ادعمنا بالإعجاب

تحول الشعر الجاهلي في العهدين الإسلامي والأموي

مأخوذ من كتاب "الجمهرة مختاراة من الشعر العربي" لمحمد مهدي الجواهري

تحول الشعر الجاهلي في صدر الاسلام بجموده ، وخفوته ، وتضاؤل قيمته الشعرية الفنية - باستثناء الذي عرف منه ، تحولاً جذرياً ومنطقياً في آن واحد ، وكان بذلك يؤكد مرة أخرى مدى ارتباط هذا الشعر باعتباره ديواناً للعرب بمجرى حياتهم السياسية ، والاجتماعية والفكرية ، أولاً ، ومدى ما لهذا الشعر من رجع في نفوسهم، يتجاوز في ظروف معينة حدود الإثارة والتحريض إلى حد أن يكون حاسماً في تبديل مجرى الأمور ، وفي إمالة كفة الميزان لهم أو عليهم في مواقف حاسمة ومصيرية ثانياً. 

فمما لا شك فيه أن انتصار الثورة الإسلامية قد قلب كثيراً من الموازين القائمة في عهود الجاهلية ، وفي بيئاتها ، وفي مجتمعاتها ، وأثر - تبعاً لذلك - في كثير من بواعث التفكير والتعبير فيما ضيق به على مجالات الانطلاقات ، وعلى حيوية الشعراء الجاهليين وحماستهم وعنفوانهم . ومن ينظر ، على سبيل المثال ، في أغراض الشعر الجاهلي من حماسة وفخر تقف وراءهما العصبية القبلية ، وخمريات يدفع الشعراء إلى القول فيها حبهم الخمرة ، والولع بمجالسها . وغزل بالمرأة يبعث القول فيه الخلوة بها ، والأنس بحديثها ، وما إلى ذلك من أغراض ، يجد أن الاسلام قد ضيق كثيراً من بواعث قول الشعر . فالعصبية القبلية حل محلها الانتماء إلى الجماعة الإسلامية ، والخمر حرمت تحريماً شديداً ، واجتماع الرجل إلى المرأة والتشبيب بها صار ضرباً من مخالفة تعاليم الإسلام ، بل إن الهجاء نفسه صار يشكي إلى خلفاء المسلمين ، وما قصة الزبرقان بن بدر  مع الخليفة عمر بن الخطاب من الأمور غير المعروفة .

وإذن فقد وجد الشعراء أنفسهم وقد ضيق الإسلام عليهم مجال القول وبواعث الإلهام، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فقد شغلت الفتوحات الإسلامية الشعراء وسواهم بها عما سواها. 

زد على ذلك أن هؤلاء الشعراء لم يعودوا - وقد أرسيت أسس الدولة الإسلامية - يجدون المكانة نفسها التي كانوا يتبوؤونها بين مجتمعاتهم القبلية الجاهلية. وهكذا كان عليهم أن ينتظموا - إذا أرادوا الإبقاء على مكانتهم - في سلك هذه الدولة الجديدة ، حاملة الدعوة وقرآنها ولكن الذين وعوا هذه الحقيقة لم يأن لهم أن يتشربوا هذه الدعوة بعمق ، فرأوا في القرآن الكريم معيناً يقتبسون منه ليشيعوا في شعرهم جواً إسلامياً ، ولكن هذا الجو لم يتغلغل في نفوسهم بحيث يستحيل خيالاً وعاطفة . فضعف الشعر حتى قال الأصمعي – فيما بعد – وهو يتحادث عن شعر حسان الإسلامي : ( إن الشعر إذا سلك طريق الخير لان و ضعف ) 

أقول هذا لأني أعرف أن طائفة ممن قالوا الشعر في صدر الإسلام كانوا في بداية عهد النبوة يشهدون حروب هذا العهد ومعاركه المصيرية بين المنضوين تحت راية الإسلام ، من أنصار ومهاجرين ، وبين أكثرية كاثرة من جموع قريش وحلفائها تحت راية مناهضة النبي محمد ( ص ) ورسالته. 

ومن مشاهير هذه الكوكبة : الأعشى ، وحسان بن ثابت ، وكعب ابن زهير ، وابن الزبعرى. خلا من توارى أو تنكر ، أو تنصل من أمثالهم من الشعراء إما خوفاً من طائلة العقاب على مشاركته قريشاً في حروبها ، وإما كرهاً لهذا العهد الجديد الناقض للأعراف الجاهلية ، الخارج عليها ، الآخذ بكل ما لا عهد لها به من مبادىء وعهود ، ومواثيق . وإما للسببين كليهما. 

ولا شك أن كل هؤلاء وأولاء كانوا من ألد أعداء هذه الرسالة الجديدة ، وكما يسمونها - البدعة الجديدة - التي جاء بها إليهم في من صميم دمهم ونسبهم وحسبهم ، داس على كل ما وجدوا عليه آباء هم ، مما يدينون ويألفون ويستميتون في الذود عنه والحفاظ عليه. 

ومن يدري ماذا كنا سنسمع من عيون هذا الشعر الجاهلي وروائعه ، ومن معلقاته الجديدة على ألسنة هذا وذاك من ( حسان) ومن ( الأعشى ) على وجه التخصيص وعلى سبيل المثال ، لو أن الظفر في هذه الحروب كان لقريش وآذن بانتصار الجاهلية وأعرافها ، بل إن ( حسان ) قد أعطانا - حين كان في صف الخارجين على رسالة الإسلام ومحاربيها نموذجاً من ذلك فيما حرض به على الرسول ، وفيما عاضد به قريشاً من شعر وهو منطلق حر الإرادة والفكرة قبل أن يكون في صف المسلمين ، ونموذجاً ثانياً، فيما يكون عليه الشاعر المتكلف المضطر من تهافت في القول ، وفي التأثير. 

(فحسان) هذا وهو يقف بين يدي الرسول ، ليقول قصيدته في مدحه ، هو غير (فحسان) الذي وقف بين يدي الأمير الغساني ليقول فيه : 

لِلَّهِ دَرُّ عِصابَةٍ نادَمتُهُم

يَوماً بِجِلَّقَ في الزَمانِ الأَوَّلِ

أَولادُ جَفنَةَ حَولَ قَبرِ أبيهِمُ

قَبرِ اِبنِ مارِيَةَ الكَريمِ المُفضِلِ 

بيضُ الوُجوهِ كَريمَةٌ أَحسابُهُم

شُمُّ الأُنوفِ مِنَ الطِرازِ الأَوَّلِ

يُغشَونَ حَتّى ما تَهِرُّ كِلابُهُم

لا يَسأَلونَ عَنِ السَوادِ المُقبِلِ

والتي يقول فيها : 

إِنَّ الَّتي ناوَلتَني فَرَدَدتُها

قُتِلَت قُتِلتَ فَهاتِها لَم تُقتَلِ

كِلتاهُما حَلَبُ العَصيرِ فَعاطِني

بِزُجاجَةٍ أَرخاهُما لِلمَفصِلِ

حسان  الغساني ، هذا مبدع ، مجلق ، يتبارى فرس رهان مصل ، فرس رهان مجل ، ومبدع ومحلق هو ( النابغة الذبياني ، ، وكلاهما من لحمة الأمير الجاهلي وسداه حباً ، وفخراً ، وعصبية ، وجاهلية .

أما حسان " الاسلامي" الجديد ، فمغصوب على أمره ، مغلوب على جاهليته ، محدود الحرية في إرادته واختياره وقراره. 

ومن "حسان" ، الأول كان ذلك الابداع ، ومن  حسان ، الثاني كان هذا التهافت ، واللين أم، والقول نفسه ، والحكم نفسه ينطبقان بكل معنى الكلمة على كعب بن زهير صاحب اللامية في مدح الرسول (ص) ورسالته حين أسلم بعد أن أشبعه وأشبعتها قولاً منكراً انتصاراً منه لمشركي قريش. وعلى كعب بن زهير "الجاهلي" القح في عهده الجاهلي وفي أشعاره المنطلقة من أي إسار من الإكراه والخوف  والملق 

ولاشك ولا شبهة كما ذكرنا ، أن أكثر من دافع واحد كان يا دفع عدداً غير قليل من هؤلاء الشعراء إلى الاعتزال أو إلى التخفي وعلى الأقل إلى الوقوف وقفة المتفرج على ما يجري في هذه الساحة الجديدة ، أو وقفة المتربص لما عسى أن تتفرج عنه من صرا أن تتفرج عنه من صراعات جديدة ، وزحوف جديدة ، وعصبيات جديدة - وهذا ماحدث بعدئذ - فقد عادت عنعنات الجاهلية  وعصبياتها وهي تنعظ رؤوسها من جديد ، وتسترد عافيتها ، وتنطلق من السنة الجيل الجديد الطالع من شعراء لم تزل تعيش في نفوسهم مواريث الجاهلية بكل خصائصها ، بل ويرتفعون عليها ، بما خلفته الحضارة الاسلامية الناشئة بمستويات أعلى أسلوباً ورقة وفكرة . 

كان هناك دافع البغض للعهد الجديد ، ودافع الخوف من السيف المصلت على رقابهم لو أنهم تصدوا له ، بل حتى لو أنهم مسوه مساً خفيفاً ، وكان هناك دافع الخوف أيضاً من حصار أحاقه النبي ( ص ) ، وضيقه أكثر فأكثر الخليفة عمر على هذه الكوكبة الهامة من كبار مخضرمي شعراء الجاهلية وصدر الإسلام، فيما شدد عليه من نبذ العصبيات الجاهلية والأخذ ببعضها من البعض الآخر الذي قد يقابلها ويناقضها .

 وفيما أوعد به هؤلاء من إيقاع عقوبات شديدة عليهم في ذلك . ثم دافع غضب ذلك الفريق الأكبر نفسه من ساداتهم وشيوخ قبائلهم لو أنهم أرادوا مجاراة هذا العهد عهد الرسالة الإسلامية والتقرب إليه . . ومع هذا فقد تجرأ ابن الزبعرى أن يقول : 

ليت أشياخيي يتدر شهدوا 

جزع الخزرج . من وقع الأسل 

لأهلوا واستهلوا فرحاً 

ثمَّ قَالُوا : يَد زيد ، لا تشل

ومنها هذا البيت اللعين : 

لعبت : هاشم، بالملك قلا 

جاءَ ، ولا وَحْـي نَزَل 

وتجرأ ابن الأشرف اليهودي أن يقول في الخليفة الراشدي ابن الخطاب ولربما كان بمسمع منه 

يتصول أبو حفص عَلَيْنَا بِدرة 

رويدكَ إِنَّ الدَّهْرَ يطفو ، وَيَرْسُبُ 

فَلَوْ كَانَ "مُوسَى" صادقاً ما ظهرتُمو 

علينا ، ولكن دولة ثمَّ تَذْهَبُ 

وتجرا الآخر أن يسخر من النظام الجديد فيقول : 

لَستُ بِصائِمٍ رَمَضانَ طَوعاً

وَلَستُ بِآكِلٍ لَحمَ الأَضاحي

وَلَستُ بِقائِمٍ كَالعيرِ يَدعو

قبيل  الصبح حَيَّ عَلى الفَلاحِ

فلم يخبر التاريخ عن هؤلاء المتجرئين الخائفينولابد أن تطير رقابهم عقاباً على عظم ما يقولون بأن شيئاً من الأذى لحق بهم، فقد كان النبي ( ص ) ، وهو من هو في تعظيم منزلة الشاعر عند بني قومه ومثله الخليفة الداهية ابن الخطاب في ذلك كانا من أحلم الناس ، وأصبرهم على مثل هذه الرواجم ، ومعروفة مشهورة قصة ما كان من أمر أخت ) النضر بن الحارث ( حين عاتبت النبي ( ص ) ، على قتل أخيها النضر وقولها في معرض ذلك : 

مَا كَانَ ضُرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا 

 مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ 

وما كان من أمر الرسول ( ص ) ، وقد دمعت عيناه . إلا أن قال : لو بلغني شعرها قبل أن أقتله لوهبته لها.

أما ( قيس بن الخطيم ) ، الشاعر المبرز ، فقد أصر - وقد أدرك الإسلام ألا يسلم وأن يبقى على جاهليته تأخذه العزة بها ، بل إنه لم يجرؤ أن يطلق امرأته وقد أسلمت خوفاً من عاقبة ذلك عليه ، فاكتفى بما كان يتفنن بة من العبث بها ، والسخرية منها ، من ذلك أنه كان قلبها على رأسها وهي ساجدة 

وأما ( أمية بن أبي الصلت ( فمع أنه التقى بالنبي ( ص ) ، ومع أنه كان في جاهليته يؤمن بالحنيفية ، وله في ذلك أشعار تنسب إليه ، فقد أبي أن يسلم ، بل كان يرى أنه أحق من محمد (ص) بالنبوة . ومثل ذلك - حامي الحمى - ( قيس بن عاصم ) ، الذي -- قال  فيه عبدة بن الطبيب حين رثاه - : 

فَما كانَ قَيسٌ هُلكُهُ هُلكُ واحِدٍ

وَلَكِنَّهُ بُنيانُ قَومٍ تَهَدَّما

فهو لم يكتف برفض الإسلام ، بل إنه بذل دمه في محاربة المسلمين فيما كان بينهم وبين قريش من حروب 

و ( دريد بن الصمة)  الفارس العربي الذي لم يخفق في غزوة غزاها ، ومثله  (المزرد بن ضرار)  . 

أما (ضابي البرجمي) الحاد اللسان ، الخبيث الهجاء ، فيبدو أنه قد أسلم ولم يؤمن، ومع هذا فقد كان سجنه على يد الخليفة عثمان سبباً لكسر بعض أضلاع الخليفة الراشدي على يد ابنه ( عمير ) انتقاماً لأبيه منه .

كل هذه الأسماء الجاهلية المخضرمة اللامعة من الشعراء ، ظلت طيلة ستين عاماً تقريباً : من بداية عهد الاسلام ، حتى زمن ( معاوية ) . ثم عهد ( مروان الحكم ) في العقود الأولى من العهد الأموي متمسكة " بعصبياتها الجاهلية ، عنيدة في خذلان الدعوة الاسلامية ، وهؤلاء الشعراء كانوا بين من ظل على وثنيته وشركه حتى الموت ، وبين من أسلم ولم يؤمن ، اضطراراً أو تكسباً ، وكانت أكثر يتهم الغالبة ، إن لم يكونوا كلهم ، قد انطوت أعمارهم فشاخوا خلالها ، أو ماتوا 

وانبعثت العصبية الجاهلية المكبوتة ، على يد طبقة جديدة من الشعراء  عاشت في ظل الحكم القبلي العشائري الجديد دولة  آل مروان ) من ( بني أمية ) والذي ضم تحت جناحه وسلطانه رقعة لم يكن هناك في كل أدوار التاريخ أوسع منها ، ولا أقوى ولا أخصب ، . 

وطلائع هذه الطبقة الأولى الجاهلية بعصبياتها ، المتحضرة بطلاوة أسلوبها في عناوينها البارزة هم الحطيئة، والفرزدق، وجرير ، والأخطل، ونصيب ، والأحوص ، وطريح . وتمثل هذه الطبقة انبعاثاً في عهد شعري جديد، ينطبع - إلى متانته وقوته ورقته أحياناً أيضاً - بطابع حضاري هو ثمرة تفتح العهد الاسلامي ، والأموي ، فضلاً عن العهد العباسي بعده الذي بلغ الذروة في هذا التفتح الواعي على العالم الحضاري من جهة ، وعلى انتقال حياة الجماهير العربية والإسلامية إلى عهود رخاء وسعة ونعومة لا مثيل لها من جهة أخرى . 


مواضيع ذات صلة
الأدب العربي العالمي, الشعر العربي والشعراء,

إرسال تعليق

0 تعليقات