لا يخفى على أحد ممن له أدنى التفات إلى تاريخ المسلمين في الهند، أن المسلمين حملوا إليها مشعلًا من النور انجلت به الظلمات المتراكمة التي كانت تغشى الناس جميعًا، وذلك بطريق الدعوة الدينية الإصلاحية كدعاة مخلصين، وعلماء مجتهدين، وغزاة مجاهدين، وملوك فاتحين. وقد أصبحت الصفحات التاريخية شاهدة على أن كلًّا من هؤلاء استمروا في تقديم إسهامات جليلة في جوانب شتى لتطوير الحضارة الهندية. أما استقامتهم، والعدالة، والمساواة الإنسانية، وبناء المجتمع الصالح، وترقية الثقافة الدينية، والآداب الإسلامية السامية، والمؤسسات العلمية الشرعية والأخلاقية، فما زالت كلها محفورة كذكريات ذهبية في أذهان الأجيال المتتالية عبر الأزمنة.

ومن الظواهر الطبيعية أن يُتعلَّم من أسفل العنوان قبل الوصول إلى قمته. لقد دخل المسلمون الهند قبل قرون طويلة، وقد حملوا معهم رسالة الحق والتوحيد، والعدل، ومساواة الحقوق الإنسانية، وأعلى نظام للحياة البشرية، ما لم يوجد ولن يوجد في تاريخ الهند قبلهم. فإن هذا المقال يوضح جميع خدماتهم وإسهاماتهم العظيمة توضيحًا كاملًا، ببيان كيف أثّرت في أذهان الهندوس تأثيرًا عميقًا.
إن دخول المسلمين إلى الهند كان يختلف باختلاف العصور والزمن والمقاصد والوجوه المتشعبة؛ فكان منهم الدعاة الصالحون، والعلماء المجتهدون الذين قاموا ببثّ روح الدين الإسلامي بطريق الدعوة الإصلاحية، ومساواة الحقوق الإنسانية، وإصلاح النظام الحيوي. حتى إن الصفحات التاريخية كادت تدل بدلالة واضحة على أنهم رووا بستان الهند المتعطش وأرضها المجدبة -التي لا أثر للنبات فيها- بفيوضات الروحانية الإسلامية، كأنها قد امتلأت بالخضروات المتنوعة والثمار المختلفة. فأسماء بعضهم تلمع كغرة في جبين الأيام، وقطرة في سنّ الأقلام، مثل السيد علي الهجويري، والشيخ معين الدين الجشتي الأجميري، والسيد علي بن شهاب الدين الهمداني الكشميري رضي الله عنهم.
وكذلك دخلها المسلمون كغزاة مجاهدين وملوك فاتحين بعد القرن السابع الهجري، وقد قاموا بتأسيس سلطنات إسلامية عظيمة فيها. ولا خفاء في أن اعتقاداتهم الصالحة كانت تقتضي بأن الخلافة لله يورثها من يشاء، ولذلك اتخذوا البلاد مسكنًا وموطنًا، حتى سعوا لإصلاح النظام الاجتماعي، واستقامة العدالة، وتسوية حقوق الإنسان، وتطوير الحضارة والثقافة الهندية مع امتزاج الثقافة الإسلامية وحضارتها بصورة متكاملة. ومن البديهي أن نظرتهم إلى هذه البلاد كانت تختلف بطبيعة الحال عن نظرة الأوروبيين المستعمرين الذين سيطروا عليها قرابة مائتي سنة، فنهبوا خيراتها، وجلبوا حسناتها إلى بريطانيا، وظلموا أهلها بأنواع الظلم وأقصى الشدائد والأزمات. فها هنا يكمن السر الذي يفضل المسلمين على الاستعمار الأوروبي.
ومن الحقيقة الواضحة التي لا تقبل الجدل أن السلطنات الإسلامية العظيمة قد تأسست بأيدي المسلمين، كنموذج رائع في صفحات التاريخ الهندي: سلطنة دلهي، ومؤسسها قطب الدين أيبك، والغزنوية ومؤسسها محمود الغزنوي، والمغولية ومؤسسها ظهير الدين محمد بابر التيموري. فكل واحدة منها مثّلت دورًا مهمًا في تطور الحضارة الهندية وثقافتها عبر القرون بإسهامات متعددة في مجالات مختلفة. أما في الجانب الاجتماعي، فقد سادت المساواة والعدالة لحقوق البشر بصورة تامة، وانتهت تمييز الطبقات الذي استمر زمنًا طويلًا بين البراهمة وما دونهم. وقد أقرّ بهذه الحقيقة التاريخية جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند السابق حين قال: "إن نظرية الأخوة الإسلامية والمساواة الإنسانية التي كان المسلمون يعتقدون بها ويعيشون فيها، أثّرت تأثيرًا عميقًا في أذهان الهندوس، وخاصة البؤساء من الطبقات السافلة الذين حُرموا من مساواة الحقوق الإنسانية في المجتمع الهندوسي."
وكذلك من معالم ذلك العصر، أن المرأة قد وجدت حقوقها لتعيش في المجتمع بعز وكرامة، وقد انتهى تقليد "ستي" وهو إحراق الأرملة لنفسها أثناء إحراق جثمان زوجها الميت.
أما من حيث الإسهامات الثقافية والحضارية، فقد سادت المؤسسات العلمية والعملية الشرعية الإسلامية في نواحي البلاد كافة، قاصيها ودانيها. ومن خلالها، أنجبت الهند علماء عباقرة صالحين ساهموا في مجالات متعددة، سواء في التصنيف والتأليف الديني، ما انتشر في البلاد انتشارًا واسعًا، حتى أصبحت العلوم الإسلامية الشرعية تموج في زوايا الهند المختلفة. وكادت البلاد أن تجني فوائد كثيرة في ميادين العلوم والفنون. ولا شك أن تطورها الحضاري والثقافي في تلك العهود يختلف عن أي حضارة قديمة، فمع دخول المسلمين ازدهرت الحضارة ببناء بلدان عظيمة، ومدن واسعة، وبنيان ذي ألوان زاهية، وشوارع فسيحة، حتى أصبحت أمثلة حية في العمران، ورفاهية السكان، وانتشار العلم، وتنوع الفنون.
ويتمثل بعضها بنموذج رائع في التاريخ الهندي مثل "تاج محل" الذي يدل على الفن المعماري العجيب لذاك العصر، لما فيه من متانة ودقة، ورقة وجمال، وتناسب وفخامة، وتهوية وتنوير، وكذلك "الجامع الكبير" في دلهي، و"قلعة الحمراء". فمثل هذه الآثار تدل على أقصى درجات الازدهار والانتماء الحضاري الهندي، وليس من ريب أن المسلمين يفتخرون بذكريات هذه الآثار عبر القرون.
لكن مع مرور الزمان وتوالي العصور، تغيّرت صورة الهند، فانتشرت فيها الكراهية الشديدة وتفشّى العنف والخصومات، وانجلت المؤامرات ضد المواطنين المسلمين يومًا بعد يوم. ولا يخفى أن الخصومات والانتهاكات وتهديم المساجد والمقابر مثل مسجد بابري سنة 1992 كلها حدثت بعد الاستقلال من الاستعمار. ففي العصر الراهن، بعد تولي رئيس الوزراء نريندرا مودي الحكم، سادت البلاد الظلم والطغيان، والعنف والكراهية، بأنواع من الخصومات والانتهاكات، كالإرهاب، وهدم المساجد، وانتهاك أوقاف المسلمين، حتى وصل الأمر إلى تهديم بيوت المسلمين. فإلى متى يستمر هذا؟ ولماذا أصبحت الأمة الإسلامية فريسة للحكومة الهندية؟ هل هبطت الأمة من سمو الأخلاق إلى حضيض الرذائل؟ هل فقدت شيئًا كان يمنحها العز والكرامة؟ نعم! لقد تكاسلت الأمة عن تاريخها الزاهر، وتخلّفت عن ميادين العلوم والفنون، وانزوت عن ساحات السياسة والاقتصاد، ولا شك أنها آنست التسويف، وتعانقت مع النسيان، وأهملت نصائح السالفين الصالحين الذين أسسوا دولة عظيمة وسلطنة شامخة في القرون السابقة. فهنا يتضح أن الجبن ساد بين الأمة، وتغشّاها مشكلات متعددة ومتنوعة.
إذاً، المعادلة واضحة: لقد دخل المسلمون الهند بمقاصد مختلفة عبر العصور؛ فكان منهم الدعاة والعلماء الصالحون، والغزاة والملوك الفاتحون، حملوا دينًا جديدًا سهلًا سمحًا وعلومًا ناضجة متوسعة وحضارة مهذبة رقيقة الجوانب. وبالتأكيد، من هذا المنطلق، قد جنت البلاد فوائد عظيمة في مجالات مختلفة، من ازدهار الحضارة السامية، ونمو الثقافة العالية، واستقامة العدالة، ومساواة الحقوق الإنسانية في مجتمع لا يميز بين طبقاته. فالهند هذه هي، وهذا تاريخها، وهذا تراثها، وهذا إسهامها، لا يليق بها أن تظل على هامش الحاضر، فضلاً عن أن تُقصى من ذاكرة الأمة، ويُزوّر تاريخها، وتُهمّش ثقافتها، وتُغتال هويتها.
0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا