ادعمنا بالإعجاب

الاتجاهات الدينية عند توفيق الحكيم

سرفراز أحمد
بقلم: سرفراز أحمد
الباحث بقسم اللغة العربية وآدابها، جامعة علي كره الإسلامية
دراسة تحليلية تتناول الاتجاهات الدينية في أعمال توفيق الحكيم، حيث تبرز رؤيته الفكرية وتأثير الدين في تشكيل أدبه ومسرحياته.

 توفيق الحكيم كاتب وأديب ومسرحي مصري مشهور. يعتبر واحدا من أهم كتّاب الأدب العربي الحديث، وكان له دور كبير في تطوير الرواية والمسرح العربي، خاصة المسرح الفكري. وقد كتب أعمالًا تمثل البيئة المصرية والثقافة العربية بشكل جميل، وترك أثرا كبيرا في الأدب العربي.

ولد توفيق الحكيم في مدينة الإسكندرية سنة 1898م. قضى طفولته في الريف مع عائلته. بدأ دراسته في مدرسة دمنهور الابتدائية وهو في السابعة من عمره، ثم انتقل إلى مدرسة ثانوية في محافظة البحيرة، وحصل على شهادة البكالوريا سنة 1920م. بعد ذلك، التحق بكلية الحقوق حسب رغبة والده وتخرج فيها سنة 1924م. بعد تخرجه، سافر إلى باريس لدراسة الدكتوراه. عاش هناك أربع سنوات، وتعرف على الثقافة والفن والأدب في هذه المدينة العالمية، مما أثّر كثيرا على تفكيره وأسلوبه الأدبي. (1)

كان توفيق الحكيم محبّا للأدب العربي ومهتما به كثيرا، ولم يكن يحب دراسة القانون بجدية. بل كان يحب الفنون الأدبية، وخاصة المسرح. في البداية، كتب مسرحيات تعبّر عن المجتمع المصري، لكنه بعد ذلك بدأ يكتب مسرحيات تعبر عن أفكار إنسانية عامة، وسماها "المسرحيات الذهنية"، لأن الصراع فيها لا يكون بين أشخاص، بل داخل عقل الإنسان. تأثر توفيق الحكيم بالاتجاهات الأدبية العالمية، خاصة عندما عاش في باريس. وقد شرح هذا في مقدمات بعض مسرحياته، مثل مقدمة مسرحية "بجماليون" و"الملك أوديب".

يقول توفيق الحكيم في مقدمة مسرحيته (بجماليون): "منذ نحو عشرين عاما كنت أكتب للمسرح بالمعنى الحقيقي، والمعنى الحقيقي للكتابة "للمسرح" هو الجهل بوجود "المطبعة"!... لقد كان هدفي وقتئذ في رواياتي هو ما يسمونه المفاجأة المسرحية،...هو أني اليوم أقيم مسرحي داخل الذهن، أجعل الممثلين أفكارا تتحرك في المطلق من المعاني، مرتدية أثواب الرموز. إني حقيقة مازلت محتفظا بروح المفاجأة المسرحية، ولكن المفاجآت المسرحية لم تعد في الحادثة ما هي في الفكرة،... ولهذا اتسعت الهوة بيني وبين خشبة المسرح ولم أجد قنطرة تنقل هذه الأعمال إلى الناس غير المطبعة، لقد تساءل البعض: أولا يمكن لهذه الأعمال أن تظهر على المسرحية الحقيقية؟ أما أنا فأعترف بأني لم أفكر في ذلك عند كتابة روايات مثل أهل الكهف و شهرزاد ثم بجماليون". (2)

كان توفيق الحكيم يكتب بحرية كاملة، ويعبر عن مشاعر نفسه ومشاعر شعبه. في مسرحيته "أهل الكهف"، قدّم أفكارا قريبة من نفسية الإنسان، لأن طبيعة النفس البشرية لا تتغير كثيرا. في هذه المسرحية، عرض توفيق الحكيم الصراع بين الخير والشر، والفرح والحزن، والبكاء والضحك، والنوم واليقظة، والجمود والحركة. فكما تتغير أحوال الإنسان، كذلك تتغير أحوال الشعوب؛ أحيانا يكون الشعب سعيدا، وأحيانا حزينًا، أحيانا منغلقا، وأحيانا حرّا. وتوفيق الحكيم كفنان حقيقي لا يفرّق بين إنسان وإنسان، بل يرى كل البشر كأنهم واحد، ويعبّر عنهم جميعًا في كتاباته. ويستخدم قلمه مثل فرشاة رسّام، فيرسم صورا جميلة عن النفس البشرية، ويعرضها للقارئ، فيستمتع بها القلب وتريح النفس.

اتجاهاته الدينية:

عندما ننظر إلى حياة توفيق الحكيم، نجده كاتبا محبّا لأهله وعائلته، ويحب شعبه، بل يحب كل الناس. كان يحاول دائما أن يتعلّم من كل شيء ومن كل مصدر، سواء كان من الشرق أو من الغرب. كان يرى أن الثقافة والعلم ملك لكل الناس، لا تخصّ أمة واحدة أو شعبا واحدا، بل هي كنز مشترك لكل البشر على وجه الأرض.

توفيق الحكيم تعلم الثقافة الغربية، لكنه نشأ في بيئة دينية خالصة. كانت مصر في ذلك الوقت متأثرة بالفكر الغربي، لكنها كانت متمسكة بالدين، وتؤمن بأن الإنسان لا يكون كاملا إلا إذا تمسك بدينه. وتوفيق الحكيم لم يكن يريد أن يبتعد الشعب المصري عن الإسلام وروحه، بل في الحقيقة، نجد في كثير من مسرحياته وقصصه ومقالاته أفكارا دينية إلى جانب الأفكار الاجتماعية والثقافية.

فهذه الأفكار منتشرة في بعض مؤلفاته، كما مسرحيته "محمد" على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كتب توفيق الحكيم هذا الكتاب لأنه كان مهتما بتقديم صورة حقيقية وصادقة عن النبي محمد ﷺ، لا تكون فيها مبالغة أو خيال. في هذا الكتاب، تحدث عن حياة النبي ﷺ منذ ولادته حتى وفاته، وأظهر فيه صورة إنسانية عظيمة. اعتمد توفيق الحكيم على الأحاديث الصحيحة وكتب السيرة الموثوقة، وحرص على ألا يضيف من عنده شيئا، بل اكتفى بعرض الأحداث بأسلوب فني وجميل. قام بترتيب الأحاديث لتظهر على شكل حوار، لكنه لم يغيّر في النصوص الأصلية.

 وكتابه "تحت شمس الفكر" مقسم إلى أربع أبواب رئيسية. فأما الباب الأول "في الدين" يحتوي علي ستة أجزاء منها "منطقة الدين"، "دفاع عن الإسلام"، "نجم احمد"، "سر العظمة"، "المرأة في شباب النبي"، و"جوهرالدين"، بدأ في الدين بقضية هامة وهي القلب أم العقل منطقة الإيمان، فبدأ توفيق الحكيم حديثه في هذا الباب بقضية مهمة، وهي: هل الإيمان من القلب أم من العقل؟ وكان رأيه أن الإيمان مكانه القلب، لأن القلب هو الذي يشعر ويؤمن بصدق.

والحسم كان للقلب لأن يقول توفيق الحكيم "الحقيقة العقلية ليست الحقيقة المطلقة ولكنها الحقيقة التي يراها العقل من زاويته، فإذا كانت العقيدة مرجعها القلب، فإن العقل لن يرى منها إلا الشطر الذي يستطيع أن يراه، ويظل محجوبا عنه الشطر الواقع في دائرة القلب... أما حقيقة الخالق فأمر بعيد عن مقدرة العقل، وهل يستطيع الجزء أن يرى الكل؟.. هل تستطيع الكبد في جسم الإنسان مثلا أن تحيط إراكا بحقيقة شكل الإنسان الخارجي، وهي جزء منه داخل فيه؟.. إن كل ما تدركه الكبد هو وجود تلك المواد التي تمر بها كل يوم، فتحولها إلى إفرازات دون أن تدري من أين جاءت، ولا إلى أين تذهب؟ العقل أيضا يرى الأحياء كل يوم تدور دورتها، دون أن يدري من أين جاءت،... أن الحقيقة الدينية بعيدة عن وسائل العلم ودائرة بحثة، والعقل يستطيع أن يهدم الدين كما يشاء... أن أولئك الملحدين الذين سخروا عقولهم الكبيرة لتفنيد الدين وهدم أصوله والشك والتشكيك في جوهره ووجوده". (3)

يقارن توفيق الحكيم بين الروح الشرقية والروح الغربية، ويعرض هذه الفكرة على لسان بطل "محسن" في روايته "عصفور من الشرق". محسن يؤمن أن الإسلام هو أفضل دين في العالم، لأنه دين يعلم المساواة بين الناس، ويقود إلى النجاح والنجاة. يرى توفيق الحكيم أن أصل الفضيلة والخير في حياة الإنسان هو الدين، وخاصة الدين الموجود في الشرق. ويعبّر عن هذه الفكرة أيضًا من خلال شخصية روسية اسمها "إيفان" في نفس الرواية. (4)

يظن توفيق الحكيم أن هذا النوع الصادق من الإيمان لم يعد موجودا في الغرب في زماننا هذا. فعندما قدم الشرق الأديان السماوية للغرب (مثل الإسلام والمسيحية)، قدمها بشكل نقي، روحاني، وبسيط كما تحدثنا. لكن الغرب عندما أخذ هذه الأديان، غير شكلها، زينها بالذهب، ووضع على رؤوسها تيجانا فاخرة مرصعة بالألماس، وأعطاها مظهر القوة والسلطة الدننيوية. "إن الكنيسة في أوروبا، كانت في يوم ما أعظم مؤسسة مالية، وإن نظامها الرأسمالي لأدق نظام.. وإن ثروتها الطائلة لتسند ظهر أقوى البيوت المالية، وتقوضها إذا شاءت في طرفة عين، فأين ذهبت كلمة المسيح؟!.. ما أعسر دخول ذوى الأموال إلى ملكوت الله، لأن دخول جميل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله!!... وأين ذهبت كلمة النبي محمد؟... إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة، فاخترت لقاء ربي والجنة!... ثم يقوله أيضا: اللهم توفني فقيرا، ولا توفني غنيا... واحشرني في زمرة المساكين!.."(5)

والشرق هو المكان الذي خرجت منه الأديان، وظهر فيه الأنبياء، وهو مصدر القوة الروحية التي تنير العالم، ويؤكد أن الشرق كان دائمًا نورا يهدي الناس، وسيبقى كذلك.

يرى توفيق الحكيم أن الإنسان لا تقوى عقيدته (إيمانه) ولا يثبت في قلبه الإيمان، إلا إذا رأى شخصا حقيقيا يمثّل هذه العقيدة في حياته وسلوكه. وهذا الشخص المثالي لا يكون إلا نبيّا، يرسله الله ليكون هاديا ومبشّرا للناس. ويعتقد توفيق الحكيم أن النبي محمد ﷺ هو أعظم شخصية في التاريخ، وأنه القدوة التي يجب أن يقتدي بها الناس، ويعيشون في ضوء نوره وهديه.

ويتحدث الحكيم عن سرّ عظمة النبي ﷺ في كتابه "تحت شمس الفكر"، حيث عبّر عن هذه الفكرة بأسلوب جميل وقوي، يُظهر قدرته على التعبير الأدبي وروحه الدينية التي تأثرت بهدي النبي ﷺ. "ينبغي لمن أراد أن يعلم سر عظمة {محمد} صلى الله عليه وسلم أن يتخيل رجلا وحيدا فقيرا تمكنت من قلبه عقيدة، فنظر حوله فإذا الناس كلهم في جانب وإذا هو بمفرده في جانب.. هو وحده الذي يدين بدين جديد بينما الدنيا كلها: أهله وعشيرته وبلده وأمته، والفرس والروم والهند والصين وكل شعوب الأرض: لا يرون ما يرى، ولا يشعرون له بوجود.. هذا موقف النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا موقف العالم". (6)

الخاتمة:

  • توصلنا بعد استعراض الإتجاهات الدينية عند توفيق الحكيم إلى بعض النقاط وهي كما يلي:
  • يرى الحكيم أن الإيمان ينبغ من القلب، لا من العقل فقط. العقل لا يستطيع إدراك كل شيء، خاصة حقيقة الخالق.
  • إن الدين السليم وضع إلهي، فمرجع الدين إلى الله، وليس من إيحاء النفس أو تخيل العقل، أو تنظيم الإنسان.
  • إن قلب الإنسان هو مسكن الإيمان، فله دور خاص في التعقل والإدراك والمنطق.
  • ارتباط وثيق بين حفظ الدين وحفظ العقل، لأن لهما من أهمية عظمى  في حياة الأمة. 
  • يرى الحكيم أن أصل الخير في حياة الإنسان هو الدين، وخاصة دين الشرق.
  • يظن توفيق الحكيم أن الغرب أخذ الأديان من الشرق لكن أفرغها من معناها الروحي.

المصادر والمرجع:

  1.  د. ضيف، أحمد شوقي، الأدب العربي المعاصر في مصر، دار المعارف، عام 2004م.  ص288.
  2.  الحكيم، توفيق، بجماليون، مصر، القاهرة، مكتبة الآداب، 1988، ص 12.
  3. الحكيم، توفيق، تحت شمس الفكر، مصر، مكتبة الآداب، عام 1954، ص، 15.
  4.  الحكيم، توفيق، عصفور من الشرق، مكتبة الآداب، القاهرة،  مصر، عام 1930م. ص191
  5. المصدر السابق، ص 171.
  6. الحكيم، توفيق، تحت شمس الفكر ، مصر، مكتبة الآداب، عام 1954، ص 32..


مواضيع ذات صلة
دراسات أدبية,

إرسال تعليق

0 تعليقات