ادعمنا بالإعجاب

أحمد بن حنبل ومنهجه الاجتهادي

 بقلم: د. محمد إسلام مدكور

الاختلافات الفقهية وأسبابها إجمالاً

من الحقائق الثابتة اختلاف الناس في تفكيرهم وتباين وجهات نظرهم، وقد يكون منشأ الخلاف:
أ. غموضاً في الموضوع، فإن الحق لم يصبه الناس في كل وجوهه، ولا أخطأوه في كل وجوهه، بل أصاب كل إنسان جهة.
ب. عدم تبيّن كل وجهة نظر الآخر على الوجه الصحيح.

ومن الواضح أنه لم يكن هناك مجال للاختلاف في عصر الرسالة، لا في أحكام العقائد ولا في الأحكام العملية، إذ لم يكن الاجتهاد مصدراً تشريعياً للأحكام في هذه الفترة، وإنما كان مصدر الأحكام جميعها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما يوحى إليه من ربه. وكان اعتماد الصحابة -رضوان الله عليهم- في اجتهادهم على ما لمسوه من روح التشريع في فترة الوحي، مما كوّن عندهم ذوقاً فقهياً موحداً في تفهم مقاصد التشريع، بمعرفتهم التامة بأساليب القرآن الكريم والسنة، ومعاصرتهم للتشريع، مما كوّن عندهم دعائم يرتكز عليها استنباطهم.

وقد اقتضت الفتوحات الإسلامية المتتالية في عصر الصحابة مواجهة مسائل جديدة دفعتهم إلى الاجتهاد للتعرف على حكم الله، لأن الله سبحانه له حكم في كل مسألة. وقد كانوا في اجتهاداتهم أحياناً يوافقون ما يعلمون فيه بعد ذلك من سنة، فيحمدون الله على ذلك. وكانوا أحياناً يعلمون في الواقعة التي اجتهدوا فيها حديثاً مخالفاً لما انتهوا إليه، فسرعان ما يعدلون عن رأيهم بعد التثبت من صحة الحديث. وكان فريق منهم يلاحظ في اجتهاده مقاصد الشارع من شرع الأحكام، وينفذون إلى المعاني ويعلمون الأحكام.

واجتهاد الصحابة شمل كل وجوه الرأي مع وعي كامل للأساس العقلي الذي يقوم عليه الرأي والدور الذي يؤديه في إظهار الأحكام الشرعية. وعن فقهاء الصحابة الذين تفرقوا في البلاد أخذ التابعون وتأثروا بهم. ثم في العصر التالي -وكان قد اتسع اختلاط الأعاجم بالعرب وكثرت الوقائع التي لم يسبق لها مثيل- تنوعت طرائقهم في الاجتهاد، وكثرت الاشتباهات والاحتمالات في فهم النصوص، إذ لم تبق الملكة اللسانية على سلامتها، مما أدى إلى اختلاف نظرة الأئمة المجتهدين وتباين مناهجهم.

وقد كان للبيئة غالباً أثر في تكوين الاتجاه الفقهي لدى الفقيه، مسايرة منه لمصالح الناس ودفعاً لوقوعهم في الحرج. ولهذا كانوا يستخرجون أحكاماً للوقائع والحوادث في ضوء ما اطمأنوا إليه من مرونة التشريع التي ترتبط بعموم الدعوة وشمولها.

وإن أدلة هذه الأحكام منها ما يكاد يكون محل اتفاق لا ينازع فيه إلا القليل، ومنها ما كان النزاع في اعتباره دليلاً وعدم اعتباره محتدماً والجدل فيه شديداً. وكل ذلك أثر من آثار مسلك القرآن الكريم في أنه لم يستوعب الأحكام التي يحتاج إليها الناس، اكتفاء بوضع الأساس تاركاً التفصيل للمجتهدين في كل عصر.

ولقد كان الفقهاء يختلف بعضهم مع بعض تحت راية الإسلام، وهم أشد ما يكونون ولاءً وصفاء بعضهم مع البعض الآخر، والاختلاف أمر يتفق مع طبيعة الاجتهاد. فالفقهاء جميعاً يحومون حول قصد الشارع، كل يبتغي الوصول إليه، وكل مثاب على ما بذل من جهد. وما كان اختلاف الفقهاء ضاراً ولا معيباً، بل هو دليل النضج الفكري. كما أن التعصب لم يعرف طريقاً إليهم في العصور المتقدمة، بل كان كل إمام ينبه مريديه بأن رأيه وفقهه غير ملزم. وقد اعتبر الإمام الشاطبي (الاعتصام، جـ ٢، ص ١٤٥) مراعاة خلاف العلماء من جملة أنواع الاستحسان.

أسباب الاختلافات الفقهية

وأسباب الاختلافات الفقهية في الواقع ترجع بالنسبة لما ورد فيه نص إلى أن الكثير من نصوص القرآن الكريم المتعلقة بالأحكام التشريعية تحتاج في دلالاتها إلى إظهار أو تفسير أو بيان. وإن من شأن السنة أن تقوم بالبيان، يقول الله سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: ٤٤). والبيان يكون بالسنة القولية اتفاقاً، كما يكون بالسنة الفعلية على ما يرى الجمهور إلا من شذ.

كما أن السنة قد تفاوت الصحابة في حفظها، فمنهم المكثر تبعاً لملازمته لالرسول في أوقات كثيرة، ومنهم المقل. وإذا كان الاختلاف بينهم بالنسبة للنص القرآني قاصراً على دلالة بعض الألفاظ، فإنه بالنسبة لالسنة يتجاوز ذلك، إذ يشمل الاختلاف في صحة الحديث نفسه واختلافهم في مدلول الحديث.

فالوثوق بما يروى على أنه سنة مبني على الوثوق برواتها، وقد اختلفوا في طريق هذا الوثوق، كما اختلفوا في دلالة بعض النصوص من ناحية عموم دلالة اللفظ وخصوصه، ومن ناحية دلالة اللفظ على معناه الحقيقي والمجازي، ومن ناحية تقييد المطلق أو إبقائه على إطلاقه. وهكذا فالنصوص عموماً محال النظر فيها فسيح: فمنها البين الواضح، ومنها الخفي المشكل، ومنها المحكم الذي لا يحتمل التأويل ولا الصرف عن الظاهر، ومنها ما يحتمل ذلك، ومنها ما يتعارض مع غيره في الظاهر، ومنها ما لا يتعارض، وكل هذا له أثر في اختلاف النظر.

أما ما لم يرد فيه نص، فمن الواضح أن يكون مجال الاجتهاد فيه أبعد، واختلاف الرأي فيه أوسع، إن العقول متفاوتة، والاتجاهات متغايرة، والعوامل الخارجية التي تؤثر على منهج الفقيه في الاستنباط مختلفة. وإذا كان الاختلاف في دائرة النص يحكمه النص نفسه فلا يخرج الخلاف عن دائرته، فإن محال الاجتهاد فيما لم يرد فيه نص طليق لا يقيده شيء سوى الالتزام بروح التشريع وقواعده العامة.

ولا بد لتصور الجهود العقلية من وجود طريقة متبعة في التفكير، ومن الواضح البين أن المفكرين يختلفون فيما بينهم في هذه الطرق، مما يؤدي إلى اختلاف النتائج التي يصلون إليها غالباً تبعاً لذلك. فإن الناس بفطرتهم مختلفون فيما يتفقهون من الأمور وما يسلكون من طرق البحث والاستنباط:

ففريق منهم لا يبخس الألفاظ دلالتها وما لها من حق، ولكنه يتغلغل في معانيها وسبر أغوارها وتحري مراميها. وفريق آخر لا يضيع عنده حق المعاني، ولكنه يرعى ذلك بقدر ويهاب التغلغل في التعليل والقياس، ويقف عندما تدل عليه الألفاظ.

وهكذا كان شأن المجتهدين. فكلهم يعطي الألفاظ أتم الرعاية، وجلهم يقيس الأشباه بنظائرها، ولكنهم مختلفون في مدى الاتجاه نحو معاني الألفاظ وسبر أغوارها أو الوقوف عند ظواهر الألفاظ.

ففريق يتذوق معاني الألفاظ ويغوص بحثاً عن العلل، ولهم في هدي الرسول -عليه السلام- أعظم معين، فقد كان -عليه السلام- حريصاً على التوجيه إلى المعاني وتذوق أسرار التشريع. فقد روى أحمد في سنده أنه قال لمن سأله: "أيقضي أحدنا شهوته ويؤجر؟"، قال: "أرأيت لو وضعها في حرام أكان يأثم؟"، قال: "نعم"، قال: "فكذلك يؤجر، أفتجزون بالشر ولا تجزون بالخير؟"

وروى البخاري في التاريخ عن ابن عباس أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟"، قال: "حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ فاقضوا، فالله أحق بالوفاء". وهذه هي سنة القرآن في مخاطبة العقول ودعوتها إلى النظر والتدبر في جميع الأمور، وهذا هو توجيه القرآن للناس دائماً، فقد خاطب العقل وجعله مناط التكليف، وخصوصاً فيما يتعلق بأمور الدنيا وبمعرفة الخالق وطاعته.

وأما الفريق الثاني فقد كان يهاب التغلغل في التعليل والقياس، ولا يضيع من هذا عنده حق المعنى، لكنه لا يغوص فيه، وآثر ما يراه احتياطاً في الوصول إلى الحكم. وقد شجع هذا الفريق على هذا المسلك كثرة بضاعته من الحديث، وعنايتهم الفائقة بالتثبت منه، ولذا فقد تفرق الكثير منهم في الأمصار لجمع الحديث. وقد أخضع هذا الفريق الحياة بأسرها، بما فيها الحياة التشريعية -إن صح هذا التعبير- على وفق القواعد المستمدة من النصوص. حتى يمكن أن يقال إن حياتهم ومنهجهم استمرار للسنن القانونية في الشرع الإسلامي، وكان هذا يتضح في مسلك الإمامين الشافعي وأحمد.

ومن وراء هذين الاتجاهين، نجد من يقف عند ظواهر النصوص وينكرون ما للمعاني من دلالة، ولا يقولون بتعليل ولا قياس. فالنصوص عندهم بظاهرها تفي بالأحكام، فلا اجتهاد إلا للوصول إلى حكم الوحي في نطاق تفهم المراد من اللفظ. وكان هذا مسلك داود الظاهري ومن نهج نهجه، ولكل فريق موازين معينة يهتدي بها في تفكيره ويعتمد عليها في استنباطه، وتكون له منهجاً خاصاً يتميز عن منهج غيره الفكري.

والواقع أن اتباع منهج معين في استنباط الأحكام أمر ملازم لوجود الفقه، لأنه حيث يكون فقه يكون حتماً منهج لالاستنباط. وإن كان هذا المنهج لم يتميز بوضوح في عهد الصحابة والتابعين، إلا أن فقههم وفتاواهم لم تكن إلا نتيجة منهج في نفس الفقيه. فكان منهم من يميل إلى الرأي، ومنهم من يتبع المصلحة حيث لا نص، ومنهم من يقف عند النص. يقول الرازي: كان الفقهاء يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة وفي كيفية معارضتها وترجيحها، حتى استنبط الشافعي علم أصول الفقه. (لكن يروى ابن النديم أن أبا يوسف الفقيه الحنفي أول من دون علم الأصول. كما جاء في كتب الشيعة الجعفرية أن الإمام جعفر الصادق أول من كتب في علم الأصول.) ووضع للخلق قانوناً كلياً يرجع إليه من مراتب أدلة الشرع.

وهكذا فإن مذهب كل إمام يقوم الاستنباط فيه على منهج خاص، إن لم تكن موازينه مسطورة مدونة فهي معتبرة في ذهن الإمام، واضحة في طريق معالجته للأمور وأخذه لالأحكام، مما تعتبر أصولاً فقهية له. والأصول قانون عاصم المذهب الفقهي من الخطأ في الاستدلال على الأحكام.

والفقهاء وإن اتفقوا على أن الكتاب والسنة مصدران أساسيان، واتفقوا على الأخذ بما أجمع عليه الصالحون، واتجه الكثير منهم إلى أن الحادثة التي لم يرد فيها نص صريح مرجعها إلى النص عن طريق الاجتهاد والقياس، أو مرجعها إلى القواعد العامة لالشريعة. لكن لكل إمام منهجه الخاص في أخذ الأحكام من هذه الأدلة.

فهم وإن اتفقوا على الأخذ بالنص إذا لم يعارضه نص آخر، فإنهم قد يختلفون في مدلول بعض النصوص، فبعضهم يأخذه على ظاهره، والبعض يتعمق في معناه. وعند تعدد النصوص وتعارضها في الظاهر، فالبعض يذهب إلى الجمع والتوفيق بين النصوص، بينما يأخذ البعض بقاعدة النسخ والترجيح، ومن ذلك عدة الحامل المتوفى عنها زوجها.

وبالنسبة لالسنة، فإن أسلوبهم يختلف، فقد يسأل البعض عن حكم شرعي في حادثة فيقول: قال رسول الله كذا، على حين أن الآخر يجيب بنفس الحكم عن طريق الفتوى المأخوذة من الحديث دون إسناد الحكم المصدره.

وإذا لم يوجد نص، فقد يتوقف البعض عن الفتوى ولا يتجرأ على استعمال الرأي والقياس، على حين أن الآخر يتعرف على الحكم عن طريق القياس أو الحمل على النصوص العامة، ومن هنا وجد الاختلاف في المنهج، وقد ترتب على ذلك الاختلاف في الأحكام.

وبعد هذا التمهيد الإجمالي الذي قصدنا به بيان الاختلافات الفقهية، طبيعتها وأسبابها، ليكون بمثابة مدخل لموضوعنا الأصلي الإمام أحمد ومنهجه الاجتهادي، فإننا نبدأ الكلام أولاً عن التعريف بالإمام أحمد متبعين بعد ذلك بيان منهجه.

أولاً: الإمام أحمد بن حنبل

نشأته

أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال، عربي من جهة أبويه. حملت به أمه في مرو من أعمال خراسان حيث كان يقيم والده، وولد على الراجح ببغداد في ربيع الأول سنة ١٦٤ هـ حيث انتقل إليها والده الذي مات بعد مولده بسنتين تقريباً، فتعهدته أمه ووجهته إلى علوم الدين، فحفظ القرآن وعلوم اللغة. وظهرت عليه من وقت حداثته الألمعية مع الإناة والتقى، وكان موضع ثقة الجميع. وتنبأ له الهيثم بن جميل بمكانته، إذ قال: "إن عاش هذا الفتى فسيكون حجة على أهل زمانه".

ومما يروى أن أسرته كانت تعمل لحساب الخليفة العباسي، فكان عمه يرسل بانتظام البعض إلى الولاة عن أخبار بغداد التي يتحسسها. وكان أحمد لا يرتضي هذا الصنيع من عمه، حتى إنه في أحد الأيام أعطاه عمه التقرير السري ليوصله إلى الوالي الذي يعده بدوره ليرسله لالخليفة، فما كان من أحمد إلا أن تورع عن المشاركة في هذا، فأعدم الرسالة ولم يوصلها، فلما علم الوالي بهذا الصنيع منه قال: "هذا غلام يتورع، فكيف نحن؟"

ويروى أنه كان يعرف الفارسية لا تعليماً وإنما تلقيناً وأخذاً من أسرته التي أقامت بخراسان فترة، حيث كان جده والياً على سرخس، إحدى ولاياتها. يقول الذهبي: قدم على أحمد من خراسان ابن خالته ونزل عنده، وكان أحمد يسأله عن خراسان وأهلها، وربما استعجم القول على الضيف، فيكلمه أحمد بالفارسية.

اتجاهه إلى دراسة السنة

في هذه الفترة من الزمن، بدأ ينفصل علم الحديث عن علم الفقه، فقامت نفس أحمد لدراسة الحديث وعلم الرواية، وتعرف حال الرواة للتمييز بين صحيح الحديث وضعيفه، وكذلك آثار الصحابة والتابعين. وكان أول من تلقى عنه الحديث هو القاضي أبو يوسف الفقيه الحنفي، وتبع هذا أن تعرف منه شيئاً عن فقه الرأي، ولكنه سرعان ما انصرف إلى دراسة الحديث وطلبه من كل محدث يلتقي به أو يسمع عنه، فيسعى إليه مهما بعد مقامه، فأخذ الحديث من علماء الحديث في العراق بمختلف مدنها، والشام، والحجاز.

فمنذ بلغ عمره السادسة عشرة، وكان ذلك سنة ١٧٩ هـ، لزم هيثم بن بشير وأخذ عنه الحديث ببغداد حتى مات هيثم سنة ١٨٣ هـ. ومع هذا، فقد كان يأخذ الحديث عن غيره ممن يلقاهم ويجلس إليهم في هذه الفترة. وبعد موت هيثم، بقي أحمد ببغداد نحو ثلاث سنوات يتلقى علوم الحديث عن المحدثين بها دون أن يخصص لنفسه شيخاً معيناً. وفي سنة ١٨٦ هـ، ابتدأ رحلاته خارج بغداد لطلب الحديث، فرحل إلى البصرة، ثم إلى الحجاز، ثم إلى اليمن، وإلى الكوفة. وتعددت رحلاته إلى هذه الجهات، فقد رحل إلى البصرة خمس مرات، وإلى الحجاز مثلها، والتقى بالشافعي في أول رحلاته إلى الحجاز سنة ١٨٧ هـ، فأخذ عنه الفقه والأصول. ثم التقى به بعد ذلك في بغداد، وكان أحمد قد نضج ووضحت مكانته في علم الحديث، حتى كان الشافعي يقول عليه في معرفة صحة الأحاديث. وكان قد تواعد مع الشافعي عند آخر لقاء بينهما أن يلحقه إلى مصر، لكن لم يتيسر له ذلك لضيق اليد.

وفي رحلة أحمد إلى الكوفة، وجد مشقة وعاش فيها عيشاً خشناً. وكذلك في سفره إلى صنعاء، إذ انقطعت به النفقة وهو في طريقه إليها، فأكرى نفسه وكان يعمل حمالاً حتى وصل صنعاء والتقى بشيخه عبد الرزاق بن همام، فسمع منه الحديث، واستمر يجمع الحديث في صنعاء قرابة السنتين، وكان يكتب كل ما يسمع ويحمل حقائب كتبه في رحلاته على ظهره، واستمر في رحلاته حتى بعد أن بلغ مبلغ الإمامة، وكان يقول: "أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر".

لكن دراسته لالحديث والأثر جرته إلى دراسة الفقه والتعمق فيه والوقوف على التخريجات الفقهية، لأنه كان يدرس الحديث دراسة متفهم لغاياته ومعانيه الفقهية، فالمامه بالفقه كان نتيجة حتمية له، وبخاصة أنه التقى بأبي يوسف الحنفي ودرس عليه في صدر حياته، كما التقى بالشافعي ولازمه فترة ودرس عليه حتى عده الناس شافعي المذهب.

وكان أحمد شديد الكراهة لكتابة شيء غير الحديث وعلومه وفتاوى الصحابة. وكان ينهى أصحابه عن أن يكتبوا عنه أو يرووا عنه غير ذلك، وكان يكره أن ينقل عنه أتباعه الفتيان، وذلك لشدة ورعه. وإنما يحب أن تنقل عنه فقط روايته لفقه الصحابة والتابعين. وروى أن بعض تلاميذه روى عنه مسائل فقهية، فلما وقع نظره عليها غضب. كما يروى أمرنا أن نأخذ العلم من فوق. ولذا فإن أحمد إن رجلاً سأله عن كتابه فقه الرأي، فقال له: "لا"، فقال السائل: "لقد كتبها ابن المبارك". قال أحمد: "ابن المبارك لم ينزل من السماء، إنما لم يكتب في الفقه كتاباً". بل كان ينهى عن ذلك وينهى أصحابه عن القراءة في كتب الفقه المدونة، خشية أن يستغنوا بهذه الآراء الفقهية عن الأحاديث النبوية والأخذ منها.

أثر دراسته للسنة

جمع أحمد بن حنبل بين الفقه والحديث، وكانت معرفته بالفقه -كما قلنا- نتيجة تفهمه الحديث وتعمقه في الوقوف على الأحكام التي تتضمنها الأحاديث، فضلاً عن معرفته بفقه الرأي عن طريق أبي يوسف، ومعرفته بفقه المدرسة الأخرى عن طريق الشافعي. ويغلب على الظن أنه وقف على آراء الفرق الأخرى كالمعتزلة والشيعة أثناء رحلاته لطلب الحديث، وإن كان لم يلم بها إلماماً كاملاً أو يتعمق فيها.

إذن، عرف أحمد فقه أهل السنة جيداً، والم به إلماماً كاملاً، وبخاصة فقه الكتاب والسنة، حتى عرف بأنه فقيه أثري. وإن كان بعض المؤرخين قد عده من المحدثين ولم يعده من الفقهاء، مستندين إلى أنه لم يترك كتاباً فقهياً، وإنما ترك المسند في الحديث الذي رتبه ترتيب إسناد، فخصص لكل صحابي مسنداً، فجمع رواياته التي بلغته دون نظر موضوعها، وهو يحتوي على أكثر من أربعين ألف حديث. فهو حتى في جمعه الحديث لم يصنفه تصنيفاً فقهياً كما فعل مالك في الموطأ، ولذا فإن القاضي عياض يقول عنه: "إنه دون الإمامة في الفقه".

لكن إذا ما نظرنا إلى ماضيه الدراسي ولقائه بكل من أبي يوسف والشافعي وأخذه الفقه عنهما، فضلاً عن معرفته بفقه الصحابة والتابعين مما جمعه من آثار، وتبينا أن ظروفه اقتضت أن يذيع صيته وأن يعتبره الناس مرجعاً لهم في الفتوى، فيفدون إليه من كل جهة للتعرف على حكم الله في كل ما يقع لهم، وبخاصة بعد محنته التي عذب فيها وسجن، مما جعل الناس تتعاطف معه وتنزله في نفوسها منزلة رفيعة.

نجد من كل هذا ما يطمئننا إلى أنه اجتمع له فقه كثير، وأن فقهه كان خصباً وحياً، وخاصة في أمور المعاملات التي يرى أن الأصل فيما انعدم فيه منها النص الإباحة لا الحظر. كما نجد مما جمعه تلاميذه أن له فتاوى فقهية كثيرة ونظرات فقهية أصيلة تدل على ملكة فقهية وعمق الفكرة.

يقول ابن القيم: كتب من كلامه وفتواه أكثر من ثلاثين سفراً، ومن الله سبحانه علينا بأكثرها، وجمع الخلال نصوصه في الجامع الكبير، فبلغ نحو عشرين سفراً أو أكثر، ورويت فتاواه ومسائله، وحدث فيها قرناً بعد قرن، فصارت إماماً وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم.

وابن حنبل، وقد تعرف على فقه الرأي وفقه الحديث، نجده أعرض عن فقه الرأي ورغب في فقه الحديث، وهذا أمر طبيعي لأنه يتفق مع دراسته لعلم الحديث وكثرة بضاعته منه، والذي يتفق مع ما عرف به من شدة الورع وتعلقه بالصحابة وتتبع آثارهم. وقد تأثر بالشافعي إلى حد بعيد، جعل الناس ينسبونه إلى مذهبه، كما أعجب بالضوابط والمقاييس التي وضعها، وأعجب أيما إعجاب بعقليته الفقهية المنظمة. كما تأثر بشخص سفيان الثوري دون أن يلقاه، ويقول: "إنه الإمام، وإنه لا يتقدمه في قلبي أحد".

مجالس علمه وحلقات درسه

لم يقبل أحمد أن ينصب نفسه للإفتاء إلا بعد أن بلغ الأربعين من العمر، لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- لم يكلف بالدعوة إلا في هذا السن. غير أن ذلك لم يمنعه من إجابة من جاءه مستفتياً قبل بلوغه هذا السن. وأيضاً فإن شيوخه كانوا على قيد الحياة قبل بلوغه الأربعين، فمنعه أدبه ووفاؤه لهم أن ينصب نفسه للإفتاء في حضرتهم، ولذا فإنهم لما ماتوا وكان قد تجاوز الأربعين، وكان قد ذاع صيته وعرفه العامة والخاصة، جلس للدرس بالمسجد والتف حوله المريدون وكثر عددهم كثرة تفوق التصور وتلفت النظر. ولم يكونوا جميعاً طلاب حديث أو فقه أو فتيا، بل كان منهم من يريد الاتعاظ به والتعرف على خلقه وأدبه.

كان مجلسه يغلب عليه الوقار والسكينة، لا يخرج ولا يلهو، ولا يسمح بشيء من ذلك في مجلسه، لأنه يرى أن ما يشتغل به عبادة يتقرب بها إلى الله. نعم، كان ابن حنبل صالحاً زاهداً لا يحب الظهور، فكان يقول: "أريد أن أعيش في بعض الشعاب حتى لا أعرف، فقد بليت بالشهرة".

كان يحيا حياة سلفية محضة، فأبعد نفسه عن كل شؤون الحياة، وتفرغ للسنة وما ترتب على دراستها من فقه، لا يخوض إلا فيما خاض فيه الصحابة. مع أن عصره كثر فيه الجدل الفلسفي والنظر العقلي فيما يتعلق بالعقائد، فأعرض عن ذلك ونهى الناس عن الخوض فيه. وكان درسه دائماً لا يخرج عن الحديث والأثر والفقه المبني عليهما. قال عبد الوهاب الوارق: "ما رأيت مثل أحمد بن حنبل"، قالوا: "وما الذي بان لك من علمه وفضله على سائر من رأيت؟"، قال: "رجل سئل عن ستين ألف مسألة فأجاب فيها بأن قال: أخبرنا وحدثنا". ويقول أحمد بن سعيد الرازي: "ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله ولا أعلم بفقهه من أحمد بن حنبل".

وكان لأحمد مجلسان للدرس: مجلس في منزله يجمع فيه أولاده وخاصته، فيعلمهم السنة والفقه، ومجلس في المسجد يجتمع عليه فيه عامة الناس ومعهم أولاده وتلاميذه أيضاً. ويلاحظ أن الإمام أحمد، برغم استيعابه لالحديث وحفظه له، فإنه كان إذا قال حديثاً نبوياً فلا بد من أن يرجع إلى ما كتب، كما أنه كان لا يتكلم حتى يسأل، كي يكون البيان وقت الطلب. غير أنه لما كتب مسنده أملاه على أولاده وخاصته، فإنه فعل ذلك برغبة منه. وكان يحث أصحابه على الرجوع إلى المكتوب دائماً عند الإفتاء، خشية الضلال والخطأ.

ولأنه كان يحيا حياة سلفية صرفة، قاطع الذين يخوضون في غير ما أثر عن السلف، وكان يكره الخوض في الغيبيات، وينهي الناس عن علم الكلام والخوض في الغيبيات، وينهي عن تدقيق النظر في أسماء الله وصفاته.

وكان -رضي الله عنه- مثالاً صالحاً للرجل السلفي. لكن العصر الذي عايشه أثيرت فيه فتنة الكلام في خلق القرآن الكريم، فدفع فيها برغم ابتعاده، فأصابه أوارها. وكان الإمام أحمد يحرص على البعد عن الحكام وعن الشبهات، ونهج منهج الإمام أبي حنيفة، فرفض أن يتولى القضاء. ففي عهد الأمين، وكان الشافعي قريب المنزلة عنده، فكلفه باختيار شخص ليعينه على قضاء اليمن، فاتجهت نفس الشافعي لترشيح ابن حنبل حتى يسهل له الانتقال إلى اليمن لملاقاة شيخه عبد الرزاق وسماع الحديث منه دون كلفة ولا مشقة. ولما عرض عليه ذلك، رفض أحمد شاكراً له قصده، فلما ألح عليه في الطلب غضب وقال: "يا أبا عبد الله، إن سمعت منك هذا ثانية لم ترني عندك". يرفض هذا ويؤجر نفسه حمالاً ليستعين بالأجر على نفقات رحلاته لجمع الحديث، ويعمل بيده ليتكسب ما يسد به نفقات معيشته، يرفض مناصب الحكام وعطاياهم، مع أنه فقير ليس له إلا غلة عقار محدود ورثه عن أبيه، يقنع بها برغم ضالتها، ولا يجد غضاضة في أن يعمل في أي عمل يدوي يعاونه على الكسب الحلال. وكان ينسج أحياناً ويبيع ما ينسجه، وينسخ للناس بعض الكتب بيده نظير أجر.

وقد دفعته الضرورة مرة للاقتراض، فتحرى الشخص الذي يطمئن إلى حل ماله وعدم وجود شبهة فيه، فاقترض منه. ولما ذهب ليردها إليه، قال الرجل: "ما دفعتها إليك يا أبا عبد الله ناوياً استردادها منك، فهي لك". فقال أحمد: "وأنا ما أخذتها إلا وأنا أنوي ردها عليك".

وكان مع حاجته يتعفف عن عطاء الخليفة مثل أبي حنيفة، حتى لو كان العطاء للعلماء وغير خاص به. فيروى أن المأمون دفع عطية لتوزع على شيوخ الحديث، فامتنع أحمد عن الأخذ منها. كما أن المتوكل بعد ذلك عرض عليه المال، فامتنع أحمد معللاً ذلك بأن غيره أحوج منه. وكان إذا اضطر لقبول عطاء الخليفة، خشية أن يفسر الرفض بما يثير حفيظة السلطان عليه، يبادر فيوزعه بالتالي على من يعرف أنهم في حاجة إليه.

وبرغم تشدد أحمد في التعفف والامتناع عن عطايا الخليفة، فإن بعض أقاربه وأولاده كانوا يأخذون من العطايا شأنهم شأن غيرهم، وكان ابن حنبل ينهاهم، فإذا لم ينتهوا يمتنع عن مؤاكلتهم. ومع مواقفه هذه، فإنه لا يرى أن الأخذ من عطية السلطان حرام، وإنما كان ذلك في نفسه موضع اشتباه فقط، بدليل أن ولده سأله ذات يوم عن فضل مال عنده من عطاء الخليفة المتوكل: "هل أحج به؟"، فقال: "نعم"، فسأله: "إذا لم يكن حراماً عندك، فلم لا تأخذه؟"، قال: "هو ليس عندي بحرام، ولكني تنزهت عنه".

القول بخلق القرآن ومحنة ابن حنبل

اشتد الجدل في عصر الإمام أحمد حول خلق القرآن وقدمه، واعتنق المأمون الخليفة العباسي القول بأن القرآن مخلوق وحادث، وطرح الموضوع للخلاف والمناظرة، وطلب من العلماء أن يظهروا رأيهم في ذلك. ويا ويل من خالف رأي الحاكم الذي تشبع به.

خشي بعض العلماء الذين يرون ما لا يراه الخليفة من إظهار رأيهم فيصيبهم أذاه، فالتزموا الصمت، وكان الإمام أحمد بين هؤلاء. لكن الخليفة أمر بإجبارهم على الكلام وإبداء الرأي.

وكان أحمد ممن أصر على الصمت برغم هذا، فما كان من رجال الخليفة إلا أن جمعوا الصامتين وعلى رأسهم أحمد، وكبلوهم بالحديد، وأوقعوا بهم الضرب والتعذيب. فمنهم من آثر السلامة لنفسه فقال بما ذهب إليه الخليفة، ومنهم من مات مصراً على موقفه، ولم يمنعه تكرار الإيذاء والضرب حتى الموت. وبقي أحمد وحده حياً، واتخذ معه رجال الحاكم كل وسائل التعذيب والإرهاب ووسائل الإغراء والتقريب، فلم يجد معه شيء من ذلك. وأراد الله أن يموت المأمون، غير أنه كان قد أوصى من يخلفه بتثبيت هذه العقيدة بين الناس، فما كان من المعتصم إلا أن أمر بجلد الإمام أحمد وسجنه، وبقي سجيناً أكثر من سنتين بشهور، ولما استيأسوا منه أخلوا سبيله. ثم جاء الواثق بعد المعتصم، فمنعه من لقاء الناس والتحدث إليهم والفتوى، فاستمر ابن حنبل محتجباً عن الناس ومختفياً حتى مات الواثق، وجاء المتوكل الذي قرب الفقهاء إليه، ومنع الكلام في هذا الموضوع، وأباح لأحمد الاتصال بالناس والخروج للدرس، وانتهت هذه المحنة. وبرغم أن الإمام أحمد كان قد التزم الصمت وأبعد نفسه عن الخوض فيه لأنه ابتداع، فإنه قد روى عنه أنه قال: "من زعم أن القرآن مخلوق فهو جهمي، ومن زعم أنه غير مخلوق فهو مبتدع". ويروى أنه كتب لالمتوكل عندما سأله عن ذلك رسالة قال فيها: "روى عن غير واحد من سلفنا أنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو الذي أذهب إليه... وإن الكلام في هذا غير محمود".

وإيا ما كان، فقد خرج ابن حنبل من هذه المحنة خروج الأبطال، ولم يزل بعد ذلك اليوم في صعود واعتلاء، حتى اجتمعت القلوب على حبه، وأصبح حبه شعار أهل السنة وأهل الصلاح، حتى قال أحد معاصريه: "إذا رأيت الرجل يحب أحمد فاعلم أنه صاحب سنة".

ورحم الله أحمد، فقد سد بوقفته ثلمة عظيمة كادت تحدث في الإسلام، حتى قال أحد شيوخ البخاري: "إن الله أعز هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة وبأحمد بن حنبل يوم المحنة". ويكفي ابن حنبل فخراً أنه حفظ هذا الدين من أن يتحكم فيه السلطان. مات أحمد في ربيع الأول سنة ٢٤١ هـ، ومشى في جنازته خلق كثير، وقالوا: "دفن اليوم سادس خمسة: الخلفاء الأربعة وعمر بن عبد العزيز وأحمد بن حنبل".

ثانياً: منهج ابن حنبل

أ. منهجه وما يتعلق بالخلافة

كان أحمد سلفياً في فقهه وفي تفكيره العقائدي، ومع إحجامه عن الخوض في الغيبيات والأمور العقائدية وإثارتها بين الناس، فإنه قد أثر عنه شيء في ذلك يدل على اتجاهه ورأيه.

فبالنسبة للإيمان، يرى أنه قول وعمل، وأنه يزيد وينقص. ويرى أن البركة من الإيمان، وأن المعاصي تنقص منه، ويرى أن الإسلام درجة وسط بين الإيمان والكفر، وأن المعصية قد تجتمع مع الإسلام، لكنها لا تجتمع مع الإيمان، ويرى تفويض أمر من مات على المعصية إلى الله.

ويروى عنه إرجاء أمر مرتكب الكبيرة، وأن كل شيء بقضاء الله وقدره، والخير والشر جميعاً، ورجا لمحسني أمة محمد، وتخوف المسيئين منهم، وأن أحداً لم يدخل الجنة بالإحسان ولا النار بالذنب، حتى يكون الله سبحانه الذي ينزل خلقه حيث شاء.

ويقول: "لا يكفر أحد من أهل التوحيد وإن عملوا بالكبائر". وما يفعله الإنسان فبقدر الله. كما يثبت لله كل الصفات التي وصف بها نفسه، فهو سميع بصير متكلم، وليس كمثله شيء، فلا يبحث عن كنه هذه الصفات ولا يحاول التأويل فيها، لأنه يعتبر التأويل خروجاً على النصوص إن لم يكن مستمداً منها.

ويؤمن برؤية الله يوم القيامة، لأنه ثابت بالحديث الصحيح، ويقول: "الحديث عندنا على ظاهره كما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والكلام فيه بدعة". فهو يعتمد في هذا على السنة وحدها دون تأويل واستنباط من النص القرآني، لأن السنة جاءت لبيان ما في القرآن.

وواضح أن منهج أحمد في الأمور الغيبية والعقائدية منهج سلفي. فقد كان الصحابة يتنازعون في كثير من مسائل الفروع، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل أسماء الله وصفاته وأفعاله، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة. وهو بهذا يبعد نفسه عن المتاهات العقلية، ويوفر جهده إلى ما وراءه عمل، وما يحتاجه الناس في حياتهم مما يرجع إلى عباداتهم ومعاملاتهم العامة والخاصة.

رأيه في الخلافة

نهج في موضوع الخلافة منهج الإمام مالك، فأثر طاعة الإمام أياً كان على الخروج على الجماعة، تجنباً للفتن التي تثير القلاقل وتولد الحقد، وحفاظاً منه على وحدة المسلمين وجمع كلمتهم. وكان يرى أن نظام اختيار الخليفة القائم لمن يخلفه لا يبعد كثيراً في جملته عن السنة المتبعة، فقد اختار الرسول -صلى الله عليه وسلم- خليفته بالإشارة، إذ أناب عنه أبا بكر في مرضه للإمامة، واختار أبو بكر عمر للخلافة، واختار عمر ستة عينهم وترك للأمة اختيار واحد منهم.

ولم يؤثر عن أحمد أنه عمد إلى تقديم النصح للحاكم. وإنما الذي عرف عنه أنه كان يتجنب الحكام حفاظاً على نفسه وإشارة للفتن. وكان يركز على إصلاح الرعية وتوجيه الأفراد إلى إحياء السنة والتمسك بسيرة السلف. فهو يرى ما يراه الحسن البصري من أن إصلاح الرعية يؤدي لا محالة إلى إصلاح الراعي.

وكان يحب آل البيت، وفي الوقت نفسه لا يجب أن يطعن في أحد الصحابة، ويروى عنه أنه قال: "إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من أصحاب رسول الله بسوء فاتهمه على الإسلام، ومن انتقص أحداً منهم أو أبغضه لحدث كان منه أو ذكر مساوئه كان مبتدعاً". والمبتدع عنده متهم في دينه.

ومع هذا، فلما كثر الطعن على الإمام في عهد المتوكل، اشتد في الدفاع عنه وقال: "إن الخلافة لم تزين علياً، بل علي زينها". ومع حبه لعلي، فإنه يضعه في نفس الدرجة من الخلافة التي كان فيها بعد عثمان. ولا يسمح بالجدل فيما كان بين علي ومعاوية، ويقول لمن يسأله في ذلك: "تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما كانوا يعملون".

ب. المنهج الفقهي

كان أحمد محدثاً وفقيهاً أثرياً، وكان أفقه قرنائه وأعلمهم بالسنة. يقول القاسم بن سلام: "انتهى العلم إلى أربعة: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وأبي بكر بن شيبة، وأحمد أفقههم". ويقول: "ما رأيت أعلم بالسنة منه". وقد كان أحمد يتميز بحافظة قوية مع وعي وتفهم، يحفظ ما يسمع أو يقرأ ويفهمه جيداً، كما يتحلى بالصبر ونزاهة النفس والعقل، فلا يخوض فيما لم يخض فيه السلف، ولا يفتي في مسألة يعلم فيها فتوى صحابي إلا بها. وعند اختلافهم، يعرض أقوالهم اتباعاً لهم، ويترك للسائل حق الاختيار من بين آرائهم. ويرى أن قوة الإنسان في قدرته على ضبط النفس وحملها على الاقتصار على الحلال وإبعادها عن الغرور ومواطن الشبهات.

كان -رضي الله عنه- في فقهه حريصاً على اتباع السنة والتزامها، فإذا لم توجد سنة، التزم آثار الصحابة، لا يرد في فقهه خبراً نسب للرسول إلا إذا عارضه خبر أقوى منه. فإذا لم يجد خبراً ولا أثراً، اجتهد في تخريج المسألة متلمساً مسالك شيوخه ما أمكن، مع الإخلاص التام في طلب الحق والبعد الكامل عن الغرور والرياء، ولذا كان ذا مهابة برغم تواضعه.

تأثر في بدء شبابه بهشيم بن بشير بن أبي خازم، فقد لزمه أربع سنوات تلقى فيها منه الحديث وبعض الفقه. يقول أحمد: "حفظت كل شيء سمعته من هشيم وهو حي قبل موته". ولما مات هشيم، تاقت نفسه لدراسة الفقه، فدرسه الشافعي. وقد التقى به أولاً في بيت الله الحرام عند الحج، فأعجب بعقله وفكره الفقهي، وخاصة أن الشافعي كان وضع قواعد أصول الفقه. ولهذا أثره في فكره وفقهه، وقد التقى أحمد بكثير من العلماء والفقهاء غير هذين، واستفاد منهم كسفيان بن عيينة إمام الحديث بمكة، وعبد الرزاق بن همام إمام الحديث باليمن.

AI iamge

وفضلاً عن ذلك، فإن العصر الذي وجد فيه أحمد كان عصر تدوين الفقه دون الحديث. فهذا موطأ مالك والمدونة الفقهية التي جمعها تلاميذه من بعده، وهذه كتب أبي يوسف الفقيه الحنفي وكتب محمد بن الحسن التي دون فيها الفقه الحنفي، وهذه كتب الشافعي وبحوثه. كان كل هذا في متناول أحمد، فتغذى منها غذاءً فكرياً دسماً. والتقت هذه الحصيلة الفقهية بما عنده من علوم الحديث والأثر، فكان من مجموع ذلك فقه أحمد الأثري.

كما وضحت العناية في عصر أحمد بجمع السنة من مختلف الأقطار والموازنة بينها من حيث القوة. وقد أسهم الإمام أحمد في هذا بالشيء العظيم، فقد أخرج مسنداً يبدو أنه أول كتاب جامع الأحاديث الأمصار، لا يأخذ الحديث إذا كان راويه على قيد الحياة إلا بعد أن يشد الرحال إلى ملاقاته إن أمكن ذلك. وقد فتحت المناظرات العلمية التي أثيرت حول خبر الواحد والأخذ به مجالاً فكرياً أمام أحمد، وأخذ من حصيلته ما يتفق مع منهجه الأثري، كما استفاد من الشافعي طرق الاستنباط والقواعد الأصولية الضابطة للأحكام، وكان بذلك كله إماماً في الفقه كما هو إمام في الحديث، وإن كان ابن قتيبة عده من المحدثين ولم يذكره مع الفقهاء.

وقد يكون مرجع ذلك أن الإمام أحمد في صدر حياته لم يكن متجهاً إلى الفقه بمعنى أن يتفرغ له ويتصدى للفتوى في كل ما يطلب منه، بل كان ينهي أصحابه -كما قلنا- أن ينقلوا عنه غير الحديث. بل كان يكره أن تنقل عنه فتاواه بالرواية دون الكتابة، وخشي أن ينصرف الناس بالفقه المكتوب أو المروي عن حفظ الحديث والنظر في النصوص الأصلية وتتبع الآثار. كما كان يرى أنه لا يستسيغ لنفسه الإفتاء إلا مستنداً إلى نص أو أثر بفتوى صحابي. ولا يستبيح لنفسه الفتوى بغير ذلك إلا لضرورة، غير أنه بعد ذلك، ولما انقرض شيوخه الذين كان لا يقدمهم عليه في ذلك، واشتهر أمره بين الناس، ورجع إليه الجميع في الاستفتاء والتعرف على حكم الله، اضطر للفتوى بالرأي فيما لم يرد فيه نص ولا أثر، ولم يمانع ذلك في كتابة فتاواه ونشرها، وهي ما تكون فيها الفقه الحنبلي. وكان الاعتماد في نقل فقهه على عمل تلاميذه وبعض أولاده، ومن أولاده الذين نقلوا فقهه صالح وعبد الله، ومن تلاميذه أبو بكر الأثرم والميموني والمروزي وحرب بن إسماعيل الكرماني وإبراهيم بن إسحاق والحربي. ثم جاء أبو بكر الخلال، فجمع كل ما رواه عن أحمد هؤلاء وغيرهم في كتابه الجامع الكبير، وقد تلقى العلماء في مختلف الأجيال نسبة هذا الفقه إلى الإمام أحمد بقبول حسن.

قد يُلاحَظ في الفقه المنقول عن الإمام أحمد كثرة الروايات، فمنشأ ذلك عدة اعتبارات، منها أنه كثيرًا ما يلتزم بما ورد من الآثار، حتى إنه إذا وجد في المسألة أقوالًا لـالصحابة مختلفة، ولم يتمكن من المفاضلة بينها لتساوي الصحابة في المنزلة والدرجة، أخذ بها مع اختلافها، وروى الأقوال دون أن يجزم بواحد منها. وقد يكون منشأ ذلك عدوله عن رأي آخر مع نقل كلا الرأيين عنه دون معرفة المتقدم منهما والمتأخر، وخاصة أنه لم يدون فقهه بنفسه كما قلنا، ولا أملى كتابًا في ذلك. كما قد يكون منشأ ذلك أن أصحابه قد استنبطوا من فتاواه قولًا ينسبونه إليه، بينما فتواه لا تنتجه في الواقع. أو يكون قد أفتى في مسألتين متشابهتين بحكمين مختلفين لوجود ملابسات تقتضي هذا الاختلاف، ولم يتبين للرواة هذه الملابسات، فنقلوا عنه الرأيين على أنهما صدرا في مسألة واحدة.

ويُلاحَظ في فقه الإمام أحمد أنه كان لا يعتمد في العبارات إلا على النصوص، وهي في هذا تسعفه، وكان يحتاط فيها دائمًا. أما المعاملات، فإن الأصل فيها عنده الإباحة ما لم يقم الدليل على الحظر، ولذا فإن مذهبه، وإن عُرف بالتشدد في مسائل العبادات، فإنه يكاد يكون أقرب المذاهب الفقهية إلى التيسير بالنسبة للمعاملات. يقول ابن القيم في قاعدة عامة يقررها من واقع اتجاه إمام مذهبه: "الأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الإيجاب، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم الدليل على البطلان والتحريم". والفرق بينهما أن الله سبحانه لا يُعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله، فما لم يُشرع من العبادة ليس بحق، وإنما حق العبادة حقه على حقه. أما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها. فكل شرط أو عقد أو معاملة سكت عنها، فإنه لا يجوز القول بتحريمها، فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان ولا إهمال، فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حَرم؟ واتسع بذلك مذهب الإمام أحمد لكثير مما لم تتسع له المذاهب الأخرى، وخاصة أنه كان في كثير من الأحيان يفتي بما يحقق المصلحة عند انعدام النص والأثر، وجعل للوسيلة حكم الغاية.

وكان الإمام أحمد من أنصار الوقوف عند الفقه الواقعي، ولا يتجه إلى الفقه الافتراضي، لأن هذا هو الذي يتفق مع مسلكه ومنهجه الأثري. كما أن المسائل الواقعية التي يُستفتى فيها كثيرة، حتى أوصلها بعض الرواة إلى ستين ألف مسألة. وقد كانت الأسئلة ترد عليه من مختلف البلاد الإسلامية، لما عُرف بين الناس بالورع والأمانة العلمية، وأنه فقيه أثري، أكثر ما يعتمد عليه هو النص لكثرة ما عنده من الحديث النبوي وما أُثر عن الصحابة.

مصادر فقهه ومنهجه فيها

تعتمد فتاوى الإمام أحمد على النصوص أولاً وآثار السلف، وإن وُجد الصحابة مختلفين في مسألة لا يحكمها نص قاطع، ولم يجد سببًا للترجيح، ترك المسألة ذات قولين. وإن لم يجد فتوى الصحابي، استأنس بقول التابعي أو بقول واحد من فقهاء السلف الذين اشتهروا بالفقه المعتمد على الآثار، كـمالك والأوزاعي. فإذا لم يجد شيئًا من ذلك ولا خبرًا مرسلًا، انفرد بالاجتهاد مضطرًا لذلك.

وهذا النوع كثير في فقهه أيضًا. وكان يعتمد في اجتهاده المنفرد على استصحاب الأصل ومراعاة المصالح المرسلة، ويعطي الوسيلة حكم الغاية، على ما أشرنا. وكان لا يلجأ إلى القياس والاجتهاد إلا عند الضرورة، وكان يرى أن الاحتجاج بـالإجماع معتبر إن أمكن حدوثه والتعرف عليه. يقول ابن القيم: كانت فتاوى الإمام أحمد مبنية على خمسة أصول نوجزها في الآتي:

أحدها:

النصوص الصحيحة المسندة، قرآنًا كانت أو سنة. فإذا وُجد النص المسند، أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه، كائنًا من كان. ولهذا لم يلتفت إلى خلاف عمر في المبتوتة، حديث فاطمة بنت قيس، قالت: "طلقني زوجي ثلاثًا"، كما لم يلتفت إلى خلافه أيضًا في استدامة المحرم الطيب الذي تطيب به قبل إحرامه، لصحة حديث عائشة في ذلك، فقد قالت: "كنت أطيب النبي عند إحرامه بأطيب ما أجد".

وكذلك لم يلتفت إلى قول علي وعثمان وطلحة وأبي أيوب وابن كعب في ترك الغسل من الإكسال، لصحة حديث عائشة أنها فعلته هي ورسول الله فاغتسلا. ولم يلتفت إلى قول ابن عباس وإحدى الروايتين عن علي أن عدة المتوفى عنها زوجها الحامل أقصى الأجلين، لصحة حديث سبيعة الأسلمية، وفيه أن النبي أذن لها بالزواج بعد الولادة. ولم يلتفت لقول معاذ ومعاوية في توريث المسلم من الكافر، لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما، وهو ما رواه أسامة بن زيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم".

ويرى الإمام أحمد أن السنة في مرتبة القرآن من حيث الاستدلال بها على الأحكام، لأنها مبينة له. فظاهر القرآن يُحمل على ما جاءت به السنة، ويقول: إن رسول الله هو المعبر عن كتاب الله، الدال على معانيه، وأن القرآن لا محال لتفسيره إلا بالحديث والآثار. ولا يمكن عنده أن تُرد السنة المعارضة لعموم القرآن، بل يجب عند التعارض حمل عام القرآن على خاص السنة، ومطلقها على مقيدها، ومحكمها على مفصلها. فـالسنة حاكمة على القرآن باعتبار قيامها مقام المفسر، ويبدو أن الإمام أحمد كان متأثرًا في هذا الاتجاه بـشيخه الشافعي، أو على الأقل موافقًا له.

ومع تفاوت السنة في قوة الاستدلال بها باعتبار قوة السند، فإن الإمام أحمد يقبل أحاديث الآحاد المسندة، لا في الأحكام العملية فقط كغيره من جمهور الفقهاء، لكنه يتوسع في ذلك فيقبلها أيضًا في العقائد. أما الأخبار المرسلة، فقد جعل رتبتها في الاستدلال متأخرة حتى عن فتوى الصحابي، واعتبرها من قبيل الأخبار الضعيفة، وهذه لا يعمل بها إلا إذا لم يوجد حديث صحيح أو حسن ولا قول الصحابي. فقد روي عنه أنه قال لابنه عبد الله: "إني لا أخالف ما ضُعف من الحديث إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه". بل يروى عنه أنه كان يقدم الحديث الضعيف على القياس، والحديث الضعيف الذي يأخذ به هو الذي يرتفع في اصطلاح المحدثين إلى درجة الحسن. ويقول: "ليس المراد به المتروك، لكن المراد به الحسن". ولا يتشدد الإمام أحمد فيما يشترط لاعتبار خبر الواحد تشدد غيره، بأن يكتفي بأن يكون الراوي غير معروف بالكذب، فيقبل الحديث وإن كان في ضبط الراوي نقص، وكل ما في الأمر أنه يرده بسند أقوى إن وُجد.

الأصل الثاني: قول الصحابي

الذي لم يُعرف له مخالف، فيعتمد الإمام أحمد في استنباطه الفقهي عند انعدام النص المسند الصحيح على ما أفتى به صحابي دون أن يعرف له مخالفًا لفتواه. لكنه لم يعتبر ذلك إجماعًا، بل من ورعه يقول: "لا أعلم شيئًا يدفعه". وإذا وُجد الإمام أحمد شيئًا من ذلك، أخذ به ولم يقدم عليه عملًا ولا قياسًا ولا رأيًا.

ومن الواضح أن الإمام أحمد عَنِيَ بالمأثور عن الصحابة، كما قلنا، فجمع ما أُثر عنهم ما أمكنه جمعه من مختلف الأقاليم، فكانت أقوالهم مدرسته الفقهية التي بنى فقهه عليها، وضبطها بما تلقاه عن شيخه الشافعي من ضوابط. وليست المجموعة الفقهية المأثورة عن الصحابة قدرًا قليلًا لا تُخرج فقيهًا، لكنها في الواقع كثيرة جدًا، لأنها أقوال صادرة من أفراد كثيرين في مناسبات مختلفة وأماكن متباينة وأزمنة طويلة، في وقت كانت الفتوى منحصرة فيهم، والحاجة إلى معرفة الأحكام الشرعية ماسة. فكانت جامعًا كبيرًا لأحكام جزئية عالجت اشتدادًا من الحوادث لأناس تختلف مشاربهم، فهي تكون الفقه وتسعفه معرفة الحكم لما يعرض عليه إما بنفسه أو بـالقياس عليها.

الأصل الثالث: الاختيار من فتاوى الصحابة إذا اختلفوا

فإنه، كما يروي عنه ابن القيم، كان يتخير من بينها الأقرب إلى كتاب الله وسنة رسوله. ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال، حكى الخلاف فيها ولم يجزم بقول. وفي موضع آخر يقول ابن القيم: والصحيح عن الإمام أحمد أن الشق الذي فيه الخلفاء أو بعضهم أرجح وأولى. فإن كان الأربعة في شق، فلا شك أنه الصواب. وإن كان أكثرهم، فالصواب فيه أغلب. وإن كانوا اثنين اثنين، فشق أبي بكر وعمر أقرب إلى الصواب. فإن اختلف أبو بكر وعمر، فالصواب مع أبي بكر.

فالصحابي إذا قال قولًا أو حكم حكمًا أو أفتى بفتوى، فيجوز أن يكون سمعه من النبي، أو سمعه ممن سمع منه، أو فهمه من كتاب الله فهمًا خفيًا علينا، أو يكون قولًا متفقًا عليه بينهم، وهم لا يتفقون على ضلال، أو أن يكون مرجعه إلى كمال علمه باللغة ودلالة اللفظ على ما تفرد به عنا. كما يحتمل أن يكون ناتجًا عن فهم خاطئ، ووقوع احتمال واحد من الوجوه الصحيحة أغلب على الظن من واقع احتمال خطأ واحد. وروى البعض أن الإمام أحمد كان إذا وجد فتوى الصحابي، لا يلتفت إلى البحث في النصوص، لأنها تغنيه عن الاستنباط من النص. لكن ابن القيم رد ذلك بقوله: كان الإمام أحمد إذا وجد نصًا، أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه.

لكن هذا الرد لا يكفي لبطلان المدعى به، لأن الكلام يحتمل أن الإمام أحمد إذا وجد فتوى الصحابي مستندة إلى نص ومأخوذة منه، لم يجهد نفسه في البحث والاستنباط، اكتفاءً باجتهاد هذا الصحابي الذي جاء رأيه موافقًا لـالنص وفي دائرته.

وقد روي عن الإمام أحمد أيضًا أنه قدم قول التابعي أيضًا على القياس إذا لم يكن هناك نص ولو مرسلًا، ولا يوجد أثر، إذ فتوى التابعي المعروف بالفضل تعتبر أثرًا سلفيًا، فيقدم على الرأي.

الأصل الرابع: الحديث المرسل والضعيف

فإن الإمام أحمد يقدمه على القياس في الاستدلال إذا لم يوجد نص ولا أثر يدفع هذا المرسل أو الضعيف. وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المفكوك ولا ما في روايته متهم، بل الضعيف عنده قسم من أقسام الحسن. ويروى عنه أنه قال: "الحديث الضعيف أحب إليَّ من الرأي". ولما سأله ابنه عبد الله عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث لا يدري صحيحه من سقيمه وصاحب رأي، فمن يسأل؟ قال: "يسأل صاحب الحديث ولا يسأل صاحب الرأي".

وهو عندما يأخذ بالضعيف اضطرارًا، لا يعتقد بثبوته عن الرسول، ولكنه يعمل به احتياطًا في دينه للرأي، كما أنه لا يعمل به إذا كان في رواته من عُرف بتعمد الكذب أو متهم به، أو فحش غلطه، والا يكون الحكم الناتج عنه غريبًا عن قواعد الإسلام الثابتة. وهذا النوع من الحديث كثير في مسنده.

الأصل الخامس: القياس

ولا يلجأ الإمام أحمد لـالقياس إلا للضرورة وعند انعدام كل الأصول السابقة: النص، والمأثور عن الصحابة، والحديث المرسل، والضعيف. ومع موقف الإمام أحمد هذا من القياس، فإن فقهاء المذهب جوزوا القياس على المستثنيات في بعض الصور. يقول ابن قدامة الحنبلي: "المستثنى من قاعدة القياس ينقسم إلى ما عُقل معناه، وإلى ما لا يُعقل. فالأول يصح أن يُقاس عليه ما وُجدت فيه العلة، ومن ذلك إباحة أكل الميتة عند الضرورة صيانة للنفس واستبقاء للمهجة، ويقاس عليه المكروه لأنه في معناه. أما ما لا يُعقل، فتخصيصه بعض الأشخاص بحكم، وتفريقه في بول الصبي بين الذكر والأنثى، فهذا لا يجوز القياس عليه". فقد ورد النص خاصًا بالذكر. فقد روت أم فضل، أخت ميمونة زوجة الرسول، أنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر، والمراد بالنضح الرش بالماء حتى يعم جميع المحل.

هذه هي الأصول الخمسة التي يعتمد عليها الإمام أحمد في فقهه مرتبة كما رواها عنه ابن القيم، فلا يقدم أصلًا عن موضعه، ولا يعمل بغيرها، فهي وحدها عليها مدار فتاواه. ويروى عنه ابن القيم أيضًا أنه قد يتوقف في الفتوى لتعارض الأدلة عنده، أو لاختلاف الصحابة فيها، أو لعدم اطلاعه فيها على نص أو أثر لأحد الصحابة والتابعين، لشدة بغضه للإفتاء فيما ليس فيه أثر عن السلف.

بقي أن نشير إلى موقف الإمام أحمد من الأمارات الأخرى التي يرجع إليها بعض الأئمة للتعرف على الحكم الشرعي:

أولاً: موقفه من الإجماع

الأصول الخمسة التي عرضناها، والتي حصر ابن القيم أصول مذهب الإمام أحمد فيها، لم يذكر الإجماع من بينها، بل لعلك قد تبينت أنه لم يرفض أن يُسمى قول الصحابي الذي ليس له مخالف إجماعًا. بل نجد النقل عنه صريحًا في أن من ادعى الإجماع فهو كاذب.

كما ينقل عنه أنه يرى أن الإجماع، على افتراض وجوده، فإن العلم به لا مطمع لأحد فيه. ولاشك أنك قد عرفت مدى تأثر الإمام أحمد بـشيخه الشافعي، الذي قلنا إنه كان يقول: "لست أقول ولا أحد من أهل العلم: هذا مجتمع عليه، إلا لما تلقيت عالمًا أبدى لك قاله لك وحكاه عمَّن قبله، كالظهر أربع".

فمعنى الاجتماع على هذا اتفاق جميع المجتهدين في الأمة الإسلامية في عصر من العصور بعد عصر الرسالة على حكم شرعي علمي. وهذا ما تضمنه أيضًا قول ابن تيمية الحنبلي: "الإجماع أن يجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام. وإذا ثبت الإجماع، لم يكن لأحد أن يخرج عليه، إذ الأمة لا تجتمع على ضلالة". ثم يقول ابن تيمية بعد ذلك: "ولكن كثيرًا من المسائل يظن بعض الناس فيها إجماعًا ولا يكون الأمر كذلك". ولذا فإن المروي من الإمام أحمد أنه إذا كان إمام مسألة غير مختلف عليها، فإنه يتورع عن ادعاء الإجماع، لأنه يرى، كـشيخه الشافعي، أنه أمر مستبعد، وإنما يقول: "لا أعلم فيه خلافًا". لكن إذا توافرت أسباب العلم بحدوث الإجماع، فإنه يعترف به.

وعلى هذا، فإن الإمام أحمد، كـشيخه الشافعي وغيره من الأئمة، لا ينكر حجية الإجماع إن تحقق وثبت، لكنه لا يقبله عمَّن يدَّعيه، فهو يحتج بما لا يعلم فيه خلافًا.

وقد فهم البعض أن الإمام أحمد ينكر إمكان الإجماع، لكن الواقع أنه لا ينكره، وإن كان لا يصدق من يحكي الإجماع لمجرد عدم علمه بوجود مخالف. فقد روى عنه المروزي أنه قال: "كيف يجوز للرجل أن يقول: أجمعوا؟ إذا سمعتهم يقولون: أجمعوا، فاتهمهم. لو قال: إني لم أعلم مخالفًا، لصح". هذا، فقد روى عنه أنه قال: "إن إجماع الخلفاء الأربعة على حكم يعتبر حجة واجبة"، ومع الاتباع برغم وجود المخالف لهم، لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام أحمد في مسنده: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ". كما روى عنه البعض أنه لا يرى إجماعًا إلا إجماع الصحابة، لأن نقله قد توافر. وقد فهم البعض من قوله: "لا أعلم فيه خلافًا" أن الإجماع عنده ينعقد بقول الأكثر. وعلى هذا، فيمكن القول بأن الاجتماع له مرتبتان عنده:

  1. إجماع الناس في أصول الفروض، وإجماع الصحابة فيما تبادلوا الرأي فيه واتفقوا على رأي، إذ لا يمكن مع ورعهم وعلمهم بـالسنة أن يكون هناك حديث مخالف لما أجمعوا جميعًا عليه. ومن هذا الإجماع على جمع القرآن في مجموعة واحدة. وهذا، إذا ما عارضه خبر عُرف بعد ذلك، رد الإمام أحمد الخبر لوجود ما يعارضه، وهو اتفاق الصحابة على خلافه، فلو كان الخبر صحيحًا، لكان رواه أحدهم أو علم به أحدهم.
  2. أن يشتهر قول بعد عصر الصحابة لا يُعلم له مخالف، فإنه يحتج به ويقدمه على القياس. لكن إذا ظهر خبر يعارضه، فإنه يقدم الخبر عليه، لأنه في الحقيقة لا يعتبر إجماعًا.

ثانيًا: موقفه من العرف

فقهاء الشريعة الإسلامية على اختلافهم يتفقون في الواقع على اعتبار العرف الصحيح في الجملة دليلًا يرجع إليه لمعرفة الأحكام إذا أعوزهم النص. ويجب على المجتهد مراعاته. فقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود موقوفًا أن الرسول قال: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو حسن". والعرف الواجب الاعتبار هو الذي لم يخالف دليلًا شرعيًا أو حكمًا ثابتًا لم يكن مبنيًا على عرف سابق، لأنه عرف صحيح. أما العرف الذي يعارض نصًا أو حكمًا مجمعًا عليه، فإنه عرف فاسد لا يُعتبر.

يقول ابن القيم: "وإذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك، فلا تجرِّه على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده، فاجره عليه وافته به دون عرف بلدك والمذكور في كتبك. ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعاداتهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم، فقد ضل وأضل".

وواضح أن هذا فيما لم يرد فيه نص ولا أثر مبني على عرف. ولذا فإن الفقهاء يخرجون ألفاظ الإيمان والوصايا وسائر العقود على مقتضى العرف.

ثالثًا: موقفه من الاستحسان

ظاهر كلام أبي الخطاب الحنبلي أن الاستحسان هو ترك القياس الجلي وغيره لدليل نص من خبر واحد أو غيره، أو ترك القياس لقول الصحابي فيما لا يجري فيه القياس. ونقل ابن تيمية عن الإمام أحمد أنه أطلق القول بالاستحسان في مواضع، فقال في رواية الميموني: "استحسن أن يتيمم المصلي لكل صلاة"، والقياس أنه بمنزلة الماء، يصلي به حتى يحدث أو يجد الماء. وقال في رواية بكر بن محمد فيمن غصب أرضًا فزرعها: "الزرع لرب الأرض وعليه النفقة"، وهذا شيء لا يوافق القياس، ولكن استحسن أن يدفع إليه النفقة. وقال في رواية صالح في المضارب إذا خالف فاشترى غير ما أمر به صاحب المال: "الربح لصاحب المال"، ولهذا أجره مثله. وكنت أذهب إلى أن الربح لصاحب المال، ثم استحسنت.

قال أبو الخطاب: وقد حد شيخنا الاستحسان بأنه ترك الحكم إلى حكم هو أولى منه لدليل. وقد روى عن الإمام أحمد أنه قال: "أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئًا خلاف القياس، قالوا: نستحسن هذا وندع القياس، فيدعون ما يزعمون أنه الحق بالاستحسان. وأنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه". وقد فهم بعض فقهاء الحنابلة من هذه العبارة أنها تدل على القول ببطلان الاستحسان، فناقشهم أبو الخطاب الحنبلي في ذلك الفهم. وقال: "وعندي أنه -الإمام أحمد- أنكر عليهم القول بالاستحسان من غير دليل، فلو كان الاستحسان عن دليل ذهبوا إليه، لم ينكره، لأنه حق".

رابعًا: موقفه من الاستصحاب

بالنظر في الفروع الفقهية الكثيرة في فقه الإمام أحمد، يبين أنه كان في منهجه الفقهي يعتبر الاستصحاب مصدرًا. والاستصحاب في اصطلاح الأصوليين عبارة عن استبقاء حكم ثبت في الزمن الماضي على ما كان، واعتباره موجودًا مستمرًا إلى أن يوجد دليل يغيره. فكل أمر عُلم وجوده، ثم حصل شك في عدم وجوده، حُكم ببقائه استصحابًا للأصل. والعكس. فمن عَلِمَ أنه متوضئ، ثم شك في طروء الحدث على وضوئه، فإن الاستصحاب يقتضي الحكم بطهارته وبقاء وضوئه، إذ الوضوء ثابت بيقين، والحدث مشكوك في حصوله، واليقين لا يزول بالشك.

فـالإمام أحمد يعتبر الاستصحاب دليلًا عند افتقاد النص والأثر والشبيه الذي يقيس عليه، فينظر إلى الأصل في الأشياء ويستصحب هذا الأصل. فإن كان الإباحة، فإنها تستمر حتى يقوم الدليل على الحظر. وإن كان الأصل الحظر، فإنه يستمر حتى يقوم الدليل على خلافه. وكان -رضي الله عنه- يتشدد في قبول الدليل الذي يبطل الاستصحاب. ومن الأحكام التي بنى القول فيها على الاستصحاب: المفقود قبل الحكم بوفاته، فإن الحالة التي كانت ثابتة هي الحياة، فيُفترض استمرارها، فيثبت حقه في الإرث من الغير، وتثبت له الوصايا وما يستحقه في الوقف.

يقول ابن القيم: "إذن، الاستصحاب يصلح لإبقاء الأمر على ما كان عند اعتقاد انتفاء الناقل". ونقل الإمام أحمد القول بعدم حل أكل الصيد الذي يقع في الماء قبل الاستيلاء عليه، حتى لو وُجدت به آثار السهام، لأن الأصل في الذبائح الحظر حتى يثبت الحل بالذبح أو الصيد. ولم يثبت دليل الحل بيقين، فيستصحب الأصل. وكذلك فقد قال الإمام أحمد: إذا أخبرت المرضع الزوجين بأنهما التقيا على ثديها، وأنها أرضعتهما رضاعًا محرمًا، فإن الحرمة تثبت بينهما، لأن الأصل في الإرضاع التحريم، وقد ثبت بشهادة الغير بطلان عقد الزواج، فيستصحب الأصل.

وقال: إن المطلق إذا شك في أنه طلق واحدة أو ثلاثًا، فإن الطلاق لا يقع إلا واحدة رجعية، إذ الحل ثابت بيقين، فلا يزول بالشك.

خامسًا: موقفه من المصلحة

المصلحة بصفة عامة يقصد بها في علم الأصول: الأخذ بما يجلب المنفعة ويدفع المضرة في نطاق القواعد العامة لـالشريعة. ويعرفها الغزالي الشافعي بقوله: "هي المحافظة على مقصود الشرع المنحصر في الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسل. فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوتها فهو مفسدة، ودفعه مصلحة". ويعرفها نجم الدين الطوفي الحنبلي بأنها: "السبب المؤدي إلى مقصود الشارع بدفع المفاسد عن الخلق". وفي الواقع، أن إدراك جهة المصلحة لا يمُون إلا لمزاول الشرع واقف على مراميه من شرعية الأحكام، حتى يستطيع أن يتبين اعتبار الشارع لها وصلاحيتها لترتيب الحكم على وقوعها. والشارع الحكيم يرعى المصلحة في نصوصه، فكل المصالح ظفرت باعتبار الشارع إما صراحة أو بطريق الاقتضاء والإشارة. فالمصالح التي تتفق مع مقاصد الشريعة ولا تنافيها هي التي تعتبر مقياسًا للأمر والنهي في الشرع الإسلامي.

ويقسم الأصوليون المصلحة بحسب نظرة الشارع إليها إلى ثلاثة أقسام:

  1. ملغاة: وهي التي نص الشارع على عدم اعتبارها، أو كانت متعارضة مع نصوصه واتجاهاته، وهذه لا يصح التعليل بها أو بناء الحكم عليها اتفاقًا.
  2. مصالح معتبرة: وهي ما قام الدليل على رعايتها واعتبارها. ومن هذا جميع المصالح التي حققتها الأحكام الشرعية. وهذا النوع يُستدل به الاتفاق ويقاس عليه عند كل من أخذ بـالقياس.
  3. مصالح مرسلة: وهي التي لم تتقيد بـنص يدعو إلى عدم اعتبارها أو يدعو إلى اعتبارها، وإنما سكت عنها الشارع، وليس لها أصل معين تقاس عليه. وهذا النوع، إن كانت المصلحة فيه ضرورية، فلا نزاع على التحقيق بين جمهور القائلين بـالقياس في جواز اعتباره في الجملة دليلًا والتعليل به. أما ما عدا ذلك، فالخلاف فيه بين الفقهاء شديد، والنقل عنهم مضطرب، وقد فصلنا القول فيه في موضع آخر. والذي يعنينا هنا أن نبين موقف الإمام أحمد من المصلحة المرسلة.

اختلفت عبارات الأصوليين في تصوير المصلحة المرسلة، وعرفها ابن تيمية بقوله: "هي أن يرى المجتهد أن هذا الفعل منفعة راجحة، وليس في الشرع ما يمنعه". فهو لم يرتض رأي من قصرها على حفظ الضروريات الخمس. أما نجم الدين الطوفي فقد سلك مسلكًا خاصًا في تصويرها، وتوسع في اعتبارها، وقال: "إنها السبب المؤدي إلى مقصود الشارع، عبادة أو عادة". وقال: "إن الأحكام معللة بالمصالح، فلا يجوز إهمالها".

وتوسع في اعتبار المصلحة إلى درجة فيها شيء من الغلو. هذان إمامان من أئمة الفقه الحنبلي.

ومن الفتاوى التي اعتمد فيها الإمام أحمد على المصلحة المرسلة، ما رواه المروزي وابن منصور من أنه قال: "المخنث يُنفى لأنه لا يقع منه إلا الفساد، وأن للإمام نفيه إلى بلد يأمن نساء أهله، وإن خاف عليهم حبسه". وقال في رواية حرب: "إذا أُنتجت المرأة المرأة، تعاقبان وتؤدبان"، وأنه إذا خِيف على النساء المساحقة، حَرم خلوة بعضهن ببعض. وقال: "إن من طعن على الصحابة، وجب على السلطان عقوبته، وليس للسلطان أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب وإلا أعاد العقوبة". ومن الصور التي لاحظ فيها الإمام أحمد المصلحة لتغير الزمان والأحوال، موضوع طواف الحائض. فالأخبار على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- منع الحائض من الطواف بالبيت حتى تطهر، وقال: "اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت". غير أن الإمام أحمد في زمنه صحَّح الطواف مع الحيض، ولم يجعل الحيض مانعًا من صحته، ورأى أن ما روي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن حكمًا عامًا في جميع الأحوال والأزمنة، وإنما يكون عند القدرة وإمكان الاحتباس حتى تطهر وتطوف. فهو لم يأخذ بظاهر النص. وقد أطال ابن القيم في عرض هذا الموضوع ومناقشته، وانتهى إلى قوله: "إنها تطوف بالبيت، وتكون في هذا ضرورة مقتضية لدخول المسجد مع الحيض والطواف معه". وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة.

ومن الواضح أنه مما يلاحظ في المصالح اعتبار أعراف الناس وعاداتهم التي لا تتنافى مع القواعد العامة لـالشريعة، لأن في ذلك ما يدفع الحرج. وبالجملة، فقد كان الإمام أحمد أكثر أئمة المذاهب أخذًا بالمصلحة المرسلة، حتى فاق مالكًا في ذلك.

سادسًا: موقفه من الذرائع

يتجه الإمام أحمد إلى سد الذرائع المفضية إلى مفاسد، واعتبار ما يفضي منها إلى محاسن. يروى عنه قوله: "نهى رسول الله عن بيع السلاح في الفتنة"، ولا ريب أن هذا سد الذريعة إلى الإعانة على المعصية. ومن المعلوم أن هذا البيع يتضمن الإعانة على الإثم والعدوان. وفي معنى هذا كل بيع وإجارة أو ضمان تعين على معصية الله، كبيع السلاح للكفار والبغاة وقطاع الطريق. يقول ابن القيم: "لما كانت المقاصد لا يُتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تقضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها. فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غايتها وارتباطها بها. ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها".

خاتمة

هذا هو أحمد بن حنبل وهذا فقهه ومنهجه، فهو عقل تقي وهمة منعقدة بـآثار رسول الله، وصبر لا يفيض له معين ولا تهمد له قوة. قال عنه الهيثم بن جميل: "إن لكل زمان رجلًا يكون حجة على أهله، وأظن أن هذا الفتى إن عاش، فسيكون حجة على أهل زمانه".

رحم الله أحمد، فقد كان إمامًا في كل مكرمة، ورعًا زاهدًا، محدثًا ثقة، وفقيهًا أمينًا، لا يخوض فيما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا، ولا يتكلم إلا في العلم. قال مصعب الزبيري: "ومن في ورع أحمد وعبادة أحمد؟ يترفع عن الجوائز من الخلفاء حتى يُظن به الكبر، ويكري نفسه مع الحمالين حتى يُظن به الذل. لا يراه الرائي إلا في مسجد أو عيادة مريض أو حضور جنازة. وما كان أحمد ليشتري الحياة عند الناس بالجاه عند الله، ويجعل سلطته في ذلك دين الله".

إن هذا الإمام، بزهده وتوكله على الله، قد استفاد قوة روحية، وصلة عميقة بـالله. وقد رأينا الزهد والتجديد مترافقين في تاريخ الإسلام، ولعل السر في ذلك أن الزهد يكسب الإنسان قوة المقاومة، والاعتداد بالشخصية والعقيدة، ويثير في النفس كوامن القوة، ويشعل المواهب، ويلهب الروح. مما أن التجديد يتطلب زهدًا وترفعًا عن المطامع وسفسافات الأمور. ولقد كان هذا الإمام يقول: "يُؤكل الطعام بثلاث: مع الإخوان بالسرور، ومع الفقراء بالإيثار، ومع أبناء الدنيا بالمروءة". ويقول: "لو أن الدنيا تُقلى حتى تكون في مقدار لقمة، ثم أخذها امرؤ مسلم، فوضعها في فم أخيه المسلم، ما كان مسرفًا".

وليس سر عبقرية أحمد بن حنبل في دفاعه عن عقيدة من عقائد الإسلام وانتصاره لها، وفضله في ذلك لا يُنكر.

ولكن مأثرته الكبرى التي أكسبته منصب التجديد هو أنه وقف سدًا منيعًا في اتجاه هذه الأمة إلى التفكير الفلسفي المتهور، وحفظ هذا الدين من أن يعبث به العابثون، وتتحكم فيه السلطة والأهواء، فاستحق بذلك تقدير الإنسانية وثناء المسلمين، واعتراف الأجيال القادمة وإجلال التاريخ واكباره. وكان من المحدثين الكبار في الإسلام.

وبوفاة هذا الإمام الجليل، انطوت صفحة علم من أعلام الفقه والحديث، وأحس الناس في عصره بانقضاء حياته، فعلت الأصوات بالبكاء والنحيب.

قال المروزي: "أُخرجت الجنازة بعد منصرف الناس من الجمعة، وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والدروب، ينادون من أراد الوضوء". وقال ابن إسحاق البغوي: "حضر من حضر جنازة أحمد من الرجال ثمانمائة ألف، ومن النساء ستون ألفًا".

وبهذا الاحتشاد العظيم في جنازته، تحقق ما أنبأ به بقوله: "قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز".

وكانت وفاته سنة 241 هـ.

مواضيع ذات صلة
الإمام أحمد بن حنبل,

إرسال تعليق

0 تعليقات