ادعمنا بالإعجاب

المتنبي وشعره

ميشيل سليم كميد

المتنبي: عاصفة في ميدان الآداب العربية

ما اسم المتنبي بالشيء الهين يذكر دون اكتراث، ولا صيته بالقصير المدى لا يقام له وزن او اهتمام، بل هو عاصفة هوجاء عصفت في ميدان الآداب العربية، فاثرت فيها وتغلغلت حتى ادق خلاياها، وسيطرت على كثير من مبانيها وحواشيها.
تذكره فكانك تذكر جبارا من جبابرة الوجود، وتتلفظ باسمه فكانك تتلفظ باية من ايات الخلود. وهو حقا كذلك، فلقد جمع في نفسه ما لم يجمعه عدة في انفسهم جميعا، وما كان ابن السقاء - ان صح زعم الزاعمين - الا فلتة فلتة في غفلة من الطبيعة. فاعوام الف هجرية مضت واسمه يدوي بين المتادبين والشعراء كاروع ما يكون، وكان رمح الاسدي قد غزه وصرعه في الامس البارح، يدوي باشد ممن سبقه او تلاه من قرضة الشعر وقوالة القصيد، وقد شغل من جهد، واستنزف من قوى، واستغرق قوله من نقد وتمحيص ما يضن بشيء منه على جمع كثر.
تقول المتنبي، فيداخلك منه رهبة، لا لما يتصل باسمه من تموجات النبوة، ولا لما ينبعث من طياته من نفحات ما وراء الطبيعة، وانما لما ياخذ - ما يتركه شعره من اثر - من مكامن ذاتك، وما يثيره فيك بطبيعته، حتى ما كان يكذب حقيقته، ويداجي احواله، ويخفي عجزه. يتباهى بالجود وهو شحيح، ويدعي المقدرة وهو الطموح حقا، لكنه منها على قلة وندرة، ويشعرك بالقوة فتخاله قائدا مصورا صولا يشد في ركابه العسكر المجر. فانظر اليه يمدح علي بن محمد بن سيار التميمي، فيصول ويجول في الاعتداد بقوته، ويتوعد ويهيمن:

أقل فعالي، بله أكثره، مجد
وذا الجد فيه نلت أم لم أنل جدا
سأطلب حتى بالقنا ومشايخ كأنهم
من طول ما التنموا مردا
ثقال إذا لاقوا، خفاف إذا دعوا
كثير إذا اشتدّ وَحْيٌ، قليل إذا عدوا
وطعن، كأن الطعن لا طعن عنده
وضرب، كأن النار من حرّه برد!
إذا شئت حقّا بي على كل سابح
فأنت تراه لا يتجنّى إلا على وقائع
رجال كأن الموت في فمها شهد

فانت تراه لا يتجنى الا على وقائع الكلام، ومعارك الالفاظ، وانها لمحمدة فيه على كل حال ففي نفسه الكبيرة هذه المنى، وقد كان يسعى نحوها، وكان يتوق اليها
وكان يرجوها بكل ما في نفسه من قوة، فان لم ينلها واخفق، فما هو بالملوم. الم يعبر ابو القاسم الطبسي في وصفه المتنبي عما كان فيه من طموح:

كان في نفسه الكبيرة في جيش
. ومن كبريائه في سلطان

ولكي نعطيك مثالا نقول انه جرت العادة بين الشعراء ان يعدوا ذواتهم ادنى من ممدوحيهم، اما هو فكان يرى ذاته واياهم سواسية ان لم يجدهم اقل منه بكثير كما عبر في ظروف شتى غير ان الايام لم تواته، فبسمت لهم وخذلته عن كيد وحقد.
لذا كان ينشد شعره قاعدا لا قائما بين ايديهم مؤتما بعادة الشعراء حتى انه عندما انشد سيف الدولة احدى قصائده المشهورة في مدحه قال احد الحاضرين ليسكته امام الامير: «لو انشدها قائما لاسمع، فان اكثر الناس لا يسمعون»، فقال المتنبي: اما سمعت اولها: لكل امرئ من دهره ما تعودا! ، وهي حادثة من حوادث كبريائه العديدة. وقد روي عنه ايضا: انه كان يقف لدى كافور وفي رجليه خفان، وفي وسطه سيف ومنطقة، ويركب بحاجبين من مماليكه وهما بالسيوف والمناطق، وهذا منتهى الطغيان والمجرفة خاصة من شاعر، لدى سلطان كبير. ولم ينل ما ناله المتنبي احد من الشعراء حتى الاخطل الذي كان كثير الادلال على عبد الملك، حتى انه مرة طلب منه خمرا، فاجابه عبد الملك: «او عهدتني اسقي الخمر! لا ام لك! لولا حرمتك بنا لفعلت بك وفعلت»، رغم حبه الكثير له كما انه لما انشده قصيدته التي اولها: «خف القطين فراحوا منك او بكروا ... .
iamge 1
متنبي مع قلمه السيال (صورة خيالية)

فكان عبد الملك يتطاول لكل بيت منها، ثم قال: «ويحك يا اخطل! اتريد ان اكتب الى الافاق انك اشعر العرب؟» ثم امر بمولى يسير بين يديه ينادي: «هذا شاعر امير المؤمنين! هذا اشعر العرب!». ومع كل هذه الحظوة لم يكن الاخطل قادرا على فعل شيء ما كان يفعله المتنبي مع ملوك طفاة، وكيف كان يدل بذاته عليهم وشتان بين تسامح بني امية وطغيان بني حمدان والاخشيديين! وانه لتدهشك فيه هذه القوى الاعتدادية، وانه لتبهرك منه هذه الصفات المتينة، ففي شعره ميزة ولكلامه وطأة، قلما يمتاز بها شاعر، او قلما تصدر من سواه عن شعور صادق، وان صدرت ففي قصائد، لا كما هي في المتنبي في كافة اقواله: في الرثاء والمديح والهجاء والحكم على السواء. ونحن طبعا لا نعلم ما هيئة صدقه في قوله، وحقيقة مدى صفاته الشامخة في طلب المعالي وحب السلطان والجاه. ففي زمانه لم يكن هناك من يلم بعلم النفس كما نفهمه في هذا العصر حتى يترك لنا درسا وافيا او نبذة ما، ونحن في هذه الايام نتحدث عن اناس عاشوا منذ مئات او الاف من السنين وليس لدينا الادلة الوافية عن صفاتهم غير احاديث واخبار يعلم الله مدى مطابقتها للواقع، فنحن نتكهن عن احوال اولئك الناس وتكيفها بحسب افكارنا وقد نزيد، وقد نقلل، لاننا لا نعلم الظروف. ونحن نعلل اقوالهم ونحللها حسب ارائنا الخاصة دون ان نعلم احوالها وهذه الاحوال هي نور يفيض علينا، وينصب كاللَّهَبِ فَوْقَ شَخْصِيَّةِ الْمَرْءِ الَّذِي نَبْحَثُ فِيهِ، فَيُبْرِزُهَا لَنَا وَاضِحَةً جَلِيَّةً، وَيَا لَهَا مِنْ أَحْوَالٍ نَادِرَةٍ! وَلَسْتُ أَعْلَمُ كَيْفَ نُحَلِّلُ لِأَنْفُسِنَا، حِينَ نَقْرَأُ كَلِمَةً أَوْ بَيْتًا، أوْ جُمْلَةً لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ وَهِيَ مُبْهِمَةٌ أوْ مُعَقَّدَةٌ تَحْتَمِلُ تَأْوِيلَ عِدَّةٍ، فَيَتَسَنَّى لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ الْجَزْمُ بِقَصْدٍ مُعَيَّنٍ لِصَاحِبِهَا فِي قَوْلِهَا، نَتَوَهَّمُهُ مِنْ ذَاتِنَا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ كَمْ نَشُطُّ عَنِ الْحَقِيقَةِ، وَكَمْ نَبْتَعِدُ عَمَّا عَنَاهُ! وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الشَّخْصُ قَالَهَا عَفْوًا، وَلَمْ لَوْلِيَّهَا يَخْطُرُ لَهُ بِبَالٍ قَطُّ مَا خَطَرَ لَنَا مِنْ مَقَالِهِ، لَكِنَّنَا نُرِيدُ ذَلِكَ، وَنَأْبَى التَّرْجِيحَ، وَنَصُرُّ عَلَى التَّوْكِيدِ وَالْأَسَفَاهْ! ثُمَّ نَحْنُ نَقُولُ إِنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ، اوْ قَالَ مَا قَالَ، لِأَنَّ صِفَاتَهُ كَانَتْ كَذَا وَكَذَا، وَلا بُرْهَانُ لَدَيْنَا إِلَّا أَحَادِيثُ قَلِيلَةٌ تَكَادُ تَكُونُ مُبْهِمَةً لا تُؤَدِّي غَايَةً مَعْلُومَةً، لِكَثْرَةِ مُتَنَاقِضَاتِ أَحْوَالِهَا. فَالْمُؤَرِّخُ الْعَرَبِيُّ كَانَ هَمُّهُ الْأَوَّلُ ان يجمع اكثر ما يستطيع جمعه من شتات الاخبار ثم يضمها سويا لا يهمه تنافرها او تلاؤمها ولو كان معاصرها، وعلى قارئها ان يستخلص ما يشاء، فلا يسعنا والحال هذه الا ان نحكم على الاعمال ذاتها كما نستخلص حقائقها نحن، لكن دون ان تؤكد حكمنا.

حادثة الموت: شهادة على الشجاعة والكبرياء

لكن يشفع في المتنبي لدينا حادثة، وحادثة واحدة، ان صدقت دلتنا على ما رايناه من صفاته في اعماله الباقية وفي اقواله، وعلى ما يتحدث به الناس عن طموحه وبسالته، وتجنبه ركوب مراكب العار والشنار، ويحقق فيه قول الطبسي وهذه الحادثة هي تلك التي انتهت بموته: فكلمة العبد له عندما اراد الفرار: هلا يتحدث الناس عنك بالفرار وانت القائل:

الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم!

ورد عليه: «قتلتني قتلك الله»، فكره على الاعداء، وموته تلك الميتة الفظيعة، يصدق عليه شجاعته، وابتعاده عما يحمل عليه تحدث الناس بالسوء وازدرائهم به وتهكمهم عليه ويجب علينا ان نقر ان الرجل كان قد ناهز الخمسين واربعين، وربما اصيب بالوهن، واحس ذلك في نفسه فاراد الفرار، فلو كان قد اتم نيته لما كان عتب عليه او ملام، ولكننا لا نود ان نتلمس له المعاذير، من باب التكهن والرجم بالغيب، سيما وان هذه الحادثة لا نعلم الثقة التي رويت، ومن سمع كلام العبد وحكاه للناس ما دام الحديث تم في معركة، وقتل المتنبي واصحابه كلهم مع العبد ذاته لكن لدينا رواية هي اكثر ثقة، وادعم اساسا، بل هي الوحيدة التي تجلو الغوامض في قتله عن ثبت ويقين، وهي تدلنا كيف اوردته كبرياؤه حتفه، كان راوي الحادثة السالفة قد اخذ عنها شيئا من روحها. فقد روى ابو نصر محمد الجبلي، كما جاء في «الصبح المنبي»، ما عرف عن مقتله، وكان المتنبي صديقا له، ولسنا نريد ان نسرد هنا كلامه كله، وانما تقنع بهذه السطور نقتطفها من روايته، وكيف اراد ان يحول المتنبي عن عزمه بالسفر لئلا يقع فريسة لفاتك الاسدي، فلم يتحول:
قال ابو نصر: فتلقيته وانزلته في داري وسالته عن اخباره وعمن لقي في تلك السفرة فعرفني من ذلك ما سررت به له، واقبل يصف ابن العميد وفضله وكرمه وعلمه، وكرم عضد الدولة ورغبته في الادب وميله الى الادباء، فلما امسينا قلت: يا ابا الطيب علام انت مجتمع؟ قال: «على ان اتخذ الليل مركبا فان السير فيه اخف على البهائم». قلت: وهذا هو الصواب، رجاء ان يخفيه الليل ولا يصبح الا وقد قطع بلدا بعيدا، وقلت له: «الراي ان يكون معك من رجال هذه البلدة الذين يعرفون هذه المواضع المخيفة جماعة يمشون بين يديك الى بغداد». فقلب وجهه وقال: «وما تريد بذلك؟». قلت: «اريد ان تستانس بهم في الطريق». قال: «انا والجزار في عاتقي فما بي حاجة الى مؤنس غيره». قلت: «الامر كما تقول ولكن الراي الذي اشرت به اليك». قال: «تلويحك ينبئ عن تعريض، وتعريضك ينبئ عن تصريح». فعرفته جلية الامر قلت: هين هذا الجاهل فائك الاسدي كان عندي منذ ثلاثة ايام، وهو غير راض عنك لانك هجوت ابن اخيه ضبة، وقد تكلم بما يوجب الاحتراز والتيقظ، ومعه ايضا جماعة نحو العشرين من بني عمه ويقولون مثل قوله». فقال غلامه: «الصواب يا مولاي ما اشار به ابو نصر خذ معك عشرين رجلا يسيرون بين يديك الى بغداد، فان ذلك احوط!». فاغتاظ ابو الطيب من غلامه غيظا شديدا وشتمه شتما قبيحا، وقال: «والله لا ارضى ان يتحدث الناس باني سرت في خفارة احد غير سيفي».
قال ابو نصر: فقلت: «يا هذا انا اوجه قوما من قبلي في حاجة لي يسيرون بمسيرك وهم في خفارتك». فقال: «والله لا فعلت شيئا من هذا»، ثم قال: يا ابا نصر ابانجو الطير تخاوفني ومن عبيد العصا تخاف على؟ والله لو ان مخصرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات، وبنو اسد معطشون لخمسة ايام وقد نظروا الماء كبطون الحيات، ما جسر لهم خف ولا ظلف ان يرده. معاذ الله ان اشغل فكري بهم لحظة عين! فقلت له: قل: ان شاء الله. فقال: «هي كلمة مقولة لا تدفع مقضيا، ولا تستجلب اتيا». ثم ركب فكان اخر العهد به ولما صح عندي خبر قتله وجهت من يدفنه ودفن ابنه وغلمانه، وذهبت دماؤهم هدرا!».
الست ترى في هذه الرواية وهي من صديق جليس لالمتنبي كيف ان انفته جنت عليه، وكبرياؤه ازهقت روحه؟ والست تامس فيها لمس اليد ما تجلى في شعره من ضروب العجب والزهو والخيلاء؟

إِنْ أَكُنْ مُعْجَبًا فَعَجَبٌ عَجِيبٌ
لَا يَرَى فَوْقَ نَفْسِهِ مِنْ مَزِيدِ!

لو لم يكن متكبرا محبا للعظمة، مغرما بالصيت، وكانت كبرياؤه تاخذ عليه كل فج وصوب، لم يدع النبوة ودعا الناس الى الايمان به، ولم يذهب الى كافور يتمسح به املا ان ينال منه ولاية على مقاطعة في مصر، ليتسنى له من بعدها - ولنعد الى التخمين والحدس ان لم يكن منهما مفر هنا نظرا للمظاهر - الايقاع بكافور، فشعر به الاسود فماطله، ولم يتغافل عن نصيحة صاحبه الجبلي ونفر من مصاحبته لاحد في تلك الفيافي الموحشة. فالتوافق الذي يبدو هنا وفي اكثر الاحيان بين قوله وفعله من حيث الاستماءة في حب المجد والعظمة والجاه والسلطان - لا من حيث الجود وكثرة الجنود والبنود وهو ليس منها على شيء صحيح - هو ما حقق لدينا قول الناس فيه، وانها لما لا يتناظر فيها احد.
ونحن نودي هنا ان نتحدث عن متناقضاته ثم عن صفاته، ونتطرق بعد ذلك الى ما يستقر في شعره من الفوائد الخلقية التي يمتاز بها عن سواه.

الادعاء والطموح: ابرز صفات المتنبي

لعل ابرز ما في صفات المتنبي: الادعاء، والادعاء الكاذب شر مقتنى واذل مرتشد.
غير اننا ننزه شاعرنا عنه ولا نراه يدعي عن عجز ووهن في نفسه مثل غيره، وهذه وقائعه وافعاله تنبث لنا بشهادات كثيرة لا نعرف قرب اغلبها او بعدها عن الحقيقة، لكن الكثيرين يؤكدون صحتها، فان كانت كذلك ونزلنا عند رايهم وجدنا ادعاءه وخوفه من تخرصات الناس الذي حمله على ركوب المركب الخشن وتعرضه للاذى كما قال غلامه: (والله لا ارضى ان يتحدث الناس باني سرت في خفارة احد غير سيفي ومهما يكن من تخاوفه من حديث الناس فلا ينفي انه كان في قرارة نفسه شيء كثير من الشجاعة وهو القائل:

مَا أَبْعَدَ الْعَيْبُ وَالنَّقْصَانُ عَنْ شَرَفِي
أَنَا الثُّرَيَّا، وَذَانَ الشَّيْبُ وَالْهَرْمُ

اتراك تريد ممن يصف ذاته بالثريا ان ينحط الى الثرى الى دركات السوقة فيقنع بالكفاف من العيش او يفر من القتال وهو الذي يدعي انه يابى ان يعد بين من يعيش بينهم من الناس اهل زمانه ولو كانوا سادة وملوكا، وانه كالتبَر لا يضيره اديم الارض الذي يحيط به:

وَمَا أَنَا مِنْهُمْ بِالْعَيْشِ فِيهِمْ
وَلَكِنْ مَعْدِنُ الذَّهَبِ الرَّغَامُ!
أَرَانِبُ غَيْرَ أَنَّهُمْ مُلُوكٌ
مَفْتُوحَةُ عُيُونِهِمْ نِيَامُ!

ولكن الذي يدهشك فيه بعد كل هذا الادعاء - وكم له من جولات فيه - وما كلفه هذا الادعاء في مواطن عدة من بدء ادعائه النبوة حتى حتفه، كما اسلفنا القول، ان نشهده يرضى بالتزلّف الى كثير من الامراء، وينشد مدائحهم، وانت تعجب كيف يترفع عن الدنايا، وكيف يعود فيلحف في طلب المال من باب مدح الملوك والعظماء، فتراه يتدنى حتى الى ذل السؤال، ولو كان السؤال مسبوكا في صيغة الفخر، حتى لو راقينا ظروف زمانه ولجوء كافة الشعراء الى المديح واطراء الكبار، لا نقدر ان نغفل قوله لسيف الدولة:

أَجْزِلْنِي إِذَا أَنْشَدْتُ شِعْرًا، فَإِنَّمَا
بِشِعْرِي أَتَاكَ الْمَادِحُونَ مُرْدِدِينَا!
وَدَعْ كُلَّ صَوْتٍ غَيْرَ صَوْتِي، فَإِنَّنِي
أَنَا الطَّائِرُ الْمُحَكِّي، وَالْآخَرُ الصَّدَى
تَرَكْتُ السَّرْىَ خَلْفِي لِمَنْ قَلَّ مَالُهُ
وَأَنْعَلْتُ أَفْرَامِي بِنِعْمَتِكَ عُسْجَدَا
وَقَيَّدْتُ نَفْسِي فِي ذِرْعِكَ مُحِبَّةً
وَمَنْ وَجَدَ الْإِحْسَانَ قَيْدًا تَقَيَّدَا
إِذَا سَأَلَ الْإِنْسَانُ أَيَّامَهُ الْغِنَى
وَكُنْتَ عَلَى بَعِيدٍ جَعَلْنَاكَ مَوْعِدَا.

ومهما يكن من تغنيه بفضله، ومضاء شاعريته، وتهكمه على سائر الشعراء الذين يمدحون سيف الدولة، اترانا لا ندرك في ابياته هاته لهجة الالحاف في الطلب وان المال هو الغاية والمنى والطلب، وانه لولا المال لم يترك السرى خلفه لمن لا مال له؟ انه سقوط وانحطاط على كل حال من المرتبة التي لا يريد هو الانحدار عنها، والتي لا يرضاها له احد من محبيه. ولكننا ان عذرناه مع سيف الدولة لكثرة نعم هذا عليه، وعيشة الاعوام الطوال معه، افترانا نعذره ايضا مع كافور الاخشيدي؟ ان هذا التهالك على استدرار جود كافور، وتحمل المشاق في طلبه من دمشق حتى ديار مصر، لا اظنه يرفع من قدر ابي الطيب، ومهما حاول المداهنة في ابياته التالية، ان المنة ليست من خصائص كافور، فالقصد فيها واضح وضوح النهار وباسلوب كثير اللجوج، شديد الضراعة، بل فيها شيء من الرياء:

إِذَا الْجُودُ، لَمْ يَرْزُقْ خَلَاصًا مِنَ الْأَذَى
فَلَا الْحَمْدُ مَكْسُوبٌ، وَلَا الْمَالُ بَاقِيَا
وَلِلنَّفْسِ أَخْلَاقٌ تَدُلُّ عَلَى الْفَتَى
أَكَانَ سَخَاءً مَا أَتَى أَمْ تَسَاخِيَا
أَقِلَّ اشْتِيَاقًا أَيَّهَا الْقَلْبُ! رُبَّمَا
رَأَيْتَكَ تُصَفِّي الْوَدَّ مِنْ لَيْسَ صَافِيَا
خَلَقْتُ أَلُوفًا لَوْ رَجَعْتُ إِلَى الصَّبِي
الْفَارِقْتُ شَيْبِي مُوْجِعَ الْقَلْبِ بَاكِيَا
وَلَكِنْ بِالْفُسْطَاطِ بَحْرًا أَزْرَتْهُ
حَيَاتِي، وَنَصْحِي، وَالْهَوَى، وَالْقَوَافِيَا

واغرب من هذا كله انه، وهو الذي مدح سيف الدولة وانقطع اليه دهرا، ومدحه مدحا عظيما ما الى مثله من سبيل، يعود حيال كافور فيعرض به خفية، بينما لا يترك في مدح مولى بني عباس الاسود زيادة المستزيد، حتى تخال السجود له اضحى واجبا:

قَوَاصِدُ كَافُورٍ، تَوَارَكْ غَيْرَهُ
وَمَنْ قَصَدَ الْبَحْرَ، اسْتَقِلَّ السَّوَاقِيَا
فَجَاءَتْ بِنَا إِنْسَانًا عَيْنَ زَمَانِهِ
وَخَلَتْ بِيَاضًا، خَلْفَهَا، وَمَآقِيَا!

ولا يكاد كافور يماطله، ويسوف في وعده، حتى نبصر المتنبي ينقلب عليه باشد ما انقلب على سيف الدولة او سواه، ويغدو لا يرى كلمات تؤدي حق التادية جميع مذمات العبد، ولشدة غيظه وعظم اندفاعه فيه ينكف على مصر واهلها، كانهم هم الذين اغضبوه فيصب عليهم جامات غضبه ايضا، وهذا دليل استراله في عواطفه الى ابعد منتهاه:

إِنِّي نَزَلْتُ بِكَذَّابِينَ ضِيْفَهُمْ
عَنِ الْقُرَى وَعَنِ التَّرْحَالِ مَحْدُودُ
جُودُ الرِّجَالِ مِنَ الْأَيْدِي، وَجُودُهُمْ
مِنَ اللِّسَانِ، فَلَا كَانُوا وَلَا الْجُودُ
مَا يَقْبِضُ الْمَوْتُ نَفْسًا مِنْ نُفُوسِهِمْ
إِلَّا وَفِي يَدِهِ مِنْ نَتْنِهَا عُودُ
أَكْلَمَا اغْتَالَ عَبْدٌ سُوءَ سَيِّدِهِ
أَوْ خَانَهُ، فَلَهُ فِي مِصْرَ تَمْهِيدٌ؟
صَارَ الْخَصْيُ إِمَامَ الْآبِقِينَ بِهَا
فَالْحُرُّ مُسْتَعْبَدٌ، وَالْعَبْدُ مَعْبُودُ!
نَامَتْ نَوَاطِيرُ مِصْرَ عَنْ ثَعَالِبِهَا
فَقَدْ بَشَمَ، وَمَا تَفْنَى الْعَنَاقِيدُ

الى اخر تلك القصيدة التي هي نسيج وحدها في القدح والهجاء.
وانه ليدهشك في هذه القصيدة انه بداها بالفخر، ولست ادري اين هذا الفخر الذي يجوب له الانسان القفار، ويتجزم لاجله وحشة الفيافي وجفاوة الصحارى ليرغب الى امرئ مثل كافور، يعلم عنه ما يعلم، ثم ينكف عليه اذا لم يجزه كما يريد؟!

لَوْلَا الْعَلْيُ، لَمْ تَجُبْ فِي مَا أَجُوبُ بِهَا
وَجَنَايَا حَرْفٍ، وَلَا جَرْدَاءُ قِيَادُ

التناقضات: معضلة في اخلاق المتنبي

هذا التناقض، لا بين القول والعمل فقط، بل بين فعل وفعل اخر، غريب. وغريب للغاية. وانها معضلة مبهمة في اخلاق المتنبي، قد تدلنا على غرابة اطواره او تجعلنا نظن انه يتاثر ببعض العوامل فيتدبرها ويتقيها، لكن من منا يعلم اليوم حقيقة ظروفه وملابساتها الاضطرارية؟ لكنه ان كان يعتقد ما يقوله في شعره، وما يؤيده في اعماله في ظروف شتى، فلماذا يكذب ذاته بذاته وبالاعمال الناطقة ايضا؟ اكان يعرف مبلغ هاته التناقضات، وكم هي تجلب عليه من حديث الناس وهو ما كان يتوقاه؟ اكان يحس بها يا ترى ويعلم حقيقتها؟
لا اراني الا قائلا ومتسائلا، ما عناه بول بورجية في مقدمة روايته (شيطان الظهيرة) عندما قال: «ان الذي يكذب، ويدري كذبه يمكنه ان يمقته علته ويصلح من شانه، ولكن ماذا فيمن يكذب ولا يدري عيبه؟» فهل عنى المتنبي في مجازفته الاخيرة في القتال اصلاحا لاخطائه السالفة، واثباتا لعقيدته السامية وحدة لتقولات الناس؟
له اتراه ايضا كان يجمع في ذاته صفات الشخصيات المزدوجة، ولا اعني ابدا انه كان مرضان، بل مسيرا بطبيعتين جامحتين متباينتين، اي: اكان يود - لو تم العيش حياة محترمة نزيهة لا يدرنها اللجوء الى هذا او ذاك، كما كان قصده
الاولى الذي دفعه لادعاء النبوة، فلما اخفق فيها دفعته ذات حب السيادة والعظمة والمال من حيث لا يدري الى مدح الملوك والامراء والوزراء والعظماء محاولا الا يفقد شحمه واباءه، او يرضى التظاهر بالضعف امامهم في هذا المديح والطلب ولا يقبل منهم ادنى انتقاص لقيمته اسئلة قد تبقى في فؤاد القدر ال الابد!
انه يلوه لنا ايضا كان المتنبي من الناس المتاهين في عواطفهم يندفعون بها حتى النهاية القصوى، يحبون كل الحب او يكرهون كل الكره. فعندما تراه يمدح احدا يرفعه الى الطبق السابع، وان هجاه خفس به الارض الى هاوية الجحيم. هكذا كان عندما مدح سيف الدولة (ثلث شعره) وكافورا وابا شجاع فاتكا وابا العشائر وبدر بن عمار وابن العميد، لم يترك كلمة في المديح الا قالها فيهم. وهاك شيئا من بعض امثلة من اشعاره، تدلك على تناهيه في عواطفه، واندفاعه معها فهذا سيف الدولة رجل تفرق لمرآته الملوك، هو البحر يكن في جوفه الدرر واللؤلؤ، وهو عين اعياد العالم!

هُوَ الْبَحْرُ غُصْ فِيهِ إِذَا كَانَ سَاكِنًا
عَلَى الدُّرِّ وَاحْذَرْهُ إِذَا كَانَ مُزْبِدَا
فَإِنِّي رَأَيْتُ الْبَحْرَ يَعْثُرُ بِالْفَتَى
وَهَذَا الَّذِي يَأْتِي الْفَتَى مُتَعَمِّدَا
تَظَلُّ مُلُوْكُ الْأَرْضِ خَاشِعَةً لَهُ
تُفَارِقُهُ هَالِكَةً وَتَلْقَاهُ سُجَّدَا
وَتُحْيِي لَهُ الْمَالَ الصَّوَارِمُ وَالْقِنَى
وَيَقْتُلُ مَا يُحْيِي التَّبَسُّمُ وَالْجَدَّى
هَنِيْئًا لَكَ الْعِيدُ الَّذِي أَنْتَ عِيدُهُ
وَعِيدٌ لِمَنْ سَمَّى وَضَحَّى وَعَيَّدَا
وَلَا زَالَتِ الْأَعْيَادُ لُبْسَكَ بَعْدَهُ
تُسَلِّمُ مَخْرُوقَةً وَتُعْطَى مُجَدَّدَا
فَذَا الْيَوْمُ فِي الْأَيَّامِ مِثْلُكَ فِي الْوَرَى
كَمَا كُنْتَ فِيهِمْ أَوْحَدًا كَانَ أَوْحَدَا

واذا اردت كافورا رايته قد جمع فيه كافة المفاخر، واذا العبد اشرف واعز من قبائل عدنان ويعرب واليه تنتهي المحاسن في الورى، واذا من نتن ابطحه يخرج المسك، واذا الغيث الهطال من بعض فضله ومنه او اقل:

أَبَا كُلِّ طَيِّبٍ لَا أَبَا الْمِسْكِ وَحْدَهُ
وَكُلُّ سَحَابٍ لَا أَخْصُصُ الْغَوَادِيَا
قَالُوا: «هَجَرَتْ إِلَيْهِ الْغَيْثُ»، قُلْتُ لَهُمْ:
«إِلَى غَيُوثِ يَدَيْهِ وَالشَّبَابِيْبِ»
وَيُغْنِيكَ عَمَّا يَنْسِبُ النَّاسُ أَنَّهُ
إِلَيْكَ تَنَاهَى الْمَكْرَمَاتُ وَتُنْسَبُ
وَأَيُّ قَبِيْلٍ يَسْتَحِقُّكَ قَدْرَهُ
مَعْدُ بْنُ عَدْنَانَ فِدَاكَ وَيَعْرُبُ

اما اذا انقلبت الى بدر بن عمار فاعجب له يؤلهه ويفاضل كلامه على الفرقان والتوراة والانجيل:

لَوْ كَانَ عِلْمُكَ بِالْإِلَهِ مُقَسَّمًا
فِي النَّاسِ مَا بَعَثَ الْإِلَهُ رَسُولَا
لَوْ كَانَ لَفْظُكَ فِيهِمْ مَا أُنْزِلَ
الْفُرْقَانُ، وَالتَّوْرَاةُ، وَالْإِنْجِيْلَا

هكذا هو مديحه ينطلق من عنانه حتى المنتهى، حتى المستحيل، وكذلك هو في هجائه فاذا هو عندما انقلب على كافور لا يترك له رجاء في محمدة او معزة في مكرمة فقد اودع هجاءه له كل كلمة لاذعة من قدح وذم وجدها في قاموس فكره، وقد اوردنا بعضها قبل. واعجب له حين مات ابو شجاع كيف رثاه قادحا في كافور فاذا «بابي المسك، ينقلب جيفة نتنة واذا الصادق الجواد الذي لا يعرف غير الجود عن سخاء وكرم يصير اكذب كاذب، جوده بالقول لا باليد:

قُبْحًا لِوَجْهِكَ يَا زَمَانُ فَإِنَّهُ
وَجْهٌ لَهُ مِنْ كُلِّ قُبْحٍ بُرْقُعُ
أَيَمُوتُ مِثْلُ أَبِي شُجَاعٍ فَاتِكٍ
وَيَعِيشُ حَاسِدَةُ الْخَصْيِ الْأَوْكَعُ
أَيْدٍ مَقْطُوعَةٌ حَوَالَى رَأْسِهِ
وَقْفًا يَصِيحُ بِهَا: أَلَا مَنْ يَصْفِعُ؟!
أَبْقَيْتَ أَكْذَبَ كَاذِبٍ أَبْقَيْتَهُ
وَأَخَذْتَ أَصْدَقَ مَنْ يَقُولُ وَيَسْمَعُ
وَتَرَكْتَ أَنْتِنَ رِيحَةً مَذْمُومَةً
وَسَلَبْتَ أَطْيَبَ رِيحَةٍ تَتَضَوَّعُ

واذ انصرف الى هجاء ابن كيفل كال له من ذات الكيل، وهل تراك تريد اقصى من هذا؟:

يَقْلَى مُفَارَقَةَ الْأَكْفِ قَذَالَهُ
حَتَّى يَكَادُ عَلَى يَدٍ يَتَعَمَّمُ
وَجَفْنَاهُ مَا تَسْتَقِرُّ كَأَنَّهَا
مَطْرُوفَةٌ، أَوْ فَتْ فِيهَا حِصْرُمُ
وَإِذَا أَشَارَ مُحَدِّثًا فَكَأَنَّهُ
قِرْدٌ يَقْهَقَهُ أَوْ عَجُوزٌ تَلْطُمُ
وَتَرَاهُ أَصْغَرَ مَا تَرَاهُ نَاطِقًا
وَيَكُونُ أَكْذَبَ مَا يَكُونُ وَيُقْسِمُ

او انظر اليه في هذه الابيات، كيف يصف صاحبه:

كَذَا خَلَقْتُ وَمَنْ ذَا
الَّذِي يُخَالِفُ رَبَّهُ؟
إِنْ أَوْحَشَتْكَ الْمَعَالِي
فَإِنَّهَا دَارُ غُرْبَةٍ
أَوْ آنَسَتْكَ الْمَخَازِي
فَإِنَّهَا لَكَ نَسَبُ!

في المديح والقدح على السواء كان سباقا الى تلقي كل كلمة نادرة قصوى تؤدي اشد معنى. فالوسط لا يتطرقه، بل لا يعرفه، ولا لفاظه قوة ومضاء وعزيمة كانها اشخاص حية تتحدث وتنطق فهي اناس صبت في صور الفاظ، ورجال كونت في هيئة كلمات. فالناس من ملوك وكرام وامراء وعظام وعبيد ولئام وجبناء وبهائم تكاد تراهم في شعره راي العين، والصفات من بسالة وكرم ونبل وشرف ونذالة وانحطاط ودناءة وخباثة تكاد تلمسها في الفاظه لمس البد، وانه لمصور ماهر فذ، بل هو عبقري ليس له ثاني، كما قال عنه الطبسي بحق:

مَا رَأَى النَّاسُ ثَانِيَ الْمُتَنَبِّي
أَيْ ثَانِيًا يَرَ بَسْكَرِ الزَّمَانِ
هُوَ فِي شِعْرِهِ نَبِيٌّ، وَلَكِنْ
ظَهَرَتْ مُعْجِزَاتُهُ فِي الْمَعَانِي

كان فيه ايضا انانية وجشع ونخل كما يروي عنه الرواة، مع انك لا تعثر على شيء منها في شعره الا قليلا، وان علمت انه يحب المال حبا عظيما من لجاجه في السؤال لكنك لا ترى فيه ثناء على البخل وهو القائل:

وَمَنْ يُنْفِقُ السَّاعَاتِ فِي جَمْعِ مَالِهِ
مَخَافَةَ فَقْرٍ، فَالَّذِي فَعَلَ الْفَقْرُ

وانت لا تدري اصادقون هؤلاء الرواة ام كاذبون في تنادرهم بحوادث بخله، خاصة ما جاء في حديث ابي بكر الخوارزمي عن قطعة النقد التي تخللت خلل الحصير من المال الذي صب بين يديه عليها من صلاة سيف الدولة، فاكب عليها باجمعه يعالجها وينقرها حتى انقذها وقد ادمى اصبعه، ولما عوتب في الامر قال: «انها تحضر المائدة)!
اما جشعه فيستدل عليه من حاقه بكل من بسطت راحته وجادت يده، ورجائه فيهم ان يكون شاعرهم الاوحد، وهو شيء من حب الذات عظيم. وكم انقطع عن سيف الدولة عندما كان يراه الى شاعر اخر عليه مما حمله على القول:

أَفِي كُلِّ يَوْمٍ تَحْتَ ضِبْنِي شَاعِرٌ
ضَعِيفٌ يُقَاوِمُنِي، قَصِيرٌ يَطُولُ؟
ثم قوله الصريح لسيف الدولة:
أَزِلْ حَسَدَ الْحَاسِدِينَ عَنِّي بِكَبْتِهِمْ
فَأَنْتَ الَّذِي صِرْتَهُمْ لِي حَاسِدِينَا!

ادلينا هنا ببعض نوادر من حيث تناقض بعض اقواله مع بعض اعماله، ثم تناقض بعض افعاله مع بعض افعاله الاخرى، وانها لتمس سمعته بعض المس، وتؤثر في قوة شخصيته وعنفوانها البادي بين سائر الشعراء، فقيمة الكلام تقاس بصاحبه، او بالاحرى ان ملامة الشخص يزداد او ينقص في اعماله واقواله، بحسب قيمة نفسه في عينه او في اعين الناس، وما يلام لاجله امرؤ لا يؤبه له في اخر، وهو ما يجعل وزر المتنبي كبيرا في تناقضاته. ومع ان اعظم عيب في المتنبي هو ادعاؤه المفرط، والذي لا نجد له عذرا فيه، لكنه في راينا لا يضير على الارجح القارئ المتكسب ولا يؤذيه في شخصيته، بل لعله يفيد الضعفاء ان علموا كيف يستغلونه عن فطنة ودراية.

الاخلاق في شعر المتنبي: قمة بين الشعراء القدماء

ومع كل ما ارتكبه المتنبي من تناقضات فهو من جهة الاخلاق في شعره على اعلى ذروة بين شعراء العرب القدماء، فلم يكن للمجون والهزل اليه من سبيل فشعره شعر الجد، شعر القوة، شعر العظمة، لا شعر الضعف والتخنث. وهذا ما ابعد عن صفاته الخلقية ما يشين المرء من الانغماس في الملاذ، بل بالاحرى ان نزاهته وعففته وكبرياؤه هي التي ظهرت شعره من كل عوامل الفساد، فليس فيه ما يوحي بالحطة والابتذال، حتى في سؤاله يحاول الترفع، كما اسلفنا القول، وانه ليؤثر في صفاته الشخصية من جهة ادعائه وكبريائه لا من جهة مستوى الاخلاق العادية. فاذا جئنا نستوضح المتنبي على وضوح نور الاداب - والشاعر بسلامة ايحائه وصحة نصيحته، لا برنين الفاظه وانسجام كلامه وجزالة قصائده. فما الانسان الا بما يوحيه الى الغير من خير او شر - وبينما يجب ان نراعي ما كان يستلزم عصره، وما هو مستوى الاداب في ذلك الحين، فلكل عصر ذوقه وحضارته، ولكل زمن افته.
يجب ايضا ان نفحصه على نور الاخلاق كما نفهمها بعقل الرزانة والحكمة، لا كما يريدها الذين يتندفعون وراء العصرية الهوجاء
الى شخصية لا يهمني من المرء الا ما في اخلاقه، ومن النظرة الاولى التي اوقعتها عليه اريد استشفاف ماهية ادابه وكنه ثقافته، ولا ازال به حتى ادرك غايتي فاما صداقة واما بعادة كذلك انا مع الكتاب والشعراء خاصة وعلى مناكبهم يحملون مهمة شاقة خطيرة، وقد يكون اثرهم على ضعفاء الارادة ليس له رتق. ولعل مما يزيد قيمة شعر المتنبي خلوه على الاغلب من كل عنصر يفسد التربية، ويؤثر على النشاة لولا تلك الحدة في هجائه التي تدفعه الى الزلق احيانا الى مواطن نضن به الى ان يصل اليها.

image 2
المتنبي يلقي شعرهفي  المقابلة الملكية لسيف الدولة

اذا فحصنا قصائد المتنبي فقدمنا نرى فيها ما يحملنا على الظن بفساد الاديان، او الشك بوجود الله ) ومخافة الله هي اهم شيء نهتم له، وقد قيل: «راس الحكمة مخافة الله» ومن الواجب ان نبحث في هذا العصر عن كل شيء يسمي بنا عن المادية القبيحة التي نتردى في اقذر اوحالها وان نزرع في النفوس هذا الشيء الروحاني) فاعتقاده فيما وراء الحياة يكاد يكون بجهول لدينا، لكننا لا نظنه كان كافرا لكثرة ما ورد في شعره من ذكر اسم الله الكريم، رغم اعتقاد بعضه انه كان من الشاكين بدليل وجود مثل هذه الابيات التالية:

تَحَالَفَ النَّاسُ حَتَّى لَا اتِّفَاقَ لَهُمْ
إِلَّا عَلَى شَجْبٍ، وَالْخَلْفُ فِي الشَّجْبِ
فَقِيْلَ: تَخْلُصُ نَفْسُ الْمَرْءِ سَلِيمَةً
وَقِيْلَ: تَشْرَكُ جِسْمُ الْمَرْءِ فِي الْعَطْبِ
تَدْخُلُ أَيْدِينَا بِأَرْوَاحِهَا
عَلَى زَمَانِ هِنَّ مِنْ كَسْبِهِ
فَهَذِهِ الْأَرْوَاحُ مِنْ جَوْهَرِهِ
وَهَذِهِ الْأَجْسَامُ مِنْ تُرَابِهِ

ليس هذه الابيات دليلا حسيا، او دليلا يقينيا، ونحن لا نود ان نبني حكمنا على الحدس والتخمين من وراء كلمات قد تكون ارسلت على عواهنها في ساعة تاثر لاننا لا نظن ان المتنبي كان يكتم في نفسه سرا لا يريد اظهار للناس خوف اذاهم له، فما كان من هؤلاء الذين ياخذون بالتقية ومداراة الناس، وهو من كان يستشعر القوة في اعماله كلها او اكثرها، وما كان يؤبه ان يعلن ارائه صراحة فيمن يكرههم من الناس، والذي ادعى النبوة، لا يهاب التصريح باعقتاده فيما وراء الحياة لو اراد وشاء. ولا نظن احدا يبحث في المتنبي واعماله الا ويرى فيه هذه الصراحة فلو كان له راي معلوم صرح به، غير ان اكبر الظن انه ما كان يميل الى مثل هذه المباحثات خوفا مما تثيره في النفوس من امور قد تؤدي بالقليل المعرفة الى الالحاد، فضلا على انه يبدو لنا انها لم تكن تهمه بعد التجربة القاسية التي جربها وربما هذا ما عناه بقوله:

وَمَنْ تَفَكَّرَ فِي الدُّنْيَا وَمَهَاجِتِهِ
أَقَامَهُ الْفِكْرُ بَيْنَ الْعَجْزِ وَالتَّعَبِ.

وفي اشعاره ما ينبئ عن ايمانه بالله، وربما كان يعني قوله حقا، فقد اشار فيها بالالتجاء اليه تعالى، لان فيه العضد، وفيه العون، واكثر ما يظهر ذلك في المراثي كما هنا:

أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِشَخْصٍ مَضَى
كَانَ نَدَاهُ مُنْتَهَى ذَنْبِهِ
صَلَاةُ اللَّهِ خَالِقِنَا حَنُوطٌ
عَلَى الْوَجْهِ الْمَكْفَنُ بِالْجَمَالِ
جَزَاكَ رَبُّكَ بِالْأَحْزَانِ مَغْفِرَةً!
فَحَزَنَ كُلُّ أَخِي حَزْنَ أَخِي الْغَضْبِ

لو دانينا بينه وبين المعري - وكان هذا من اشد المعجبين به - لوجدنا فرقا شاسعا ليس له تيام: فالمعري يقول بصريح العبارة ان لا دين ولا اله وما كل معتقد الا انكار وبهتان، وحسبنا منه هذه الابيات:

دِينٌ وَكُفْرٌ وَأَنْبَاءٌ تُقْصُ، وَقُرْآنٌ
يُنْصُ، وَتَوْرَاةٌ وَإِنْجِيلُ
فِي كُلِّ جِيلٍ أَبَاطِيلُ مُلْفِقَةٌ
فَهَلْ تَفَرَّدَ يَوْمًا بِالْهُدَى جِيلٌ؟
أَفِيقُوا! أَفِيقُوا! يَا غَوَاةُ فَإِنَّمَا
دِيَانَاتُكُمْ مَكْرٌ مِنَ الْقُدَمَاءِ
أَرَادُوا بِهَا جَمْعَ الْحَطَامِ فَادْرِكُوا
وَبَادُوا فَمَاتَتْ سَنَةُ اللُّؤْمَاءِ!

وكم له غير ذلك من تعريض بالانبياء والرسل واديانهم، مما لا نود الاسترسال فيه، ومهما بدا منه في ابيات من ايمان، فنحن نعلم انه كان ياخذ بالتقية وينصح بها فربما اضطرته في بعض الظروف ان يقول ما قال، فضلا على انه لم يكن كالمتنبي شاعرا عاطفيا، بل كان شاعرا مفكرا فيلسوفا، وهنا وجه للوم العظيم. اما المتنبي فكان اعف لفظا واكثر تادبا، عن ان يحمل ما في نفسه الى نفوس الغير، والذي نستخلص منه دون ان نعلق على اقواله فيما وراء الحياة كبير اهمية - للظروف والمناسبات الاضطرارية التي يكون قد قالها فيها او انها صدرت عفوا كما اوضحنا قبل - انه ابعد عن ان يؤثر في عقيدة قارئه، فربما ايضا لم يكن مؤمنا في ذاته، لكن ليس في اقواله ما يشتم منه رائحة الشك في ضغط وتاثير، وربما كان المعري مؤمنا في ذاته، لكن القليل من نبرته يحمل على اليقين، بينما الكثير ينفت الشك المبين. فاي الشاعرين افضل، لا من جهته، بل من جهة القراء؟
وما دمنا قد وازنا بين المعري والمتنبي فيما وراء الحياة، فلنر ايضا بماذا يفضل فيه شاعرنا اليوم شاعر المعرة في جهات اخرى: فالمعري شاعر متشائم، شاعر يائس ملول من الحياة، التي لم تمنحه الا اتعس ما في جرابها، ولم يكن في نفسه رغم فلسفته ما يحمله على السمو فوقها، بل كان يرزح تحتها، فيثنو ويتالم ويتبرم ويكشف عن مصائبه وقلما كان ينتصر ويتجالد، وفي كثير من ابياته تشعر به كانه يتنفس: اف اف! اف! وهذا يعود الى اصل نشاته، فقد ولد بائسا، وفوجي في صغره بالعمى وكان يستشعر بالمذلة من كل من يحيط به فغرست في نفسه، وصارت جزءا منه. والانسان يسوغ نحو بيئته، وان ثار عليها بقي اثرها فيه مهما حاول التنكر لها، والمعري في ثورته على التقاليد المحيطة بها انما يثور لان التقاليد الحديثة التي قراها والقديمة في العالم هي التي حرضته على تقاليد بيئته التي اخرجته منها، او جعلته باعماله يشعر انه ليس عضوا فيها
اما صاحبنا المتنبي فلم ينله من الهوان بعض ما ناله ذاك، وان يكن قد دخل المجنون واصابه بعض عذابه فانه قد يعد هذا استشهادا في سبيل عقيدته، او على الاقل اضطهادا له للحيلولة بينه وبين غايته الشامخة مهما كانت دوافعها الحقيقية. وهو لم يشعر ابدا بنفور بيئته منه او باحتقارها له، فهو شاعر القوة لا يطاطئ راسه بل يحارب بكل قواه ويجد لذة في الجلاد، وهو الذي يتمنى «ضرب اعناق الملوك وان ترى له الهبوات السود».
فبينما نرى الياس متجليا في اشعار المعري يتمنى الموت وهو في ثلاثة سجون كما وصف ذاته:

أَرَانِي فِي الثَّلَاثَةِ مِنْ سُجُونِي
فَلَا تَسْأَلْ عَنِ الْخَبَرِ النَّبِيْثِ
لِفَقْدِي نَظَرِي، وَأَزُومُ بَيْتِي،
وَكَوْنِ النَّفْسِ فِي الْجِسْمِ الْخَبِيْثِ

حتى نراه يقول بياس وحرقة طالب الموت لكل مولود:

فَلَيْتَ وَلِيدًا مَاتَ سَاعَةَ وَضَعِهِ
وَلَمْ يَرْتَضِعْ مِنْ أُمِّهِ النَّفْسَاءِ!

بل انه طلب ان يكتب على قبره كلمة كلها قنوط وشكوى من الحياة:

هَذَا جَنَاهُ أَبِي عَلَيَّ
وَمَا جَنَيْتُ عَلَى أَحَدٍ

اما المتنبي فنراه غير ذلك، وهاك بعض ابياته:

عَرَفْتُ اللَّيَالِيَ قَبْلَ مَا عَمِلَتْ بِنَا
فَلَمَّا دَهَتْنِي لَمْ تَزِدْنِي بِهَا عِلْمَا
كَذَا أَنَا يَا دُنْيَا إِذَا شِئْتِ فَاذْهَبِي
وَيَا نَفْسُ زِيدِي فِي كَرَاهِيَهَا قَدَمَا!
تُرِيدِينَ لِقْيَانَ الْمَعَالِي رَخِيصَةً
وَلَا بُدَّ دُونَ الشَّهْدِ مِنْ إِبْرَةِ النَّحْلِ
عِشْ عَزِيزًا أَوِ امُتْ وَأَنْتَ كَرِيمٌ
بَيْنَ طَعْنِ الْقِنَى وَخَفْقِ الْبُنُودِ!
فَرُؤُوسُ الرِّمَاحِ أَذْهَبُ لِلْغَيْظِ
وَأَشْفَى لِغَلِّ صَدْرِ الْحَقُودِ
فَاطْلُبِ الْعِزَّ فِي لَظَى، وَدَعِ الذُّلَّ
وَلَوْ كَانَ فِي جِنَانِ الْخُلُودِ!

ولسنا نريد ان نسترسل في سرد الشواهد من كلي الشاعرين وهي كثيرة، ونقنع بالقول ان اعمى المعرة يحمل في يمينه كاس التشاؤم بفلسفته العميقة الغامضة، وهو قد لا يفيد الا كل قوي الشكيمة، متين العقيدة، صلب الارادة، لا تخدعه الالفاظ الوهاجة. بينما المتنبي، وهو شاعر القوة، خير صديق للضعفاء لانه يمنحهم القوة على مجالدة الايام، ومقارعة الخطوب، كما انه لا يتعرض للعقائد. ففي المتنبي اذا تفضيل وسمو على المعري.

خواص الشعر: الحزم والترفع

  • من خواص شعر شاعرنا هذا، صيغة الحزم البادية في شعره، فهو لا يتدنى حتى في غزله - وهو قليل - الى ما وصل اليه كافة شعراء الغزل. اما المجون الذي يرفع لواء زعامته ابو نواس وبشار بن برد وابو دلامه فهذا ما يستنكفه ابو الطيب ويابى الانحدار اليه. وهو الذي يكره الخمر، ويسمو بنفسه عن كافة الناس ان يفعل ما تفعله الناس، وان هذا الترفع من متانة خلقه: 
فُؤَادٌ مَا تُسَلِّيهِ الْمُدَامُ
وَعُمْرٌ مِثْلُ مَا تَهَبُّ اللِّئَامُ
وَلِلسِّرِّ مِنِّي مَوْضِعٌ لَا يَنَالُهُ
نَدِيمٌ وَلَا يُفْضِي إِلَيْهِ شَرَابُ
وَمَا الْعِشْقُ إِلَّا غِرَّةٌ وَطَمَاعَةٌ
يُعَرِّضُ قَلْبًا نَفْسَهُ فَيُصَابُ
وَغَيْرُ فُؤَادِي لِلْغَوَانِي رَمْيَةٌ
وَغَيْرُ بَنَانِي لِلزُّجَاجِ رِكَابُ
  • وفي شعره صفات الكرم والجود، وقد روينا عن نجله شيئا، لكننا لا نراه في قصائده ينصح به، وهو تناقض اخر بين العمل والقول، لكنه تناقض ممدوح، وليس يضيرنا هذا، فان فائدة قارئه فيما يلمح بين السطور من الحض على المكارم وان الجود محمدة، ما دام لا يخرج عن الحدود، كقول القائل:
مَا بَيْنَ تَبْذِيرٍ وَبُخْلٍ رُتْبَةٌ ... وَكِلَا هَذَيْنِ إِنْ زَادَ قَتَلْ
ولو لم تكن شدة قدح ابي الطيب في الناس، وتخييره الكلمات الثقال في ذمهم، ولولا الحقد العظيم الذي ينفعه تقنا هائلا في هجائه اللاذع لم يكن في شعره نقص يذمم عليه من جهة الاخلاق، فشر مقتنى ان ينشا الانسان على الغل والحقد، وقد لا يكون المتنبي ممن يضمرون الشر لاحد، ويحفظون الضغينة في قلوبهم، لكن وحي شعره في نفس قارئه لا يدل على غير هذا، فيا حبذا لو كان خاليا من هذا الوحي النميم، ويا حبذا!
ولسنا نريد ان ننسب الى المتنبي ما ليس فيه بمناسبة هذه الذكرى الالفية لوفاته ونظرية منساقين مع التيار، بل نود ان نقول ما نعتقد فيه حقا، دون ادنى افتراء ودون ادنى تمويه للحقائق، حين نقول اننا لا نراه الا غرة الغرر في جبين الشعر العربي القديم، ليس فقط بجزالة شعره، ومتانة تعبيره، وانما ايضا بما يوحيه باستثناء لاذع هجائه - من مكارم الاخلاق ومحامد الصفات؟

مواضيع ذات صلة
أدبيات, الأدب العربي العالمي, دراسات أدبية,

إرسال تعليق

0 تعليقات