تفاصيل عن المصدر
مجلة العاصمة: مجلة بحثية سنوية محكمة
المجلد الخامس عشر، ۲۰۲۳
قسم اللغة العربية، كلية الجامعة ، تيروفانانتابورام كيرالا، الهند
Majalla al-Aasima, Vol. 15, 2023, ISSN: 2277-9914, eISSN: 2321-2756
بقلم: د/ خديجة عماري (زميلة أبحاث ما بعد الدكتوراه، برنامج الأدب المقارن، كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية، معهد الدوحة للدراسات العليا، قطر )
مقدمة
هناك العديد من الروايات التي اهتمت باسترجاع تقنية المخطوط وتوظيفها، ولعل واحدا من أبرز التجارب الأدبية المعروفة هي رواية (اسم (الوردة) للكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو Umberto Eco، التي يعرض فيها السارد مخطوطة دوّنها ويليم من باسكرافيل وهو راهب فرنسسكاني قام بفك لغز جرائم الدير فيما بعد، وكذلك رواية (عزازيل) ليوسف زيدان، حيث يُعثر على مخطوطة سليمة في صندوق مغلق، تحتوي على ثلاثين رقاً كتب باللغة السريالية، وهي سيرة ذاتية للراهب الزاهد (هيبا) كتبها بتحريض من (عزازيل)، فيقدمها السارد في قالب من الأحداث والتصادمات التي عرفها المسيحيون والوثنيون والفلاسفة إبان القرن الخامس الميلادي، وتتميز بتنوع شخصياتها التي تحاكي أنماط الفكر العقدي والدنيوي السائد حينها مثل شخصية الفيلسوفة المنبوذة من قبل الكنيسة (هيباتيا)، ونموذج الحب مع (مارتا)، وصورة الإغواء مع (أوكتافيا)، ورمز العدل مع الراهب نسطور).
وفي هذه الدراسة التي نحن بصدد إنجازها سنشتغل على عمل روائي مغربي مشابه للأعمال الإبداعية سابقة الذكر من حيث العودة لتوظيف تقنية المخطوط المتخيل، حيث حاول الروائي أن يُعرفَ القُراء بأهمية المخطوطات وقيمتها التاريخية والمعرفية وضرورة توعية الكتبيين والباحثين بضرورة التنقيب عنها وتجميعها حتى لو لم يتم تحقيقها في الوقت الراهن ضمانة لعدم فقدانها وضياعها. وعن الرواية موضوع الدراسة فهي "تغريبة العبدي المشهور بولد "الحمرية للكاتب المغربي عبد الرحيم لحبيبي ( ١٩٥٠) ، صدرت في طبعتها الأولى سنة ٢٠١٣ عن دار أفريقيا الشرق، وطبعتها الثانية سنة ۲۰۱٤ ، وهي المعتمدة في هذه الدراسة، وتقع الرواية في ٢٥٥ صفحة. وتضم بين طياتها مقدمة وأحد عشر فصلاً (مقدمة - المخطوطة الفريدة أو مخطوطة سوق العفاريت كتاب الخروج كتاب -الذهب كتاب الجاهلية -الأولى كتاب السحر - كتاب الدين والسلطان كتاب الفردوس المفقود كتاب فرعون ذي الأوتاد- كتاب قريش- كتاب الأزهر دخول مصر آمنين"- كتاب الكرنتينة- كتاب الشذرات).
وبخصوص أهداف هذا البحث ومنهجية الاشتغال فيه فسنحاول التطرق إلى أهمية المخطوط وإسهامه في بناء الحضارات وتطويرها، كونه ثروة فكرية ومعرفية شكلت لبنات أساسية في تطوير المعارف والعلوم، وكإرث بشري أسهم في كشف خفايا التاريخ - غير الرسمي الذي لم يدون، بل وصلنا عن طريق المخطوطات التي حفظ من خلالها أصحابها ،علومهم واختراعاتهم، وأيضا أسفارهم، وما اكتشفوه من طباع أقوام مختلفين جالسوهم وعرفوا تقاليدهم وطباعهم، وانطباعاتهم عن التحولات السياسية والدينية والثقافية التي عرفتها بلدانهم.
والعمل موضوع الاشتغال يندرج ضمن هذا الصنف الأخير ولو أنها رواية متخيلة موضوعها الرئيسي يدور حول مخطوط يجده السارد ويسعى لتحقيقه. ويندرج موضوع المخطوط ضمن أدب الرحلة، فإلى أي حد استطاع الكاتب أن يبني عملا متخيلا يدمج فيه حقبتين متباينتين تاريخيا (القرن ۱۹م / والقرن ۲۱ م)؟ هل نجح في توظيف تقنية استرجاع المخطوط مع القدرة على إحياء الأساليب الكتابية القديمة؟ تعرفنا في بداية الرواية على الطالب الباحث الذي يحاول أن يجد مخطوطة ذات قيمة علمية هامة يقتنع هو بأهميتها ويدافع عنها أمام اللجنة العلمية حتى ينال من خلالها فرصة التسجيل في سلك الدكتوراه ومن تم يعيد لها الحياة من خلال تحقيقها هل نجح في ذلك؟ وما هي التحديات التي صادفته ؟ وسنعتمد للإجابة عن هذه الأسئلة المنهجين الوصفي والتحليلي. وخلال هذه الدراسة لابد من تناول موضوع المخطوطات وقيمتها العلمية والتاريخية، وطرق تحقيقها، ودورها في بناء الحضارات وماهية العلوم التي تبحث في علم المخطوط ؟ وسندرس على ضوء مباحث المقال المنهج الذي اعتمد عليه السارد في تحقيق مخطوطة سوق العفاريت وهل استطاع أن يوصل لقارئه من خلال التخييل المبني على المعرفة المنهجية والعلمية أهمية هذا العلم ؟ وهل كان قادراً على الحفاظ على إبداعية الرواية رغم هذا الدمج بين الجانب النظري للتحقيق ومتعة السرد / الحكاية؟ وهل يمكن اعتبار استخدام هذه التقنية في الكتابة/السرد الروائي نمطا من أنماط التجريب الروائي المعاصر ؟
المبحث الأول: مخطوطة سوق العفاريت
في المبحث، سنعرض قصة السارد مع المخطوط الذي بذل جهدا كبيرا في العثور عليه وعلى أجزاء منه، أو نسخ مماثلة له. إنها رحلة تعليمية يعرض من خلالها الكاتب أمام غير العارفين بعناء البحث وتحقيق المخطوطات شيئاً ملخصاً مركزاً عن المراحل التي يمر منها الباحثون في هذا المجال، بالإضافة إلى أهمية العمل الذي يقومون به، ودورهم في إنقاذ المخطوطات من الضياع بسبب الجهل بأهميتها، أو التلف نتيجة العوامل الطبيعية.
١- تقنية استرجاع المخطوط بين التخييل والواقع .
الروائية التي بين أيدينا عمل متخيل يضعنا صاحبه في حيرة من أمرنا فلا ندري إن كان المخطوط الذي وظفه متخيلاً بشكل كلي، أم فعلاً نحن أمام عمل مخطوط حاول صاحبه أن يشتغل على تحقيقه كموضوع لنيل دبلوم الدكتوراه في تحقيق المخطوطات، ولكنه ووجه برفضه من طرف اللجنة العلمية، أو بتعبير أدق عارضه المشرف وبعض أصدقائه الأساتذة ذوي العلم بالمخطوط، لنقصان المخطوطة وتلف عدد من أوراقها، خصوصاً الصفحة الأولى والأخيرة اللتين يتبين من خلالهما اسم كاتبها أو ناسخها، وبلده وتاريخ انتهائه منها، وهدفه من كتابة المخطوط، كما أن موضوعها الذي يمكن إدراجه ضمن أدب الرحلة موضوع لا يستحق عناء التحقيق، يقول السارد: "وبعد لأي وعنت اهتديت إلى اختيار بعض الوثائق، راضياً بما غنمت من أوراق مخطوطة غير مرتبة، أظهر انطباعي الأولي من خلال تصفحي لبعض السطور - أنها تكاد تكون نصوصاً في باب الرسائل وأدب الترسل والكتابة الإخوانية، وربما أن ما شجعني على اقتنائها هو رغبتي الدفينة في الحصول ذات على مخطوط، ليس اتباعاً لسياق اقتناء المخطوطات وعرضها وتزيين واجهات المكتبات بها أو المشاركة في مسابقات الجوائز، ولكن لشغف عارم بأن تقرأ خط المؤلف أو خط الناسخ الذي أمضى ليالياً طوالاً ليمتع القارئ"(1). وهذا إحساس يعرفه جل من درس علم تحقيق المخطوطات وتعامل معها بشكل مباشر، ذلك الإحساس بالتاريخ بأندر وأغلى ما فيه من اختراعات أو مخطوطات، أو مبانٍ مشيدة، أو آثار سبقتنا بقرون عديدة تلمسه بيديك وتتصفحه، وتحس بروح صاحبه وهو يجتهد لترك ذلك الأثر الذي لا يدل عليه وحده ولكن على الجيل الذي عاصره بكل تفاصيله، إنها صناعة التاريخ والباحث لم يجد خلال رحلته البحثية في سوق العفاريت ومختلف المكتبات نسخاً أخرى للمخطوطة ولا حتى الأجزاء التالفة من الكتاب وأمام هذا التلف وغياب نسخة المؤلف الأصلية/النسخة الأم، يصعب معها العثور على النسخة الأقرب للأصل الأمر الذي يرفضه المبدأ العلمي إن قبل به مبدأ الربح التجاري (2).
إن تحقيق المخطوط يعتمد على النسخة المتوفرة في حال لم توجد نسخة مشابهة لها، وإن وجدت فتأخذ بعين الاعتبار النسخة الأقدم وتتم مقارنتها واستخراج ما صح منها تجافياً لأخطاء الناسخ سهواً أو جهلاً أو ضياعاً، أو إذا ما مسحت الكلمات بفعل عوامل الزمن، وهو الأمر الذي اجتهد ليحققه هذا الباحث، محاولاً استيفاء أساسيات تحقيق مخطوط من وجهة نظر أكاديمية دقيقة، فلم يدخر جهداً في فحص كل الكتب المستعملة التي يتاجر فيها كتبة سوق العفاريت يقول السارد: "في آخر لحظة، قال لي بهذا الكيس أوراق ودفاتر كثيرة، فتش فيها عما تريد، كان الكيس مفتوحاً، ما أن مددته على الأرض حتى سقطت منه أوراق مخطوطة شبيهة بالتي في حوزتي أفرغت الكيس كله، وأخذت ألتقط الأوراق كالطير يلتقط الحب وسط الركام. جمعت بفرح شديد الغنيمة وتوجهت نحو البائع أسأله الثمن، قال بانبساط، هدية ليك ألفقيه، ادعي امعنا بالخير، هاد الأوراق كنا غاانبيعوهم لصحاب الزريعة وكاوكاو ؟(3) . ويتضح لنا من خلال هذا الشاهد الروائي حقيقة المستقبل المجهول الذي تتعرض له الكثير من النفائس الورقية سواء أكانت مخطوطة أو مطبوعة إذ تضيع إما لجهل البائع والمقتني بأهميتها أمام الربح المادي الذي سيحصل عليه مقابلها مهما كان زهيداً، واللوم هنا لا يقع على من باع واقتنى، ولكنها مسؤولية جيل بأكمله. وحتى على مستوى المراسلات، فقد راسل عدداً من أصحاب الزوايا والمكتبات المهتمة بالحفاظ على المخطوطات لكنه لم يتلق جواباً، يقول: "بعد عودتي إلى أسفي راسلتهم طالباً للعون والمساعدة من أجل إنجاز تحقيق علمي لمخطوطة مجهولة المؤلف، وقدمت بعض البيانات بما أطلب، طال انتظاري لأجوبتهم ولم يأت من جهتهم إلا الصمت والإهمال(4). لكن الجميل في هذه التجربة هو أن المحقق لم يتراجع قيد أنملة، رغم أن مشروعه قوبل بالرفض، ورغم غياب أجزاء هامة من المخطوطة، وتلف بعضها بسبب عوامل الزمن، وعدم ذكر عنوانها ، لكنه قرر أن يعيد الحياة للعبدي المشهور بولد الحمرية.
٢- بداية الرحلة
اختار الباحث من خلال السارد أن يشركنا في عملية تحقيق المخطوط انطلاقا من كونه مجرد فكرة، إلى حقيقة العثور على المخطوط وعلى أجزائه المتفرقة، ثم تحقيقه وإصداره للوجود حاملاً لنا في طياته حكاية رحلة شيقة دونت خلال مطلع القرن ۱۹ الميلادي و ١٣ من الهجرة واستشهادنا على ذلك فيما كتبه العبدي السارد الثاني الذي سيطر على مسار الحكي وتحول الباحث إلى سارد مختف في ظل المخطوطة المتخيلة، يقول العبدي ولد الحمرية في مخطوطته: ولا أعلم إن كان من نوادر الشؤم أم من بشائر الأمل وحسن الطالع أن يكون خروجي مقروناً بسقوط تطاون في يد الإسبان الذين لم يغمدوا سيفاً ولم يسكنوا مدفعاً منذ سقوط غرناطة وطرد المسلمين من الأندلس. /معركة تطوان (١٢٧٦-١٨٦٠) واحتلالها من طرف الجيش الإسباني، أعقبها عقد معاهدة صلح بين المغرب وإسبانيا"(5) لتنطلق رحلته بكل المفاجآت والتجارب الصعبة التي يعرضها العبدي المشهور بولد الحمرية في مخطوطته التي تنتمي إلى صنف أدب الرحلة كما صنفها المحقق/السارد.
المبحث الثاني: الكوديكولوجيا، وتحقيق المخطوط المتخيل
إن علم المخطوط تتفرع عنه مجموعة من العلوم لا يحيط بها إلا باحث بهذا المجال، وكما سبق وذكرنا فالكاتب لم يدخلنا في موضوع المخطوط بعد سرد كيف عثر عليه بشكل مباشر كما هو الحال مع الأعمال الروائية التي اتخذت من تقنية استرجاع المخطوط موضوعا للرواية، بل جعل السارد القراء يعيشون معه هذه التجربة قبل سرد مضمونها، ولذلك سنتطرق بشكل موجز لهذه المعارف التي ذكرت من خلال هذا المحور (النسخة الأم/ الأجزاء النسخ المشابهة النساخون الكوديكولجيا نوع الورق، نوع الخط التوريق، التلحيق.. )
١- الكوديكولوجيا
من أهم العلوم التي تهتم بالمخطوطات "الكوديكولوجيا"، والتي عرفها جاك لومير Jacques Lemaire بـ"أنه العلم الذي يدرس الكتاب والمخطوط ، أي علم آثار الكتاب ومعنى ذلك أنه يهتم بدراسة مختلف مظاهر الصناعة المادية الأولية للكراس أو المخطوط ، ويطرح عدة أسئلة تواجه الباحث ويحاول هذا العلم الإجابة عليها، مثل كيف ومتى وأين صنع هذا الكتاب؟ ولأي غاية تم إنجازه؟ ومن هو مستكتبه؟"(6). كما يدرس كل ما يتعلق بالمتن من حواش وتعليقات وتفسيرات وكل ما من شأنه أن يعرف بالمخطوط وصاحبه، وتاريخه، ونوعه سواء أكان من الجلد أو الورق أو الرق، بالإضافة إلى طريقة جمع أوراق الكتاب والتفريق بين أصنافه سواء كان كتابًا أو كتيباً أو كراساً. كما يهتم بالخط ونوعه، وطريقة وضع أرقام الصفحات أو تذييلها بأول كلمة تبدأ بها الصفحة الموالية، ويبحث في النساخ وأساليب نسخهم للمخطوط ، ثم التفسير وختم المفسرين(7)، ومن خلال ما سبق يتضح أن العلم يهتم بالكتاب المخطوط من بدايته حتى إخراجه وأيضاً تتبع ومعرفة مصيره بعد النسخ والتداول. إن هذا التخصص يفيد الدارسين للمخطوط بالإحاطة بكل الجوانب التي تحتوي على النص الذي سيدرس، كما أنه يعكس صورة حضارة ما وتاريخها فهو علم مساعد للتاريخ باعتباره يبحث في المخطوط كوثيقة تاريخية" (8)، غير أن علم الكوديكولوجيا لا يهتم بتاتاً بمضمون المخطوط، أو قيمته الفكرية أو المتن الداخلي، وإنما يدرس الكتاب من الناحية الخارجية لتحديد هوية العصر الذي كتب فيه وخصوصياته الفنية.
٢- الخط والتوريق والتلحيق
وبخصوص الخط المعتمد في المخطوط الروائي، فيصفه السارد بكونه كان" خطاً مغربياً منسوخاً بعناية فائقة ورغم آثار القدم وقلة الاهتمام بالمحافظة والصيانة، فلا يزال الخط واضحاً بهياً، مشرقاً بحروفه وثنياته وماماته وواواته وتاءاته المربوطة والمفتوحة وأواخر كلماته المعتنى بها بحفاوة بالغة. لعل المؤلف -أو الناسخ- حرر هذه النسخة من بعد تسويد سابق"(9). وهذا يوضح أننا أمام باحث خبير في مجال دراسة وتحقيق وتفحص المخطوط شكلاً ومضموناً. ويضيف بخصوص مكون التوريق لاحظت استعماله أسلوب "التوريق: حيث يتم الترقيم بالورقة وليس بالصفحة، وحيث تأخذ الورقة الواحدة وجهاً وظهراً رقماً واحداً. وفي كثير من الصفحات لجأ المؤلف إلى تذييل الصفحة التي أنهى كتابتها بأول كلمة سيفتتح بها الصفحة التالية وهو ما يسمى عند الخطاطين بأسلوب " التلحيق...(10). وهي مناهج معروفة لدى الخطاطين والنساخ قديماً حتى إذا أتلفت ورقة أو اختلطت يمكن العثور عليها بسهولة، أو معرفة فقدانها.
لتتوالى الملاحظات المرتبطة بالنسخة التي يفحصها بعناية هذا الباحث وهو يحاول إيجاد عنوانها من خلال المضمون نظراً لإتلاف الصفحة الأولى والأخيرة، يقول "سجلت أيضاً كملاحظة أولية أن المؤلف لم يضع عنواناً لمخطوطته - أو ما تبقى منها لم يتعرض للتلف أو البلى أو الرطوبة أو الأرضة والجرذان، لكن إحساسي كقارئ مہتم يتصفح مجموعة من الأوراق أثار قلقي ووسوس لي بأن المخطوطة ناقصة وربما ضاعت منها فصول برمتها، لكن شيئاً مهماً أخذ في الظهور والتجلي الواضح أنني أمام مخطوطة بخط مؤلفها الأصلي، والأدلة كثيرة، فلم يتمكن من عنونتها أو ترتيبها وتصحيح كلمات وجمل ولو كان ناسخاً غيره لأخذ وقته الكافي لتدارك كل ذلك"(11). هو الفحص الكود كولوجي أي القراءات الأولية المرتبطة بالشكل ثم المضمون فيما بعد-يوصله لاستنتاج أنه أمام "مخطوطة أم"، وفي حضورها لن يحتاج إلى نسخ أخرى يقارنها بها. ولابد من الإشارة إلى أن مخطوطته لم تصل بعد لمرحلة تجهيزها ليتم نسخها كما لاحظ المحقق، فقد اشتملت العديد من الهوامش والملاحظات المدونة التي يبتغي منها صاحبها الاستذكار من أجل العودة والتصحيح والتعديل، لكنه لم يحدث لأسباب ظلت مجهولة، وبخصوص النسخ كحرفة فلا بد من الإشارة إلى كون المشرفين عليه يكنون بالعائلة فمنهم صانع الورق، والناسخ والمجدول ، والمزخرف/ المذهب، وكل من له دور في إعداد المادة حتى تخرج كاملة وجاهزة للنسخ. وقد اشتهر وبرع فيه أهل فاس، أما العادة فأصلها من الأندلس (12). بعد أن يتم اختيار مادة الكتابة وتحديد نوع الملازم وإنجاز تركيب الصفحات تأتي مرحلة نسخ النصوص في الكراس أو المخطوط، وطريقة النسخ "تتم مباشرة عبر النقل من الكتاب الأصلي إلى النسخة أو تتم عن طريق الإملاء، ويمكن أن يكون مجموعة من الناسخين ينسخون بطريقة متزامنة في المخطوط نفسه. ويستعمل في النسخ القلم أو الريشة، أو القصب"(13).
٣- التسفير:
وأما التشفير فيعتبر آخر عملية من عمليات إنجاز المخطوط، وهو عملية جمع مختلف الملازم وحفظ كل الصحائف بواسطة دفتين صلبتين، لمواجهة الأضرار التي تصيب المخطوطات، ويترك المسفر تفاصيل عملية التسفير التي مر بها على الغلاف فتدوين الدلائل المادية تفيد في معرفة تاريخ المخطوط ومكان تسفيره، كما يعرف إن كان الكتاب قد أعيد تسفيره مرة ثانية بعد ضياع الغلاف الأول، وقد يجد الباحث في الغلاف أسماء بعض المجلدين في حواشي الغلاف (14) ، وكان الغلاف يصنع من الجلد غالبا ويرمم بالخشب لكي يحفظ من الاحتكاك الذي قد يفسده، كما يمكن أن تستعمل ألواح مصنوعة من صفائح العاج أو المعدن المنقوش، ليبقى أثراً ثمينًا يحفظ هويته وينتفع به (15). ولعل العمر لم يسعف الشيخ العبدي المشهور بولد الحمرية حتى يضمن لمخطوطته أن تصل مرحلة النسخ والتسفير والانتشار، لكن هنا تكمن أهمية دور المحقق الشغوف بعمله، ومدى صدقه في القيام به، وهو الشيء الذي برز بشكل فعال مع السارد.
٤ - السارد المحقق
لقد أولى المحقق / السارد أجزاء المخطوط المتوفرة عناية كبيرة، فاجتهد في تجميعه وتحقيقه، ووظف الهوامش لتدوين الملاحظات التي يرى أنها مهمة لتسهم في عرض المخطوط بصورة واضحة كما أرادها ولد الحمرية عندما قرر تدوينها وهو ينتقل بين الأمصار حتى يؤدي فريضة الحج ويعتمر، كما يقول: "عزمت وتوكلت وما توكيلي إلا بالله على السفر إلى حج بيت الله الحرام وزيارة قبر النبي ، الحج فريضة والسفر سياحة ومعرفة، أقتفي آثار الغادة المتلفعة بالأستار والمكشوفة للأنظار، فلا هي مرئية ولا مخفية" (16). لكن رحلته كانت رحلات شاقة، والكاتب أعاد الحياة إلى قصته إذ بث روحاً جديدةً فيها، حتى يعرفه الناس ويستفيدوا من تجاربه المهمة والمتنوعة، وقد بدأ بث الروح فيها من خلال استجابته لنصيحة صديقه، حيث يروي لنا ما دار بينهما: "بناء على نصيحة صديقي، أخبرني وهو يتناول معي قهوة الصباح - اليوم يوم أحد وهو يوم السوق الأسبوعي حيث يعرف ذروة البيع والشراء بوجود مجموعة من الكتب والمجلات والوثائق بسوق العفاريت لعلها متحصلة. من مقتنيات خزانة قديمة باعها الورثة أو تخلصوا منها. كنت أعلم - أحيانا- تعرض بعض الكتب المستعملة للبيع ويعاد بيع الكتب المدرسية والمجلات والسيديات المقرصنة والكتب الدينية، وما شابه ذلك... ولكن وجود كتب خزانة قديمة متوارثة معروضة للبيع من باب النوادر ومما يثير الفضول ولهفة الاقتناء ومتعة التحف التاريخية، خاصة أن صديقي أضفى على حديثه مقداراً كبيراً من الجدية والأهمية وهالةً من التشويق والتحبيب ما حفزني وأثارني"(17)، لتنطلق رحلته في العثور على المشروع الذي سيسهم فيما بعد في إعادة الحياة إلى رحلة شاقة عرفها العبدي ولد الحمرية، ولو لم يقم هذا الباحث بالعناية بهذه المخطوطة لطواها النسيان.
٥_ أوجه التصادم الحضاري في الرواية
إن ملامح التصادم الحضاري ظاهرة وبكثرة في هذه الرواية، ويجري السارد هذه المقاربة أحياناً من خلال ما رأه وعايشه، أو من خلال أحاديث بعض الشخصيات في الرواية، وأمامنا النماذج التالية:
- "فماهي إلا ردة طرف حتى جاء بصندوق صغير عليه نقوش وحروف وطلاسم فتحه ثم ألقى بين رجلي حفنة من المفاتيح وهو يقول: هذه مفاتيح كنوز الأجداد والأسلاف، لكنها لا تستجيب ولا تطيع إلا عرافاً كبيراً مبروكاً منذوراً لهذا الأمر." الرواية - ص:١٣٤
- "انظروا إلى العجلة ودورها في نقل الأثقال وتسيير العربات والتنقل في أقل وقت من مكان إلى آخر، لكننا تعودنا على حمل الأثقال على ظهورنا أو ظهور دوابنا، لذلك انحنت قاماتنا وتقوست فسهل علينا تقبيل الأيدي والأعتاب..." (18) في إشارة من الشيخ الأزهري إلى أهمية التطور العلمي، الذي وحده يحفظ للإنسان كرامته، ويعزز وجوده. أما الجهل فيُبقي الإنسان دائماً ،خانعاً، وخائفاً، ودون قيمة وكرامة. "يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم والذينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ"- سورة المجادلة - الآية ١١.
- الحال في مصر لا يسر صديقا ولا عدوا فقد أجهز الإنكليز على كل مدخرات البلاد، ووضعوا أيديهم على دواليب الحكم، وأخذ الفرنساوية الذين أخرجناهم من مصر في الاستيلاء والاستحواذ... فبعد الجزائر جاءت بلاد تونس، وبلدان إفريقيا والسودان ..الغربي..." الرواية-ص: ٢٣٦
- "وكانوا إلى جنب الخضر والفواكه والأطايب التي يضعونها مع الميت ورهن إشارته إذا قام من مرقده، يضعون أيضا الرماح والنبال والقوس لاعتقادهم أن الأرواح الشريرة تطارد الموتى حتى في قبورهم..." الرواية-ص: ١٢٦.
- وهكذا يضع لنا السارد نماذج غير متناهية من صورة الشرق المتناقضة مع صورة ،الغرب، الشرق الضعيف والمنهك عسكرياً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، والغرب المتقدم على مستوى العلوم والمعارف، والقدرة على السيطرة على المستعمرات الزاخرة بالخيرات الطبيعية والطاقات في مقابل خنوع الشرق. ولا يختلف الأمر في شمال أفريقيا وجنوبها كما يوضح السارد / ولد الحمرية. لكن الشريحة الرافضة والمنتقدة لسياسة الطغيان من مفكرين، وشعراء، وتجار، وأناس بسطاء، يظل فتيلها متقداً تنتظر الفرصة لتثور ضد الظلم، انتصارا للعدل.
خاتمة
إن رواية "تغريبة العبدي المشهور بولد "الحمرية" عمل إبداعي متخيل يحاول الكاتب من خلاله لفت الانتباه إلى المخطوطات التي طالتها يد التهميش والإهمال، وهي في الحقيقة ثروة إنسانية معرفية وإبداعية، وقيمة علمية تسهم في تعريفنا بفترات من التاريخ الذي نجهله، أو نعرفه لكن تخفى علينا تفاصيله، قد يكون العمل متخيلاً لكن نظرة المؤلف العميقة ومحاولته الحثيثة تحليل واقع الجغرافيا التي شملت رحلته من أرض المغرب (فاس) ف (السودان) ثم أرض ( مصر ) ثم (الحجاز) وعودته. هو سفر معرفي ولغوي وثقافي وعقدي وصوفي، ليس بالهين، وقد استطاع عبد الرحيم لحبيبي ركوب هذا التحدي وكتابة مخطوطة تماثل السائد لغوياً وإبداعياً ومعرفياً إبان القرن التاسع عشر، الذي أعلن أنها كتبت فيه.
اعتمد عبد الرحيم لحبيبي في روايته "تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية" على فكرة استرجاع المخطوط، من خلال البحث عن أجزائه الضائعة ومحاولة ترميمها وتحقيقها ثم إعادتها إلى الحياة، ولعل من أصعب التحديات الاشتغال على هذا النوع من الأعمال، حتى لو كانت المخطوطة متخيلة تحاكي الفترة الزمنية التي كتبت فيها، دون أن يظهر في ثنايا النص ارتباك الكاتب، وترك ثغرات تُضعِفُ العمل، هذا لم يحدث، هو عمل محكم البناء متناسق، منسجم بلغة قوية ذات بعد جمالي واضح. كما يظهر أن للكاتب معرفة كبيرة بمختلف المعارف والعلوم والعادات والتقاليد والأعراف التي تخص المجموعات القبلية التي كانت موضوع الرواية. وكما ذكرنا في بداية المقال هناك عدد من الروايات التي اعتمد أصحابها فكرة استرجاع المخطوط، حتى أصبح هذا النمط من الأعمال مدرسة منفردة، لا يدخلها أي كان إلا إن امتاز بقدرات إبداعية ومعرفية تؤهله ركوب أمواج هذه المغامرة التأليفية. صدق أينشتاين عندما قال "الخيال أكثر أهمية من المعرفة، فهو يحيط بالعالم".
المصادر
1. شوقي بنبين (أحمد). المخطوط العربي وعلم المخطوطات. سلسلة ندوات رقم ۳۳. جامعة م.خ. الرباط
2. شوقي بنبين (أحمد). دراسات في علم المخطوطات. المطبعة والوراقة الوطنية الحي المحمدي. المغرب. ط٢. ٢٠٠٤. -
3. لحبيبي عبد الرحيم). تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية أفريقيا الشرق. ط٢٠١٤.٢
4. لومير (جاك). مدخل إلى علم المخطوط . ترجمة وتحقيق: مصطفى طوبي. المطبعة والوراقة الوطنية. المغرب . ط ٢٠٠٦.١
المراجع (الحواشي السفلى حسب الترقيم)
1. عبد الرحيم لحبيبي. تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية. أفريقيا الشرق. ط٢. ٢٠١٤. ص:٨
2. عبد الستار الحلوجي. المخطوط العربي. الدار المصرية اللبنانية. لبنان. ط۱. ۲۰۰۲. ص: ۲۸۷
3. عبد الرحيم لحبيبي. تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية أفريقيا الشرق. ط٢. ٢٠١٤. ص:١٣
4. عبد الرحيم لحبيبي. تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية. أفريقيا الشرق. ط٢. ٢٠١٤. ص: ٢١
5. عبد الرحيم لحبيبي. تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية أفريقيا الشرق . ط ٢. ٢٠١٤. ص : ٣٥- العودة إلى هامش المؤلف
6. جاك لومير. مدخل إلى علم المخطوط تحقيق: مصطفى طوبي. تقديم شوقي بنبين . المطبعة والوراقة الوطنية. المغرب. ط ٢٠٠٦.١ ص: ٣٢-٣٣
7. نفسه. ص: : ٣٣-٣٤ بتصرف
8. نفسه. ص: ٣٣-٣٤ بتصرف
9. تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية. عبد الرحيم لحبيبي. أفريقيا الشرق. ط٢. ٢٠١٤. ص: ١٠
10. تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية عبد الرحيم لحبيبي. أفريقيا الشرق ط ٢. ٢٠١٤. ص: ١٠
11. نفسه. ص:۱۰
12. جاك لومير. مدخل إلى علم المخطوط تحقيق: مصطفى طوبي . تقديم شوقي بنبين. المطبعة والوراقة الوطنية المغرب. ط ١. ٢٠٠٦ ص:٣٢
13. نفسه. ص: ۳۲-۳۳
14. جاك لومير. مدخل إلى علم المخطوط. تحقيق مصطفى طوبي. تقديم شوقي بنبين. المطبعة والوراقة الوطنية. المغرب . ط ١. ٢٠٠٦ ص: ٣٣-٣٤
15. نفسه ص : ٣٣ - ٣٤ - بتصرف
16. عبد الرحيم لحبيبي. تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية أفريقيا الشرق . ط ٢. ٢٠١٤. ص: ٣٣
17. عبد الرحيم لحبيبي. تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية أفريقيا الشرق. ط٢. ٢٠١٤. ص: ٦
18. عبد الرحيم لحبيبي. تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية. أفريقيا الشرق. ط٢. ٢٠١٤. ص:٢٣٩
0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا