ادعمنا بالإعجاب

محاولات الإصلاح الديني في الهند بين عبث المضللين وخطوات أهل السنة المهتدين

محاولات الإصلاح الديني في الهند بين عبث المضللين
وخطوات أهل السنة المهتدين
د. عبد النصير أحمد المليباري

(أستاذ أصول الفقه وعلم الكلام، جامعة الإمام الشافعي، شي آنجور/ إندونيسيا)

قراءة في خلفية ظهور حركات الإصلاح:
1-                مع بداية القرن الرابع عشر الهجري/أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ظهرت في العالم الإسلامي – كمصر والهند – مدرسة جديدة تدعو إلى إصلاح أحوال المسلمين: السياسية والاجتماعية
والتعليمية، ولما كان التعليم السائد يومها في ديار الإسلام هو التعليم الديني فقد اتجهت جهود هؤلاء المصلحين نحو العمل على تنقية عقائد المسلمين مما علق بها من دخن «البدع» و«الخرافات» في زعمهم. ومعلوم أنه خلال تاريخ الإسلام الطويل كان يظهر بين الحين والآخر من العلماء من له جهد بارز في تجديد معالم الإسلام وإحياء ما آل إلى الاندراس من شعائره، سواء بالتأليف أو التعليم أو التربية، وممن يذكر في قائمة المجددين المصلحين في التاريخ الإسلامي: الإمام عمر بن عبد العزيز، والإمام الشافعي، والإمام الغزالي والفخر الرازي وابن دقيق العيد..، غير أن هناك شيئا يميز المدرسة الحديثة للإصلاح الديني عن تلك الجهود التجديدية المباركة في العهود السابقة.

2-                ففي حين كانت العوامل الداخلية، سياسية أو فكرية أو اجتماعية، هي المؤثرةَ والمتأثرة بأولئك العلماء المجددين في السابق، نجد أن عامل التأثير هذه المرةَ كان خارجيا، ويمثل في الاحتلال الغربي للعالم الإسلامي كمصر والهند.
3-                وحيث إن الغربيين لم يأتوا إلى هذه البلاد زائرين عابرين، وإنما جاءوا مستعمرين مقيمين، فقد علموا - بعد شراسة المقاومة التي واجهوها فيها - أن الدين بمفهومه السائد هو المحرك الرئيسي للمسلمين في رفضهم ومقاومتهم لما هو دخيل وأجنبي، وأدركوا أنهم لن يَقر لهم قرار في ديار الإسلام إلا إذا نجحوا في تغيير مفاهيم المسلمين عن بعض معتقداتهم وأحكام شريعتهم، وتقريبهم قدر الإمكان إلى مفاهيم الغرب عن الحياة وطريقته في العيش؛ إذ من شأن ذلك أن يخفف – إن لم يُعْدِم – شدةَ تمسكهم بأحكام الدين القاضية بتمَيُّزهم ورفضهم التميُّع والذوبانَ في أي ثقافة أجنبية ووافدة.
4-                وأدركوا أيضا أن جهود المستشرقين لن تفلح في تحقيق هذا الغرض؛ لأن المسلمين لا يثقون بما يكتبه هؤلاء عن دينهم، فرأوا والحالُ هذه أن يكون القائم بذلك التغيير من المسلمين أنفسِهم، ممن تأثر بأفكار الغرب ومفاهيمه، أما دورهم – أي المستعمر – فينحصر في الإيحاء والرعاية والحماية لمن يقوم بهذه المهمة، وتمكينه من امتلاك دفة التوجيه الفكري.
5-                وقد وجدت بريطانيا يومها ضالتها المنشودة في مدرسة الإصلاح الديني القائمة في مصر والهند، فعملت على احتضانها وحمايتها، وتمكينها من تولي زمام القيادة الفكرية للأزهر في مصر وبعض المؤسسات العلمية في الهند. ينقل محمد رشيد رضا عن اللورد كرومر – القائل «جئت إلى مصر لأَمْحُوَ ثلاثا: القرآن والكعبة والأزهر» - في تقريره السنوي لعام 1905م عن الشيخ محمد عبده: «كان لمعرفته العميقة بالشريعة الإسلامية ولآرائه المتحررة المستنيرة أثرها في جعل مشورته والتعاون معه عظيمَ الجدوى». ويقول – أي رشيد رضا - أيضا: «ولا يدري إلا الله ما يكون من أمر هذه الفئة التي كان الشيخ محمد عبده شيخها وكبيرها، فالزمان هو الذي يظهر ما إذا كانت آراؤها تتخلل من الهيئة الاجتماعية المصرية أو لا، وعسى الهيئة الاجتماعية أن تقبل آراءها على توالي الأيام؛ إذ لا ريب عندي في أن السبيل القويم الذي أرشد إليه المرحوم الشيخ محمد عبده هو السبيل الذي يؤمل رجال الإصلاح من المسلمين الخير منه لبني ملتهم إذا ساروا فيه، فأتباع الشيخ حقيقيون بكل ميل وعطف وتنشيط من الأوروبيين»([1]).
6-                والشيء نفسه يقال عمن في الهند من رجال الإصلاح، وهذا الدكتور عبد المنعم النمر يقول عن المصلح الهندي المعروف سيد أحمد خان: «ولكن السيد([2]) أحمد خان كان متَّهَما في وطنيته؛ لمساعدته الإنجليز إبان الثورة ضدهم، فوقف العلماء في طريق دعوته»([3])، ومن هنا فقد «احتضن الإنجليز مشروعه، وساعدوه، فاستمر مواليا لهم، مما زاد في عداء الجبهة الإسلامية الوطنية له، ومهاجمتهم إياه»([4]).
7-                ظهرت هذه الموجة الجديدة من حركة الإصلاح والتنوير في أوائل القرن العشرين، ومن أبرز من دعا إلى هذا الإصلاح في الهند سيد أحمد خان، وأبو الكلام آزاد ومن سار على نهجهما، وتأثَّرَ بكثير من أفكارهما من الوهابية والمودودية ورجال الندوة ومدرسة ديوبند، ومشهور زيارة رشيد رضا لمدرسة ديوبند حين زار الهند، واستقباله فيها، ولا يزال تُذكر تلك الزيارة في موقع هذه المدرسة على الشبكة الدولية ! بينما لم يُفتح له بابُ مدرسةٍ من مدارس أهل السنة في الهند إطلاقا.  أما سيد أحمد خان فقد «اتخذ من إصلاح مناهج التربية والتعليم كما رآها في إنكلترا وسيلةً لمعالجة مشكلات المسلمين في الهند، وقال: إن هذه المناهج وحدها قادرة على تطوير حياتهم؛ لأنها تخلق فيهم الميل إلى تلقي علوم المدنية الغربية، وفنونها وآدابها.
8-                وانطلاقا من هذه الأيديولوجية الإصلاحية أخذ سيد أحمد خان ينشئ المدارس بكثرة في المناطق الإسلامية الهندية، وأسس جامعة «عليكرة» الشهيرة بـAlighar University، على نمط جامعتي «أكسفورد» و«كمبردج»؛ لنشر الاتجاهات العلمية الحديثة في العلوم والتاريخ والاقتصاد، وساهم في نقل عدد كبير من الكتب العلمية من الإنجليزية إلى الأردية، كما أصدر مجلة دورية سماها «تهذيب الأخلاق»، عالج فيها مشكلات المسلمين الاجتماعية والاقتصادية والدينية بصراحة وجرأة.
9-                ثم عكف على تفسير القرآن على ضوء العقل والضمير، وصرح بأن الوحي النبوي كان بالمعنى دون اللفظ، أي أن الملاك جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة، وأنه e علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب. أحدث هذا الرأي ثورة دينية عارمة ضد سيد أحمد خان، وكادت أن تؤدي بحياته بعد اتهامه بالكفر والزندقة والإلحاد. وبالرغم من ذلك استمر على موقفه ولم يتراجع، وظل يجمع قادة المسلمين الهنود في مؤتمر سنوي ليناقش معهم مشكلات رعاياهم وحلولها. فكان يحثهم على أخذ كل مفيد من المدنية الغربية ونشرها بين المسلمين؛ لأن ذلك يبعدهم عن الجهل والتخلف، ولا يفقدهم شخصيتهم الدينية إطلاقا...» ([5]).

10-          وكان رجال الإصلاح في الهند على صلة ومعرفة بنظرائهم في مصر، وكان بينهم تواصل وتبادل وزيارات، وقد زار جمال الدين الأفغاني (ت: 1315هـ) الهندَ عام 1297هـ/1879م، ومكث في «حيدآباد»([6]). كما أن لآزاد أيضا رحلات في خارج الهند، منها زيارته لمصر عام 1908م، والتقى فيها بمحمد رشيد رضا. وقد اتصل كذلك برجال الأزهر، ولكنهم لم يُعجِبوه، فلم ينجذب إليهم، بل انتقدهم في مذكراته([7]). وأما سيد أحمد خان فـ«كان إعجابه شديدا بالشيخ محمد عبده وبأفكاره المتطورة، وقد استمد منه آراءه حول علاقة الإسلام والمسلمين بالحضارة الغربية، وكان تأثيره في حركة الإصلاح الإسلامية في الهند مشابها لتأثير الشيخ محمد عبده في حركة الإصلاح بمصر»([8]). وبين الهند ومصر تشابه كبير في هذا المجال، ومن هنا نجد من الباحثين من يقول في صدد الحديث عن آزاد: «ما ذا ننتظر لشاب مثل آزاد، تكونت عقليته وأفكاره في ظل مدرسة دينية تقليدية، تشبه إلى حد كبير جدا الأفكارَ أو العقلية المحدودة التي كانت تَسُود الأزهرَ قبل الشيخ محمد عبده»([9]).
11-          وأما الدعم المادي فقد تلقته الحركات الإصلاحية من الخارج، من المملكة العربية السعودية بالتحديد، يقول محقق الطبعة البيروتية لكتاب «تحفة المجاهدين»: «وتهتم المملكة العربية السعودية بشؤون المنظمات السلفية في الهند، وتدعمها ماليا»([10])، وهو يقصد بالسلفية ما يعارض الفكر السني السائد في البلد، بما فيه الفكر الإصلاحي.
12-          ولا شك أن أحمد خان لقي إعجاب نظرائه في خارج الهند؛ لما قام به من الأعمال الإصلاحية الجديدة، ومن هنا فقد «اعتبره الدكتور أحمد أمين في كتابه زعماء الإصلاح من طبقة محمد عبده في تجديده الديني»([11]). وأما أبو الكلام آزاد فيقول الدكتور عبد المنعم النمر عنه: «كانت هذه الدعوة – يقصد دعوة آزاد – تقوم على تفهُّم الإسلام من منبعه الأصيل: القرآن والسنة، ونبذ التقليد والجمود، والقضاء على البدع والخرافات»([12])، وأشار إلى الخط الذي سار عليه آزاد في أعماله الإصلاحية، قائلا: إن آزاد سار «على نفس الخطوط التي سارت عليها مدرسة جمال الدين ومحمد عبده»([13]). وكان آزاد متأثرا أيضا بمن سبقه من رجال الإصلاح في الهند، «فقرأ لأحمد خان، وتأثر بفكرته ودعوته العلمية»([14])، كما تأثر أيضا بكتابات ومؤلفات ابن تيمية وابن القيم الذينِ يتخذهما معظم الإصلاحيين قدوة لهم([15]). وبالجملة فإن آزاد كبير الوزن في هذا المجال، فمن هنا وصفه الدكتور النمر قائلا: «هو في حركة التجديد الديني لا يقل شأنا ولا أثرا في الهند عن جمال الدين ومحمد عبده في البلاد العربية»([16]).
13-          وهذه الحركة وإن اختلفت عن الحركة الوهابية في أمور، إلا أن بينهما تشابها كبيرا في كثير من الأفكار والاتجاهات، كما سنرى بعد قليل، حين أذكر أهم أفكار دعاة الإصلاح. وقد استمد رجال هذه المدرسة من الأفكار الوهابية كثيرا، وأشادوا بها، يقول بعض الباحثين: «لم يخرج الأفغاني وعبده في دعوتهما لإصلاح الدين عن هذا الاتجاه – يقصد اتجاه الوهابية – وكان الشيخ محمد عبده يثني دائما خلال محاضراته في الأزهر على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويلقبه بـ"المصلح العظيم"، حتى إن أصحاب التيار المحافظ – يعني أصحاب المذاهب الأربعة من الأشاعرة والماتريدية - في مصر الذين ناهضوا أفكار الأفغاني وعبده كانوا يطلقون عليهما لقب الوهابيين، بسبب أفكارهما التجديدة، ومحاربتهما للبدع»([17]).

أهم المبادئ التي دعا إليها رجال الإصلاح:
هذا، ويجدر بنا الإشارة إلى المبادئ والاتجاهات الفكرية التي تجمع الإصلاحيين في العالم الإسلامي؛ لكي نتعرف على حركتهم جيدا، ثم نعرف مدى بُعْدِ هذا الاتجاه الإصلاحي عن المذهب الأشعري الذي يمثل السواد الأعظم من أمة الإسلام. وفيما يلي عرض موجز لأهم أفكار الحركة الإصلاحية في نقاط محددة: 
1-                فتح باب الاجتهاد وذم التقليد في المسائل الفقهية، والقول بأن المذاهب الأربعة هي التي فرَّقت الأمة. يقول – مثلا – الأستاذ السيد سابق – وهو من رجال الإصلاح في مصر - في مقدمة كتابه المعروف «فقه السنة»: «هذا الكتاب يتناول مسائل من الفقه الإسلامي مقرونة بأدلتها، من صريح الكتاب وصحيح السنة، ومما أجمعت عليه الأمة، وقد عُرِضت في يسر وسهولة.. مع تجنب ذكر الخلاف.. وهو بهذا يعطي صورة صحيحة للفقه الإسلامي الذي بعث الله به محمدا e، ويفتح للناس باب الفهم عن الله ورسوله، ويجمعهم على الكتاب والسنة، ويقضي على الخلاف وبدعة التعصب المذهبي»([18]).
يقول عبد الحي الحسني اللكهنوي – والد أبي الحسن الندوي - وهو ممن تأثر بهذه الدعوة الإصلاحية من رجال الهند، حين يتحدث عن حالة الحركة العلمية في الهند إبان القرن السابع الهجري إلى القرن التاسع الهجري ما نصه: «كان الفقه عمدة بضاعتهم – يعني علماء الهند المسلمين في هذين القرنين – ذلك اليوم، ولذلك كثرت فيهم الفتاوي والروايات، ورفض عرْض الفقه على الكتاب والسنة، وتطبيق المجتهدات بالسنن المأثورة عن النبي e»([19]).
ولا يخفى ما في هذا الكلام من إشارة ضمنية إلى القدح في فقه المذاهب الموجود في الكتب الفقهية المنتشرة الكثيرة، على خلاف كتابه هذا الذي وصفه بتلك الأوصاف التي رأيناها، غير أن مِن طريف المفارقات وعجيبها أنه في الوقت الذي يذكر فيه المؤلف أن من مميزات كتابه عرض مسائل الفقه مقرونة بأدلتها من صريح الكتاب وصحيح السنة، نجد مؤلفا آخر([20])، ينتمي إلى ذلك التيار نفسه الداعي إلى نبذ التقليد وفتح باب الاجتهاد، يُصدِر كتابا آخر ينتقد فيه مؤلف الكتاب الأول؛ لاعتماده على الأحاديث الضعيفة والمردودة وعدم تحقيق المسائل، ويتعقبه في كثير من ذلك، حتى إن قارئ كتاب التعقيب يخرج بنتيجة مفادها: عدم الثقة بما جاء في كتاب المؤلف الأول، وكلا الشيخين – الطاعن والمطعون فيه – من أنصار اللامذهبية ومن الدعاة إلى الإصلاح والاجتهاد !
