم وفقا لمصادر التصور نجد في كيرالا مظاهر جلية وواضحة تدل عليها وهذه المظاهر دليل قاطع على وجود الصوفية في ربوع كيرالا فإن عددا كبيرا من الطقوس الدينية الموجودة في كيرالا التي تعقد تحت إشراف العلماء الأتقياء  على سبيل المثال لا الحصر حلقات الذكر وتجمع الدعاء وغيرها بالإضافة إلى حفلات النذور  والعروس (حفلات تعقد بمناسبة احتفال ميلاد الأولياء في ضرائحهم). وهذه الحلقات وتجمعات الدعاء تكون تحت إشراف علماء كرام. وإن هؤلاء العلماء الذين يشرفون الحلقات قد لا يكونون مريدي الطرق أو مشائخها غير أن الأدعية والأذكار تكون متعلقة بالطرائق المعتدة أو أوراد بعض الصوفيين الذين أتوا إلى كيرالا في مختلف الأزمنة  وإن شعبية هذه المناسبات تدل على انتمائهم إلى التصوف والصوفيين الذين  وصلوا في كيرالا في مختلف الأزمنة.
وانتشار بعض الطقوس الدينية والقربات في حياة مسلمي كيرالا ذات الاتجاه العام أدل دليل على تأثر نشاطات الصوفية في كيرالا. فإن مسلمي كيرالا يحبون الصالح التقي المتنسك حبا جما وينصبونه في أعلى  المراتب سواء انتمى بالطريقة الصوفية أم لم ينتم بها. وقد أشار السيد/ كونجالي صاحب كتاب "الصوفية في كيرالا" إلى هذه الحقيقة حيث يقول " إن مسلمي كيرالا كانوا يكرمون  الصالحين والاتقياء بغض النظر عن انتمائهم إلى الطريقة الصوفية وكان يسمونهم باسم"الأولياء"، وكان المسملون يعتبرونهم أقرباء إلى الله ويأتون إليهم لمعالجة مشاكلهم في الحياة.
إن المسلمين من أهل السنة والجماعة ذوي الاتجاه السائد يحبون الصلحاء بصميم قلبهم ويدعونهم لافتتاح مبادراتهم الجديدة سواء أكانت مشروعا دينيا أو دنيويا وهذا أيضا يدل على التاثر المباشر أو غير المباشر من أنشطة الصوفيين. ويزورون ضرائح الأولياء عند مختلف المناسبات الهامة في حياتهم ونشاهد هذه العادة بين فئات السماكين المسلمين في كيرالا. ويزور السماكون المسلمون وغير المسلمين الموجودين في ساحل تشافاكاد ضريح حيدروس كوتي موبان. ويستعمل ضرائح الصوفيين الموجودة في كيرالا لإثبات قضايا السرقة والحلف وغيرها. فيحلف الواحد واضعا يده في الضريح ويعتقد أن الكاذب يعذب بواسطة الولي المدفون في الضريح.
ومن مزايا مسلمي كيرالا لاسيما المسلمين السنينين أنهم يسلمون القيادة في ايدي بعض العلماء الأتقياء من أهل البيت ويعطوهم الاحترام والإجلال  .والآن فإنمعظم مسلمي كيرالا السنيين يديردفة حياتهم رجال شرفاء من أهل بيت (بانكاد) ويعتبر السيد/ حيدر علي شهاب باناكاد الرئيس العظيم لمعظم مسملي كيرالا حاليا. ولايشك أحد في تراث هذه العائلة الكريمة العلمي والروحي من البداية إلى الآن. يذكر السيد/ كونجالي أن هؤلاء الصوفيين هم سببا لتوحد والانسجام الموجو دفي كيرالا سواء أكانوا أحياء أم أموات. وهم يمثلون محكمة لحل النزاع الذي ينشب بين الناس ويجلس معهم ليل نهار لإيجاد حل للنزاعات. وقبل المسلمون وغيرهم قرارهم عند نشوب المشابكات والمشاكل العرقية ". وفي الحقيقة فإن أثر الروح الصوفي هو السبب الأصلي لتحقيق هذا القبول والريادة والقيادة العظيمة لهم.
وكثير من المساجد في مختلف أنحاء كيرالا مؤسسة باسم الصوفيين ومنهم الشيخ محي الدين عبد القادر الجيلاني، والشيخ رفاعي والشيخ أبو الحسن الشادلي وغيرهم وتعرف المساجد باسمهم اي مسجد محي الدين والمسجد الرفاعي والمسجد الشادلي على التوالي. ويوجد هذه المساجد في أكثر مقاطعات بولاية كيرالا ولعلها كثير جدا. وهذه التسمية دليل على تأثر المسلمين من التصوف والصوفيين نظر إلى ان المساجد هي المراكز الأولى لممارسة الطقوس الدينية الخاصة لهذه المشائخ الكرام ولو لمدة قصيرة.
وشعبية اسم "محي الدين" (اسم الشيخ الصوفي الكبير الذي عاش في القرن الحادي عشر ميلادي) يختار معظم الآباء هذا الاسم لمولودهم مثل اسم الرابعة (اسم الصوفية المشهورة " الرابعة العدوية التي عاشت في القرن الثامن الميلادي) للمولودة.  ولسبب تحديث كافة أنحاء الحياة المذهل قد انمحى هذا الاتجاه من المسملين في الوقت الحالي وقل من يرنو لتسمية المواليد بهذه الاسماء مثل آبائهم وأجدادهم الذين كانوا يفضلون أسماء المشائخ أو اسم الولي المحلي وغيرهم عند تسمية المواليد.
إن شهر ربيع الأول المبارك بولادة سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم مشهود باحتفالات جمة في ولاية كيرالا. ويقرأ كتب المولود في البيوت والمساجد بأعلى الأصوات والأنغام ويثنون النبي صلى الله عليه وسلم ويشارك الاحتفالات جميع فئات المسلمين بغض النظر عن عمرهم. ويقيم الناس برامج خاصة لمختلف أنواع الفنون فيكون هذا الشهر ممتلأ بمختلف أنواع الاحتفالات. وكذلك يحتفل المسملون ايام وفاة بعض كبار الصوفيين الذين توفوا في ديار كيرالا. وقد يشارك فيها غير المسلمين حتى في هذه الايام الحافلة بالتمدن والتحديث الطاغي. وعندما بحيث عن جذور هذه الممارسات الدينية والتقاليد السائدة في جميع أنحاء كيرالا يظهر لنا العلاقة والربط العميق لبعض الصوفية الصافية الذين كانوا في ديار كيرالا لاجل تنمية وترويج التوعية الدينية بين أوساط عامة المسلمين وخاصتهم.
قد أجريت دراسات هامة حول  التيار الصوفي الموجود في مكتوبات المسلمين وآدابهم منذ الفترات المبكرة  أضف إلى ذلك أن كتب التصوف مهمة في النهج التعليمي الديني بين أوساط المسملين في كيرالا. ويوجد كتب التصوف من البداية إلى الدراسات العليا من الفترات المبكرة منذ نشأة الكتاتيب ( أوتوبالي) وحلقات المساجد ( بالي دراس) ومراكز التعليم الديني العليا. ويدل على ذلك المعايير والمقاييس المتعلقة بهذه المناهج التعليمية. وما قلت أهمية هذه الكتب عندما تحولت الكتاتيب وحلقات المساجد إلى المدارس الصغيرة والكليات العربية تحت إشراف الجمعيات الإسلامية. وهذا أيضا دليل على ميلان المسلمين وتوجههم إلى التصوف والصوفية وتأثرهم من تعاليم الصوفيين الذين أتوا لتزكية نفوس المسملين في الأزمنة المنصرمة.
ولسبب الأثر البالغ الذي تركه الصوفية الصافية على مسلمي كيرالا فإنهم يختارون زيارة ضرائحهم حتى في برامج الترفه والتنزه الذي ينظمها المسلمون وازدياد برامج زيارة ضرائح الصوفيين يدل على الأثر الذي تركوها في ربوع كيرالا. وبرامج الرحلات تهدف في الأساس النزهة والترفيه غير أن مسلمي كيرالا لا سيما السنيين، يقومون بزيارة الضرائح والمقابر التي دفن فيها الأولياء والصوفيون فضرائح الأولياء لها مكان مرموق بين أماكن رحلا ت التنزه. وقد يوجد رحلات خاصة لزيارة المقابر والضرئح المشهورة فيؤدون منها تجمع الدعاء. وهذا كله يدل أثر الصوفية المباشر وغير المباشر.
فيمكن قراءة آثار الصوفيين في جميع نواحي حياة المسمليين بديار كيرالا يوجد آثار أقدامهم في الحياة الشخصية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها. حتى الأفكار والأنماط العقائدية والمفاهيمية منوطة بأنوار مقتبسة من التصوف. فإن الدراسة العميقة حول عناصر الصوفية في كيرالا توضح عظمة هذا الأثر وهذه دراسة بسيطة تمهيدية في تحليل عناصر التصوف في ديار كيرالا.




مواضيع ذات صلة
أدبيات, تراث الهند،, ثقافة كيرالا, دراسات, كيرالا, مقالات,

إرسال تعليق

0 تعليقات