ادعمنا بالإعجاب

تروح الأجساد و تجسد الأرواح



تروح الأجساد و تجسد الأرواح








بقلم الشيخ بوكات حمزة الباقوي الأدرشيري




إن حادثة الإسراء والمعراج لحادثة ذات عبر ووجهات نظر شتى. "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير"،  "ماكذب الفؤاد مارأى أفتمارونه على ما يرى".
لما أرسل رب العالمين محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، استأثره واختصه بميزة وخصائص، ورباه منذ نعومة أظفاره في جميع مناحي الحياة في المدرسة الربانية والجامعة الإلهية بألوان التربية وأصناف الاختبار وأرقى المعجزات وأرفع الأمانات. فمن المعجزات اللامثالية الإسراءُ والمعراجُ واللقاءُ الرباني وهو على قيد الحياة. وإن ألذ نعمة وأشرفها هو اللقاء الرباني، "ووجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة". "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر فلا تضامون" وهذا بالنسبة للآخرين في الآخرة، ولم يوفق بذلك أحد وهو في هذه الحياة سوى أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم. وذلك لنقاط عدة.



أولا: لما أصرّ المشركون على كفرهم وعداوتهم حتى تجاوز قدر التحمل ومرير الصبر، أيس النبي صلى الله عليه وسلم من إيمانهم ومع ذلك قد فقد عمه أبا طالب الذى ما برح يدوم عطفه وحنانه وإن لم يوفق بنور الإيمان بعد لقدر إلهي. كذا فقدانه الوفاء الأوفى ممن دثّرته وزمّلته يوم روعه من تلك الناموس فى بداية الوحي فشدّت أزره براسخ إيمانها ما دام إنكار قريش وإيذاء أعيان مكة يحيطه بسلاسله وقيوده وسمومه. قلما كان الروح والأمن من فعلتهم الخسيسة. ولكن كل ذلك لهين فى رضاء ربه وتنفيذ أوامره وهو راض عنه. فأراد النبى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، أن يختفي عنهم أياما عند بني ثقيف في طائف، فغادر إليهم مع بالغ الرجاء، فلما وصل إليهم صار الأمر والحال بالعكس حتى أعدوا غلمان السوق وشرار القرية لطرده ورميه، فلم يجد فيهم ذرة عطف إنساني، فاقترب إلى ربه قائلا لا شاكيا وشاكيا لا قائلا آئبا عائدا "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتى وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن غضب علي فلا أبالي، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظللمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك".
هذا الدعاء الخالص المنبثق من صميم فؤاده بكلمات رقيقة اهتزت له السموات السبع، كاد أن ينشق له جبين الصخور الراسيات وتقلق قمة الجبال الشامخات بيد أنه الرؤوف الرحيم، لما استأذنه جبريل عليه السلام أن يقلع أحد الجبال ليلقي فوقهم لم يأذن له قائلا: "إنهم جهلة لا يعلمون شيئا" وهو يعلم أن ربه أقرب إليه من حبل الوريد، فتسلية له، اختاره ربه بتلك المسرى والعروج واللقاء.
وثانيا: أعده لتلك الرحلة باستعداد ذاته خاضعة مطيعة مائة في مائة للأوامر الربانية ولذلك شق صدره مرتين، وعافاه عن جميع الملاهي والعادات والتقاليد اللاإسلامية ورباه في أرقى أمانة وأصدق مقال وأرفع مروءة وأكرم شخصية، فطوعت الذات للروح الذى يعبر عنه بتروح الأجساد، إن الجسد يستطيع ويقدر لكل ما تستطيع له الروح وما لا تستطيعه، كما يتمثل جبريل عليه السلام حين مجيئه إليه بصورة الصحابي الجليل دحية الكلبي، ويسمى ذلك بتجسد الأرواح.
ثالثا: ومن جهة أخرى لما كان صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة لجميع الكائنات فلابد من التجوال والسير العالمي  وذلك لأمرين، أولا: لكي يترحم جميع الكائنات بتلك الرحمة المهداة، وثانيا : لكي يتشرف صلى الله عليه وسلم بتلك المناظر الدنيوية المادية والأخروية الروحية حتى عالم اللاهوت والملكوت والجبروت.
 ورابعا: لكي يظهر ذلك الكنز المخفي للمخلوق كلها طوعا أو كرها.
وخامسا: إن أدل دليل على أن تلك الواقعة الروحية النورية كانت بالجسد والروح معا إنكارُ كفار قريش وهزؤهم ورفعهم ذلك إن كان قال ذلك لأبى بكر الصديق رضى الله عنه راجحين رجوعه وارتداده لكن كان بالعكس قائلا وحدّث فأنا أصدّقه بل أنا أصدق أكبر من ذلك من أن يأتيه الخبر من السماء ليلا ونهارا لا يوجد معنى في موقف ضعاف النفوس كما وقع من بعضهم الكفر ولارتداد. وإن أخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه رأى في المنام رؤية كذا وكذا هل ينكره الكفار هكذا...؟ لا.
وسادسا: إنه قد وقف على جزاء بعض الأعمال الصالحة والسيئة، ومر على بعض الأنبياء والرسل السالفة لكي يدرس الواقعات وليجيب لاستضافتهم كرئيسهم كما أتى على واد سمع منه صوت الجنة ووجد ريحا طيبة باردة مسكية طالبة رب آتني ما وعدتنى قيل لها من قبل الخالق لك كل مؤمن ومؤمنة ولم يشرك بي شيئا ولم يتخذ من دوني أندادا، ثم أتى على واد وسمع منه صوتا منكرا وريحا خبيثة، فقال: ما هذا يا جبريل...؟ فقال: هذه جهنم قائلة رب آتني، قيل لها : لك كل مشرك و مشركة وكافر وكافرة. ومن ذلك ورؤيته حزم حطب عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها فقال ما هذا يا جبريل...؟ قال: مثل الرجل من أمتك عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يزيد عليها، ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم من مقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من شيء، قال: ما هذا يا جبريل...؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك لا يفعلون ما يقولون، هكذا.... ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى.
لما كان رحمة للعالمين وأشرف الكائنات وقائدها ورائدها فلا بد من إرساء سفن القيادة وإجزاء الأمور اللازمة في رعاياهم من خبرة سابقة وتجربة ممتازة، لذا أطلعه الله على كثير من الأمور، من الخير والشر والجزاء والعقاب.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم نادى القريش بكلمة يا معشر بنى كعب بن لؤي  فكذّب ضعاف النفوس والجهلة حتى آوى إلى أبي بكر ولكن بدون جدوى ولا فائدة إن الإيمان المطلق الراسخ بالرسول هو الذي جعله صلوات الله وسلامه عليه يطلق على أبي بكر كلمة الصديق بوحي من الله. إن المرتبة الصديقية لا ينالها إلا من جاهد نفسه و تخطى به إيمان العامة بل كبار الشخصيات.
وسابعا: إن من منح هذا اللقاء والمكرمة الصلوات المفروضة ولا يتأتى  لنا عجزا وقصورا أن لا نتحدث عن الحمد والشكر على هذه النعمة الكبرى، كان صلى الله عليه والسلم إذا فزعه أمر أسرع إلى الصلاة وقد تناهى للأمور الدنيوية مع تكبيرة الإحرام ودخل روحيا في العروج إلى خالقه حامدا شاكرا مقرا بقوته ورحمته ومهديا إليه جميع التحيات معرضا عن جميع الزلات موجها قلبه وقالبه إليه حتى يفرغ منه. لذا قال صلى الله عليه والسلم: الصلاة معراج المؤمنين، وإن المؤمنين يحققون معراجهم من هذه الزاوية الإلهية. إن الله يتحدث في سورة النجم من آفاق وأجواء إلهية جليلة ومن مشارق السمو والرقي كل ذلك لم ينلها خلق إلا هوصلى الله عليه وسلم. وكذالك في تلك الحادثة العبر والعظات والنقاط لا تنتهي. والحمد لله رب العالمين .



مواضيع ذات صلة
مقالات,

إرسال تعليق

0 تعليقات