والحق أن الاجتهاد في مسائل الدين ليس أمرا سهلا، كما يصوره البعض، وقد كان كثير من أئمة الحديث على جلالتهم في ميدانهم لا يقتحمون ساحة الاجتهاد والفتوى، معرفة منهم بأقدارهم، وخير مثال لهؤلاء الإمام الترمذي الذي قيل في وصف كتابه الجامع «تضمن الحديث مصنفا على الأبواب، وهو عِلم برأسه، والفقهَ وهو علم ثانٍ، وعلل الحديث، ويشتمل على بيان الصحيح من السقيم وما بينهما من المراتب، وهو علم ثالث إلخ»([21]). هذا الإمام الذي بلغ هذه الرتبة من العلم كان لا يعد نفسه في صفوف الفقهاء، ولذا كان يقول في بعض المسائل: «كذا قال الفقهاء، وهم أعلم بمعاني الحديث»([22]).
2-                ومما يتميز به الإصلاحيون دعوى عدم التفرق، وهي تتلخص في قولهم: أنه لا معنى للاختلاف ولا مجال له، ما دامت المسائل الدينية قد بينت، والأصلُ الذي يرجع إليه عند التحاكم معلوما. والإسلام يدعو إلى البعد عن الاختلاف والتفرق في الدين، والنهي عن البحث فيما لم يقع، وتجنب كثرة السؤال، وأخيرا رد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة. وسار الرعيل الأول من الصحابة والتابعين على هذا النهج، فلم يقع بينهم اختلاف إلا في مسائل معدودة([23]).
3-                ومن دعاويهم أيضا – بل أشدها خطرا وتأثيرا – قولهم: أنه بالعكوف على التقليد فُقِدت الهداية بالكتاب والسنة، ووقعت الأمة في شر وبلاء، كان من مظاهره خمود الحركة العقلية، ووقف النشاط الفكري، مما أدى إلى ضعف الأمة والقعود بها عن النهوض، وإصابة الشريعة الإسلامية بشلل، حتى لا تستطيع مواكبة الأحداث، ولا يتيسر تطبيقها. ووقف الفقهاء عند حد استظهار المتون ومعرفة ما فيها من الألغاز، والانشغال بالحواشي تأليفا وقراءة، حتى وثبت أوروبا مستعمرة للشرق، ونتج عن ذلك هيمنةُ قوانينه وعاداته، فكاد أهل الشرق ينقطعون عن دينهم وعاداتهم([24]).
4-                ومما يميزهم أيضا داء الاستهانة بتراث الأمة، كما سماه بعض من كتب عنهم([25]). إن الذي بدأ ذلك هو الشيخ محمد عبده؛ حيث كان يذم المتون والشروح الكلامية وكتب المذاهب الفقهية، ويطعن في كل الكتب التي تدرس في الأزهر الشريف على اختلاف أنواعها، من بلاغة ونحو وصرف وما إلى ذلك. يقول الشيخ محمود محمد شاكر في مقدمة تحقيقه البديعة لـ«أسرار البلاغة»: «ولم يقتصر ذم الشيخ عبده على كتب البلاغة وحدها، بل تناول الطعنُ الجارحُ كل الكتب التي كانت تدرس في الأزهر على اختلاف أنواعها، من بلاغة وفقه ونحو وبقية علوم العربية والدين. وذاع هذا الطعن، وتناقلته ألسنة المحيطين به من صغار طلبة الأزهر وطلبة المدارس وغيرهم من الطوائف، فكان هذا أولَ صدْعٍ في تراث الأمة العربية الإسلامية، وأول دعوة لإسقاط تاريخ طويل من التأليف، وما كتبه علماء الأمة المتأخرون، إسقاطا كاملا يتداوله الشباب بألسنتهم، مستقرا في نفوسهم وهم في غضارة الشباب، لا يطيقون التمييز بين الخطأ والصواب، وليس عندهم من العلم ما يُعينُهم على الفصل في المعركة التي دارت بين شيوخ الأزهر والشيخ محمد عبده، وليس في أيديهم سوى ما قاله الشيخ في التجريح والطعن الذي صدهم صدا كاملا أيضا عن هذه الكتب، وأورثهم الاستهانة بها، والاستهانة داء وبيل، يطمس الطرق المؤدية إلى العلم والفهم»([26]).

ثم قال: «لم تكد هذه الجراحات تستشري قليلا قليلا حتى جاء ما هو أدهى وأعظم بلاء، جاء  من رجل.. جاء من الصعيد، سمع ما كانت تتناقله الألسنة الطاعنة في كتب الأزهر باستهانة وبلا مبالاة، فوقرت الاستهانة في أعماق نفسه... هو أستاذنا وأستاذ جيلنا الدكتور طه حسين»([27]). وتابع قائلا: «بل بلغت الاستهانة مبلغها في الدين، بعد ما نشأ ما يسمونه بالجماعة الإسلامية، فيتكلم متكلمهم في القرآن وفي الحديث بألفاظ حفظها عن شيوخه، لا يدري ما هي، ولا يرُدُّ، بل يكَذِّب أحاديثَ البخاري ومسلم بأنها من أحاديث الآحاد، بجرأة وغطرسة. بل جاء بعدهم أطفال الجماعات الإسلامية، فيقول في القرآن والحديث والفقه بما شاء هو، ويرُد ما قاله مالك وأبو حنيفة والشافعي وابن حنبل، ويقول: نحن رجال وهم رجال..» ([28]). وبالجملة «فُتِح هذا الباب ولم يغلق إلى هذا اليوم» على حد ما وصفه الشيخ محمود شاكر نفسه([29]).
ولا شك أن اتهام سلف الأمة بهذه الطريقة أمر لا يخفى خطره، مهما كان المبرر الذي وراءه؛ لأن الأمة بتراثها وتاريخها ورجالها، ولو أسقطت هيبتها من قلوب الناس فهذا يعيني إسقاط الأمة في الواقع. وهذا لا يعني أبدا أننا نتبنى كل ما في التراث على أنه دين وشريعة، بل الحق أن في التراث ما يحتاج إلى تنقية ونقد علمي، ولكنه لا يجعلنا في الوقت نفسه نتجرأ على إسقاط هيبة التراث والتقليل من شأن أكثره. فقول الشيخ محمد عبده بأن «هؤلاء الفقهاء حرفوا كل نصوص الكتاب والسنة، إن اليهود لم تحرف التوراة أكثر مما حرفوا..» ([30]) سقطة لا تغتفر وعثرة لا تقال، أيا كان الدافع الذي دفعه إلى ذلك؛ فإن استجهال هؤلاء القوم والطعن فيهم أو تخوينهم في النقل يؤدي إلى الطعن في صميم الشريعة وأحكامها؛ لأنهم نقلة الشريعة، وحملة الدين ورجال سنده.
5-                ومن الاتجاهات الغالبة على الحركة الإصلاحية أيضا شذوذ رجالها في تفسير كثير من الآيات والأحاديث ومسائل العقيدة، وخروجهم في ذلك عما هو مقرر ومستقر عند السواد الأعظم من الأمة خلال ثلاثة عشر قرنا. ومن ذلك: تأويل الشيخ محمد عبده للملك بهاتف الخير، والشيطان بهاتف الشر، وسجودَ الملائكة لآدم بتسخير قوى الأرض للإنسان، وامتناع إبليس بقوة إغراء الشر، وتأويله لقصة آدم بأنها تمثيل للأدوار التي مرت بها البشرية، والجنة فيها يراد بها الراحة والنعيم، والشجرة يراد بها الشر والمخالفة، وأوَّلَ حمل مريم بعيسى عليهما السلام بأنه اعتقاد قوي استولى على قلبها فأحدث الحمل، وإن الدجال رمز للخرافات والدجل والقبائح، وإن نزول عيسى للأرض معناه غلبة روحه وسر رسالته على الناس([31]).





([1]) تاريخ الأستاذ الإمام، محمد رشيد رضا، مطبعة المنار، القاهرة/مصر، عام 1350هـ/1971م: ج: 3، ص: 426.
([2]) الصواب أن لا يستعمل «السيد» بالألف واللام؛ لأنه لقبه فلا يغير، ولأن فيه تسييد الفاسق؛ كما لاحظ الإمام الشيخ أحمد رضا خان في مواضع من كتبه ملاحظة ذكية.
([3]) أبو الكلام آزاد، د/ عبد المنعم النمر، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة/مصر، عام 1973م: ص: 32.
([4]) أبو الكلام آزاد د/ عبد المنعم النمر: ص: 32.
([5]) الدعوة الوهابية وأثرها لمحمد كامل ضاهر: ص: 200- 202.
([6]) انظر أبو الكلام آزاد، د/ عبد المنعم النمر: ص: 33.
([7]) انظر أبو الكلام آزاد: ص: 63.
([8]) الدعوة الوهابية وأثرها في الفكر الإسلامي الحديث لمحمد كامل ضاهر: ص: 202.
([9]) أبو الكلام آزاد: ص: 46.
([10]) القسم الدراسي لتحقيق كتاب «تحفة المجاهدين في بعض أخبار البرتغاليين» للشيخ زين الدين المليباري الصغير، تحقيق: محمد سعيد الطريحي: ص: 105.
([11]) أبو الكلام آزاد، د/ عبد المنعم النمر: ص: 32.
([12]) أبو الكلام آزاد: ص: 16.
([13]) أبو الكلام آزاد: ص: 68، وانظر منه أيضا: ص: 106.
([14]) أبو الكلام آزاد: ص: 46، وانظر منه أيضا: ص: 51.
([15]) انظر أبو الكلام آزاد: ص: 115، 145.
([16]) أبو الكلام آزاد: ص: 38.
([17]) سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب لأمين السعيد، الطبعة الأولى 1384هـ، بيروت/لبنان: ص: 192، وانظر أيضا الدعوة الوهابية وأثرها في الفكر الإسلامي الحديث لمحمد كامل ضاهر: ص: 191.
([18]) فقه السنة للسيد سابق، المكتبة العصرية، بيروت/لبنان، 1420هـ/1999م: ج: 1، ص: 5، وإلى مثله دعا المصلح الهندي أبو الكلام آزاد في كتاباته ودعواته، انظر مثلا أبو الكلام آزاد للدكتور النمر: ص: 93.
([19]) الثقافة الإسلامية في الهند لعبد الحي الحسني: ص: 12.
([20]) هو محمد ناصر الدين الألباني، وكتابه المشار إليه هو «تمام المنة في التعليق على فقه السنة».
([21]) منهج النقد في علوم الحديث، الشيخ نور الدين عتر، الطبعة الثالثة 1418هـ/1997م، دار الفكر، بيروت/لبنان: ص: 275.
([22]) المرجع السابق: ص: 246.
([23]) انظر أبو الكلام آزاد، د. النمر: ص: 99-102، وفقه السنة للسيد سابق: ج: 1، ص: 9.
([24]) فقه السنة للسيد سابق: ج: 1، ص: 10.
([25]) هو الشيخ محمود محمد شاكر في مقدمته لكتاب أسرار البلاغة.
([26]) مقدمة الشيخ محمود محمد شاكر لكتاب أسرار البلاغة، الطبعة الأولى 1412هـ/1991م، مطبعة المدني، القاهرة/مصر: ص: 21.
([27]) السابق: ص: 21، 22.
([28]) السابق: ص: 29.
([29]) السابق: ص: 19.
([30]) تاريخ الأستاذ الإمام، محمد رشيد رضا: ج: 1، ص: 941، 942.
([31]) تاريخ الأستاذ الإمام، محمد رشيد رضا: 1/267، 269، 283، 347، 3/209، 317. ونجد لأتباع هذه المدرسة تفسيرات مماثلة لها، فانظر مثلا لبعض تفسيرات أبو الكلام آزاد التي شذ بها عن طريقة جمهور الأمة والسلف في كتاب أبو الكلام آزاد، د/ النمر: 151-173.

مواضيع ذات صلة
دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات