بقلم: الدكتور محمد علي الوافي كرواتل - الهند (تم نشر هذه المقالة في مجلة الرابطة العدد 698 ـ ربيع الأول 1446 هـ ومنها أُخذت)
إنه علم من أعلام التراث الإسلامي. عبقري خلف آثارا في صفحات التراث العربي والإسلامي. ولد في الهند، ونشأ باليمن، ورحل إلى العراق، واستوطن مصر ولبى نداء ربه وهو يخدم العلوم الإسلامية المختلفة من الحديث واللغة وعلم الأنساب والتاريخ والشعر.
هو العلامة سید محمد ،مرتضى المحدث والأديب واللغوي الهندي الكبير يشتهر بنسبه الواسطي، لأن أسرته وفدت من العراق إلى الهند واتخذت مدينة بلكرام موطنها، كما أنه يشتهر بالزبيدي، نسبة إلى منطقة زبيد في اليمن وهي المدينة التي حل فيها الشيخ في صباه طالبا مناهل العلوم الإسلامية.
عربي أم هندي؟
الأوساط الأكاديمية العربية لم تصل إلى جواب مقنع عن أصله الهندي ونشأته بها، لأن موقف المؤرخين العرب لا يزال بين إنكار وتأييد. أما المؤرخون الهنود فقد تناولوا شخصية الزبيدي كأنه هندي. يقول صاحب «أبجد «العلوم العلامة المؤرخ الهندي صديق خان القنوجي: «أقام رحمه الله بزبيد حتى قيل له الزبيدي واشتهر بذلك، واختفى على كثير من الناس كونه من الهند ومن بلجرامها». وذهب جرجي زيدان إلى ناحية تاريخية غير هذه، حيث يرجح في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية بأن أصله يعود إلى مدينة زبيد باليمن. والمعلومات الواردة حول انتمائه إلى الهند هي مشكوك في صحتها، حتى الآن يوجد في الوسط العلمي من يعتقد أن الزبيدي ليست له صلة تربطه بالهند.
ويعود سبب الخلاف في أصله الهندي إلى أن مرتضى الزبيدي نفسه لم يسجل سيرته الذاتية، ولم يشر في كتبه ومؤلفاته إلى أصوله الهندية. وكذلك العلامة الجبرتي، والذي يعد من أقرب تلامذة الزبيدي لم يذكر أصل الزبيدي في كتابه عجائب الآثار في التراجم والأخبار، وإنما قال في كتابه هذا: «ولد سنة خمس وأربعين ومائة وألف كما سمعته من لفظه ورأيته بخطه ونشأ ببلاده، وارتحل في طلب العلم وحج مرارا...». وهذا الغموض في ذكر بلاده قد عرقل سبلنا عن الوصول إلى أصل الزبيدي.
ويقدم الدكتور قمر شعبان الندوي الباحث في حياة مرتضى الزبيدي ومعجمه تاج العروس أسبابا تقنعنا بانتمائه إلى شبه القارة الهندية. ولد الزبيدي في الهند سنة ١١٤٥هـ، ونشأ بها وقرأ الحديث على علمائها مثل الشاه ولي الله الدهلوي، والشيخ صفة الله الخير آبادي، والشيخ محمد فاخر إله آبادي والشيخ محمد زاهد بن حسن محمد الزبيري السورتي. ثم توجه العلامة الزبيدي إلى اليمن حيث تتلمذ على كبار علمائها، مثل الشيخ عبد الرحمن مصطفى العيدروس وقرأ عليه أمهات الكتب الدينية والأدبية. ثم رحل العلامة إلى مصر، حيث لمع نجمه وذاع صيته، وخلف هناك أعماله البارزة في الحقول الدينية واللغوية والأدبية.
إنجازات الزبيدي العلمية
لا نعرف بالتحديد عدد المؤلفات التي أثرى بها هذا العالم النحرير التراث العربي، وقد أشار المحقق الهندي الكبير أبو محفوظ الكريم المعصومي إلى أن عدد مؤلفاته يربو على مائة وستين. وهذه الذخيرة العلمية تعالج شتى الموضوعات في الفنون العربية والإسلامية. ومن كتبه الشهيرة التي تتمتع بالشعبية الواسعة بين الأوساط العلمية، معجمه تاج العروس وكتاب إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء العلوم وكتاب تكملة ،القاموس، والجواهر المنيفة في تأييد مذهب أبي حنيفة، وحكمة الإشراق إلى كتاب الآفاق، وترويح القلوب بذكر ملوك بني أيوب، وألفية السند مع شرحها، وأمالي حنيفة ولم تنظر الساحة الثقافية إلى إنجازات الزبيدي بتقدير يستحقه،، كما أن كتبه لم تطبع في العالم العربي. إلا أن المكتبات الهندية والأوروبية قد قامت بطباعتها ونشرها، ولكن العدد الكبير من كتبه لم يطبع حتى الآن. ومن المؤسف جدا، أن مؤلفاته الكثيرة المذكورة في المراجع الإسلامية والمصادر التراثية أصبحت الآن مفقودة لا يمكن العثور عليها. ويقول عنه الشيخ علي الطنطاوي: الزبيدي شارح القاموس من الرجال الذين كانوا طرازا نادرًا في العلماء.
تاج العروس من جواهر القاموس
ويجدر بالذكر أن العلماء الهنود لا تقتصر هممهم على الدراسات الدينية فحسب، بل إن مواهبهم اللغوية لا تقل شأنا عما حققت أيادي النوابغ العرب في التراث الإسلامي. ويعد الشيخ رضي الدين الحسن بن الحيدر الصغاني صاحب العباب الزاخر» أول من ألف في علم اللغة واللسان. أما تاج العروس فهو مؤلف رائع خدم التراث الإسلامي في العصور الوسطى، ومنذ ظهوره حتى الآن يعتبر هذا المعجم مصدرا لغويا يرتوي منه العلماء والباحثون في العلوم العربية واللغوية. ويقول عنه المستشرقون بأنه آخر المد اللغوي في المعاجم العربية، وبعده توقفوا في هذا المجال». وهو النتاج الفكري لتلك السنوات التي قضاها العلامة الزبيدي في خدمة القاموس المحيط الذي ألفه السيد مجد الدين الفيروزآبادي. والقاموس المحيط هو الصورة المتطورة للصحاح، أشهر معجم ألفه العلامة الجوهري. وحاز القاموس المحيط رواجا كبيرا وشعبية واسعة بين العرب والعجم، حيث أكبّ على قراءته ودراسته العلماء واللغويون، واستفادوا منه كثيرا، وظهرت له شروح وحواش. ومما يدل على شهرته ومقبوليته بين الناس أن سُمّي كل معجم قاموسا مع أن القاموس اسم لهذا الكتاب وحده. ومن جميل القدر أن يُوفق الزبيدي إلى لقاء كثير من العلماء في المجالات المتنوعة، وأتيحت له الفرصة للحوار معهم والاستفادة منهم.
وبعد سنوات من البحث والدراسة، وتحديدا في سنة ١١٨٤هـ، بدأ العلامة الزبيدي تأليف معجمه الشهير تاج العروس، وذلك بعد قدومه إلى مصر. وكان يومئذ ابن تسع وعشرين سنة. واستغرق الجزء الأول ست سنوات وبضعة أشهر، وتفرغ من تأليف الأجزاء التسعة الباقية بسبع سنوات وبضعة أشهر. بالنسبة إلى الزبيدي، هذا العمل المعجمي هو الأول في نوعه في حياته العلمية حيث استغرق الجزء الأول قسطا كبيرا من زمن التأليف، إلا أنه بعد أن جمع الكتب المتعلقة بهذا الفن المعجمي تحولت كتابته إلى السرعة القصوى. وكان الزبيدي يكتب جميع الأجزاء بنفسه، وبعد الكتابة كان يسلم مسوداته إلى تلاميذه حيث يقومون بتبييضها ومراجعاتها، وكانت هذه النسخة المبيضة بخطوط مختلفة متقاربة الجمال والإتقان من ناحية الخط.
حقق هذا الكتاب السمعة والشعبية في الأوساط الأكاديمية. ويقول عنه السيد أبو الحسن علي الندوي «تاج العروس ليس معجما فقط، بل هو مكتبة صغيرة للمعاجم ولما فرغ الزبيدي من هذه المهمة اللغوية الكبرى فرح فرحا شديدا وأقام وليمة دعا إليها مشايخه وطلابه، ويقول عنه تلميذه الجبرتي: «إن الزبيدي لما أكمل شرح القاموس أولم وليمة حافلة جمع فيها طلاب العلم وأشياخ الوقت»، وجميع هؤلاء قد فرحوا واغتبطوا به وأشادوا بفضله وسعة اطلاعه ورسوخه في علم اللغة.
وبعد أن أهدى إلى التراث العربي مؤلفات قيمة رحل الزبيدي إلى دار البقاء في يوم الأحد في شهر رمضان سنة ١٢٠٥هـ / ١٧٩١م. ويقول عنه الأديب علي الطنطاوي: وكان أشهر علماء الأرض في زمانه.
0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا