اللغة العربية، كما وصفها المستشرق الفرنسي إرنست رنان في كتابه "تاريخ اللغات السامية": "لغة بدأت فجأة على غاية الكمال، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر". اللغة العربية هي التي اختارها الله لنزول كلامه على أفصح العرب محمد صلى الله عليه وسلم، وهي التي اصطفاها الله لأهل الجنة لغة كلامهم. اللغة العربية ذات ميزات وخصائص لا نجدها في أية لغة غيرها.
ومن الواضح كبياض النهار أن القرآن هو الأساس الذي قام عاملًا رئيسيًا في تحقيق ما ترى للغة العربية اليوم من عظمة وشرف على مستوى العالم، حتى ولو كانت العربية قائمة منذ قديم الزمان. لأن القرآن هو منبع الفصاحة التي عجز العرب كلهم عن الإتيان بمثله، مع أنهم أفصح الناس لغة وأعظمهم بيانًا. وهذا العجز نفسه يثبت أن القرآن هو من الله، ليس كما ادعوا أنه من صنعة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ما نهله من الشياطين والجن. أما الحديث النبوي الشريف، ثاني مصادر اللغة العربية - كما هو نفسه منبع الشريعة الإسلامية - من كل مظهر ووجوه، فقد لعب دورًا قياديًا في جعل اللغة مبتذلة متداولة بكثرة، وفي تحقيق المزايا والملامح لها التي بها تتمتع العربية من بين اللغات. كما قام بمساهمات في إثراء اللغة وتقويتها بالمفردات والمعاني التي لم يعرفها ولم يتعهدها العرب بأسرها.
وهذه المقالة تحاول تسليط الضوء على الجهود والأدوار التي قام بها الحديث النبوي الشريف في اللغة العربية من مظاهر مختلفة وجوانب متعددة، وعلى آثارها التي بها أصبحت العربية ذات بهجة وزهور من بين سائر اللغات.
اللغة العربية في فترة الجاهلية: قبل تشريع القرآن والحديث النبوي
اللغات هي أساس يربط بين القوم وثقافتهم وحضارتهم، فبينها وبين القوم - أيًا كانوا - علاقة ذات جذور راسخة. فأما اللغة العربية في فترة الجاهلية، فكانت العرب يرونها شيئًا يفتخرون به رغم أنها لغة كلغات أخرى. وكانت القبائل وبطون العرب يستخدمونها كسلاح حاد على أعدائهم. حتى أصبح قويهم قويًا في اللغة فصاحة وبلاغة. وكان الشعراء والفصحاء آنذاك هم الأبطال في قبائلهم، وكانوا يحتلون مقامًا أعلى بينهم من حيث العز والشرف. حتى أضحت في العرب قبائل وظفوا الشعراء للدفاع عنهم بأشعار حادة جارفة ببذل مبلغ مال كبير.
وكانت اللغة العربية في الجاهلية قبل نزول القرآن الكريم لغة عز وفخر متفرقة في اللهجات، حيث سادت لهجات متعددة بين قبائل العرب مثل لهجة قريش وتميم وهذيل وطيء وغيرها. لهجة كل قوم تنادي مجدها وعلوها في الحضارة والثقافة. إلا أن لهجة قريش - التي هي لهجة أفصح العرب وأفضل من نطق بالضاد محمد صلى الله عليه وسلم - قد تميزت عن لهجات أخرى بانتشارها وعلو شأنها بسبب مكانتهم في مكة من حيث الدين والعلاقات التجارية. وما يجعل العربية تتميز عن اللغات وتبهرها هو ثراء ألفاظها وكثرة مترادفاتها ووجود الأساليب البلاغية المتنوعة التي تجعل اللغة فائقة على مثلها. ورغم كل ذلك، فإن العربية في الجاهلية قبل الإسلام لم تكن موحدة تمامًا بل متنوعة ومتفرقة في الشعر والبغر، إلا أن القرآن والحديث النبوي بفصاحتهما الرائعة وأساليب إعجازهما المتميزة قد جلباها إلى إطار واحد في نغم ورنة واحدة.
الحديث النبوي في اللغة العربية بين التنصيص والتزيين
وإن مما عرفناه بيقين أن الحديث النبوي هو المصدر الثاني في الشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم الذي به بينت آياته وبه شرعت أحكام ما لم يذكر فيه. في الحقيقة، القرآن والحديث هما مدارا لدين الله الإسلام. وكما أتما دورهما في التشريع، أتما دورهما في تنصيص لغة الجاهلية المتفرقة في اللهجات إلى عربية فصحى متسقة الأساليب ومتعانقة الأطراف. فأما الكلام في إيجاز اللغوي للقرآن فلا حاجة إليه، لأنها واضحة كبياض النهار، والحديث كذلك إلا أننا في حاجة ملحة إلى مزيد من البيان والتفسير لما فيه من الغوامض والأسرار التي لم يطلع عليها عامة الناس.
عندما نبحث ونمحص في الألفاظ والمعاني للأحاديث المنهلة من فيه المبارك صلى الله عليه وسلم، لننتهي إلى معرفة أنها أفصح ما نطق بالضاد من كل وجوه الإعجاز والبيان لفظًا ومعنى. كيف لا ولأنه أفصح العرب كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أفصح العرب وإن كنت من قريش". وإن لفتنا أنظارنا إلى الأحاديث لنجد أن أعظم ميزة للغة الحديث أنها في فصاحة يدركها المخاطب بأدنى تفكر بلا أي تكلف ولا تعب، وأنها قد اعتنت بمقصود أقصى للكلام أو التحدث وهو الإفهام من الطرف المقابل يعني المخاطب. حيث نرى في الأحاديث أن رسول الله إذا سلم سلم ثلاثًا، وكان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه. وعلى هذا يدل حديث عائشة أم المؤمنين: "كان كلام النبي صلى الله عليه وسلم كلامًا فصلاً يفهمه كل من سمعه". وقد روي أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم يحفظه كل من في مجلسه.
وأيضًا قد قام الحديث النبوي بتوحيد اللهجات العربية المنتشرة المذكورة إلى نهج وسلك واحد هو عربية القرآن والحديث النبوي، البعيدة عن الخطأ والزلل، المنصِيصَةُ من البشاعة اللغوية والخلل البلاغي، حتى أصبح العرب بأسرها يسارعون نحو العربية الفصحى مع أن لهجتهم فصيحة أيضًا، إلا أنهم أدركوها أفصح وأبلغ في المقصود. كما أننا نصف الكلام أبلغ وأفصح حينما يصل إلى منزلة الجوامع، وهي أفصح كلام عرف عليه البشر، وهي نفسها التي جعلت القرآن معجزًا بغض النظر عن أنه كلام الله. كذلك الحديث النبوي راعى هذه الميزة بأسرها طوال طريقه كله، ذلك مثبت بقوله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالرُّعْبِ وَأُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ". ونَمْكِنُ أن نرى الجاحظ يشهد بفصاحة النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه "البيان والتبيين": "هو الكلام الذي قلَّ عدد حروفه وكثر عدد معانيه، وجلَّ عن الصنعة ونُزِهَ عن التكلف، استعمل مع المبسوط في موضع البسط والمقصود في موضع القصر، وهجر تقريب الوحشي، ولم يتكلم إلا بكلام قد صرح بالعمق، وشُدَّ بالتأييد، ويُسِّرَ بالتوفيق". وما وجدتُ لهذا مثالًا رائعًا في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "تَرْكُ الْعِشَاءِ مَهْرَمَةٌ"، هذه كفيلة لندرك الأناقة والعمق في كلام صلى الله عليه وسلم الذي جمع بين الأوامر والنواهي ودل على الآثار المترتبة عند ترك العشاء والآثار عند تناولها بكلمة واحدة. وهكذا نَمْكِنُ أن نجد كل الأحاديث الواردة على هذا النهج المستقيم.
اللغة العربية في بحر المفردات وخزانة الألفاظ
مهما كانت اللغة العربية ذات ثروة لفظية مقارنة بلغات أخرى حتى اللغات العالمية، إلا أن للحديث النبوي الشريف دورًا فعالًا في إثراء اللغة العربية وتزويدها وتزيينها بالألفاظ الجديدة والعبارات التي لم تكن العرب على علم بها من قبل، ولم يطلع عليها سمع ولا بصر. كما قال ابن الفارس في كتابه "الصَّاحِبِيِّ فِي فِقْهِ اللُّغَةِ": "كانت العرب في الجاهلية على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم وآدابهم ونسائكهم وقرابينهم، فلما جاء الله تعالى بالإِسْلَامِ حالت أحوال، ونسخت ديانات، وأبطلت أمورًا، ونقلت من اللغة ألفاظًا من مواضع إلى مواضع أخر، بزيادة زيدت وشرائع شرعت وشرائط شرطت، فعَفَّ الْآخَرُ عَنِ الْأَوَّلِ". ومن ضوء هذا القول لابن الفارس نَمْكِنُ أن نفهم وننتهي إلى نتيجة أن الحديث النبوي قد غيَّر نظام لغة العرب المنتشر المبتذل بينهم على نطاق واسع إلى نظام وترتيب ليس في العالم أحسن ولا أطيب منها، ولا يتحقق لأي لغات أخرى في الحال ولا في المآل، بتنصيص الموجود وإسهام بعض من جانبه المنهل من منبعه الأصيل من ألفاظ وعبارات وحوارات لم يعرفها فصحاء العرب وبلغاؤها قبل تعريف الحديث بها للعالم.
![]() |
| صورة رمزية عن الموضوع |
ولنَجِدْ أمثلة غزيرة عندما ننظر أو نبحث في كتب الأحاديث التي أُلْفِيَتْ من القرن الثاني الهجري إلى آخر ما أُلِفَ أُنْفًا، لا بل نجد واقعات حديثية يسأل الأصحاب رسولهم عن اللفظ الَّذِي نطق به صلى الله عليه وسلم، ومن أمثالها ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْهَرْجُ"، قَالُوا: "وَمَا الْهَرْجُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟" قَالَ: "الْقَتْلُ الْقَتْلُ". ومنها عبارات بلاغية ذات وجهين: الوجه الإعجازي والوجه الأخلاقي التي لم تسمع أذان العرب ولم تر أبصارهم من قبل، مثل: "لَا يَنْتَطِحُ فِيهِ عَنْزَانُ"، "حَمِيَ الْوَطِيسُ"، "مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ"، "لَا يَلْسَعُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ"، "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ"، "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى"، "النَّاسُ كَأَسْنَانِ الْمِشْطِ". وكل هذه المذكورة وما لم يُذْكَرْ من الأمثال تعكس مكانة الحديث ودوره في تحلية اللغة العربية مظهرًا أفضل اللغات من حيث البلاغة والفصاحة وكثرة المفردات وظاهرة المعاني.
الحديث النبوي نحو إثراء معاني الألفاظ
كما أننا نعرف أن الألفاظ إنما توصف فصيحة أو ناقصة بقدر دورها الَّذِي تُؤَدِّيهِ في إفادة المعاني. فإن كان اللفظ يفيد معنى أبلغ كان اللفظ أيضًا أبلغ في المقصود، وإن عجز عن إفادة المعنى يُوصَفُ اللفظ بأنه ذو عيب وخلل في الفصاحة. فالحديث النبوي قد لعب دورًا قياديًا في إثراء معانِي كلمةٍ وَاحِدَةٍ، فرسولنا صلى الله عليه وسلم قد عَرَّفَ للعرب معانِيَ جَدِيدَةً لأَلْفَاظِهِمِ الَّتِي كَانُوا يَسْتَخْدِمُونَهَا طَوَالَ مُخَاطَبَتِهِمْ وَمُنَاقَشَاتِهِمْ كُلِّهَا. في الحقيقة، الحديث النبوي قد شَرَعَ للكلمات معانِيَ شَرْعِيَّةً مَعَ أَنَّ لَهَا مَعَانِيَ أُخْرَى فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ، وفي هذا الطريق قد رَفَعَ الحديث مكانة الألفاظ العربية في مؤشر الأولويات. وهذه ميزة خاصة للألفاظ العربية لم تتحقق لأية لغات أخرى، لأن اللغة العربية بتدخلات الشريعة قد ارتفعت إلى المقام الأعلى. والأحاديث النبوية الواردة تعكس الدعوى التي قُدِّمَتْ أمامكم من أن الحديث الشريف قد أَثَّرَ في اللغة تأثيرًا من حيث تغريز ألفاظها بالمعاني والوجوه. على سبيل المثال، ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ". وما أرى مساهمة كبرى للحديث في اللغة العربية أنه تَمَكَّنَ لَهُ أَدْوَاءُ الْمُجَرَّدَاتِ وَعَرْضُهَا عَلَى مَظْهَرِ الْمَحْسُوسَاتِ، كما تعكس أَكْثَرَ في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثلًا في الحديث: "ذَاكَ طَعْمُ الْإِيمَانِ"، "ذَاكَ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ"، أي أنه صلى الله عليه وسلم وَضَعَ نَظَرِيَّةَ الْإِيمَانِ عَلَى الْأَمْرِ الْمَحْسُوسِ لِلْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ ذَلِكَ الطَّعَامُ، لِتَسْهِيلِ الْفَهْمِ وَالْإِدْرَاكِ.
ومن الألفاظ التي طَوَّرَ الحديث النبوي لها معانِيَ جَدِيدَةً كلمة "المؤمن"، والمسلم، والكافر، والمنافق. لأن العرب إن كانوا يعرفون "المؤمن" من الأمان واليَمِينِ وهو التصديق، لكن زادت الشريعة شُرُوطًا وَأَوْصَافًا بِهَا سُمِّيَ الْمُؤْمِنُ بِالْإِطْلَاقِ مُؤْمِنًا. منها أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، قلبًا ولسانًا وتطبيقًا. وكذلك "الْإِسْلَامُ" وَالْمُسْلِمُ، العرب كانوا يعرفون من السَّلامِ إِسْلَامَ شَيْءٍ أَيْ خَلْوَهُ مِنَ الْخَلَلِ وَالْفَسَادِ. ثم جاء الشرع بحَدٍّ جَدِيدٍ مِنْهُ، حَتَّى لَوْ بَحَثْنَا فِي كُتُبِ الْأَحَادِيثِ لَنَجِدْ أَمْثِلَةً غَزِيرَةً عَدِيدَةً الَّتِي نَسْتَدْلُّ بِهَا عَلَى مَا قُلْتُ أَنْفًا، وَإِلَيْكَ الْأَمْرُ لَوْ شِئْتَ.
دور غريب الحديث في تطور المعاجم وحفظ اللهجات من الانقراض
ومما لا نستطيع إنكاره، دور المعاجم في حفظ ثروة اللغات بحيث يستحيل قوامها بدونها. المعاجم هي نفسها خزانة اللغات من حيث أن الألفاظ والمعاني التي لا يسع حفظها بدون هذه المعاجم. حتى لو أن العالم كله نسي الأشياء فالمعاجم لن تنساها أبدًا بل تغمرها بحضن صفحاتها وتحفظها. ومن هذا نَمْكِنُ أن ندرك أهمية المعاجم في حفظ اللغات، وفي هذا السياق يزداد أيضًا فضيلة غريب الحديث الذي تسبب في ولادة كثير من المعاجم والقواميس، مثل معجم "العَيْنِ" لِخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَرَاهِيدِيِّ الَّذِي رَكَّزَ مُعْجَمُهُ فِي إِخْرَاجِ أَلْفَاظٍ غَرِيبَةٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَاسْتَمَرَّ فِي إِدْرَاكِ مَعَانِيهَا مُسْتَدِلًّا مِنَ الْحَدِيثِ نَفْسِهِ، حَتَّى أُلْفِيَ بَعْدَهُ مُعَاجِمُ شَتَّى مُقْتَدِيَةً فِي مَسْلَكِهِ الَّذِي سَلَكَهُ وَمِنْهَجِهِ الَّذِي نَهَجَهُ.
كما عرفنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الوفود والقبائل بِلَهْجَاتِهِمْ، فَلِذَلِكَ نَمْكِنُ أَنْ نَرَى فِي كُتُبِ الْأَحَادِيثِ أَلْفَاظًا غَرِيبَةً تَوَلَّدَتْ مِنْ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ مَعَ مُخْتَلِفِ اللَّهْجَاتِ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ بَعْدَ فَنٍّ مُسْتَقِلٍّ الَّذِي سُمِّيَ بِغَرِيبِ الْحَدِيثِ. فَالْعُلَمَاءُ، خَاصَّةً الْمُحَدِّثُونَ، قَدِ اعْتَنَوْا أَكْبَرَ اعْتِنَاءٍ فِي هَذَا الْفَنِّ فَأَلْفُوا فِيهِ كُتُبًا عَدِيدَةً، كَمَا أَشَارَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ "النَّهَايَةِ" عَنْ تَارِيخِ التَّأْلِيفِ فِي عِلْمِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ، وَذَكَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَ هَذَا الْفَنَّ شَيْئًا أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى، ثُمَّ جَاءَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ فَأَلْفَى كِتَابَهُ الْمَشْهُورَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَالْآثَارِ وَقَدْ أَفْنَى فِيهِ عُمْرَهُ إِذْ جَمَعَهُ فِي أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَاسْتَمَرَّ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ وَالْحَدِيثِ فِي التَّأْلِيفِ فِي هَذَا الْفَنِّ، مِثْلَ إِبْرَاهِيمَ الْجَرْمِيِّ وَالْمُبَرَّدِ، ثُمَّ جَاءَ الْخَطَّابِيُّ فَأَلْفَى فِي الْغَرِيبِ كِتَابًا جَامِعًا، ثُمَّ جَاءَ الْهُرَوِيُّ وَأَلْفَى كِتَابًا جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ غَرِيبِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَرَتَّبَهُ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، ثُمَّ جَاءَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَلْفَى "الْفَائِقَ"، ثُمَّ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِهِ "النَّهَايَةِ" الَّذِي يُعَدُّ أَجْمَعَ مَا أُلْفِيَ فِي هَذَا الْعِلْمِ وَأَحْسَنَهُ وَأَشْمَلَهُ. وَمِنْ هَذِهِ كُلِّهَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَفْهَمَ دَوْرَ فَنِّ غَرِيبِ الْحَدِيثِ فِي حِفْظِ لَهْجَاتِ الْعَرَبِ الْمُخْتَلِفَةِ الْفَصِيحَةِ الَّتِي كَانُوا يُعَدُّونَهَا رَسْمِيًّا فِي فَتْرَتِهِمْ، وَفِي دِفَاعِهَا عَنِ الْانْقِرَاضِ الَّذِي لَوْلَا هَذَا الْفَنُّ لَمَا وُجِدَتْ مُحَفَّظَةً.
خاتمة
في الخلاصة، أن الحديث النبوي قد طَوَّرَ اللغة العربية من اللغة الجاهلية إلى أحد اللغات العالمية الْمُتَلَقَّاةِ بِالْقَبُولِ بَيْنَ أَرْبَعِ مِائَةِ مِلْيُونٍ مِنَ النَّاطِقِينَ وَغَيْرِ النَّاطِقِينَ بِهَا. وَقَدْ تَشَرَّفَ الْحَدِيثُ بِالْعَرَبِيَّةِ بِمَظْهَرٍ إِلَهِيٍّ الَّذِي بِهِ يَبْقَى وُجُودُهَا، فَلَوْلَاهُ لَعَلَّهَا انْقَرَضَتْ بِانْقِرَاضِ قَوْمِهَا كَمَا وَقَعَ لِعَدِيدٍ مِنَ اللُّغَاتِ. فَتَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ وَأَكْرِمُوهَا لِأَنَّ نَبِيَّنَا عَرَبِيٌّ، وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ، وَكَلَامُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ. وَأَيْضًا كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ فَإِنَّهَا تُثَبِّتُ الْعَقْلَ وَتَزِيدُ فِي الْمَرْءَةِ".

0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا