بقلم: محمد مهدي الجواهري. (مأخوذ من كتاب "الجمهرة مختاراة من الشعر العربي" لمحمد مهدي الجواهري)
لم أعثر في كل ماكتبه المعاصرون - وعلى ضوء العصر كما يقولون عن الشعر الجاهلي - ما يستحق المناقشة والمحاورة على أهم مما جاء به ( أدونيس ) في مقدمته لكتابه ( ديوان الشعر العربي ) ، والدكتور طه حسين في كتابه ( الأدب الجاهلي ).
إن أدونيس يمثل اتجاهاً جديداً هو في حقيقته وجوهره أبعد ما يكون --- كما يفترض - عن التراث العربي ، لأنه – أي هذا الاتجاه الجديد - إنما يستمد جذوره أولاً وقبل كل شيء من مدرسة الأدب الغربي . والسيد أدونيس أحد الملمين بهذه المدرسة إلماماً واسعاً مكنه من إتقانه اللغة الفرنسية ، فإن تجمع هذه المدرسة إلى ذلك إلماماً واسعاً أيضاً بالتراث العربي الأصيل - وقبل كل شيء وهو موضوع مناقشتنا إياه - ففي الشعر العربي شيء أكثر من لطيف ، وأكثر من مفيد ، وهو لا أقل من أنه هام جداً، ومثله أهمية - ومن ناحية معكوسة - أن يكون الحديث عن هذا الشهر الجاهلي مدخلاً غير مقبول لتشويش أذهان الجيل العربي الناشيء والصاعد على حد سواء ، وأكثر هذا الجيل مع الأسف ممن يؤخذون في هذا المجال على حين غرة لبساطة ما يفهمون عن الشعر الجاهلي ، ولبساطة ما يفهمونه هو بالذات ، وعندما يعلمهم السيد أدونيس أن خير ما يكون هذا الشعر حين يصبح بعيداً عن ( البيئة ) بعيداً عن ( المجتمع ) ، بعيداً عن ( السياسة ) ، بعيداً عن هموم الناس وأفراحهم ، وآلامهم ، وهو ما ألمعت بمناقشته في كلمتي هذه من الجمهرة في المختار من الشعر العربي في مختلف عصوره .
والسيد أدونيس لا يقوم الشعر العربي على أساس مواضيعه ، بل على طريقة التعبير ومدى تجاوبها مع القيم الشعرية المعاصرة ، ومع فهمه الشعر.
ويبدو منه هذه المرة أنه يعود - مرة أخرى - إلى الغموض بقصد المغالطة ، أو بقصد التهرب ، فهو لا يوضح أية قيم شعرية معاصرة يريد ، والحديث هو حديث الشعر العربي طبعاً ، ولا بد إذاً من أن تكون القيم الشعرية عربية ، بلا شك ، ولكن هذه القيم المعاصرة بهذه الصفة تسبب محرجاً له ، إذ لابد أن تكون قيماً شعرية تراثية ، امتداداً لهذا النوع الجميل المنغم المعبر عن نفسه وعن صاحبه وعن عصره ، والذي ألف - السيد أدونيس - ثلاث مجلدات زاخرة بما اختاره هو منها ، وهذا سيجره حتماً إلى ما لا يحب ولا يرضى من إيراد نماذج مختارة منزلة على أحكام هذه القيم ، الأمر الذي جعله يعفي أكثر من ستين صفحة بالحرف الدقيق في مقدمته الأولى والثانية من إيراد كلمة واحدة في معرض كل الآراء والنظريات والاستشهادات التي أدلى بها فيهما.
إذن فلتكن التعمية والغموض ، والتهرب ، والمغالطة ، ولتكن قيماً معاصرة حسب ، فإذا ضويق بشأنها تخلص - أو أحسن التخلص - إلى أنه يريد القيم المعاصرة التي ينسج هو ومن نحا نحوه - عليها ، خارجين بها على كل ما يمت إلى التراث العربي الأصيل الذي يدافع عنه أدونيس نفسه .
وهو في معرض آخر - يميل إلى اعتبار «المدح والهجاء وما يشابههما، أو يتصل بهما ، جزءاً من تاريخنا السياسي ! والاجتماعي ! وجزءاً من تاريخنا الشعري . .
أني كلام هذا ، و «مايشابههما ، أو يتصل بهما؟ وأول ما يتصل بالشعر الهجائي - ولا شأن لي كما لا شأن له بالتحدث عن المدح والرثاء - هو الشعر الثوري ، إذ لا تنفك روح الثورة بين الفرد والفرد أو بين الفرد والجماعة عن أن تكون دلالة على استعداد الشاعر أن يكون . ثائراً على مجتمع أو حكم ، أو أن يكون ساخراً - والشعر السخري بدوره باب رائع من أبواب الهجاء الثوري - من ذلك كله ، ومن الناس ، بل ومن نفسه في أن يوجد رهينة هذا المجتمع أو ذاك الحكم وهؤلاء الناس ! وفي التراث العربي ، وفي الشعر المعاصر روائع كثيرة من هذا وذاك ، فهل يجب ألا يكون ذلك كله من تاريخنا الشعري وأن يكون التسبب لهذا المسبب أتعس منه، وأسوأ وقعاً ، أي يجب إهماله لمجرد أنه من تاريخنا السياسي والاجتماعي ، ولماذا هذا التخوف من هذين التاريخين ، وأنت وأنا وهو وهي وأنت وأنا وهو وهي محكومون - شنـــا أو أبينا - لهما ولأحكامهما ، وإلى ذلك فمسؤولون بضمائرنا ، وانتماءاتنا ، وأحاسيسنا عن المشاركة كل على قدره في إقرارهما ، أو شجبهما ، أو الثورة عليهما ، وإن بأضعف الإيمان.
لشد ما يعجبني - وأنا في هذا الصدد وأنا في هذا الصدد - وأمامي كتيب صغير متواضع معاصر - على أهميته صدر حديثاً وأنا أكتب هذه المقدمة لأديب عراقي معروف متواضع شأن كتيبه هو الأستاذ السيد هادي العلوي وعنوانه ( ديوان الهجاء العربي ) منتخبات من التراث الشعري من العصر الجاهلي وما بعده.
لشد ما يعجبني أن أهدي مقدمته الجميلة الصغيرة إلى صديقي أدونيس .
أما هو السيد العلوي - فقد أهداه بدوره :
إلى ناصر السعيد ، رهينة الزمان الذي هجوناه معاً .
هادي العلوي
وقدمه ببيتين لـ ( عبدان) هما :
وقالوا في الهجاء عليك إثم
وليس الإسم إلا في المديح
لأني إن مدحت مدحت زوراً
وَاهْجُو حسين أهجو بالصحيح
قال السيد العلوي :
الهجاء فن أدبي أصيل ، يختلف عن معظم فنون الشعر الأخرى في كونه يصدر عن الذات الشاعرة ، غير متأثرة باعتبارات المصانعة أو المصلحة ، وغالباً ما يكون ثمرة لمعاناة شخصية ، تتحدد في معزل عن عوامل الضغط في المجتمع أو المعشر أو الدولة ، مما قد يعني في حد ذاته قدراً من المجابهة ، تضاعف في ذاتيته ، وبالتالي من حيويته بوصفه فنا.
ويمكن أن يكتسب الهجاء من هذه الناحية مضموناً اجتماعياً أو سياسياً يضعه على ملاك الأدب الملتزم ، وهو هنا لا يعود شتماً شخصياً محضاً ، بل انتقاداً واعياً لحالة ما ، اجتماعية أو سياسية أو دينية ، وما في حكمها . ويبقى الهجاء في هذا المنحى من أساسيات الموقف الاجتماعي المتقدم ، مكتسباً مصداقه من الضرورة التاريخية للفعل الثوري ، سواء . كان في هذا الفعل فضحاً موجهاً ضد المؤسسة القائمة التي افتقدت شرعيتها ، أم نقداً موجهاً ضد المؤسسة الجديدة التي جاء بها الحدث التاريخي لأداء دور ما مادام هو يبرر شرعيتها الراهنة ، من دون أن يكسبها الحصانة ضد الهجاء . وقد برهنت ماجريات التاريخ ، ماضياً وحاضراً ، على أن الهجاء أقرب للفعل الثوري منه إلى المدح بأشكاله ومضامينه المختلفة .
لقد مارس قدماؤنا بعض حقهم في الهجاء على المستويات والمجالات المختلفة ، وتجاوزوا في أحوال معينة محوره الشخصي إلى السياسي والاجتماعي، فخلفوا لنا قطاعاً منه ملموساً وإن لم يكن واسعاً . أقول ذلك بالنظر إلى الثمن الذي كان يقتضيه استعمال هذا الحق ، وبالنظر إلى الاتجاه المؤسسي في المعشر الإسلامي القديم الذي وضع أدب الدفاع في صلب مهام المسلم الصالح ، جارياً في ذلك على السنن المنحرف لمعظم المؤسسات المستجدة في التاريخ. ولعل هذا ما يفسر طغيان شعر المدح على شعر الهجاء في ديوان الشعر العربي ، رغم أن الحاجة العامة للأخير كانت أمس وأكثر ضرورة.
لقد رصدت هجاء الموقف في عطاءاته الأكثر غنى بالمضمون الاجتماعي أو السياسي ، دون اعتبار لمستوى العنصر الفني ، الذي تركته للهجاء الشخصي أو القبلي ، ومن هنا سيجد القارىء خطين عريضين للاختيار ، روعي في أحدهما المضمون الخالص ، وفي ثانيهما الفن الخالص . وهما خطان سيكونان متمايزين ولكن دون أن ينفصلا تماماً ، ذلك أن كثيراً من النصوص في هجاء الموقف لن تخلو الواقع من مقومات فنية متقدمة ، رغم أني لم ألتزم هذا الشرط في اختيارهما.
والسيد أدونيس يدس على الأدب المعاصر دساً ماكراً ، هووإن بدا شبه ضائع بين طيات اصطلاحات جديدة مبطنة لاهوتية مطلقة ، فإنه غير خفي على ذي بصر بمعرفة اتجاهاته الفكرية والأدبية والسياسية أولاً ، ثم على كل من يفهم الأدب والشعر والإبداع والتجديد ثانياً ، أنها كلها موظفة لتتعدى حدود الانطوائية الذاتية أو الاعتكاف على أهواء محدودة وأغراض ضيقة ، وأنها يجب أن تتعدى ذلك إلى حدود المشاركة مع أوسع طموحات الناس ، وأعمق خفايا أحاسيسهم ومشاعرهم، وبدون ذلك فكيف يتم التجاوب بين الشاعر وبين الآخرين ، بل كيف يمكن ردم الهوة التي يحس الشاعر بفراغها في نفسه وأحاسيسها لا يتجاوب إلا مع أصدائها المكررة المعادة إلى نفسه ذاتها . فهل أن السيد أدونيس يؤدي أمانة - كثر حديث الناس عنها - هي أن يشارك ( المتهمين ) ممن أتمنى من صميم قلبي قلبي أن أحاشيه عنهم.
ولنبسط هذا الأمر أكثر فأكثر ليكون كل على بيئة واضحة من أمره ، فالسيد أدونيس معني كما يرى بالتراث العربي ، وقد اختار المجموعته عنواناً هو ( ديوان الشعر العربي ( مذكراً بذلك - مهما حاول إخفاءه - بالكلمة المأثورة : ( الشعر ديوان العرب » ، وهو للمرة الثانية - وبحق - قد أحسن الاختيار فيما أورده من مختارات .
وهو قد تجاوز في هذا الاختيار حدود ) الشعر الجاهلي ) وتعداه إلى الشعر الإسلامي ، والأموي والعباسي وتجاوز كل ذلك إلى العصور شبه المظلمة ، وإلى خير ما لدى شعراء هذه العصور من شعر هو على كل حال وعلى كل جهد في اختياره ، شعر مزخرف منمق ، أقرب إلى النظم منه إلى الشعر.
والسيد أدونيس يجيء بهذه المختارات منذ سبع سنوات أو ثمان ليس أكثر من ذلك . أي ما يشبه ( أمس الفائت ) ويجيء بها ، وقد بلغ الشعر العربي المعني به السيد أدونيس عناية لم يغفل معها أن يجيء حتى بنماذج من أدنى المستويات فيه .
نقول : وقد بلغ الشعر العربي على ألسنة شعرائه الأصائل أعلى مستوى كان عليه ورقى إليه حتى وهو في الذروة من العهد العباسي على لسان المتنبي وأبي العلاء - على سبيل المثال ، فمن هو - على وجه الافتراض المنطقي - أحق منه بأن يكمل هذه الحلقات بما لا يجوزبحال من الأحوال أن تكمل بدونه ، وهو التعريج على ماوثب إليه الشعر العربي في القرن العشرين ، وما استكمل من روح المعاصرة على الا ينسى أنه شعر عربي من مجتمعات عربية قفز قفزات هائلة فوق كل حواجزها واخترق كل حصار مضروب عليه من واقعها المتهافت ، وتخلفها الحضاري وأنظمتها الرجعية ومقاييسها الأدبية ومعاييرها الخلقية .
أكان ذلك منه ، ألأنه لا يدين ولا يعترف إلا بهذا الوضع الوجودي الذي انبعث من خلاله حس الدهر أي القوة الخارقة التي لا يمكن
مقاومتها ؟ .
هذا الوضع الوجودي الذي ليس المستقبل فيه إلا ماضياً مموهاً ، وأخيراً فهذا - الوضع الوجودي - الذي انبثق عنه ، كما يجب أن
يصور أدونيس الشاعر الجاهلي.
أم كان ذلك تجنباً منه لهذا التقليد الطويل العهد والذي أفسدته الذائقة الأدبية عند العربي ، وهو تقليد « السياسة ، والدولة وصراع الحكم وما يرافقه أيضاً ؟.
أم لأن الشاعر ، إذ سيطرت عليه الحالة المحيطة به ، اجتماعياً وتاريخياً ، جرفته وصيرته صوتاً شاحباً وصدى من أصدائها الباهتة ؟
أم لأنه لا يصح أن تحدد أثراً شعرياً بمحتوى سياسي أو عقائدي ولا بمقياس سياسي ؟.
وأخيراً ، أم لأن ديوان شعره العربي هذا يضم شعراً لا يخدم مذهباً ولا عقيدة ، ذلك فهو وحده مجدنا الشعري.
من أجل هذا وذاك وذياك كله قطع سلسلته الشعرية في ديوان الشعر العربي قطعاً مفاجئاً ، ونابياً أيضاً ونابياً أيضاً ، تجنباً منه لما قد يفسدها بالتعريج - كما قلنا - على عه على عصر جديد جاء يخرج ما في التراث العربي الذي يعجب به أدونيس من جديد.
حتى لو اعتقدنا هذه الاستهانة منه بكل ما يمت بصلة إلى أن يدور الشاعر في فلك أوسع من ذاتيته المحدودة ، وخارج دائرة أحاسيسه ومشاعره ، وهمومه ، وأفراحه الضيقة ، فهل بوسعه الاستهانة بالشاعر المعاصر وهو يدور في ذلك الفلك عينه وفي إطار تلك الدائرة نفسها ، وهو إذ يفعل ذلك - أي إذ يجيء بما يرضي السيد أدونيس - يبدع فيما يجيء ويحلق فيما يطير.
أم إنه منزعج كل الانزعاج من أن يكون الشاعر المعاصر - الأصيل طبعا- نموذجاً مختاراً له إلى جانب ما كان عليه الشاعر الجاهلي نموذجاً مختاراً له ، ومطمئناً كل الاطمئنان ومرتاحاً كل الارتياح لمجرد أن السيد أدونيس إنما وضع ( ديوانه (هذا للشعر العربي في كل عهوده الغابرة، ليكون مدخلاً قوياً إلى التأثير على الأجيال العربية الصاعدة ، والإيماء إليها أن ليس هناك شيء يستحق الذكر من هذا الشعر ، والحجة أن واضعه شخص مثقف ، متمكن من أسرار اللغة العربية معجب بها بل ومنظر لها.
أما الدكتور طه حسين ، فعلاوة على ضخامة هذا الاسم ، وكثرة معطياته في عالم الشعر - وإن نفاه عنه السيد العقاد - والأدب ، والتاريخ ، حتى ليكاد أن يكون في مجال النثر والكتابة بمنزلة ( المتنبي ) في مجال الشعر شاغل الناس ومالى الدنيا ، فهو إلى ذلك يمثل اتجاها يحاول به جاهداً أن يكون نهجاً معاصراً ، بمنزلة ( الوسيط » أو الحد الفاصل بين المدرسة المألوفة ، المقلدة والمنسوخة ، وبين المدرسة الحديثة المتطرفة والناسخة ، القائلة بما تشاء من آراء وأهواء ، دون تبصر بواقع المجتمعات العربية ، ولا بحقيقة أحاسيس الأفراد والجماعات فيها ومشاعرهم ، ولا بمدى تشرب دمائهم ، وأذهانهم ، وطبائعهم أصداء الحرف العربي المنغم ، المرقق ، الذي يناغيهم ويناغونه مدى عشرين قرناً أو يزيد.
فيحاولون وهم يتجاهلون الطفرة السريعة ، شبه المرتجلة على كل هذه البنى الاجتماعية ، والنفسية والفكرية ، وباختصار : فصل التراث العربي الأصيل المنحدر إليهم ، وذلك بإحدى طريقتين، إما طريقة جلب ما يتيسر لهم من أحاسيس ومشاعر ومن أساليب وقوالب ، ومن أفكار وخواطر تزخر بها آداب عوالم أجنبية تعيش في غير عوالم المجتمعات العربية ، وتفكر بغير عقولها ، وتغني غير مشاعرها وأحاسيسها .
وإما طريقة ابتداع القفز بيسر وسهولة على قوانين الأصالة والإحاطة والإبداع والتفرد التي تتطلبها موازين الشعر العربي المنغم المموسق ، والمطور، إلى أسلوب تناول الحرف العربي منفلتاً من ضوابطه ، متضائلاً في شخصه وفي شخوصه ، متهافتاً في نسيجه ، ركيكاً في بنيانه .
والدكتور طه يسخر - بحق من النهج العتيق في دراسة الأدب العربي والشعر العربي بخاصة في جاهليته وفي امتداده إلى شي العصور المتعاقبة حتى يومنا هذا.
وهو يسخر أيضاً - وبحق - من هؤلاء المبتدعين الجدد الذين هم بين من يستسهلون ما ينسخون من أدب غربي لا صلة لهم به ، ولا يمت إلى مشاعرهم وأحاسيسهم ، ولا مشاعر بني جلدتهم وأحاسيسهم ، ولا يلبي حاجة من حاجات قومهم ، ولا يمس بشيء من ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ، وبين هؤلاء الذين يقتحمون ميدان الشعر وهم عزل من كل مقوماته الأصيلة ، ويحاولون قطع مراحله دون زاد من التراث ، فيجيئون به مهلهلاً ، ركيكاً ، محاولين التستر على هلهلته كما يزعمون لم ينزل بها من العربي وركاكته بابتداع صور جديدة سلطان ، مجدبة ، باهتة ، دون ما نغم ولا انسجام ، ولا إيقاع.
ومع هذا فالدكتور طه عندما يتحدث عن هذا النهج التراثي المعاصر الذي يختاره فإنه يغالي كل المغالاة فيما يريده لدارسي العربي على هدي منه ، وذلك فيما يطرحه عليهم من شروط تعجيزية ، بما يجب عليهم ، أن يلموا به من شتات التاريخ القديم والحديث ، ومن اللغات الأجنبية بما فيها اللغة اللاتينية بوصفها المدخل إلى حضارة الإغريق و آدابهم وشعرائهم وأساطيرهم.
ثم إنه وهو يدعوهم في مقدمة كتابه ( الأدب الجاهلي ) إلى التحرر العقلاني في اتخاذ موقف جريء من كل ما في التاريخ العربي بعامة ، والأدبي بخاصة ، والشعري بوجه أخص ، وذلك عن طريق اتخاذ الشك ذريعة للوصول إلى اليقين ، فإنه - مع الأسف - يقدم هو نفسه بعد صفحات من هذا الكتاب بالذات نموذجا يختلف كل الاختلاف عما يوحي به إلى الآخرين ، فهو يقف موقفاً غير محايد لا في تناول الأمور ، والأشياء ، والأشخاص ، في كل ماله مساس بالشعر والأدب ، ولا من حيث النظرة الشاملة إلى مجرى الأحداث ومضاعفاتها ومستلزماتها ، ولا إلى المشمولين بها ، والمأخوذين قسراً بأحكامها.
والأمر كذلك في نظرته إلى الفتوحات الإسلامية ، وبخاصة الفتوح التي أطاحت بكثير من الكيانات القومية وغيرت معالم ثقافاتها وأعرافها ودياناتها ، وأصبح كثير من أحرارها ، نساء ورجالا ، شيوخاً وأشباناً في عداد ( الموالي ) .
ان الدكتور طه حسين ، يقف من كل ذلك ، وهو بصدد تأثير هذا وذاك على الاتجاهات الأدبية وتياراتها ، ومضاعفاتها موقفاً تسوده الأفكار الجاهزة والأهواء الخاصة سلفاً ، قدر ما يسوده الارتباك والتعثر ، والهلهلة تبعاً لذلك
فهو ينظر - مثلاً - نظرة مختلطة مشوشة إلى مدى تأثر الأدب العربي والشعري منه على وجه التخصيص والتفصيل ، بالحضارة الفارسية والإغريقية ، فيبدو ذلك مبدى الملم بهذه المرحلة المدرك لأهميتها ، المرحب والمؤهل بها.
بيد أن الدكتور طه عان مانسي ذلك حين يتحامل بكل قساوة ، وظلم وتحيز ، على كل شيوخ العلم والأدب والرواية ، والحديث والشعر - والشعر بخاصة من ذوي أصل غير عربي ممن ساهموا مساهمة عظمى في خدمة الحضارة الاسلامية في كل هذه المجالات.
فهو في كل تضاعيف سطوره وصفحاته لا ينفك عن التشكيك في أمانة هؤلاء الشيوخ وفي صدق ولأنهم وفي اتهامهم بالدس على الإسلام ، وعلى الأدب ، وعلى الشعر ، من دون سند بذكر ، أو حجة مقنعة ، وهو إلى ذلك ، حينما يتحدث عن الموالي ، من هؤلاء الشيوخ ، فإنما يتحدث بلغة الجاهلية نفسها ، بل إني لا أظلم الجاهلية بذلك، فلم يكن العربي الجاهلي يتحدث عمن استرقه بمثل هذا الحقد، ولا بمثل هذه الغطرسة ، ولا يمثل هذا الادلال الذي أخذ السادة العرب في صدر الإسلام وفي العهد الأموي على وجه التخصيص يتحدثون به عن الخلق العظيم الذي دخل الإسلام من كل حدب وصوب لأنه رسالة إيمان جديد ، استهواهم ، فآمنوا بها ، وليس لأن تعود هذه الرسالة عصبية عربية جاهلية من جديد أيضاً ، فيسترقون بها ، ويتعبدون ويذلون.
والدكتور طه حسين يتحدث في كتابه ( الأدب الجاهلي) - وفي القرن العشرين - عن الموالي بتلك اللغة نفسها وينظر إليهم بتلك العين نفسها ، فلا تجد عنده سيداً غير عربي دخل الإسلام طوعاً وإيماناً ، إلا أصبح عنده عبداً و مولى ، حتى وإن بلغ أعلى ذروات العلم ، والأدب ، والشعر ، فلا يكاد يغادر الدكتور طه حسين أحداً منهم دون مغمز وملمز ومطعن ، ناهيك عن نفي العروبة عن أعظم الشعراء العرب ، والانتقاص من منزلتهم الشعرية . حتى إنه ليلجأ إلى أسلوب ( الأزهريين ( المتزمتين فينتقص البعض من هؤلاء الأعلام لأنهم يتعاطون شرب الخمرة مثلاً .
فأين هذا كله من نصائحه للجيل العربي الجديد وتوصياته لهم باعتماد الشك الديكارتي للوصول إلى مواطن اليقين ، ثم بالدعوة إلى حرية البحث ، وحرية التفكير . إن كل هذا النهج الثاني الذي يسلكه ، طه حسين في البحث لايمت إلى نهجه الأول في تعليم الطرق الموصلة إلى نزاهة البحث بل إنه نهج مناقض بشكل مفضوح لوجهه الآخر.
إن هذا النمط الذي يتعاطاه طه حسين في التعامل مع التاريخ في مجالاته العلمية والأدبية والفكرية قد سبقه إليه الكثيرون في عصرنا الحاضر من غلاة المتعصبين عرقياً ومذهبياً، من المتخلفين - وحاشاه - فكرياً ، وأكثرهم مغالاة في ذلك و حاشاه أيضاً -- من ليس لهم حسب صريح ، ولانسب نظيف يمتون به إلى الناس في عالم الدنيا العربية ، فلا أسهل عليهم من أن يتغطوا بدثار ادعاء العربية ، فقد يكون مرد هذا حاجتهم وغدرهم ، ولكن بالطعن في أنساب الآخرين أيضاً ، و بشم من لا يمت منهم إلى العرب والعروبة بأكثر من عشرة أجداد على أقل تقدير أي بما يسمى (بشجرة النسب ) ، فماذا أن يبقى للدكتور عسي طه حسين في مجال المزايدات عليهم ، ثم ماذا يبقى من الدكتور طه حسين الجليل نفسه ، وهو يدخل في عوالمهم .
ومن هنا تأتي أهمية كتابه ( الأدب الجاهلي ) ، فالذي العنوان - الأدب الجاهلي - وللدكتور طه بالذات ، لا يخطر على باله قبل أن يطلع عليه إلا أنه دفاع عن دفاع عن الأدب الجاهلي ، وكشف أسرار جديدة عنه ، وعن عصره وعن شعرائه ، وما إلى ذلك مما لم يأت به أحد من قبل ولا على مثله أحد من بعد ، وكما يليق بكتاب يحمل اسم صاحبه الضخم .
ولكن ماذا سيجد وهو يتصفحه من مفاجأة لم يحسب حسابها ، إنه سيجد فيه رجلاً يحاول جاهداً - دون جدوى - أن يتنكر للشعر الجاهلي برمته ، ثم أن ينكر الشعراء الجاهليين بقضهم وقضيضهم .
ثم يعرج بعد هذا وذاك في مطاوي كتابه هذا ليجرد الأمة العربية كلها وفي أزهى عصورها ، من كل ما عندها من تراث عربي أصيل في الشعر ، هو خير ما تعتد به كل العصور التالية، وذلك عندما ينفي أعلامها الشوامخ عروبتهم ، ثم يحكم عليهم بافتعال الشعر وصناعته
و لكيلا أطيل على القارىء دهشته ، فاني أضعه وجهاً لوجه الدكتور طه ، حيث يقول ما نصه : ( فأما في العصر العباسي فقد أصبح الشعر شائعاً بين العرب من أهل الشمال والجنوب والموالي أنفسهم ، فلا أن ينبغي يعتد بالطائيين ! ! [ ويقصد بهما أبا تمام والبحتري ] ولا بالسيد بالحميري ، فهم كأبي نواس ، وابن الرومي ، والمتنبي - والمتنبي ( مرة ثانية ) والكلام هنا للدكتور نفسه ] ، لم يكونوا من العرب في شيء ، وهم قالوا الشعر عن قالوا الشعر عن تعلم وصناعة ، وقالوه في غير لغتهم الطبيعية ، وقل : إنهم قالوه في هذه اللغة التي أصبحت بحكم الدين والسياسة لغة الأدب »
فهل قدرتُ أن أقرب إليك الدكتور طه في كتابه ( الأدب الجاهلي ) وعجائبه ؟ وأفظع مافي هذا القول الفظيع : أن المتنبي العظيم عنوان ( التاريخ العربي ) ومجده الشامخ لم يصبح « أعجمياً ، حسب بل و مضرب المثل في ذلك ) كالمتنبي ( على حد تعبيره !! أي على قاعدة ( إن المشبه به أقوى من كل المشبهين » .
ومرة أخرى إن ( المتنبي ( صنو في العجمة لابن الرومي الشاعر العبقري العظيم بنفسه ، بعيداً عن الأنساب وجاهليتها ، صنو لمن ولد أعجمياً ، وفي بلاد الروم ، وحتى هذه الشبه المنكرة لدى طه حسين فخر جديد إلى فخر ، أن يكون هذا الشاعر الناطق بالعربية من العباقرة الخالدين في جملة أمثاله من ذوي العبقرية والخلود في تاريخ الشعر العربي بل وإنه في الطليعة منهم. أما أبو فراس فهو عربي الأهواز وموطن القبائل العربية ، وليس من ( الموالي ( الذين يحتقرهم الدكتور طه حسين.
فما هذه العصبية الجاهلية من رجل مسؤول عما يقول كالدكتور طه ، ولماذا هؤلاء الشعراء الأعلام الستة ! وهم إلى ذلك أعلام الشعر العربي ، أما المتنبي فللدكتور طه حسين معه - وحده دون غيره - ثارات جاهلية لا تنسى ، ولم يتشف منها بكتابه ( الأدب الجاهلي ) حتى أضاف إليها كتابه ( المتنبي ) ، هذا الكتاب الذي لايزيد مستواه الأدبي والفكري والتحليلي عن ) الأدب الجاهلي ( ذاك، وهذه الثارات - قبل كل شيء - أن المتنبي كفر حين قال قبل مائة وألف عام في حاكم أجنبي مملوك حكم مصر - وهو كافور الإخشيدي : إنه وهو النبطي الأنساب والأحساب - . وإنه وهو العبد الأسود - يقال له تزلفاً وتملقاً : إنه بدر الدجى ، وإن أمه ( النوبية ) لم تدر أن « بنيها » النوبيين يعبدون الله.
كل ما للدكتور طه عند المتنبي من ثارات إقليمية أكل الدهر عليها وشرب هو شيء من هذا القبيل . ولم يشفع عنده للمتنبي أنه الثائر العربي الأصيل على كل ما في أمته من عيوب ومن جيوب ، وان نصيب المحكومين منهم ، بواقعها المرير بواقعها المرير ، لا يقل عن لا يقل عن نصيب الحاكمين المتسلطين إذ ذاك ، ولا أن حاكميها أراقب ( مفتحة عيونهم نيام . . . فهو إذ يتناسى ويتجاهل كل ذلك عن ( المتنبي العظيم ، ، غير كثير عليه أن ينتقص منه كل الانتقاص في كتابه ( المتنبي ، وأن ينفي عنه حتى عروبته في كتابه الأدب الجاهلي.
والدكتور طه وهو يجافي كل منطق حين ينفي عروبة المتنبي لمرارة يجدها في نفسه وعروبة أبي تمام والبحتري هو نفسه الذي يقول عن نفسه - وبحق و منطق - وعن كل مصري آخر : إنهم عرب لمجرد أنهم يعيشون بيئة عربية ومجتمعاً عربياً ولساناً عربياً ، ولا يعرفون ولا يعترفون بأنساب أخرى .
والآن فإلى موقف طه حسين من الشعر الجاهلي والشعراء الجاهليين ، وسيجد القارىء في هذا الموقف ، شأنه في موقفه ذاك ، ما لا يكاد يصدق ، فطه حسين يزعم أنه يتخذ الشك طريقاً إلى المعرفة والحقيقة ، ويطيل الحديث بأكثر ما يجب عن هذه الطريق وتلك المنهجية ، وبعد هذا كله فلا تجده إلا وقد اتخذ الشك طريقاً إلى النكران ، أي إلى نكران متعمد أعد له العدة سلفاً ، ثم اتخذ الشك مطية من مطاياه إلى غايته تلك.
فهو يعد السبب قبل المسبب، والمعلول قبل العلة ، والنتيجة قبل المقدمة ، ولكنه يتصنع التسبب والتعليل والمنطق تسويغاً للملك من من جهة وإثباتاً لمدى تحوطه في الأحكام التي يصدرها من جهة أخرى ، ومن هذا وذاك فمدى ماهو عليه من إلمام وعلم واطلاع من جهة ثالثة.
فهو ينكر وجود ( امرىء القيس) مثلاً لمجرد أنه شك بوجوده ، ولمجرد أن الإغريق قد شكوا بوجود (هوميروس ) ولمجرد أن هذا قد كثر الحديث عن تنقله في ربوع اليونان وقبائلها وأن امرأ القيس قد كثر الحديث عنه ، وعن تنقله بين قبائل العرب.
أما ما هو موطن الشبه بين امرىء القيس وبين هوميروس ، وأما ماهو وجه المقارنة بين الرجلين في مستوى الفكر والعلم والعبقرية بين رجل لا يعدو كونه شاعراً من بين أكثر من مني شاعر في أمته وإن امتاز منهم بالفحولة في ترقيق حواشي الكلمة ، أو أنه وقف واستوقف وجاء بالجديد والطريف مما لم يؤلف عند الآخرين من الشعراء الجاهليين .. وبين رجل هو صاحب أكبر ملحمة شعرية.
ثم ماهي العلاقة بين تنقل (الرجلين)، فما قيل من ذلك عن هوميروس فإنما يقصد به التدليل على مدى تغلغله في الأوساط الاغريقية ، وامتزاجه يناسها ، وإلمامه بتقاليدها وأعرافها وأساطيرها وحكاياتها وبأبطالهم وأبطالها.
وتنقل امرىء القيس كان بإجماع الرواة طلباً للنجدة للأخذ بالثأر من قتلة أبيه ( حجر ملك كندة ) وإذا لم نثبتها هي أيضاً فلماذا لا يتطرق بنا الشك إلى نكران إثبات غيرها من القبائل العربية، ونكران شعرائها كلهم.
وبعد هذا كله ، وبعد أن يلف طه حسين بنا ويدور طيلة عشرين صفحة فإنه يعود بنا إلى حيث ابتدأ من الشك ثم إلى شيء يناقضه وهو الإثبات ، وذلك عن طريق إثبات شيء من شعر امرىء القيس ، وهو بطبيعة الحال إثبات لامرىء القيس نفسه ، شاء ذلك الدكتور ( طه ) أو لم يشأ .
أما موقفه من قصيدته اللامية ( المعلقة ) وتطرق الشك حول بعض أبياتها وإثبات بعضها فعلاً ، مما يدل على ما عرف من مزاج صاحبها امرىء القيس وحياته الخاصة ، فقد انتهى إلى نهاية عجيبة.
تلك أن وصفه الخليلته ، وزيارته لها ، وما كان بينهما من لهو ، أشبه بشعر عمر بن أبي ربيعة من أي شيء آخر » ، إلى آخر ماهناك من ملء فراغ صفحتين تقريباً تسويغاً متهافتاً لهذا الزعم.
في هذه المختارات ( الجمهرة ) طائفة مختارة من شعر عمر بن أبي ربيعة ، ونحن - بحكم الاختصاص ومعاطاة الشعر أكثر من نصف قرن - من حقنا أن أن تزعم أننا أولى من الدكتور طه حسين بتمييز هذا الشعر أو ذاك من غير هما وبالحكم على مستواهما ، وعلى مضامينهما ، وعلى مزاج صاحبيهما ، فالدكتور طه لا ينكر ، ولا يشك أبداً في أنه - في المجال الشعري - ليس هو الدكتور طه في المجال النثري والكتابي .
فأي جامع يجمع بين هذه القصيدة والقطعة وبين أبيات معدودة مقطوعة عما قبلها وما بعدها لامرىء القيس ، حتى وإن كانت تدخل في الغزل والتشبيب مدخل عمر بن أبي ربيعة في ذلك ، فكل ماهو من هذا أبيات لدى كل شاعر جاهلي أو إسلامي، أو أموي أو عباسي يصل إلى هذا المدخل ويوصل إليه أيضاً ، فهل هو حتى أن يكون أي واحد منهم قد أخذ عن الآخر ، والأصح أن نقول : قد سرق منه ، حتى ولو أن السارق كان قبل أن يخلق المسروق منه بأكثر من مائة وخمسين عاماً . كما هو حال امرىء القيس حال امرىء القيس مع عمر بن أبي ربيعة فلم يبق من هذا التعليل الغريب للدكتور طه لأبيات امرىء القيس إلا أن يصبح نكتة من النكات ، ولم يبق إلا أن يكون سارقاً وإلا فمن هو الذي أدخل على معلقته هذه الأبيات المنحولة ، المفرغة ، لو أنها كانت مفرغة ، على نفس ابن أبي ربيعة وأسلوبه المحتكرين ، ما اسمه ، وما عصره ، وعمن روى ، ومن الذي روى عنه ولماذا صنع ذلك ، ولا شيء من ذلك لدى الدكتور إلا قوله : « وأكبر الظن
والأتكى من ذلك أن شيء مما أتى به امرؤ القيس في أبياته تلك ، فهو لم يعد إلى صاحبته في محمل ، ولم يكن من السمنة بحيث يكاد أن يعقر بعير حبيبته فتطلب منه أن ينزل عنه ، وهو لم يطرق حبلى ، ولا مرضعاً ، يلهيها ( عن ذي تمالم محول ..
عمر بن أبي ربيعة نفسه لم يأت في كل شعره لقد كان شعر عمر بن أبي ربيعة حضارياً بكل معنى الكلمة ، وصورة صادقة عن حياته وعيشته وبيئته وعصره ، ومنسجماً كل الانسجام مع نفسه ، فما هي العلاقة التي تستوجب أن ينحل الناحلون إلى امرىء القيس بعد مئة وخمسين عاماً ما لا يشبهه نسجاً وصياغة ومعاصرة وحضارة.
والدكتور طه يثير الشك حتى في وجود عبيد بن الأبرص الذي عاش في الجاهلية ومات في صدر الإسلام ، أي في العهد الذي كثر فيه الرواة الموثقون والمحدثون والمؤتمنون . إننا نقف من ( عبيد ) و من شعره موقفنا من ( امرىء القيس ) إن كل ما تقرأ من أخبار عبيد لا يعطينا من شخصيته شيئاً ولا يبعث الاطمئنان إلا في نفس العامة أو أشباه العامة .
هكذا وبكل بساطة ، وأنت إذا لم تؤمن بشكوك طه حسين هذه ، فلا بد أن تكون عامياً أو شبه ذلك « و شاعران آخران يتصل ذكرهما بذكر امرىء القيس ، كان أحدهما . . . صديقاً له صحبه في رحلته إلى قسطنطينية ، ولم يعد من هذه الرحلة كما لم يعد امرؤ القيس ، وهو عمرو بن قميئة ، وكان الآخر خال امرىء القيس وهو مهلهل ابن ربيعة.
وهكذا أيضاً ، وبالبساطة نفسها حذف هذين الشاعرين الجاهليين ، ولك أيها القارىء - على ذمتي ومسؤوليتي - أن تتذرع بالصبر فتقرأ ثماني صفحات بالحرف الناعم كلها تدور حول محاولة يائسة لنكران وجود هذين الشاعرين ، وطبعاً نكران أشعارهما ، وأنا الضمين أنك لن تصل إلى نتيجة - وإن شبه مرضية - بهذا الصدد.
ولم يفت الدكتور طه أن يلحق بذلك جليلة أخت جساس وزوجة كليب ، وبكل سهولة فقد طارت من على وجه البسيطة أيضاً .
أما عمرو بن كلثوم ، فهو من بين الندرة النادرة من الشعراء الذين ألقى الدكتور طه عليهم بعد تردد ( ومع ذلك فقد يظهر ، قد يظهر ، أنه وجد حقاً.
أما طرفة فما أشد طرافة حديث الدكتور طه عنه وعن وجوده ، فالمدخل الوحيد إلى هذا الشك قصيدته الشهيرة الدالية ، ولا سيما المقطع الأكثر جمالاً فيها :
وَلَوْلَا ثَلَاثٌ هُنّ من عيشَة الفَتى ... وَجَدِّكَ لم أحفِلْ متى قامَ عُوّدي
فَمِنْهُنَّ سَبْقِي العَاذِلاتِ بشَرْبةٍ ... كُميتٍ متى ما تُعلَ بالماءِ تُزْبدِ
وَكَرّي إذا نادى الْمُضافُ مُحَنَّبًا ... كَسِيدِ الغَضَا نَبَّهْتَهُ الْمُتَوَرِّدِ
وما بعد هذا المقطع ، وما قبله بقليل ، لمجرد أن هذا الشعر جميل وقوي فيجب أن يكون مدعاة للشك ، الشك فيما دس عليه ، والشك في أن يكون صاحبه طرفة موجوداً ، وأخيراً : فأما صاحب هذه القصيدة ، فيقول الرواة : إنه طرفة ، ولست أدري أهو طرفة ، غيره ، لست أدري جاهلي أم إسلامي ، وكل ما أعرفه أنه شاعر بلوي ، ملحد ، شاك » .
وبعد ، فلكي يتعرف القارىء على مدى تمحل الدكتور طه وتحامله ، وتكلفه في كتابه العجيب ( الأدب الجاهلي ) فلا بد له من أن يتعرف أيضاً إلى حقيقة مذهلة هي أن كل ما يفصل أقدم شاعر جاهلي من الشعراء الأوائل والبارزين عن الشعراء المخضرمين الذين أدركوا الإسلام لا يتجاوز بحال من الأحوال المئة عام ، أي أن هذه الكوكبة من هؤلاء الشعراء ، الشنفرى ، المهلهل ، بشر بن أبي خازم ، عمرو بن قميئة ، امرىء القيس ، تأبط شرا ، المرقش الأكبر ، السموءل ، طرفة ، المتلمس ، الحارث بن حلزة ، المرقش الأصغر ، حاتم الطائي ، عمرو بن كلثوم ، علي بن زيد ، ذي الإصبع العدواني ، عبيد بن الأبرص ، أعشى باهلة ، المتنخل الهذلي ، علقمة الفحل ، المنخل اليشكري ، النابغة الذبياني النابغة الذبياني، الحصين بن الحمام ، الغنوي ، صخر ابن الشريد ، عروة بن الورد ، قيس بن الخطيم ، أمية بن أبي الصلت ، الأعشى الكبير ، دريد بن الصمة : لا ينفصل بين أقدم واحد منهم وبين صدر الإسلام عمر معمر واحد منهم - وما أكثر المعمرين فيهم - أو عمر واحد ممن عايشهم وقد أدرك المئة عام من حياته ، وربما كان أمية بن أبي الصلت كما يقول الثقات أنه قد تجاوز عمره كثيراً عمر أي واحد منهم.
إن واحداً من هؤلاء كاف -ویزید-أن يقص قصصهم ويروي خياتهم ، ويحفظ حتى ملامح وجوههم، بل إن الأعشى الكبير ، هذا الطود الشامخ بين هؤلاء الأعلام ، أدرك الإسلام ، وقد أسن كثيراً ، وقضى جل عمره في الجاهلية ، أي إنه كان قد عايش كل تلك الكوكبة، وإن لم يتم له ذلك فأكثرها وكان الشاهد العدل عليها.
ولحسن الحظ ، وحسن هذا الحظ قليل ونادر فيمن أبقى الدكتور طه على وجودهم ، أن هذا الأعشى كان منهم ، أي ممن لم يقدر على نفيه من الوجود ، ولكنه نفى هذا الوجود عن كل أقران الرجل وسماره من الشعراء الذين عايشهم وعايشوه وشهدوا عليه وشهد عليهم. إذن فأنا لا أؤمن بما آمن به الدكتور طه حسين من نفي هذا الشعر ولا أرى أن حججه - وأقواها ما أخذه من ابن سلام الجمحي - مقنعة ، لأسباب منها ما ذكرته فيما تقدم من حديث . ومنها أن طائفة الذين اتهموا بالنحل والكذب لم يكونوا كذلك ، وفي كتاب الدكتور ناصر الدين الأسد ) مصادر الشعر الجاهلي ) مايؤيد قولي ويدعمه ويقويه . زد على ذلك أن الدكتور طه حسين وهو يستشهد بابن سلام يستشهد به على طريقة ) ولا تقربوا الصلاة ) فهو يأخذ من النص ما ينفعه ويقوي حجته فيما يخيل إليه ويحذف منه ما يضعف من تلك الحجة و هذا وحده ما يطعن في أحكامه طعناً جارحاً.
وبعد . ففي ضمن إعجابي بقدرة الإنسان على تحقيق مايريد ، فقد مسني مساً خفيفاً إعجاب بما انفقت من جهد في جمع هذه المختارات التي هي فوق طاقة فوق طاقة من هو في مثل سني . لولا أني دفعت في هذه الجمهرة) ثمناً غالياً لم أكن أتوقع أني أدفعه في إنجاز عمل من الأعمال ، ذلك هو أني أكاد أكون قد حرمت من القراءة بعد هذه المختارات ، لما أجهدت به عيني ، ولولا أنني لقيتُ من العناية والرعاية ما أنوء بشكره . لذلك أجد أن من باب نسبة الفضل إلى أصحابه نسبة غير ممنونة أن أتوجه بشكري وامتناني إلى صديقي وأخي الذي لم تلده أمي الدكتور عدنان درويش على ماسيتحمله من عناء التدقيق والإشراف على إخراج الجمهرة وطبعها ، وأكثر من ذلك فهناء تسديد خطواتي في كل ماقد أكون تعثرت به في هذه الموسوعة التي حملتني - أنا صاحبها - من الجهد ما كان ثمنه علي فقدان القدرة على القراءة بعدها بالرغم من جهود الأطباء.
كما أشكر السيد مدير المكتبة الظاهرية الأستاذ ماجد الذهبي والسيد مدير المركز الثقافي العربي بدمشق الأستاذ إسماعيل عبد الكريم على ما أمداني به مما أحتاجه من مصادر ومراجع كانت تجلب إلي بفضلها دون تجشمي - وقد تجاوزت الثمانين - عناء السعي إليها
0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا