ادعمنا بالإعجاب

الرواية العربية والتاريخ

ملخص

هذه المقالة تأتي من مجلة العاصمة، وهي مجلة بحثية سنوية محكمة تركز على الدراسات الأدبية والثقافية، صادرة عن قسم اللغة العربية في كلية الجامعة بمدينة تيروفانانتابورام، كيرالا، الهند.

العنوان: الرواية العربية والتاريخ 

المؤلف: عبد المجيد الحسيب، باحث وناقد أدبي من المغرب.

المصدر: المجلد الخامس عشر، عام 2023.

التفاصيل الفنية:

  • ISSN: 2277-9914
  • eISSN: 2321-2756

المقالة تناقش العلاقة التاريخية بين الرواية كفن أدبي وبين التاريخ كمرجع معرفي وسردي، حيث تستعرض دور الرواية التاريخية منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم، مرورًا بتجارب غربية وعربية مختلفة. يتناول المؤلف كيف استلهم الكُتّاب الأحداث والشخصيات التاريخية لتحويلها إلى أعمال روائية، من أمثال والتر سكوت، تشارلز ديكنز، وأمين معلوف، إلى نجيب محفوظ ويوسف زيدان وغيرهم. كما يطرح جدلية العلاقة بين الالتزام بالأمانة التاريخية ومتطلبات التخييل الفني للرواية.

الكاتب يختتم مقاله بتحديد شروط الرواية التاريخية الناجحة:

  • تحرير التاريخ من الروايات الرسمية.
  • إحياء أصوات المهمشين والمقهورين.
  • التفاعل مع الماضي بإبداع يُظهر جماليات الحياة والإنسانية، حتى في قلب المآسي.

بقلم: عبد المجيد الحسيب (باحث وناقد أدبي، المغرب)

منذ ظهور الرواية في العصر الحديث وهي تتفاعل بشكل أو بآخر مع التاريخ، إلا أن هذا التفاعل ظل يختلف من كاتب لآخر حسب نوع الرهانات والغايات المتوخاة منه يجمع الباحثون على أن علاقة الرواية بالتاريخ تعود إلى القرن الـ۱۹ مع الكاتب الاسكتلندي وولتر سكوت الذي أخلص للرواية التاريخية وكتب فيها العديد من النصوص. فقد ساهمت التحولات السياسية والاجتماعية الهائلة التي عرفتها أوربا بعد الثورة الفرنسية في إيقاظ الوعي لدى الأوربيين بأهمية التاريخ. يقول جورج لوكاتش في كتابه "الرواية التاريخية": "إن الاستقرار النسبي في التطور الإنجليزي خلال هذه الفترة العاصفة بالمقارنة مع استقرار بقية القارة الأوربية، مكّن من تحويل هذا الحس التاريخي المتيقظ حديثا، تحويلا فنيا إلى شكل ملحمي واسع وموضوعي"(1). 

لم يكن وولتر سكوت إذن، يكتب روايات تاريخية بغايات تعليمية أو قومية، بل كان يلتقط من رحم التاريخ أحداثا وشخصيات تضفي على التاريخ معنى آخر ، معنى مغاير للمعنى الرسمي المعروف. ففي رصده للحرب الأهلية الطاحنة التي كانت تدور بين السكسونيين والنورمانيين، كان يختار شخصيات عادية وبسيطة، شخصيات تعيش تمزقا بين المعسكرين المتحاربين، وهي شخصيات لا تعبر عن حالات فردية، بل تمثل حركات تاريخية. يقول عنه جورج لوكاتش: مفهوم سكوت عن التاريخ هو مفهوم طريق الوسط الذي يؤكد نفسه عبر صراع الأضداد، فسكوت يدرك بأن ما من حرب أهلية في التاريخ كانت على درجة من العنف بحيث تحوّل كامل الإنسان، بلا استثناء، إلى أنصار متعصبين لهذا أو ذاك من المعسكرين المتخاصمين، إذ قد وقفت أقسام كبيرة من الناس دائما بين المعسكرات بعواطف متقلبة، مرة مع هذا الطرف وأخرى مع ذاك"(2). 

إلى جانب هذا الكاتب الرائد الذي أبدع أعمالا ذات نفس ملحمي، هناك عشرات الأسماء الأخرى التي اختارت التاريخ كخلفية لنصوصها الروائية كما هو الشأن لشارلز ديكنز، أنا كلودين، إسكندر ديما، ستاندال وغيرهم. كما أن الرومانسيين بدورهم أمثال فيكتور هيجو انجذبوا نحو الرواية التاريخية لغايات قومية. ومن أبرز الأعمال العالمية الأخرى التي وظفت التاريخ هناك رواية "الحرب والسلم لتولستوي التي تحدثت عن غزو نابليون لروسيا. وقد ترجمت هذه الرواية لأغلب اللغات العالمية نظرا لقيمتها. ولم تتوقف الرواية عبر مسارها التاريخي عن استلهام عوالم التاريخ واستثماره في بناء عوالمها السردية. ومن النصوص الحديثة التي حققت شهرة كبيرة في هذا المجال هناك رواية "اسم "الوردة" لأمبرتو إيكو، ورواية "العطر" لباتريك زوسكيند. 


أما عربيا فلم تظهر الرواية كجنس مستقل بذاته في البداية، بل خرجت من رحم خطابات وفنون أخرى مثل المقامة كما هو الشأن بالنسبة لـ"حديث عيسى بن هشام" للمويلحي، أو الرحلة، كما هو الشأن في كتاب"تخليص الإبريز في تلخيص "باريز " لرفاعة الطهطاوي وغيرها من النصوص التي عرفها عصر النهضة أو التاريخ كرواية "الهيام في جنان الشام" لسليم البستاني التي كتبها سنة ۱۸۷۰... فعلاقة الرواية العربية بالتاريخ إذن علاقة قديمة ووطيدة في نفس الآن. 

وقد حاول كتاب آخرون إلى جانب سليم البستاني، كتابة نصوص روائية لها علاقة بالتاريخ مثل فرح أنطون ويعقوب صروف وغيرهما. لكن من أكثر الأسماء التي ارتبطت نصوصها بما يسمى بالرواية التاريخية هناك جورجي زيدان الذي تخصص في كتابة ما سماه روايات تاريخ الإسلام". وهي روايات حاول فيها صاحبها تقديم تاريخ الإسلام منذ زمن الفتنة إلى عهد المماليك بطريقة روائية فنية. وتجدر الإشارة إلى أن التاريخ عند جورجي زيدان كان هو الهدف، أما الرواية فهي مجرد وسيلة. ورغم ذلك تبقى تجربة جورجي زيدان بلغته وطريقة بنائه لعوالمه الحكائية الشيقة والساحرة من التجارب الرائدة عربيا. يقول عنه جابر عصفور: "... وقد تأثر أدباؤنا العرب في بدايات النهضة الأدبية بما قرأوه أو ترجم لهم من الروايات التاريخية وأخذ بعضهم يحاكيها، ولعل أبرزهم في ذلك جورجي زيدان الذي أخذ جورجي زيدان الذي أخذ عن المدرسة الرومانسية اتجاهها إلى التاريخ واختلف معها في الغاية، إذ الغاية عنده تعليم الشباب التاريخ، ولذلك كان عرض الحوادث التاريخية وصحتها في المحل الأول من اهتمامه أما باقي حوادث الرواية نفسها فلم يكن يأتي بها إلا تشويقا للمطالعين فتبقى الحوادث التاريخية على حالها وتدمج فيها قصة غرامية تشوّق المطالع إلى استتمام قراءتها فيما يقول زيدان، وذلك لكي يصبح الاعتماد على ما يجيء في هذه الروايات من حوادث التاريخ مثل الاعتماد على أي كتاب من كتب التاريخ"(3). 

ونفس الشيء يمكن قوله عن تجربة علي أحمد باكثير، صاحب الرواية الشهيرة "وا" إسلاماه". أما ما كتبه نجيب الكيلاني فيدخل في نظري ضمن الكتابات الإديولوجية السلفية التي وظفت عناصر الرواية من أجل غايات وأهداف مضادة لروح الرواية المنحازة بطبيعتها للحياة والحرية والنسبية بشكل أساسي. 

وفي أواخر الثلاثينيات، ظهر في سماء الرواية العربية نجيب محفوظ الذي استهل مساره الإبداعي بكتابة نصوص تاريخية على غرار وولتر سكوت. وهذه النصوص هي "عبث الأقدار" و"كفاح طيبة" و"رادوبيس". تتحدث رواية "عبث الأقدار" عن الملك الفرعوني خوفو الذي قرر مواجهة القدر بسلطته، إلا أن الأقدار انتصرت عليه في الأخير ليصير ددف رع ملكا على مصر. فبعد أن اعتقد الفرعون أنه قتل الطفل الذي تنبأ الكاهن بأنه سيصير ملكا شاءت الأقدار أن يكون الطفل المقتول طفلا آخر أما ددف رع فسيعيش إلى أن يصير ملكا بالفعل. استعاد محفوظ في الرواية مرحلة من التاريخ الفرعوني لمصر وعمل من خلالها، على تشخيص بعض المشكلات الوجودية والإنسانية مثل جنون السلطة التي قد تدفع بالابن إلى التفكير في التخلص من والده والحسد والصداقة والحب وغيرها من الظواهر التي التقطتها هذه الرواية. ركزت رواية "رادوبيس" على امرأة فاتنة الجمال كان كبار رجال السلطة يهيمون بحبها، ويغدقون عليها الأموال إلى أن رآها الفرعون فافتتن أحدهما بالآخر مما أثار غيرة البعض ونقمة البعض الآخر خاصة بعد أن حرم الفرعون الكهنة من الكثير من المكاسب المادية التي كانوا يتمتعون بها. رواية "رادوبيس" هي رواية عن الحب والسلطة والغيرة والغدر. لذلك انتهت بشكل مأساوي تعرض فيها الفرعون للاغتيال وانتحرت رادوبيس، وتبدلت فيها الكثير من المصائر. أما رواية "كفاح طيبة" فلم تشذ هي الأخرى عن هذا المنحى، إذ أنها صورت وبشكل ملحمي باهر، صراع أهل طيبة ضد الهكسوس الذين احتلوا بلدهم وطردوا حكامهم وأذاقوهم مرارة الاستعباد والظلم لسنوات طوال . 

كان رهان نجيب محفوظ من خلال هذه الروايات هو استعادة الماضي الفرعوني لمصر. وهو الماضي الذي أصبح بعد ثورة ۱۹۱۹ موضوع اهتمام العديد من الكتاب المصريين أمثال طه حسين وسلامة موسى وغيرهما. وهذا ما يعني حسب جابر عصفور أن رؤية نجيب محفوظ "..كانت معبرة عن التيار الوطني الذي كان يهدف إلى بعث الماضي، والبحث فيه عن العلامات التي ترسم طريق المستقبل. وطبيعي أن تتضح رؤية الكاتب في اختياره لأحداث معينة دون غيرها، وترتيبها بطريقة دون غيرها، وتلوينها خاصا يساعد على إيصال ما يريده الكاتب من رسائل مضمنة إلى القارئ. وإذا نظرنا إلى الأحداث التي اختارها نجيب محفوظ من تاريخ مصر الفرعونية، داخل إطار هذا المنظور، لاحظنا للوهلة أنه لا يختار اللحظات التاريخية ،العادية بل يختار اللحظات التاريخية المشعة التي تنبض بالبطولة والقوة، والتي تفجر لمجرد استرجاعها قيما ثبت الحماسة في نفوس قارئها"(4). 

انطلاقا من الأربعينيات ستعرف الرواية التاريخية نوعا من الانحسار والتراجع أمام اكتساح الرواية الواقعية للمشهد الأدبي. وقد تزامن هذا الاختيار مع هيمنة الأفكار الوجودية والماركسية التي كانت تدافع عن ضرورة الالتزام بقضايا الواقع. وبعد أن حقق هذا الاختيار نوعا من الإشباع لدى القارئ ، وبدأ يستنفد إمكاناته في التعبير، شرعت الرواية العربية في تجريب طرائق مغايرة بغية ضخ دماء جديدة في رحمها. في هذا السياق ظهرت الرواية الجديدة التي راهنت على تجريب طرائق جديدة وغير مطروقة بغية التحرر من الجماليات التقليدية التي ظلت تقوم على الاحتمال ومحاكاة الواقع. 

وقد ظهرت في هذا السياق رواية الزيني بركات" لجمال الغيطاني. وهي رواية اعتبرها النقاد بحق نصا فارقا في تاريخ هذا الفن. استندت رواية "الزيني بركات" على مرحلة حرجة من تاريخ مصر في عهد العثمانيين مستعيدة سيرة شخصية حقيقية، وهي شخصية المحتسب القاضي بركات بن موسى. وهي الشخصية التي أحالت المجتمع المصري إلى مجتمع للبصاصين والمخبرين الذين يراقبون الناس. والواقع أن "الزيني بركات" ليست رواية تاريخية بالمعنى المعروف، بل هي رواية استثمرت التاريخ كي تسلط الضوء على فظاعة القمع والاستبداد الذي تفشى في المجتمع المصري إبان عصر السادات. لقد اعتمد الكاتب في الرواية على كتاب بدائع الزهور" لابن إياس، ومن خلاله استطاع نسج عوالم روائية جديدة وغير مسبوقة في الأدب العربي. يقول عنها أمين طاهر: "تشكل رواية الزيني بركات لجمال الغيطاني إحدى النماذج القليلة والبارزة التي عالجت ظاهرة الخوف والقمع في المجتمعات العربية والعلاقة بين الرعايا والدولة، وذلك في قالب رمزي خيالي مستوحى من التراث الإسلامي، وبالضبط العقد الأخير من العصر المملوكي الذي شهد صراعا مريرا على المشرق الإسلامي بين الدولتين المملوكية والعثمانية، حيث يستنطق الغيطاني كتاب بدائع الزهور كشاهد معاصر لتلك الوقائع بغية رسم مشاهد دقيقة عن مظاهر الحياة اليومية وتناقضات هموم طبقاتها الاجتماعية "(5). يتضح إذن أن الغيطاني وظف التاريخ في الرواية كذريعة لإدانة الحاضر. غير أن التاريخ زوّد الغيطاني بمادة تخييلية بوأت روايته مكانة استثنائية في مسار الرواية العربية. 

فتحت تجربة الغيطاني الباب أمام كتاب آخرين استثمروا التاريخ وعبروا من خلاله عن قضايا الراهن. وسيرا على خطى الغيطاني كتب المغربي بنسالم حميش رواية "مجنون" الحكم التي استعاد من خلالها سيرة الحاكم الفاطمي الملقب بـ"الحاكم بأمر الله"، وهو شخص كان يعاني من المانخوليا لذلك كانت قراراته تتسم بالكثير من الشذوذ والتناقض والظلم المبالغ فيه إلى حد أنه أمر بحرق القاهرة، كما فرض على الناس العمل ليلا والنوم نهارا... وغيرها من القرارات الغريبة والمتقلبة والقاسية في حق الناس. وبعد اندلاع الاحتجاجات والثورات ضده اضطرت أخته "ست الملك" إلى التخلص منه بمساعدة بعض معاونيها. اعتمد حميش بدوره على التاريخ لإدانة كل مظاهر القمع وتكميم الأفواه التي كانت متفشية بشكل كبير في المغرب آنئذ فالتاريخ في هذه الرواية كان بمثابة استعارة للتعبير عن تناقضات الحاضر وما يعرفه من قمع وبطش من طرف السلطة المطلقة. 

وتجدر الإشارة أيضا إلى أن اهتمام الرواية العربية بالتاريخ تضاعف ابتداء من السبعينيات حتى تحول إلى خاصية مميزة للعديد من النصوص مع اختلاف الغايات والرهانات المتوخاة من هذا الاستثمار. فإذا كان أمين معلوف مثلا، في رواية "ليون الإفريقي" قد راهن على الدفاع عن قيم التسامح والتعايش بين الديانات من خلال شخصية تاريخية هي محمد بن الحسن بن الوزان، الملقب بليون الإفريقي، فإنه في رواية "سمرقند" استعاد سيرة عمر الخيام الممجد للحياة والحرية والفن في مقابل شخصية حسن الصباح الموغل في التطرف والتعصب والحقد. هكذا أصبح التاريخ وسيلة للكشف عن تناقضات الحاضر من خلال نصوص هذا الكاتب المتميز. ولا تشذ روايات يوسف زيدان بدورها عن هذا المنحى. فرواية "عزازيل" مثلا استعادت مرحلة من تاريخ الكنيسة المسيحية لتبين ضراوة الصراعات التي كانت بين بعض تياراتها وهي الرواية التي اتهمت بازدراء الأديان. وقد عالجت هذه الرواية إلى جانب العنف الديني موضوعات أخرى مثل الحب والجشع والإيمان والصراع بين الرغبات والواجبات وغيرها من الموضوعات التي أهلتها لنيل جائزة البوكر باستحقاق. 

ومما لا شك فيه أن توظيف التاريخ ليس بالعمل الهين والسهل لأن هناك من ينجح في تحويله إلى بنية روائية خلاقة وفعالة، وهناك من بقي نجاحه نسبيا. لهذا فالنصوص والأسماء المعتمدة في هذه الدراسة تبقى قيمتها الفنية متفاوتة حسب موهبة كل كاتب. كما اختلفت غاية كل كاتب من التاريخ فمنهم من راهن عليه لإضفاء هوية خاصة على نصوصه من خلال استلهام محكيات وتجارب من الماضي، ومنهم من وظفه لغايات رمزية استعارية، ووجد فيه فريق ثالث مادة خاما لبناء عوالمه. 

أصبح التاريخ إذن أداة لإضاءة بعض أسئلة الحاضر، كما أنه غذى رحم الرواية بمحكيات ولغات وعلامات جديدة. فاستثمار التاريخ حوّل الرواية إلى طرس يشف فيه النص اللاحق عن أثر النص السابق لذلك فإن استثماره يتطلب من الكاتب الإلمام بالمرحلة التاريخية التي يود الكتابة عنها خير إلمام. فرضوى عاشور مثلا، وبعد أن نشرت رواية "ثلاثية غرناطة ، التي تحدثت فيها عن التاريخ الدامي الذي تعرض له الموريسكيون في ظل محاكم التفتيش، تقرّ أنها تجنبت نشر لائحة المراجع التي اعتمدتها كي لا تثقل على القارئ. أما الكاتب المغربي عبد الكريم جويطي، وبعد أن نشر رواية "المغاربة" فضلت لديه أعداد من الجذاذات التاريخية مكنته من نشر کتاب حول تاريخ تادلا من ثلاثة أجزاء. كما أن بعض الكتاب الذين استلهموا التاريخ في رواياتهم متخصصون في مجال التاريخ مثل يوسف زيدان، محمد بنسعيد العلوي، أحمد التوفيق... فإلمام الروائي بمادته التاريخية يساعده على النجاح في عمله الإبداعي والعكس صحيح. 

إن الروايات التي تتناص والتاريخ يتجاذبها هاجسان. أحدهما الأمانة التاريخية التي تفرض عليها ألا تجافي ما تواضعت عليه المصادر التاريخية وثانيهما الإخلاص لمقتضيات الرواية وروحها هذه المراوحة والنوسان بين المرجعي والتخييلي هي التي تفرض على الكاتب مهارات خاصة كي ينجح في عمله . وقد تمكنت الرواية العربية، من خلال انفتاحها على التاريخ، من تجديد شكلها بشكل كبير. 

وقد توزع اهتمام الكتاب بالتاريخ بين اختيارات عدة. فهناك من اختار إعادة كتابة سير بعض الشخصيات التاريخية مثل ابن عربي في رواية "موت صغير" للسعودي حسن علوان وابن سينا في رواية "فردقان" ليوسف زيدان، والملك فاروق في رواية نادي" "السيارات لعلاء الأسواني، وشخصية ابن خلدون في رواية "العلامة" لبنسالم حميش، والمولى إسماعيل في رواية "جزيرة الغروب" للمصري جلبير سينوي، والكلاوي في رواية "ثلاث ليال" للأشعري وكذا رواية "ملك اليهود" ليوسف فاضل، وغيرها من الأعمال الكثيرة. وفي المقابل هناك من عمل على تشخيص بعض الظواهر الاجتماعية اعتمادا على التاريخ كظاهرة العبيد في رواية "زرايب العبيد" لليبية نجوى بن شتوان، أو التعصب الديني في روايات أمين معلوف وهناك من اختار التركيز على فظاعات الماضي التي لها صلة بالحاضر كما هو الشأن في رواية "مصائر" للفلسطيني ربعي المدهون، و "دروز بلغراد" لربيع جابر، أو "فرنكشتاين في بغداد" للعراقي أحمد سعداوي أو غيرها من الروايات التي ظهرت في السنوات الأخيرة. 

لقد أتاح التاريخ للرواية العربية إمكانات هائلة في التعبير والتخييل، كما مكنها من الانفتاح على تجارب إنسانية لا زالت قادرة على تحريضنا على حب الحياة والحرية. ولم يكن استثمار الرواية للتاريخ ضربا من النوستالجيا الزائفة، ولا بحثا عن أصالة متوهمة، بل هو اجتراح لشكل كتابي جديد سماه البعض بـ "التخييل التاريخي"، وهو اختيار حقق للرواية بعض خصوصياتها وجعلها تنزاح عن الأشكال الغربية. يقول فيصل دراج: "استدعى الروائي العربي المؤرخ وطرده لأكثر من سبب : فالمؤرخ يقول قولا سلطويا "نافعا" ولا يتقصى "الصحيح"، يهمش تاريخ المستضعفين ويوغل في التهميش إلى تخوم التزوير وإعدام الحقيق، ويكتفي بتاريخ محلي" مخترع، دون أن يقارنه ب" التاريخ الكوني المنتصر" ، أو أن يتوقف أمام الأسباب التي خلقت تاريخا قائدا"، قوامه الركود أو الحركة البائرة. ولهذا يقوم الروائي العربي بتصحيح ما جاء به المؤرخ وبذكر ما امتنع عن قوله.."(6). 

وفي الختام من حق الباحث أن يتساءل: متى تكون رواية التاريخ مجدية؟ تكون كذلك حين يحرر الأفق التخييلي للرواية التاريخ من السردية الرسمية ويفتحه على سرديات مغايرة، تردد صداها في الغالب أصوات المهزومين والهامشيين الذين لم تحتفظ المدونات التاريخية الرسمية بأثر لمعيشهم وصبواتهم وكبواتهم، لأصواتهم الخافتة ووجهات نظرهم المجهولة. تكون كذلك أيضا حين تتوفق الرواية في إعادة النظر في معنى الحقيقة الحقيقة التاريخية إن وجدت بمساءلتها وتنسيبها وتجريدها من وهم وحدانيتها. بهذا تحرر الرواية القارئ من عسف الحقيقة الواحدة، ومن إسارها المطبق، وتشرعها على تعددها المحتمل. 

تكون مجدية آخرا وليس أخيرا حين تنفذ إلى مكامن الحياة في موضوع موات، هو الماضي، كي تزيل الأتربة عن وهج الحياة فيه وعن قواه الإيجابية الخلاقة التي تبعث لنا باستمرار أصداء إرادة حياة. هنا فقط يصبح لكتابة الرواية للتاريخ معنى وقيمة تمييزية إثباتية، تشف عن تاريخ ينبض بالشغف والتوق والحياة، حتى وهو يندرج في قلب المآسي والفواجع والمصائر الحالكة. 

المراجع المعتمدة 

1. جورج لوكاتش: الرواية التاريخية، ترجمة صالح جواد الكاظم ، دار الشؤون الثقافية العامة، العراق، ط ۲ . 

2. جابر عصفور، رهانات نجيب محفوظ التاريخية مجلة العربي الرابط: 8317=http://www.3rbi.info/Article.asp?ID. 3-

3. فيصل دراج الرواية وتأويل التاريخ المركز الثقافي العربي، البيضاء، المغرب، ط ١، ٢٠٠٤. 

المراجع (الحواشي السفلى حسب الترقيم)

1. لوكاتش: الرواية التاريخية ترجمة صالح جواد الكاظم، دار الشؤون الثقافية العامة، العراق، ط ۲، ص ٣٢. 

2 . نفسه، ص ٤٢. 

3 - جابر عصفور، رهانات نجيب محفوظ التاريخية، مجلة العربي، الرابط 8317=http://www.3rbi.info/Article.asp?ID 

4.  نفس المصدر 

5. أمين طاهر : صناعة الخوف في رواية الزيني بركات، منشور على موقع الجزيرة الرابط : https://shorturl.at/wxEIW 

6. فيصل دراج: الرواية وتأويل التاريخ، المركز الثقافي العربي، البيضاء، المغرب، ط ١ ٢٠٠٤، ص.٦. 




مواضيع ذات صلة
الأدب العربي العالمي,

إرسال تعليق

0 تعليقات