ندرة اليازجي
عندما نتأمل الحركات الفلسفية والشعرية التي انتنا من الشرق بوجه عام ، ومن الهند بوجه خاص، والتي بدأت تنتشر في أوروبا ، نكتشف فيها نتائج ، هي حقائق عميقة جدا ، تتباين مع ضالة النتائج التي توقفت عندها العبقرية الاوروبية أحيانا ، الأمر الذي يجعلنا نجثو أمام النتائج التي بلغها الشرق، ونشاهد في هذا المهد الذي ولد فيه الجنس البشري الوطن الاصلي والطبيعي لاسمى ما انت به الفلسفة ..
فکتور کوزان
ان الزمت نفسي على التساؤل عن الادب الذي ننهل منه : نحن الاوربيون ، الذين نشأنا وتغذينا ، على وجه الحصر تقريبا ، من أفكار اليونان والرومان ، ومن عرق سامي ، هو اليهودية ، لنستنتج الاصلاح الذي نتوخاه ، ولنجعل حياتنا الداخلية أكثر كمالا ، واكثر شمولا ، وأوسع ادراكا ، وأكثر انسانية ، والتحقق حياة ، لا تتصل بحياتنا الارضية فحسب، بل تتصل بحياة أزلية وجليلة - الأشرت إلى الهند .
ماکس موتار
تشتمل دراستنا هذه على الموضوعات التالية :
- عصور الفكر الهندي
- المزايا العامة للفكر الهندي
- روح الفلسفة الهندية وقيمتها
- الثقافة الهندية عبر مراحل تطورها وتعدد مدارسها
۱ - عصور الفكر الهندي
تقتضى الضرورة ، ونحن نبحث فلسفة الهندوس بوصفها فلسفة متميزة عن فلسفات الجماعات الأخرى التي تحتل مكانها في الهند ، أن نجدا تبرير ما للعنوان الذي يعرف بـ " الفلسفة الهندية » فالهند ، في يومنا الحاضر ، هندوسية بالدرجة الأولى . لذا ، ينحصر اهتمامنا في هذا البحث بتاريخ الفكر الهندي حتى الألف الأولى بعد المسيح ، وقد يمتد بعد هذه الفترة قليلا . ويعود تركيزنا على هذه الفترة الزمنية التي بلغها تطور الفكر الهندي الى ان كنوز الهند الفكرية بدأت تتصل اكثر فاكثر مع كنوز الفكر غير الهندية .
ظلت قوة الروح الهندية تمارس تأثيرها المحدود على الشعوب المختلفة التي حملت معها مواهبها في أزمنة مختلفة ، ليتشكل النمو المستمر للفكر الهندي . وبالفعل ، لا يمكننا أن نتأكد من التطور أو النمو الزمني الدقيق بل يمكننا أن ننظر الى الفكر الهندي من وجهة النظر التاريخية . لذا ، يتطلب الأمر منا أن نأخذ بعين الاعتبار عقائد المدارس الخاصة على نحو كلي ، على الرغم من اتصالها ببيئتها ومحيطها . وما لم ننظر اليها هذه النظرة الكلية ، فاننا نفقد اهتمامنا بها وتصبح تقاليد ميتة . فكل منهج فلسفي يعد اجابة على سؤال وضعي وتعييني طرحه كل عصر على ذاته ،
وينطوي على شيء من الحقيقة عندما ينظر اليه من زاوية النظر الخاصة به . فالفلسفات الهندية ليست مجموعات اقتراحات او افتراضات حاسمة أو خاطئة ، بل هي تطور وتعبير عن عقل يتوجب علينا أن نحيا معه وفيه . وتتأكد هذه الحقيقة ان كنا نتوخي أن نعرف كيف صافت المناهج ذاتها. وبالاضافة الى ذلك ، يتوجب علينا أن ندرك تضامن الفلسفة مع التاريخ والحياة الفكرية مع الظروف الاجتماعية . لذا يتطلب منا المنهج التاريخي الا نتحيز الى خلاف أو جدال المدارس ، بل أن نتبع تطورها بلا تحيز وبتجرد كبير ..
ولما كنا نلقي أهمية كبرى على المنظور التاريخي ، فاننا نأسف ، بسبب ما طرأ من اهمال في تتبع تسلسلات الجدول الزمني - التاريخي للكتابات ، أن نقول بأنه لا يمكننا أن نحدد بدقة التواريخ النسبية للمناهج . وعلى هذا الاساس اللا تاريخي ، أو الفلسفي - الفوقي ، تأسست طبيعة الهندي القديم ، بحيث نعرف الكثير عن الفلسفات أكثر مما نعرف عن الفلسفات ذاتها ، ولكن التاريخ الهندي اعتمد أساسا أفضل بعد ولادة بوذا فقد عاصر نشوء البوذية توسع السلطة الفارسية الى الاندوس على أيام سلالة أخمنيد . ويقال ان هذا التوسع كان أصل المعرفة الأولى التي تسربت من الهند الى الغرب على يد هيرودوتس وهيكاتوس .
تنقسم عصور الفكر الهندي الى أربعة رئيسية :
۱ - العصر الفيدي ( ١٥٠٠ - ٦٠٠ ق . م ) . تغطي هذه المرحلة فترة استقرار الآريين واستيطانهم ، وتوسعهم التدريجي ، وانتشار حضارتهم وثقافتهم . ولقد شهد هذا العهد نشوء جامعات الغابة ، حيث تطورت بدايات المثالية المتسامية الهندية . ونجد في هذا العصر أطوارا متتابعة للفكر ، تميزت فيها المانتراس أو الاناشيد ، والبراهماناس ،والاوبانیشاد .. والافكار المطروحة في هذه المرحلة ليست فلسفية بالمعنى العلمي للكلمة .. لذا ، عرف هذا العصر بأنه عصر يتلمس طريقه، وتتصارع فيه المعتقدات الخرافية مع الفكر .. وفي سبيل تنظيم الموضوع وتوضيحه واستمراريته ، يتوجب علينا أن نبدأ بالحديث من وجهة النظر المتضمنة في اناشيد الرج - فيدا ، ونناقش وجهات نظر الاوبانیشاد .
٢- العصر الملحمي ( ٦٠٠ ق . م - ۲۰۰ ب.م ) .. يمتد تطوره خلال الفترة الواقعة بين أوائل الاوبانيشاد والدارسانا أو مناهج الفلسفة. وتمثل ملاحم الرامايانا والمهابهاراتا الاقنية التي تم عن طريقها نقل الرسالة الجديدة التي تشير الى تطبيق البطولة والالوهة في العلاقات البشرية وفي هذه الفترة يتجلى ظهور أفكار الأوبانيشاد في البوذية والبها جفاد جينا. وتنتمي مناهج البوذية ، والجانتية ، والسايفيتة والفاينية الى هذا العصر . ويعود تطور الفكر المجرد الذي بلغ أوجه في مدارس الفلسفة الهندية والدارسانا الى هذه الفترة ايضا ، ولقد أسست غالبية المناهج بداياتها الأولى في الفترة التي نشأت فيها البوذية ، وتطورت جنبا الى جنب خلال عصور عديدة. ومع ذلك ، تنتمي الكتابات المنهجية للمدارس الى فترة لاحقة .
۳ - عصر السوترا ( من ۲۰۰ ب.م ) .. لما كانت معالجة مجموعة المواد غير ناجحة على نحو مرض ، فقد اقتضت الضرورة احداث مخطط وجيز للفلسفة . وقد تم اختصار أو تلخيص هذه المجموعة في صورة السوترا . وجدير بالذكر أن فهم هذه السوترا غير متوفر بدون الشروحات والتعليقات المرتبطة بها ، الأمر الذي جعل هذه الشروحات أكثر أهمية من السوترا ذاتها . وفي هذه الفترة ، تطور الموقف النقدي في الفلسفة وعلى الرغم من أن الفترات السابقة تميزت ببحوثها ومناقشاتها الفلسفية
لكن العقل لم ينفصل في تقبل ما حدثته به مجموعات المناهج . ومع ذلك ، احاط هذا العقل بالموضوع ، وأجاب على الاعتراضات التي تقدم عليها ، وبحدس مؤات انتقى المفكرون بعض المبادئ العامة التي بدت لهم وكأنها توضح أو تشرح مظاهر الكون كلها . وعلى الرغم من عمق ودقة التأليفات الفلسفية ، فقد عانت ، طوال تلك الفترة ، من خلل تجلى في انها نقدية مسبقة ، بالمفهوم الكانتي للكلمة . لقد نظر العقل الى العالم وبلغ استنتاجاته بدون نقد مسبق للقدرة الانسانية على حل المعضلات الفلسفية . فالجهود الأولى لفهم العالم وشرحه لم تكن ، على وجه الحصر، محاولات فلسفية ، طالما أنها لم تشغل ذاتها بأية ارتيابات حول جدارة العقل البشري أو فعالية الوسائل والمعايير المستخدمة ، وعندما نأتي الى السوترا ، نجد أن وعي الفكر قد أصبح ذاتيا ، ولم يبق مجرد خیال قائم على الاستدلال والاستنتاج ، وعلى الحرية الدينية . لذا ، لا يمكننا أن نتحدث عن تقدم منهج على آخر في سياق التاريخ . فهنالك اسنادات ترافقية امتدت طيلة هذه الفترة. فاليوغا تعترف بالشامكيا، والفايسيسيكيا تقر بالنيايا والشنامكية . وتشير النيايا إلى الفيدانتا والشامكيا . وتعترف الميمامسا ، على نحو مباشر وغير مباشر ، بالوجود السابق لكل المناهج الاخرى وهذا ما تعترف به الفيداننا ، والفايسيسيكا والنيايا . وهذا ما يدفعنا الى القول بأن فترة السوترا لا تتميز كثيرا عن الفترة المدرسية للتعليقات والشروح ، بحيث أن الفترة الواقعة بينهما تمتد حتى العصر الحاضر
٤- العصر المدرسي : يعود تاريخه الى القرن الثاني بعد المسيح .
ويستحيل علينا أن ترسم خطاً دقيقاً بين هذه الفترة وتلك التي سبقتها . ففي هذه الفترة ، نجد أسماء حكماء كبار أمثال كوماريلا ، وشانكرا ، و شريدها را ، ورما مانوجا و مادهانا الخ .. ولقد تميز ادب هذه الفترة بجدليته العامة ، واننا نجد نوعا من المدرسين البارعين في الجدل منغمسين في نظريات دقيقة ومناقشات حاذقة ، يتنازعون بشدة حول طبيعة القضايا الكلية المنطقية . وعلى الرغم من دقتهم وحماستهم ، يخشى عدد كبير من الهنود أن يلقوا نظرة على مجلداتهم لانها تربكهم أكثر مما تنيرهم . فقد استعاض أولئك الجدليون في كتاباتهم بالكلمات عوض الافكار ، وأحلوا المنطق الجدلي محل الفلسفة . وهكذا يتعين غموض الفكر ، وحذاقة المنطق ، وحساسية المزاج ، في النموذج الاسوا للتعليقات والشروح . وبالطبع ، يقيم النموذج الافضل تقييما فخما يعادل فخامة المفكرين الاقدمين . وان معلقين أو شارحین ، امثال شانکارا در امانوجا ، ينادون بالعقيدة القديمة ويعترفون بصحتها ، الأمر الذي يجعل اقرارهم هذا يعادل الكشف الروحي الذي تميز به الحكماء القدامي .
۲ المزايا العامة للفكر الهندي :
تعد الفلسفة الهندية روحية في جوهرها . ولا نبالغ اذا قلنا أن الروحانية الهندية العاطفية ، وليس البنية السياسية العظمى والتنظيم الاجتماعي الذي طورته الهند، هي التي مدت هذه البلاد بقدرة على الوقوف في وجه كوارث الازمنة وأحداث التاريخ .. فالغزوات الخارجية والخلافات الداخلية قضت على حضارتها مرات كثيرة ، فقد حاول الاغريق ، والاسكيثيون ، والفرس ، والمغول ، والفرنسيون ، والانكليز اخضاع الهند ، لكن حضارتها ، رغم ذلك ، ظلت متألقة ، وبالفعل ، لم تستسلم الهند في نهاية الأمر ، وظل بريق روحها متوهجا . قالهند ، كانت وما زالت ، تحيا تاريخها لتحقق هدفا واحدا فقد ناضلت من اجل توطيد قاعدة الحقيقة ومقاومة الخطأ . ويحتمل أن تكون الهند قد أخطأت أو تخبطت في تصرفها ، لكنها ، مع ذلك ، تصرفت وفق ما أحست بأنها قادرة على فعله ومدعوة الى القيام به . لذا ، يشير تاريخ الفكر الهندي الى البحث العقلي الدائم ، الموصل في القدم دائما ، والحديث دائما يلاحظ كل من يدرس الفكري الهندي أن الدافع الروحي يهيمن على الحياة العامة في الهند .. فالفلسفة الهندية تهتم بما ينتاب الانسان من أفكار ، ولا تجد ملاذها في العزلات الخيالية . فهي فلسفة متأصلة في الحياة ، نشأت منها وتعود إليها عبر المدارس ، لذا ، لا تتصف الكتابات العظيمة المتصلة بالفلسفة الهندية بتلك الميزة المتعالية التي تجلى مظهرها في التعليقات والانتقادات المتأخرة. وبالفعل ، لا تغترب الجيتا والاوبا نيشاد كثيرا عن المعتقد الشعبي . فهما أدب البلاد الممتاز ، وأدوات مناهج الفكر العظيمة . وتشتمل البوراناس على الحقيقة التي ترتدي لباس الاساطير والقصص ، وذلك لكي تتوافق مع الفهم البسيط عند غالبية الشعب هكذا نرى أن المهمة الشاقة التي تنجزها الهند تتمثل في جذب اهتمام الجماهير الى المتافيزياء .
وعلى هذا الاساس ، يجاهد مؤسسو الفلسفة في سبيل اصلاح اجتماعي - روحي للبلاد . ولئن اصطلح على تسمية الحضارة الهندية بأنها حضارة براهمانية ، فلان هذه التسمية تشير الى أن ميزتها أو شخصيتها الرئيسة ودوافعها السائدة تتعين عن طريق مفكريها الفلاسفة وعقولها المتدنية ، رغم أن هذه العقول وأولئك المفكرين لا ينتمون بولادتهم الى أصل براهماني . وان ما تمارسه الهند يتجلى في قول افلاطون بوجوب استلام الفلاسفة ادارة البلاد وسلطتها . فالحقائق القصوى هي حقائق روحية ، والحياة الواقعية ترق وتسمو في ضوء هذه الحقائق ..
هكذا نرى أن الدين في الهند لا يتصف بالدوغماتية - العقائدية . فهو تأليف عقلي يضم اليه ، ويجمع في ذاته ، على نحو دائم تصویرات ومفاهيم جديدة خلال التطورات الفلسفية . هو اختباري ومؤقت ، أو شرطي ، في طبيعته ، يعمل على مجاراة التقدم الفكري لكي لا يتخلف عنه . أما النقد الشائع الذي يشير الى أن الفكر الهندي ، بتشديده على العقلانية ، يحل الفلسفة محل الدين ، فهو قضية تظهر الصغة الفكرية والعقلانية للدين في الهند . والحق يقال ، ان الحركات الدينية لم تظهر الى الوجود بمعزل عن مضمون فلسفي ، يدعم موقفها . ويذكر هافل في كتابه « الحكم الآري في الهند » ما يلي : « الدين في الهند يفقد من زمام العقيدة ، هو فرضية فاعلة توجه السلوك البشري ، تتكيف وتتلاءم مع مراحل مختلفة للنمو الروحي وظروف الحياة المختلفة » . ومتى اتجه الدين الى التبلور في معتقد ثابت ، انبثقت الى الوجود نهضات روحية وفلسفية ، هي ردود أفعال ، تعيد المعتقدات الى بوتقة النقد الذي يدافع عن الحقيقة ، يبررها ويثبتها ، ويصرع الباطل . ونلاحظ ، مرة تلو مرة، أن انبثاق بوذا ، أو ماها فيرا ، أو قياسا أو شانكارا ، يحرك أعماق الحياة الروحية ، حينما تبلغ المعتقدات التي يعترف بها التقليد درجة تصبح فيها غير وافية بالقصد من وضعها . وتكون لحظات هذا الانبثاق اشراقات عظيمة في تاريخ الفكر الهندي ، وفترات تتميز باختبار داخلي ، ورؤية تهز اعماق الانسان وتوجهه الى انطلاق جدید باتجاه مغامرة حديثة . أذن ، فالعلاقة الصميمية القائمة بين حقيقة الفلسفة وحياة الشعب اليومية تمد الدين دائما بالحيوية والحقيقة الواقعية .
وجدير بالقول ، أن معضلات الدين تحرض الروح الفلسفية . فقد تمرس العقل الهندي على نحو تقليدي بقضايا طبيعة الألوهة ، وغاية الحياة ، وعلاقة الفرد بالروح الكلية ، وعلى الرغم من أن الفلسفة في الهند لم تتحرر كليا من فتنة التأمل أو التفكر الديني ، لكن المباحثات الفلسفية لم تتقيد بالاشكال الدينية . لذا ، لم يختلط أحدهما بالآخر . ولما كانت العلاقة بين النظرية والممارسة وثيقة الصلة ، فان الفلسفة التي تعجز عن الصمود امام اختبار الحياة لا حظ لها في البقاء . وبالنسبة للذين يحققون الصلة الحقة بين الحياة والنظرية ، تصبح الفلسفة طريق حياة ، وتقربا من التحقيق الروحي . وبالفعل لم يكن اي تعليم ، بما فيه الشامكيا ، مجرد كلمات يتفوه بها المرء ، أو عقيدة للمدارس . فقد تحولت كل عقيدة الى اقتناع متقد يحرك قلب الانسان ويحثه على التفكير
لا يحق لنا أن نقول أن الفلسفة الهندية لم تصبح داعية لذاتها أو نقدية . ففي مراحلها الأولى ، نزع التفكير العقلي الى تصحيح وتصويب المعتقد الديني . وهذا ما نلاحظه في تطور الدين المتضمن في تقدمه انطلاقا من أناشيد الفيدا الى الاوبانيشاد .. وعندما نصل الى البوذية ، تصبح الروح الفلسفية موقفا تعيينيا للعقل الذي لا يميل ، في القضايا الفكرية ، الى أي مرجع خارجي أو سلطة خارجية ، ويأبى أن يضع حدا لتأمله وتفكيره ، ما لم يكن هذا الحد نتيجة منطقية . وعندئذ يتأمل في الاشياء كلها ، ويختبر كل الاشياء ويتابع مسيره ، دون خوف ، الى حيث يقوده البحث . وعندما نبلغ الدارسانا العديدة أو مناهج الفكر ، تتكشف لنا الجهود الجبارة المثابرة في الفكر المصوغ في مجموعة متماسكة من الفكرات . وإن انعتاق المناهج أو الطرائق من النهج التقليدي والمحاباة والانحياز . يتوضح في واقع ان الشامكيا تلوذ بالصمت من طرحت قضية وجود الحقيقة السامية ، وذلك على الرغم من يقينها من إقامة الدليل على وجودها نظريا ، أما الفايسيسيكاد واليوغا فانهما تعترفان بوجود كائن اسمى ، لكنهما لا تعتر فان بأنه خالق الكون . ويشير جاميني الى وجود الحقيقة السامية وينكر تدبيرها أو عنايتها وحكمه الخلقي للعالم وعرفت المناهج البوذية الأولى بأنها تقف من الحقيقة السامية موقف اللا مبالاة . لكن منهج الكارفاكا المادي ، ينكر وجود الحقيقة السامية ، يهذا من رجال الدين ، ويشتم الفيدا ويسعى الى الخلاص في اللذة .
هكذا نرى أن سيادة الدين والتقليد الاجتماعي في الحياة لا يعيقان البحث الفلسفي الحر . ومما لا شك فيه ، أن مثل هذا الوضع يبدو متناقضا في ظاهره . فالفرد قادر على ممارسة حريته في عالم الفكر في الوقت الذي يجد نفسه موثوقا بصرامة النظام الطبقي . وعلى هذا الاساس ، يتساءل العقل عن حقيقة وجوده بحرية ، وينتقد المعتقدات التي تكبل الانسان منذ ولادته . ويمكننا القول إن هذا هو السبب الذي يدعو كلا من الهرطوقي ، والملحد ، والخارج عن نطاق الايمان ، والعقلاني ، والمفكر الحر ، والمادي ، والقائل بمذهب اللذة أن يزدهر في تراب الهند تقول المهابهاراتا : « ليس ثمة إنسان لا يمتلك فكرة خاصة به »
يعد ما ذكرنا أعلاه دليلا على العقلنة العميقة التي تميز بها الفكر الهندي الذي يسعى الى معرفة الحقيقة الداخلية وقانون جوانب النشاط البشري كلها . ولا يقتصر هذا الدافع العقلاني على الفلسفة واللاهوت ، بل هو يمتد الى المنطق وقواعد اللغة ، والبلاغة ، واللغة ، والطب والفلك ، وكل الفنون والعلوم ، انطلاقا من فن العمارة الى علم الحيوان . وهكذا ، يصبح كل ما هو مفيد للحياة أوهام للعقل موضوعا للبحث والتقصي والنقد يمكننا أن نقول إن المحاولة الفلسفية لتحديد طبيعة الحقيقة تبدأ بأحد أمرين : الذات المفكرة أو موضوعات الفكر . لكن الأمر مختلف في الهند : يكمن اهتمام الفلسفة في ذات الانسان . ففي اللحظة الذي تتحول الرؤية ، الى عالم الخارج ، يشغل اندفاع الاحداث المتسارعة العقل وفي داخل الانسان تكمن الروح التي هي مركز كل شيء ؛ ويعد علم النفس وعلم الاخلاق العلمين الاساسيين ، وهكذا ، ترسم حياة العقل في تنوعها المتحرك والمتحول كله . ولقد حقق علم النفس الهندي قيمة التركيز واعتبره وسيلة إدراك الحقيقة ، ويقر علم النفس الهندي ان رتب صفوف الحياة أو العقل قابلة للتحقيق والادراك من خلال تدريب منهجي للارادة والمعرفة . وهكذا ، يعترف علم النفس الهندي بالصلة الوثيقة بين العقل والجسد . فالاختبارات النفسية ، مثل التليائي والاستبصار ، لا تعد ، في نظر علم النفس الهندي ، عجائبية أو شاذة أو خارجة عن الطبيعة .. وليست هي نتاج العقول المريضة أو حصيلة إلهام يصدر عن الآلهة : هي قدرات يستطيع العقل الانساني في إظهارها في حالات محققة بالاختبار والتجربة . والواقع ، هو أن عقل الانسان يمتلك المعالم الثلاثة للاوعي ، والوعي الفوقي . أما الظاهرات النفسية ( الشاذة » التي يطلق عليها أسماء مختلفة مثل : الغيبوبة ، العبقرية ، الالهام ، الجنون ، فهي مؤشرات الأعمال العقل الفوقي . واذا كانت المناهج العديدة تشير الى هذه المعالم وتستخدمها من اجل مقاصدها ، فان منهج اليوغا للفلسفة يعالج هذه الاختبارات على نحو خاص .
تقوم المنظومات المتافيزيائية على مجموعة القضايا المسلمة في علم النفس لذا كان النقد الموجه الى المتافيزياء الغربية بأنها وحيدة الجانب قضية غير مبررة ، طالما أن انتباهها يتركز على حالة اليقظة وحدها . هنالك حالات أخرى للوعي تؤخذ بعين الاعتبار تماما كما تؤخذ اليقظة وهكذا ، يعتبر الفكر الهندي حالات اليقظة ، والحلم والنوم بلا حلم ، واذا ما تقصينا حالة الوعي أثناء اليقظة واعتبرناها الحالة الكلية ، حصلنا على التصورات الواقعية ، والثنائية والمعقدة للمتافيزياء . ولا شك ، ان دراسة الوعي اثناء الحلم تؤدي بنا الى عقائد فكرية . وتنزع حالة النوم من دون حلم بنا الى نظريات مجردة وسرية . والحق يقال ، إن الحقيقة بكاملها تأخذ حالات الوعي كلها بعين الاعتبار .
وجدير بالذكر أن سيادة الاهتمام الفكري لا يعني أن الهند قد أغفلت العلوم الموضوعية . فاذا ما المعنا الى انجازات الهند الواقعية في نطاق العلم الوضعي ، لرأينا أن النقيض أكيد لقد وضع الهنود القدامى اسس وقواعد المعرفة الرياضية والميكانيكية : قاسوا الارض ، قسموا السنة ، رسموا السموات بتفصيل ، تعقبوا مسلك الشمس والكواكب من خلال نطاق دائرة البروج، حللوا بنية المادة ، ودرسوا طبيعة الطيور والحيوانات والنباتات والبذور . وذكرت الايتاريا براهمانا ما يلي : « الشمس لا تغرب ولا تشرق ... . ويذكر مونييه ويليامز في كتابه ( الحكمة الهندية » ما يلي : " أيا كانت النتائج التي يمكننا الحصول عليها بشأن المصدر الاهلي للافكار الفلكية الأولى السائدة في العالم ، فثمة احتمال أن الفضل في إبداع الجبر وتطبيقه في نطاق الفلك والهندسة يعود الى الهند . وعن الهنود أخذ العرب ليس تصوراتهم الأولى عن التحليل الجبري فحسب ، بل أيضا تلك الرموز العددية القيمة والطريقة العشرية السائدة في كل مكان من أوروبا ، والتي قدمت خدمة جلى لتقدم العلم الحسابي » ويقول كولبروك في ترجمته كتاب ( إبداع بهاسكار في الجبر » ما يلي : « لقد راقب الهنود حركات القمر والشمس بدقة ونجاح ، لدرجة أن حكمهم في مسألة دوران القمر الاقترابي أكثر دقة مما أنجزه الاغريق في هذا . إنهم أبدعوا تقسيم الكسوف والخسوف - الدائرة الظاهرية المسير الشمس - الى ستة وعشرين وسبعة وعشرين قسما ، والموا على الصدد نحو خاص بأبهى الكواكب الرئيسة ، وأدخلوا زمن المشتري ، باقترانه بزماني القمر والشمس ، الى ضبط تقويمهم بصورة دائرة من ستين عاما ، المعروفة من قبلهم ومن قبل الكلدان ) . وفي الوقت الحاضر ، يتأكد الدارسون أن الهنود أدركوا ، في فترة زمنية مبكرة ، كرة ، علمي المنطق واللغة وطوروهما . وفي كتاب ( الادب السنسكريتي » لماكس موللر ، نقرأ ما يلي : في نطاق الطب والفلك والمتافيزياء ، جارى الهنود اكثر الامم استنارة في العالم . فقد بلغوا براعة وتقدما كاملين في الطب والجراحة ، وذلك قبل أن أصبح علم التشريح معروفا من قبلنا عن طريق مكتشفات الباحثين المحدثين » .
والحق يقال إنهم لم يخترغوا الاجهزة الميكانيكية الكبرى . وعوضا عن ذلك ، مدتهم السماء الصافية بمجاري المياه العظيمة وبغزارة الطعام . ومن الأهمية بمكان أن نذكر أن هذه الاختراعات لم تحدث الا في القرن السادس عشر الميلادي يوم فقدت الهند استقلالها لقد تجمدت الهند يوم فقدت استقلالها وبدأت تعبث مع الامم الأخرى . واستطاعت ، حتى ذلك الحين ، أن تحافظ على ما تمتلكه من الفنون والحرف ، والصناعات والرياضيات ، والفلك ، والكيمياء ، والطب ، و الجراحة ، وفروع المعرفة الجسدية التي مارسها الاقدمون . وعرفت كيف تنحت الحجارة ، وترسم الصور ، وتصقل الذهب ، وتحيك الانسجة الثمينة . وطورت كل الفنون الدقيقة والصناعة ، التي تزود ظروف الوجود الحضاري . وعبرت سفنها البحار ، وبلغت ثروتها الى مصر وروما .. واتسمت تصوراتها عن الانسان والمجتمع والاخلاق والدني بالروعة . لذا ، لا يمكننا أن نقول إن الشعب الهندي وجد متعة بالغة في الشعر والاسطورة ، وازدرى العلم والفلسفة ، علما بأن هذا الشعب هدف ، أكثر ما هدف ، الى البحث عن وحدة الاشياء اکثر مما شدد على انفصالها إذا جاز لنا أن نميز بين العقلين التأملي والعلمي قلنا : إن العقل التأملي تأليفي والعقل العلمي تحليلي . ويتجه العقل التأليفي الى خلق فلسفات كونية تشتمل ، في نظرة واحدة شاملة ، على اصل جميع الاشياء ، وتاريخ الازمنة والعصور ، وانحلال العالم وفساده . ويتجه العقل التحليلي الى التريث والتردد عندما يأتي الى دراسة جزئيات العالم ، ويميل الى إغفال الاحساس بالوحدة الكونية . وبالفعل ، ينظر الفكر الهندي الى الوجود من وجهات نظر مجردة ، لا مشخصة ، واسعة ، ويسهل على الناقد اتهامه بأنه أكثر مثالية وتأملا ، وعلى غير ذلك ، يتجه الفكر الغربي الى ان يكون أكثر براجماتية واكثر واقعية ، ويعتمد الفكر الغربي على ما ندعوه الحواس ، كما يعتمد الفكر الهندي على الاحساس الروحي الذي يستفاد منه في خدمة التأمل والتبصر . ولا شك ، أن ظروف الهند الطبيعة هي المسؤولة عن نزعة الهندي التأملية ، الهندي الذي يتسع وقته للتمتع بأمور العالم الجميلة ويعبر عن غنى روحها لانشودة والرواية ، في الموسيقى والرقص ، وفي الطقوس والديانات ، دون أن تزعجه انفعالات العالم الخارجي . فالشرق المتأمل ، الذي يطيل التفكير ، كما يتهمه بعضهم ، لا يخلو بكليته من الحقيقة .
إذن ، فالرؤية التأليفية الهندية هي التي جعلت الفلسفة تشمل علوما عديدة تمايزت في الازمنة الحديثة ، ففي السنوات المئة الاخيرة ، وجدت في الغرب فروع معرفة اشتملت على الفلسفة ، والاقتصاد ، والسياسة ، والاخلاق ، وعلم النفس ، وعلم التربية . لكن الفلسفة ، في زمن افلاطون ، احتوت جميع تلك العلوم التي تتصل بالطبيعة الانسانية وتشكل جوهر اهتمامات الانسان الفكرية والتأملية . وبالطريقة ذاتها ، تحتوي الكتب الهندوسية الدينية القديمة المضمون الكامل للنطاق الفلسفي . ولكن الفلسفة ، في وقت لاحق في الغرب ، أصبحت مرادفة للمتافيزياء ، أو مناقشات المعرفة المبهمة والعميقة ، والكيان والقمية : وأصبح الناس يتذمرون من كون المتافيزياء نظرية على نحو مطلق ، ومن انفصالها من الجوانب التصورية والعملية للطبيعة الانسانية .
واذا كان بامكاننا أن نضع الاهتمام الفكري للعقل الهندي جنبا الى جنب مع نزعته لبلوغ الرؤية التأليفية ، لراينا كيف تصبح المثالية الاحادية حقيقة الاشياء . والى هذه الحقيقة يشير الفكر الفيدي ، وعلى هذه الحقيقة تعتمد ديانتا البوذية والبراهمانية : إنها الحقيقة الاسمى المتجلية في الهند . وبالفعل ، لا تخلو المناهج التي تعلن عن إثينيتها أو تعدديتها من هذه الميزة الاحادية . واذا استطعنا أن نتجرد من تنوع الفكر وتلاحظ الروح العامة للفكر الهندي ، لراينا أنه ينزع الى ترجمة الحياة والطبيعة في ضوء المثالية الاحادية ، وعلى الرغم من هذا الميل مطواع ، حي ومتنوع ، ولكنه يتخذ أشكالا كثيرة ويعبر عن ذاته في تعاليم غير ودية على نحو متبادل هكذا نستطيع أن نشير باختصار الى الاشكار الرئيسة التي اتخذتها المثالية الاحادية في الفكر الهندي ، مهملين التطورات التفصيلية والتقديرات والاستنتاجات النقدية ، ويساعدنا هذا الأمر على تفهم طبيعة ووظيفة الفلسفة كما تدر كان في الهند .
تتمثل المثالية الاحادية في انماط أربعة : 1 - لا اثنينية وادفينا . احادية ضمنية . Σ أحادية معدلة - احادية صافية . ٣
تنشأ الفلسفة من وقائع التجربة . وبعد التفكير المنطقي ضروريا للتأكيد على أحد أمرين يعبر عنهما بالسؤالين التاليين : ١ - هل يقبل جميع الناس الوقائع التي يلاحظها فرد واحد ؟ ۲ هل هذه الوقائع فكرية في حصيصتها ؟ ولا شك أن قبول النظريات مرهون بتفسير الوقائع على نحو مرض . ولقد ذكرنا ان المفكرين الهنود درسوا وقائع العقل والوعي بعناية وانتباه يعادلان العناية والانتباه اللذين أولاهما العلماء المحدثون لدراسة العالم الخارجي . لذا ، تعتمد النتائج الفلسفية لأحادية أدقيتا - اللا إثنينية - على معطيات الملاحظة النفسية .
تتعين فاعليات النفس على الحالات الثلاث : اليقظة ، الحلم ، ومن والنوم بلا حلم . ففي حالات الحلم يتمثل لنا عالم واقعي ملموس جانبنا ، لا ندعو ذلك العالم واقعيا ، وذلك لاننا نجد ، عند يقظتنا ، أن عالم الحلم لا يتوافق مع عالم اليقظة . ومع ذلك ، يعد الحلم واقعا في حالة النوم الذي يرافقه الحلم . ولا شك ، أن التعارض الناشيء من المعايير الاتفاقية العائدة لحياة اليقظة وليس معرفتنا المطلقة بالحقيقة بوضعها قائمة بذاتها ، هو الذي يخبرنا بأن حالات الحلم اقل واقعية من حالات اليقظة . ومع ذلك ، نقول إن واقع اليقظة ذاته واقع نسبي . فهو لا يتصف بوجود دائم ، لانه متلازم مع حالة اليقظة . فهو يختفي في الحلم والنوم ، إذن ، فالوعي اليقظ والعالم الذي يتكشف عنه مرتبطان ببعضهما ، يعتمد الواحد منهما على الآخر ، تماما كما يرتبط الوعي الحالم وعالم الحلم . وكما يفصح شانكارا : ( كما تنكر عالم الحلم أثناء النهار ، كذلك ننكر عالم اليقظة في ظروف استثنائية » . وفي رأي شانكارا أن العالمين لا يعرفان بواقعيتها تماما . ففي النوم الذي يرافقه حلم يتوقف وعينا التجريبي . ويعتقد بعض مفكري الهنود اننا نمتلك في هذه الحالة وعيا لا موضوعيا . وعلى اية حال ، يتضح لنا أن النوم اللا حالم ليس لا كيانا - لا وجودا - كاملا ، أو نفيا للوجود وذلك لأن مثل هذه الفرضية تتعارض مع التذكير اللاحق لراحة النوم . لذا ، تستمر الذات في وجودها ، على الرغم أنها سديت من كل تجربة . وفي هذه الحالة ، لا نشعر بموضوع طالما أننا نتمتع بنوم عميق . وكما يبدو ، لا تتأثر الذات المجردة بتفاهة وضألة الافكار التي تظهر وتختفي وهي ترافق أمزجة خاصة . فالذات التي تواصل وجودها دون تغيير ، وتظل واحدة خلال كل التبدلات ، تختلف عن الاشياء كلها . ويمكننا القول إن الظروف تتبدل ، والنفس لا تتبدل .. وهكذا ، تقتنع بوجود قائم فنيا يتجاوز الفرح والتعاسة ، الفضيلة والرذيلة ، الخير والشر . فالنفس ( لا تموت أبدا ، ولا تولد أبدا - هي لا مولدة ، أبدية ، دائمة ، ولا تفنى بفناء الجسد » .
وبالاضافة الى النفس التي تظل ذاتها ، تخضع الاشياء والموضوعات لتنوع تجريبي . ويمكننا القول إن النفس دائمة ، لا متبدلة ، والتنوع التجريبي للأشياء متبدل ؛ النفس مطلقة ، مستقلة من كل الاشياء ، والتنوع متغير مع الامزجة .
وعلى هذا الاساس ، نطرح السؤال التالي : كيف نفسر العالم ؟
يتراءى لنا التنوع التجريبي مرتبطاً بالمكان ، والزمان والسبب . فلئن كانت النفس واحدة ، كونية وغير متبدلة ، فلا بد لنا وأن نجد في العالم مجموعة من الجزئيات المتميزة بصفات متعارضة . وإننا ندعوها لا ذاتا أي موضوعا للفكر : وهي واقعية بكل تأكيد، ومع ذلك ، تعرف المقولات الرئيسة لعالم التجربة ، الزمان والمكان والسبب بأنها متناقضة بذاتها . فهي حدود نسبية تعتمد على مكوناتها ، ولا تتصف بوجود حقيقي . فهي ليست لا موجودة : العالم موجود ، نعمل فيه ومن خلاله ، ونعجز عن معرفة ( لماذا ) هذا العالم . وإن ما ترمز اليه كلمة مايا Maya يتمثل في هذا الوجود الذي لا يقبل التفسير . وإن تساؤلنا عن العلاقة بين الذات المطلقة والدفق التجريبي ، وتساؤلنا كيف ولماذا يحدث ، وتساؤلنا أنه يوجد اثنان ، يعني أن لكل شيء لماذا وكيف ، وقولنا إن اللا نهائي يصبح النهائي أو يتجلى في النهائي قول سخيف من وجهة النظر هذه . فالمحدود لا يستطيع أن يعبر عن اللا محدود . وفي اللحظة التي يكشف اللا محدود في المحدود ، يصبح ذاته محدودا . وقولنا إن المطلق ينحدر تدريجيا الى التجريبي قول يشير الى أنه يناقض إطلاقيته . فالانحدار التدريجي لا ينتج في كيان كامل ، والظلمة لا تقيم في ضوء كامل . ولا يمكننا الاعتراف بأن الكائن الاسمى ، اللا متبدل ، يصبح محدودا عن طريق التغير . فالتغير يعني الرغبة أو الشعور بحاجة ، واظهار - الحاجة الى الكمال. والمطلق لا يمكن أن يصبح موضوع معرفة ، وذلك لان المعلوم نهائي ونسبي . وعقلنا المحدود لا يستطيع أن يتجاوز حدود الزمان ، المكان والسبب . ولا يمكننا أن نفسر هذه المقولات ، طالما أن كل محاولة لشرحها تفتر ضها . ولا يمكننا أيضا ، من خلال الفكر الذي هو قسم من العالم الخارجي النسبي ، أن نعرف الذات المطلقة . اذن ، لا تعد تجربتنا النسبية أكثر من حلم يقظة . ويشكل كل من العلم والمنطق جزائي منه ونتجتان له . وإن هذا السبب القائم في المتافيزياء لا يخضع للهزء أو للمتجيد ، بل يتطلب الفهم . وفي تواضع ناشيء عن قدرة فكرية ، يصرح كل من افلاطون ، ونارجونا ، وكانط وشامكارا ، أن فكرنا يتعامل مع النسبي ، ولا علاقة له مع المطلق .
وعلى الرغم من عدم معرفة الكيان الاسمى بالطريقة المنطقية ، لكن تحقيقه اكيد من قبل الذين يجهدون المعرفة الحقيقة ، بوصفها الواقع الذي نحيا فيه ، تتحرك فيه ونمتلك كياننا . فبواسطته ، ومن خلاله ، تتحقق معرفة كل شيء : هو الشاهد الابدي للمعرفة كلها . ويؤكد ايضا اللا ثنائية ان نظريتهم قائمة على منطق الوقائع . فالنفس هي الحقيقة الداخلية الاكثر عمقا ، يشعر بها الجميع ، طالما أنها نفس جميع الاشياء المعروفة اللا معرفة أيضا ، وليس ثمة عارف يعمل على معرفتها باستثناء ذاتها . فلا شيء موجود الى جانبها لانها الحقيقي الابدي . وفيما يتعلق بالتشعبات التجريبية الموجودة أيضا ، يقول اللاثنائي ، بأنها موجودة ولها نهاية فنحن لا نعرف ولا نستطيع أن نعرف لماذا . اذن ، فالامر كله يخضع للتناقض والواقعية في آن واحد . ذلكم هو الموقف الفلسفي لادفيتا أو اللا ثنائية التي اعتمدها كل من غودا بادا وشامكارا ...
هنالك عدد من اتباع الفيدانثا - اللاثنائية - الذين لا يرضون عن وجهة النظر هذه ، ويشعرون بعدم جدوى تغطية ارتباكنا باستعمال كلمة مايا . إنهم يحاولون أن يتقدموا تفسيرا أكثر وضعية للعلاقة القائمة بين الكيان الكامل الخالي كليا من السلب ، الحقيقي اللا متبدل ، الذي نشعر به في اعماق التجربة ، وبين عالم التبدل والصيرورة . وفي سبيل المحافظة على كمال الحقيقة الواحدة ، نضطر الى القول إن عالم الصيرورة ليس نتاجا لاضافة أي عنصر من الخارج ، مادام أن لا شيء يوجد خارجا إنه حصيلة النقصان .... إنه شيء سلبي شبيه بلا كيان أفلاطون أو مادة أرسطو ، يفترض أنه مسؤول عن التغيير. ومن خلال ممارسة هذا المبدأ السلبي ، يبدو الثابت أنه ينتشر في الكثير المتحرك . إذن فمايا هي الاسم الذي يطلق على المبدأ السالب الذي يطلق عنان الصيرورة الشاملة والكونية ، وبذلك تخلق اهتياجا لا منتهيا واضطرابا دائما ، ويحدث وفق الكون عن طريق النقصان التدريجي الظاهري للثابت ، لما لا يقبل التغيير . فالحقيقي يمثل كل ما هو ايجابي في الصيرورة . وأمور العالم تجاهد على الدوام لكي تستعيد حقيقتها ، لتملأ ما ينقصها ، لتنفض عنها فرديتها وانفصالها . ولكنها تمتنع عن تحقيق هذه الاستعادة وهذا المال وعن طريق فراغها الداخلي - المايا السالبة المشكلة عن طريق الفاصل بين ما هي عليه وما يجب أن تكون عليه فاذا تخلصنا من مايا ، وأخضعنا الميل الى الثنائية ، وأزلنا الفاصل ، وملأنا النقص ، وسمحنا للاضطراب أن يهدأ ، عاد الزمان والمكان والتبدل الى ما كانت عليه في الكيان المجرد الصافي .. وما دام النقص - القصور - الاصلي لمايا قائما ، ظلت الاشياء محكومة بوجودها في عالم المكان - الزمان - السبب . إذن ، لا تعد مايا تركيبا بشريا . إنها سابقة لعقلنا ومستقلة عنه .. والحق يقال بأنها تولد الاشياء والعقلاء ، وتعبر عن القدرة الضخمة الكامنة في العالم كله . واحيانا ، يطلق عليها اسم پركريتي ؛ وتمثل تناوبات النشوء ، أي الولادة ، والانحلال ، والتطورات الكونية المكررة على نحو دائم ، والمعبر عنها بالنقص الاساسي الذي يتضمن فيه العالم . إذن ، فعالم الصيرورة يمثل تعويق الكيان . وتمثل مايا انعكاس الحقيقة ، وتشير الى ان تقدم العالم ليس ترجمة للكيان اللا متغير بقدر ما هو عكسه. ومع ذلك ، لا يستطيع عالم مايا أن يوجد بمعزل عن الكيان المجرد . فلا حركة بدون ثبات ، مادامت الحركة نقصانا تدريجيا للثابت . وتكمن حقيقة الحركة الشاملة في الكيان اللا متحرك .
ولما كانت الصيرورة هبوطا ، أو سقوطا ، من الكيان ، فان الجهل افيديا - سقوط من المعرفة - فيديا . فمن أجل معرفة الحقيقة ، وإدراك الواقع ، علينا أن نتخلص من الجهل - أفييا ، وصيفه ، التي تصدع اللحظة التي تحاول ان تدخل الحقيقة إليها. ومع هذا ، لا يتعد هذا القول عذرا لتراخي الفكر فالفلسفة ، بوصفها منطقا من وجهة النظر هذه ، تقنعنا بالتنازل عن استخدام التصورات والمفاهيم الفكرية والعقلية التي هي نسبية لحاجاتنا العملية والعالم الصيرورة . وتخبرنا الفلسفة بأن نسعى عبثا للعودة الى بساطة الواحد ما دمنا مقيدين بالعقل وضائعين أو تائهين في عالم الكثرة ، ولو تساءلنا عن سبب وجود الجهل افيديا - أو مايا التي سببت سقوطا من المعرفة - فييا - أو من الكيان ، لتعذر علينا الجواب ، فالفلسفة ، مثل المنطق ، تمتلك ، في هذا المجال ، الوظيفة السالبة لعرض عجز المقولات الفكرية كلها : مشيرة الى كيفية وجود موضوعات العالم في وضع نسبي مع العقل الذي يفكر فيها ولا يمتلك وجودا مستقلا. فهو قادر على إعلامنا بكل تحديد عن اللا متغير الذي يقال بأنه موجود بمعزل عما يحدث في العالم ، أو عن مايا ، التي تعد مسؤولة عن إحداث العالم . ولا يستطيع العقل أن يساعدنا مباشرة لبلوغ الحقيقة ومن جهة أخرى ، يعلمنا هذا العقل أن قياس الحقيقة يؤدي الى تشويهها . وقد يخدم هذا القياس مصالح الحقيقة متى تأكدت على نحو مستقل . فنحن نستطيع أن تفكر فيها ، وندافع عنها منطقيا ، وتساعد على توليدها ونشرها . ويعترف أنصار الاحادية الصافية بقدرة أعلى من العقل المجرد الذي يمدنا بشعور دفع الحقيقة لنا . يقولون : علينا أن تغرق انفسنا في الوعي الكوني ونشارك في الاتساع مع كل ما هو موجود : وعندئذ ، لا نفكر بالحقيقة بقدر ما نحياها ، ولا تعرفها بقدر ما تصبح إياها . وان أحادية متطرفة من هذا النوع ، مع ما تتميز به من منطق وحدس ، وواقع عالم الوجود ، نجدها في بعض الاوبانيشاد ، وعند ناغار جونا وشأنكارا ، في حالاته النفسية الفوق فلسفية ، وعند شري هارسا ، وفي ادفينا فيدانته ، وعند متصوفي الغرب ومتصوفي العرب .
اذا كان الكيان نقيا وبسيطا من وجهة نظر الحدس ، كان ، بالنسبة للعقل : مجرد تجريد مطلق . ويفترض أن يستمر هذا الكيان عندما يبطل كل واقع وشكل للوجود . فهو ( البقية المتخلفة ، عندما يكون التجريد نتاج العالم الكلي . وبالفعل ، يعد هذا الأمر ممارسة صعبة قدمت لعقل الانسان وهو يفكر بما سيؤول اليه البحر والسماء ، الشمس والنجوم ، المكان والزمان ، الانسان والله ، ومتى قام الانسان بجهد في سبيل إبطال الكون كله ، وحذف الوجود كله والفاه ، لن يبقى شيء يفكر فيه العقل . فالفكر ، المنتهي والعقلاني ، يجد ، وهو يعاني من يأس قاتل ، أن لا شيء يوجد عندما يلغى كل شيء . وفيما يتعلق بالعقل التصوري ، أو المفاهيمي ، تعني فرضية الحوس المركزية ( الكيان كائن » عدم وجود أي شيء ابدا . فالفكر ، كما يقول هيجل ، يعمل فقط بالحقائق المحددة ، والاشياء الواقعية الملموسة ، والاثبات ، بالنسبة له ، يتضمن النفي ، والعكس صحيح . فكل ما هو واقعي هو صيرورة ، جامعا فيه الكيان واللا كيان ، الايجاب والسلب ، لذا ، نجد الذين لا يرضون بالكيان الحدسي ، ويرغبون في الحصول على تأليف قادر على الكيان المحقق بالفكر الذي يمتلك غريزة طبيعية باتجاه ما هو واقعي ، ينجذبون إلى نهج المثالية الموضوعية . وهكذا ، يحاول المثاليون الواقعيون أن يوحدوا مفهومي الكيان النقي والصيرورة الظاهرة في التأليف الوحيد للحقيقة السامية ، ويعترف الاحاديون المتطرفون أنفسهم أن الصيرورة تعتمد على الكيان ، وأن العكس ليس صحيحا . وفي ضوء هذا التوحيد ، نحصل على مطلق منعكس ، هو حقيقة سامية تشتمل في ذاتها على امكان العالم ، ويوحد في طبيعته جوهر كل كيان وكل صيرورة ، كل وحدة وكل تنوع ، كل تحديد ولا تحديد . وعلى هذا الاساس ، يصبح الكيان الصافي الفكر الفاعل ، محولا ذاته الى موضوع ، ليعيد هذا الموضوع الى ذاته ، واذا ما استفدنا من تعبيرات هيجل قلنا . تتابع الذات واللا ذات والتأليف بينهما في عجلة دائرية ابدية . وتظهر صحة تفكير هيجل اذ يدرك أن ظرفي العالم الواقعي هما : فكر وواقع ، أي موضوع . ويتحد هذان التعارضان في كل واقعي . والحقيقة المطلقة ذاتها تجمع في ذاتها الصفتين المتعارضتين بحيث لا تكون الواحدة منهما من خلال الاخرى ، بل تكون الاخرى بالفعل . وعندما نتيقن من وجود حقيقة مطلقة ديناميكية ، مستغرقة في الدولاب الدائر على نحو متعاقب : نتأكد من ان درجات الوجود كلها ، من الكمال الاسمى الى ذرة صغيرة ، يتحقق على نحو أوتوماتيكي . اذن ، فالتأكيد على وجود حقيقة سامية يعني التأكيد المتزامن لدرجات الحقيقة كلها الواقعة بينها وبين اللاشيء وعندئذ ، يتوفر لدينا كون الفكر الذي يشيده الفكر ، يستجيب للفكر الذي يشيده الفكر ، يستجيب للفكر ويدعمه الفكر ، ويستغرق فيه الفكر والموضوع بوصفهما لحظات . ونستنتج أن علاقات الزمان والمكان والسبب ليست علاقات ذاتية ، غير موضوعية ، بل هي مبادىء كونية للفكر ، وان كننا لا نستطيع أن نفهم ، على مستوى الاحادية الصافية ،هي اساس الوحدة وقاعدتها ، والعالم هو التجلي الخارجي ، هو تخارج العلاقة بين الوحدة - الذاتية والاختلاف ، فاننا قادرون على فهم هذه العلاقة على مستوى عالمنا فالعالم وحدة تمايزت . ولا تعزل هذه الوحدة عن تمايزها . والحقيقة السامية هي الخلفية الداخلية ، أو تجسيد الوعي الذاتي . ربحسب ما تعلنه الاحادية الصافية ، تعد حقيقة سامية من هذا النوع سقوطا من المطلق ، مع اقل ما يمكن تصوره للفترة الزمنية التي فصلتها عن الكيان المجرد الصافي ، أي المطلق . انه سقوط حادث عن أفيديا - الجهل - الذي انفصل عن المعرفة - فيديا - عن طريق الامتداد المدرك في حده الادنى . ويمكننا التعبير عن هذا الواقع بكلمات أخرى : ( الحقيقة السامية هي نتاج أسمى ما فينا من ذكاء » . والمؤسف أن هذه الحقيقة السامية هي نتاج ، وذكاؤنا ، مهما بلغ منه ، يقاربه من المعرفة ، التي هي ، مع ذلك ، ليست معرفة . وتتميز هذه الحقيقة السامية بالحد الأدنى من الكيان وبالدرجة الدنيا من النقص - مع ذلك، ما زالت ناقصة . وان اقل احتكاك بمايا ، وأقل نقصان للكيان المطلق ، يكفي لان يلقي بها الى عالم الزمان والمكان ، علما بأن هذا المكان وهذا الزمان يقتربان أكثر ما يمكن من اللامتداد المطلق والابدية . وهكذا ، تتحول الحقيقة السامية الى « اله » خلق الموجود في مكان ما ، يحرك جميع الاشياء من الداخل - الخارج وهو ماكث في مكانه . اذن ، فالحقيقة السامية هي المطلق المتموضع بوصفه شيئا ما في مكان ما ، هي روح تتخلل كل شيء ؛ هي كيان - لا كيان ، براهمان - مایا ، فکر موضوع ، قدرة ابدية : هي المحرك الذي لا يتحرك الذي قال به ارسطو ؛ هي الروح المطلقة التي قال بها هيجل ؛ هي المطلق النسبي الذي أعلنه رامانوجا ؛ هي العلة الفاعلة والنهائية للكون . اذن ، فالعالم لا يعرف البداية ولا النهاية ، وذلك لان القوة المنشطة الفاعلة للحقيقة السامية لا يمكن أن تكون قد بدات ولا يمكن أن تأتي الى نهاية . أما الطبيعة الجوهرية لهذه الحقيقة السامية فهي أن تظل قلقة لا ترتاحشير هذا التصور الى أقصى ما يستطيع الفكر بلوغه تتبعنا ، حتى النهاية ، الحركة الطبيعية لعقلنا الذي يحاول أن يوحد أشياء العالم ويؤلف الاضداد ، وجدنا أن ما تحصل عليه هو مبدا تفسير أو شرح لا يعد كيانا صافيا ولا كيانا صافيا ، بل كيانا يوحد الاثنين ويقوم هذا التصور على ضغط كل الاشياء في الكل . وبناء على هذا الاساس ، تعد الفلسفة استدلالية واستنتاجية في جوهرها ، ووضعية في طبيعتها وتأليفية في وظيفتها . وفي هذا النطاق ذاته ، يغلق علينا الادراك المنطقي ، الذي يتلاعب بالتجريدات ، باب الواقع الذي تحيا فيه التجريدات ، حيث تتحرك وتمتلك كيانها أما الفكر ، بوصفه عقلا ، فانه يتجاوز صعوبات الفهم المنطقي. وانطلاقا من عالم التجربة نصعد الى المبدأ الاسمى للحقيقة السامية ، ثم ننحدر من مفهوم الكل الذي حصلنا عليه الى التفاصيل ونستعرض الاجزاء . وبالفعل ، تنتهي جميع الدوغماتيات - العقائد العقائد - المنطقية ، التي تثق بسلطة الفكر ، الى تصور العالم على هذا النحو . وتنشأ الصعوبة في حال ارتيابنا باطلاقية الفكر . وهانحن نسأل : ألا يمكن أن تكون معرفتنا نسبية مع متطلبات العقل الذي يوحد ويقسم ؟ فقد تكون المعرفة مختلفة عما عليه لعقل مختلف التركيب . أما معرفتنا الحالية فانها تجعلنا ننكر أن المعرفة كلها تنتمي الى هذا النوع ، واذا ما وجد نقاد يفندون اثباتا من هذا النوع ، فان صعوبة الدفاع عن هذا الوضع لا بد قائمة . واذا اعترفنا بأن المستوى التصوري ، الفكري ، للحقيقة المكتشفة للفكر حقيقي ، فان الامر يشير أيضا إلى أن الفكر ليس متماثلا مع الحقيقة . واذا ضغطنا جميع التصورات في تصور واحد ، لما تجاوز التصورات المضغوطة فالنسبة جزء من العقل الذي ينشيء النسبة . والعقل المتفوق على نحو لافته يظل عقلا ، ويعود الى القالب الذي صيغ منه عقل الانسان . وأخيرا، نقول ان الاحادية المعدلة أو الملطفة قضية تبناها بعض اقسام الاوبانيشاد، والبها جفا وجيتا ، وبعض أتباع البوذية ، ورامانوجا ، والبدارايانا وفي الغرب يعد هيجل وأرسطو شاهدين على هذه النظرية ومدافعين عنها.
تشير وجهة النظر الاولى الى أن الكيان العامل حقيقي ، والصيرورة اللا حقيقية واقعية ، علما بأننا لا ندرك السبب . وتشير وجهة النظر الثانية الى أن عالم الصيرورة هو ترسب ، أو ظهور ، للكيان الصافي في المكان والزمان ، وذلك بقوة مايا التقليصية ، وتشير وجهة النظر الثالثة وهي أسمى نتاج نحصل عليه ، تأليفا للكيان الصافي واللا كيان في الحقيقة السامية . لذا ، نجد انفسنا ملتزمين بضرورة منطقية تؤكد جميع الدرجات المتوسطة للحقيقة فاذا صرفنا نظرنا عن الكيان الصافي كتصور لا فائدة منه طالما أن عالم التجربة مأخوذ بعين الاعتبار ، وأهملنا فكرة الاله الخالق بوصفها منطقا ، علمنا أن ما يوحد ليس أكثر من دفق صيرورة يرتفع بنا الى معرفة أنه شيء ما غير ما هو عليه . ويبلغ المبدأ الرئيس في البوذية هذا الاستنتاج . وحسب ما اتت به الاحادية المعدلة ، تقاس الصفات الخاصة بدرجات الحقيقة المتوسطة في عالم الوجود بالمسافة الفاصلة عن الحقيقة المتكاملة . وتكون الصفات العامة المشتركة العائدة اليها وجودا في المكان والزمان . واذا ما ركزنا انتباهنا تكشفت لنا المزايا الخاصة أكثر فأكثر . واذا اعترفنا بالتمييز بين الحقائق المفكرة والموضوعات اللا مفكرة ، حصلنا على فلسفة مادهافا الاثنينية . وعلى الرغم من هذا ، تعد هذه الفلسفة أحادية طالما أن الحقائق تتكل على الحقيقة السامية ، التي هي بمفردها مستقلة واذا شددنا على استقلال موضوعات العالم ، حصلنا على الواقعية التعددية ، حيث تكون الحقيقة السامية واقعا واحدا ، مهما تكن عظيمة ومقتدرة بين الوقائع الاخرى . وفي المناقشات الدائرة حول الدرجات المتوسطة للحقيقة يبدو أن وحدة الفردية تعتمد على ذوق الفيلسوف وخياله . وان تجلى منهج في صورة ملحدة او مؤمنة أمر يحدده الانتباه المركز على المطلق تحت الرعاية التي تستظل فيها دراما الكون .
تلكم هي الطرق المختلفة التي يتفاعل فيها عقل الانسان بالنسبة لمشاكل العالم بحسب بنيته الفردية الخاصة تقر الفلسفة الهندية بوجود انسجام عمیق بین الحقيقة السامية والانسان. وتشير أساطير الشعوب الى هذا الانسجام . لكن الفلسفة الغربية اشارت الى وجود تعارض بينهما ، وتمثلت هذه النزعة في اسطورة برومثيوس وهر قل تقر الفلسفة الهندية بوجود انسجام عمیق بین الحقيقة السامية والانسان. وتشير أساطير الشعوب الى هذا الانسجام . لكن الفلسفة الغربية اشارت الى وجود تعارض بينهما ، وتمثلت هذه النزعة في اسطورة برومثيوس وهر قل وآدم. ووفق ما تراه هذه الفلسفة ، يقاوم الانسان جبروت الحقيقة السامية . أما في الهند ، فيعتبر الانسان حصيلة الحقيقة السامية ، كما يعد العالم كله التضحية الابدية لهذه الحقيقة . ونقرأ في برورشا سوكتا ان العالم كله كيان واحد يتصف باتساع لا يقبل المقارنة ، تحييه روح واحدة ، ويشتمل في جوهره على أشكال الحياة كلها بعد الميل، في العقل الهندي ، الميزة السائدة التي تصبغ الثقافة الهندية بكاملها ، وتصوغ اشكالها كلها . فالتجربة الروحية هي القاعدة التي يقوم عليها التاريخ الثقافي الهندي. وتتمثل هذه التجربة بالسرية التي لا تتضمن في ممارسة قدرة عجائبية ، بل تصر على تطبيق نظام للطبيعة الانسانية ، يؤدي الى تحقيق الطاقة الروحية . وهكذا ، تستغرق الكتب الهندية المقدسة بالروحانية والتأمل أكثر مما يستغرق في العبادة والطقوس . فواقع الحياة الوحيد، في الهند ، يتمثل في الكيان الابدي للحقيقة السامية ويقتضي الافتراض الاسمى للفلسفة كلها أن الشيء الحقيقي يخلو من تناقض ذاتي . ولا شك أن التحقق من اهمية هذا الافتراض الضمني والتطبيق الواعي له ، يتطلبان زمنا معينا لكي يترسخا في تاريخ الفكر فقي رج فيدا ، نجد قبولا لا واعيا لصحة المعرفة العادية . وعندما تبل وعندما تبلغ حلة الاوبانيشاد ، تنبثق المعضلات الديالكتيكية ، وتنشأ صعوبات المعرفة . وفي هذه الأوبانيشاد ، نجد الحكيم يحاول أن يعين حدود المعرفة ، ويهيء مكانا للحدس ، بطريقة تكاد تكون فلسفية . وعندما اهتز الايمان بقدرة العقل ، تبع الارتياب نتيجة لذلك ، وظهر الماديون والعدميون على المسرح ولقد اكدت البوذية على وهمية العالم ولا أساسيته ، واعترفت بتصريح الأوبانيشاد أن الحقيقة السامية لا تدرك عن طريق العقل المنطقي . ففي نظر البوذية ، يعود التناقض الى طبيعة الاشياء ، وليس عالم التجربة أكثر من توتر التناقضات ، فنحن لا نستطيع أن نعرف الا أن الواقع موجود ؛ ولا تعد هذه المعرفة حقيقية طالما انها ذاتية التناقض . هكذا تختصر البوذية موقفها من الوجود الفعلي. وفي عودتنا الى الفكرة المركزية في الاوبانيشاد نجد ناغار جونا يعبر عنها كما يلي : ثمة حقيقة ، لكننا نعجز عن معرفتها ، ما نعرفه لا يعد حقيقة ، وذلك لان كل تفسير للعالم بوصفه منظومة مدركة ، ينهار . وبالفعل ، مهدت هذه الفكرة الطريق الى نقد واع ذاتي للعقل فالفكر ذاته متناقض في ذاته وغير واف ومع عندما يطرح موضوع عجز العقل عن فهم أو ادراك الحقيقة . فهل أن تصور العقل ناتج عن تعامله مع الاجزاء دون الكل ، أو بعجزه البنيوي او تناقضه الذاتي الفطرسي ؟ وكما رأينا ، ثمة من يتمسك بعقلانية الواقع ذلك ، تنشأ الخلافات ويحتفظون بقولهم ان الحقيقة ليست مجرد عقل وهكذا ، يكون الفكر عاجزا عن تقديم كامل الحقيقة . وكما يقول برادلي : « ذلك » تتجاوز » ماذا » اذن ، فالفكر يقدم لنا معرفة الحقيقة ، لكن هذه المعرفة ليست هي الحقيقة . وثمة آخرون يشعرون أن الحقيقي متساوق مع ذاته ، وان الفكري متناقض مع ذاته. فالفكر يعمل في نطاق تعارض الفكر مع الموضوع أما التناقضات فانها تنعدم في الحقيقي المطلق ، وعلى هذا الاساس ، تظل اكثر الافكار الواقعية مجردة ، على الرغم من أنها تحاول أن توحد الكثير في الواحد . ويعود هذا كله الى أن الفكر متناقض مع ذاته . فاذا ما شئنا ادراك الحقيقي ، توجب علينا أن نتخلى عن الفكر . ففي الفرضية الأولى، لا يتعارض ما يظهره الفكر مع الحقيقة ، لكنه يكشف عن جزء منها ؛ لذا تتناقض - وجهات النظر الجزئية لانها جزئية. هي حقيقية بحد ذاتها ، لكنها ليست الحقيقة الكاملة . وفي الفرضية الثانية نجد أن الحقيقة يمكن فهمها عن طريق شعور أو حدس . وتصر وجهة النظر الاولى على دعم الفكر بالشعور ، ان شئنا بلوغ كمالها . وهكذا ، يبدو اننا نحتاج الى عنصر آخر ، بالاضافة الى الفكر ، يتمثل في مصطلح « دارسانا » .
يشتق هذا المصطلح من كلمة هي : الرؤية . وقد تكون هذه الرؤية ملاحظة ادراكية أو معرفة تصورية أو تجربة حدسية . وقد تكون أيضا معاينة الواقع ، أو بحثا منطقيا أو بصيرة الروح . وعلى نحو عام ، يعني مصطلح ) دارسانا ( الشرح النقدي ، والبحوث المنطقية أو المناهج . وبالفعل ، لا تستعمل هذه الكلمة في المراحل الأولى للفكر الفلسفي ، عندما كانت الفلسفة حدسية أكثر منها عقلية وهكذا ، تعلم أن كلمة دارسانا ليست حدسا في معناها الشامل . ولعل أن استعمال هذه الكلمة دل على المنهج الفكري الذي يكتسبه المرء بالخبرة الحدسية التي يدعمها الجدل المنطقي . ففي المناهج التي تعود الى الاحادية المتطرفة تمهد الفلسفة السبيل للتجربة الحدسية في الوقت الذي تعرض علينا عجز الفكر . وفي مناهج الاحادية المعدلة التي تعتبر الحقيقي واقعا كليا ، تنجح الفلسفة في تقديم تنظيم جديد مثالي للحقيقة . ومع ذلك ، يتسامي الحقيقي ، ويحيط بمقولاتنا البائسة ويغمرها. وفي الاحادية المتطرفة تكشف لنا التجربة الحدسية عن كمال الحقيقة . وفي الاحادية الواقعية ، تكشف لنا البصيرة عن كمال هذه الحقيقة ، وذلك لان الشعور والعاطفة يتخللان المعرفة . لذا ، لا تمتلك الانظمة التصورية يقينية الواقع المجربة . واخيرا نقول : أن الفكرة أو وجهة النظر المنطقية ، تصبح حقيقة في حال صمودها امام اختيار الحياة تعد كلمة » (دارسانا ) اصطلاحا غامضا ، لانها تمثل دفاعاً ديالكتيكيا للاحادية المتطرفة وللحقيقة الحدسية التي تقوم عليها . ومن وجهة نظر فلسفية ، تخضع ( دارسانا ) الحدس للبرهان وتمده بالمنطق. وفي مناهج أخرى ، تطبق دارسانا على العرض المنطقي للحقيقة التي يمكن بلوغها في حدود تصورية بعون أي حدس مفعم بالحياة أو بدون وهكذا ، تنطبق دارسانا على وجميع وجهات نظر الحقيقة التي يستبطها العقل الانساني . واذا كانت الحقيقة واحدة ، فلا بد أن تتفق عونه
ديالكتيكيا للاحادية المتطرفة وللحقيقة الحدسية التي تقوم عليها . ومن وجهة نظر فلسفية ، تخضع (دارسانا )الحدس للبرهان وتمده بالمنطق. وفي مناهج أخرى ، تطبق دارسانا على العرض المنطقي للحقيقة التي يمكن بلوغها في حدود تصورية بعون أي حدس مفعم بالحياة أو بدون عونه وهكذا ، تنطبق دارسانا على وجميع وجهات نظر الحقيقة التي يستبطها العقل الانساني . واذا كانت الحقيقة واحدة ، فلا بد أن تتفق مع بعضها وجهات النظر المختلفة التي تحاول أن تكشف عنها ما اعتبرنا وجهات النظر العديدة بتأمل صادق وجدنا أن عقلنا يبلغ الحقيقة من وجهات نظر مختلفة ، وذلك لنبلغ بدورنا المرحلة الثانية على نحو أداء كامل للحقيقة في حدود منطقية . وعندما نتحقق من عدم كفاية الوصف التصوري للحقيقة ، نحاول فهم الحقيقي بالحدس الذي تستغرق فيه الافكار العقلية . وعندئذ ، نحصل على ( الكيان » الصافي للاحادية المتطرفة التي نعود منها الى الحقيقة المطلقة للفكر ، والتي نجدها في مطبقة بمعناها الاخير ، كل تفسير علمي للحقيقة : هي الكلمة الوحيدة التي ترمز الى الالهام المعقد الكامل للفلسفة عن طريق غموضها الجميل.
وبالاضافة الى ما ذكرناه تعد كلمة ( دارسانا » ادراكا روحيا ووجهة نظر الكلية تتكشف للحس الروحي .. وتعد هذه الرؤية الروحية التي تصبح ممكنة متى عشنا الفلسفة ، المعلم المميز للفيلسوف الحقيقي. وهكذا تكون الانتصارات السامية للفلسفة ممكنة لاولئك الذين حققوا في أنفسهم نقاء الروح . ويقوم هذا النقاء على قبول عميق للتجربة التي تتحقق عندما نجد تلك القدرة الخفية داخل الانسان ، والتي لا يبحث الانسان عن الحياة فيها بل يفهمها أيضا ومن هذا المصدر الداخلي يكشف لنا الفيلسوف عن حقيقة الحياة ، تلك الحقيقة التي يعجز عن اكتشافها العقل وحده وهكذا تحدث الرؤية ، وتنبثق كما تنبثق الثمرة من الزهرة ، من مركز سري عجيب حيث تنسجم كل الخبرات وتسوي التجارب كلها خلافاتها يتوجب على من يسعى الى بلوغ الحقيقة أن يشيع بعض الحالات أو الشروط الهامة قبل أن ينطلق في سعيه . ويضع شانكارا ، في تعليق على السوتر الاولى من سوترات الفيدانتا ، أربعة شروط اساسية لطالب الفلسفة :
الشرط الاول : القدرة على التمييز بين الابدي واللا ابدي
ولا تشير هذه القدرة أو المعرفة الى المعرفة الكلية ، التي لا تأتي الا في النهاية ، بل تعني نزعة ميتافيزيائية لا تقبل كل ما ترى أنه حقيقي على نحو مطلق ، نزعة تتمثل في تساؤل الباحث . وعلى هذا الباحث أن يمتلك الروح الحية لكي يتعمق في جميع الاشياء ، ويتصف بالتصور الواسع القادر على استخلاص الحقيقة من مجموعة معطيات غير متصلة ظاهريا، ويتميز بعادة التأمل التي لا تسمح لعقله أن يتبدد أو يتشتت .
الشرط الثاني : اخضاع رغبة قطف ثمار العمل اما في هذه الحياة أو في الحياة المقبلة. ويقضي هذا الاخضاع بالتخلي عن كل رغبة صغيرة ، والتبرؤ من كل دافع فردي واهتمام مصلحي .. وتتمثل غاية العقل المفكر في البحث والتأمل ، ويتحقق الاستخدام الصحيح للعقل في فهم الاشياء ، الحسنة والسيئة على السواء . والفيلسوف ، بالنسبة لهذا الشرط ، عالم طبيعي يتوجب عليه أن يتبع حركة الاشياء دون المبالغة بالحس منها أو التقليل من أهمية الشرط على حساب حكم مسبق لديه ، عليه أن يقف خارج الحياة ليتطلع اليها . لذا ، يتوجب عليه الا يتحيز بحبه للحاضر او للمستقبل . وعندئذ يستطيع أن يعلق كل ما عنده على التفكير الجلي والحكم الصادق ، وينمي في ذاته نظرة كونية لا شخصية مشبعة باخلاصه للواقع . ويتطلب الحصول على هذا الطبع تبدلا في القلب
الشرط الثالث : بعد أن يحقق الطالب تبدلا في قلبه ، يحث على اكتساب الهدوء ، والطمأنينة ، وضبط النفس ، والتخلي عن الرغبات ، والصبر ، وراحة العقل ، والايمان . وبالفعل ، يتمكن العقل المدرب ، الذي يسيطر على الجسد سيطرة تامة ، أن يتساءل ويبحث ويتأمل على نحو لافته ما دامت الحياة باقية ، ولا يغفل عن مشاهدة الموضوعات ولا يسمح للتجربة الارضية ان تلقي بظلها أو ظلامها على على أي موضوع. فالساعي وراء الحقيقة يجب أن يتجلى بالشجاعة اللازمة التي تساعده على فقد كل شيء في سبيل غايته الاسمى . لذا ، يطلب منه أن يطبق نظاما قاسيا ، يقاوم اللذة بازدراء ، ويعاني من الاسى والهزء بتحمل كبير . اذن ، فالنظام الروحي الذي يتضمن الامتحان الذاتي يساعد الباحث على بلوغ غاية الحرية .
الشرط الرابع : الدافع الى موكشا ، اي الانعتاق والحرية يتمثل الدافع الاساسي عند الانسان الواعي بعقله على نحو متافيزيائي والمتخلي عن رغباته كلها ، في غاية واحدة هي بلوغ الابدي . لذا تجاهد الارواح النبوئية ، أي التي تتفاعل الحقيقة فيها ، لكي تفهم سرية العالم، ومن ثم تعلنها . ومثل هذه الارواح تدعى فلاسفة بكل ما في الكلمة معنى . انها تفهم التجربة لتؤديها خدمة للانسانية ؛ وبالمقابل ، تقف البشرية منها موقف الامتنان .
٣ - روح الفلسفة الهندية وقيمتها :
نخلص من بحثنا هذا الى النقاط التالية :
اـ تتركز قيمة الفلسفة الهندية في التفكير الروحي : تدرك الفلسفة الهندية الانسان كائنا روحيا في طبيعته وجوهره باستثناء مدرسة كارفاكا المادية، لا تعتبر هذه الفلسفة الانسان والكون ماديين والنجاح والازدهار لا يشكلان ، في نظر هذه الفلسفة ، هدفا للحياة الانسانية.
ب - تتعين الفلسفة الهندية في علاقة الفلسفة والحياة : في الهند،
تعاش الفلسفة لانها فلسفة حياة ، اذ لا يكفي أن يعرف الانسان الحقيقة بل يلزم أن يعيشها . ويتمثل هدف الهندي لا في معرفة الحقيقة المطلقة بل في تحقيقها واتحاده معها . وما يؤكد العلاقة الوثيقة القائمة بين النظرية والعمل ، بين الفلسفة والحياة في الفلسفة الهندية ، هو التشديد على الطهر الاخلاقي اولا ، واخضاع الرغبات ثانيا - وتحقيق السكينة وضبط النفس ونكران الذات ثالثا وهذا لا يعني الانعتاق والحرية لتسهيل الوصول الى الهدف الاعلى للحياة
ج , تتصف الفلسفة الهندية بموقفها وتقربها الباطنيين من الحقيقة : الفلسفة هي معرفة الذات . وتنطبق هذه الفلسفة من العالم الخارجي أو من العالم الداخلي، أي من طبيعة الانسان الداخلية أكثر مما اهتمت بالعالم الخارجي والطبيعة المادية . فالفكري ، وليس الموضوعي ، يجسد اهتمام الفلسفة الهندية . وقد شعر الهنود ، منذ وقت طويل جدا ، أن روح الانسان الداخلية هي المفتاح أو السر الوحيد لحقيقته وحقيقة الكون
د. يقود هذا الاهتمام بالباطن الى المثالية : تتجلى مثالية الفلسفة الهندية في ميلها الى مثالية التوحيد . وتعتقد هذه الفلسفة بمعظمها أن الحقيقة واحدة بمطلقها وروحية بمطلقها . ويبدو أن بعض المناهج قد اعتنقت الثنائية أو التعددية ، لكنها طبعتها بطابع الاحادية . ومنع ذلك ، لعبت المادية دورها في زمنها ، في الهند . وعلى الرغم من محاولة المدارس اسكاتها ، وجدت قبولا بين الناس، وعلى كل حال ، لم تستطع هذه المادية أن تستمر وذلك لقلة اتباعها ولضآلة تأثيرها الايجابي
هـ, تعتمد الفلسفة الهندية على الحدس كوسيلة وحيدة المعرفة وتعتمد على العقل كوسيلة لدراسة العالم : تعتقد هذه الفلسفة أن العقل أو المعرفة العقلية لا تكفي . فلكي يعرف الانسان الحقيقة ، عليه أن يحظى بخبرتها وواقعيتها . ففي الفلسفة الهندية ، لا يعرف الانسان الحقيقة ، بل يحياها ولما كانت الفلسفة في الهند تعني الرؤيا ، فانها تشير الى تجربة الموضوع على نحو حدسي . لذا ،
تستحيل علينا المعرفة ما دام الفكر والموضوع مختلفين أو متباعدين فالعقل يشير الى الحقيقة ، لكنه لا يستطيع أن يكتشفها أو أن يبلغها . فاذا كان العقل وسيلة الفلسفة بمعناها الفكري ، كان الحدس الوسيلة الوحيدة لادراك الحقيقة السامية هكذا ، تعتمد الفلسفة الهندية اعتمادا كليا على الحدس ، وتعترف بفاعلية العقل والذكاء عندما يطبقان ضمن طاقتيهما المحدودتين أو في ما يناسبهما من وظائف
ز، تعترف الفلسفة الهندية بالمراجع القديمة : على الرغم من اختلاف هذه الفلسفة فانها تقف موقفا نبيلا من المراجع القديمة ، وتتقبل البصيرة الحدسية التي تحدث عنها أصحاب الرؤى الاقدمون ، على اختلاف مذاهبهم . وعلى الرغم من التبدل الذي طرأ على العقائد القديمة لكن روحها وأفكارها الاساسية حافظت على قيمتها من عصر الى عصر الامر الذي يدل على احترام الهنود لمفكريهم الاقدمين. لقد ابتدعت الهند عقائد كثيرة ومناهج فلسفية عديدة . وقد تم هذا الابداع على الرغم من احترام الهنود لحكمائهم الاقدمين واعتبارهم مكتشفي حكمة
ج، تعترف الفلسفة الهندية بالتأليف الذي يعد ضروريا لروح ونهج الفلسفة الهندية : تتصف الفلسفة الهندية ، يتهمها التأليفي للمظاهر المتعددة للتجربة والحقيقة . فالدين والفلسفة ، والمعرفية والسلوك ، والحدس والعقل ، والانسان والطبيعة ، والله والانسان ، والظاهر والخفي، تنسجم كلها في الميل » التأليفي » للعقل الهندي . ويميل الهندوس الى الاعتقاد بأن المناهج السنة ، بالاضافة الى اختلافاتها الثانوية ، تنسجم مع بعضها وتتكامل في الرؤية الكلية ، التي هي واحدة. وقد ساعدت هذه الرؤية التأليفية للفلسفة الهندية على التحمل أو التسامح الديني والعقلي الذي نراه بارزا في الفكر الهندوسي خلال العصور . وبالاضافة الى الصفات النظرية والعقلية العديدة في الفلسفة الهندية ، نجد وحدة فكرية متماسكة أساسية في الحقل العملي
ط - الفلسفة الهندية ( حكمة ) انسانية ، شمولية ومتسامحة
ي - الجوهر الروحي للانسان هو الروح التي تتخلل الكون وتحركه
ك - الانسان والمطلق واحد .. الروح الموجودة في الانسان والروح الموجودة في الشمس واحدة . وتتحقق هذه الروح بالتجربة الروحية الداخلية العميقة
ل - العلم ، في منظور الفلسفة الهندية ، فهم للطبيعة وانسجام معها ضمن قانون واحد ، وليس هو سيطرة عليها
م - ترابط جميع الموجودات: الموجودات كلها تنحدر من مبدأ روحي واحد والموجودات كلها كائنة في الوجود الواحد ، والواحد يحيا في الموجودات وجميع المخلوقات صور لحقيقة واحدة وهكذا ، نجد التنوع في الوحدة، والوحدة في التنوع.
ن - مبدأ العودة : لما كان بلوغ الحرية الروحية يمثل الهدف الاسمى للحياة . فلا بد للانسان أن يعود مرات ومرات لتحقيق هذه الحرية المتمثلة بالخير الالهي .
ي - الواجب والحق : تنادي الفلسفة الهندية بمبدأ الواجب وتعتقد ان حق الانسان ناتج عن قيام الغير بواجبه نحوه ، وحق الانسان الاوحد هو أن يقوم بواجبه .
٤ . الثقافة الهندية عبر مراحل تطورها وتعدد مدارسها : يتركز بحثنا في دراسة المدارس الفكرية التي بدأت بالفيدا عام ق كم . (٣ ۱۵۰۰ ق . م وانتهت بالفيدانتا عام ۲۰۰ ق.م .
اولا - الفيدا : الفيدا كلمة تعني الحكمة ؛ وتشير الى الطريق الذي سلكه حكماء الفيدا في بحثهم عن الحقيقة الملقحة بالفلسفة تنقسم الفيدا الى أربعة أقسام : ١ - رج فيدا التي تتألف من اناشید
٢- ياجور فيدا التي تحتوي قواعد الاضاحي والتقديمات
٣ - ساما فيدا التي تشير الى الترانيم - أثار فافيدا التي تعد بداية العلوم الهندية في حقل الطب اذ تحفل بتعويذات لشفاء الامراضض واطالة الحياة .
تمثل رج فيدا تفكير عدة أجيال من المفكرين . ونلاحظ فيها تطور الديانة التعددية الى الواحدية او الاحادية الفلسفية
تحتوي رج فيدا ۱۰۱۷ انشودة تقسم الى عشرة كتب . وتمثل الحقبة الاولى لتطور الوعي الديني. وتدل على دهشة العقل ازاء الكون ولغز الحياة . ونجد فيها نزعة تتجه الى عبادة الالهة مثل سوريا ) الشمس ) ، واجني ( النار ؟ ، ودايوس ) الفضاء أو السماء ) وماروتس ) العاصفة ) وآباس ( الماء ) ، وأوساس ( الفجر ) ، وترتيفي ) الارض ) .
وعلى الرغم من أن رج فيدا تتحدث عن تعدد الالهة ، لكن كل اله معبود على حدة يصبح الها رئيسا ، خالقا ، حافظا للكون ومهدما له. ولو كان التعدد اللا نهائي للكون يشير الى تعدد الالهة ، لكن وحدة الكون تتضمن في اله واحد . فالكون منبثق من واحد مطلق ، هو اله غير شخصي
ان دراستنا لرج فيدا تضعنا أمام الموضوعات التالية :
٢ - التعددية ـ تتمثل المراحل الاولى للفكر الهندي في المذهب التجسيدي، أي خلع الصفات البشرية على الالوهة من خلال الطبيعة .
ب - الميول التوحيدية والاحادية .
تمثل اناشيد هذا الجزء مرحلة الانتقال من التعددية الطبيعية الى التوحيد ، والاحادية الفلسفية ، التي تشكل العقيدة الفلسفية الرئيسة للفيدا . وهكذا نرى كيف بدأ الفكر الواعي يسأم من جمهرة الآلهة والآلهات المتعددة لينتهي الى فكرة التوحيد
إن نسبة المثالية التدريجية لتصور الله ، ومنطق الدين الذي نزع الى دمج الآلهة ببعضها ، والواحدانية المتجهة الى الاحادية ، وإدراك رثا أي وحدة الطبيعة ، والدفع المنتظم للعقل الانساني هذه العوامل إن نسبة المثالية التدريجية لتصور الله ، ومنطق الدين الذي نزع الى دمج الآلهة ببعضها ، والواحدانية المتجهة الى الاحادية ، وإدراك رثا أي وحدة الطبيعة ، والدفع المنتظم للعقل الانساني هذه العوامل ساعدت على إحلال التوحيد الروحي محل التعدد الذي يخلع الصفات البشرية على الله
ج - القانون الكوني أو النظام - بعد او اعتراف بقانون ابدي عام ، هو رنا ، احد الاشكال التي ظهرت في عقيدة الوحدة أو الحقيقة ، رثا ، هو القانون ، الوحدة المتضمنة في نظام الكون .
د- المبادىء الاخلاقية والاجتماعية - يمثل رثا قاعدة الاخلاق ، كما يمثل النظام والقانون الابدي للكون . ومع ذلك ، يمثل نظام وقانون السلوك الانساني . فالسلوك المنظم يكمن في الحياة الاجتماعية الصالحة ، والفوضى تعبر عن الشر. فالترفع عن الدنايا ، ومحبة الآخرين ، والتسامح والتحمل ، وتحقيق واجباتنا ، ملفات اخلاقية معروفة في رج فيدا
هـ- الحياة المقبلة - امن هنود الفيدا بالخلود الشخصي وبعالم الاباء والآلهة . فالصالحون يمضون الى السماء ، الى عالم فيشنو ، والطامحون يمضون الى عالم يسيطر عليه ياما .
و- الشك - عرفت الفيدا المتأخرة الدهشة التي هي صفة المزاج الفلسفي ، كما عرفت الشك والارتياب في المعتقدات المقبولة ، هذا الشك الذي يهيء الطريق للتفكير الفلسفي . فقد تساءل هندي هذه الفترة عن آلهته ، وعن امكانية معرفة المصدر المطلق لكل الاشياء لذلك ، قدم صلاة تتصل بالایمان ، تجعل منا أناسا مؤمنين .
ثانيا - الأوپانیشاد :
هي الاجزاء الختامية من الفيدا وأساس فلسفة الفيدانتا . وتتجسد المثل التي تهيمن على مفكري الأوپانیشاد في غبطة الانسان المطلقة ، وكما المعرفة ، ورؤيا الحقيقة وتساؤل الفيلسوف عن المعرفة
يوجد مالا يقل عن مائتي إبانيشاد ، ولكن العشرة التالية تقف في الطليعة : إبانيشاد ، إيشا ، كينا ، كانا ، براسته ، مونداكيا ، تالييتريا ، ايتريا ، شاندوجيا وبراها داناكيا
والأوبانيشاد هي حديث الحكماء الذين تكلموا عن كمال تجربتهم الفكرية . وتعد إشراقا روحيا أكثر منه منهجا فكريا . وهدفها عملي أكثر منه تأملي . وتقدم لنا المعرفة كوسيلة للحرية الروحية .
تتركز الفلسفة القائمة في الأوبانيشاد فيما يلي :
أ - تنعكس الحقيقة الموجودة في قلب الوجود في أعماق الروح اللانهائية. ويعد براهمان، اذا ما اكتشف موضوعيا ، اثمان ، اذا ما اكتشف باطنيا . وهكذا ، تقيم الأوبانيشاد فرقا بين براهمان بذاته وبراهمان في الكون ، أي بين المتعالي على الظهور والمتعالي في الظهور والحقيقة التي نسعى اليها قائمة فينا
ب- لا يحد الكائن الاعلى في كيانه الداخلي وذلك لانه الحقيقة الوحيدة القائمة بذاتا ، ولا يوصف بالرموز ولا تنطبق عليه الصفات المنطقية
ج- تقلل الأوبانيشاد من اهمية الاحتفالات الدينية والطقوس المذهبية إزاء الخير المطلق المنبثق من تحقيق الذات . وتميز تمييزا حادا بين الطريقة الانانية الضيقة والجاهلة التي تقود الى الكفاية المؤقتة ، وبين طريق الحكمة التي تقود الى الحياة الابدية . والصلاة ، في الأوبانيشاد ، لا تنحصر في تقديم القرابين ؛ فهي ، على غير ذلك ، اكتشاف الحقيقة بالدخول الى ما وراء ما هو في داخلنا ، وذلك بتسامي الوجدان . ويتطلب هذا المتسامي استعدادا أخلاقيا داخليا . ولا يتمثل الهدف الصلاة والعبادة في حالة سماوية ، بل في تحرر من الوجود المادي من الناحية السلبية ، وفي اتحاد مع الكائن الاعلى من الناحية الايجابية
نقدم فيما يلي ملخص ما جاء في الأوبانيشاد العشره :
ا - أوبانيشاد إيشا تتحدث في موضوعات هامة وتشدد على السير في طريق المعرفة ، وطريق العمل الخ . ويتركز أهم هذه الموضوعات في العقيدة القائلة : إن معرفة ما فوق الطبيعة أو معرفة الطبيعة لا تشكلان وحدهما الحكمة الحقة . وفي مضمونها تميل هذه الأوبانيشاد الى نكران بطلان العالم
٢- اوپانیشاد کینا - تقدم هذه الأوبانيشاد وصفا لحقيقة واحدا اثمان ، منهم وظائف الانسان والكون ، ومسير وظائف الاحساسات في الانسان ووظائف العناصر في العالم الخارجي . وفي الوقت الذي تؤدي معرفة المطلق اللا موصوف الى التحرر ، تهيء معرفته الطريق لمعرفة كهذه
٣- أوبانيشاد كانا هي أعظم مدرسة فلسفية في الأوبانيشاد .
ونجد فيها تفضيل المعرفة على كل البركات الارضية ، وتفضيل الخير على اللذة. وأثمان ، في هذه الأوبانيشاد ، لا يدرك بالحواس أو العقل أو العلم الكثيرة أو البصيرة الحدسية أو الحقيقة المباشرة .
٤ - اوپانیشاد برانا - تتحدث عن الخليقة، والشخصية الانسانية والمبدأ المتافيزيائي في الانسان
ه - أوبانيشاد موندا - تشدد على حياة التقشف ، والحصول على نوعي المعرفة : العليا والدنيا
٦ - أو بانیشاد ماندوكيا تتحدث عن مراحل الوعي الاربع : اليقظة والحلم والنوم العميق والرؤيا .
٧- أوبانيشاد ياييتري ـ تشتهر بقصيدتها ( الاغماد الخمسة » للروح وهي : الطعام ، التنفس ، العقل ، الذكاء والغبطة
٨- أوبانيشاد ايتاريا - تتوضح فيها فكرة الحياة بعد الموت ، وتشتهر بعقيدتها في أثمان الذي يمثل الذكاء
۹ - أوبانیشاد شاندوجيا - تؤكد على تحديد وضع البراهماني بالاخلاق وليس بالولادة تتحدث عن الخلق مشيرة الى البيضة الكونية التي خرجت منها الحياة
١٠-اوبانیشاد براهادارانياكا - هي أطول وأشهر وأقدم أوبانيشاد. ويعني الاسم كتاب الغابة. تصور هذه الأبانيشاد فكرة أثمان السامية التي تمثل الوجدان الكلي
ثانيا: البهاغفا دجيتا
هي مؤلف ديني اكثر منه مقالة فلسفية وتعتبر البهاغفا دجيتا عملا متافيزيائيا وأخلاقيا ، وعلم الحقيقة وفن الاتحاد معها
تشدد الجيتا على الحقيقة السامية التي تخلق العالم وتحفظه وتفنيه. وتهتم بخلاص العالم ، وتعتبر كرشنا حلول المقدس في الشكل الانساني يشاهد عالم الجيتا مسرحا لصراع نشيط بين الخير والشر. ويتدخل المطلق في هذا الصراع فيقف الى جانب الخير والاخلاق في الجيتا جامعة ، مرنة ، متعددة الجوانب ، تتضمن مراحل عديدة لتطور الذات وصعدوها الى المقدس ، وأنواع اليوغا ترى في تطبيقات خاصة للنظام الداخلي الذي يقود الى تحرر الذات والى فهم جديد لوحدة الانسانية ومعناها. وقد يتحقق الاتحاد مع المطلق عن طريق المعرفة أو ٢ - عن طريق العبادة الصادقة أو ٣ عن طريق العمل .
رابعا - المهابهاراتا :
هي القواعد الموضوعة للانسان ، وتتركز في أحاديث تدور حول القواعد العامة للسلوك . ب الاعتدال واللياقة . ج - المصير والجهد . د - السلوك الناتج عن العادات . هـ - الإنتماء والزهد المعرفة الحقة والرفض . ز تجنب الخيرات الدنيوية و السعادة والحزن .
خامسا - شريعة مانو :
تتألف هذه الشريعة من ٢٦٨٥ مقطعا ، تتحدث في الدني والقانون والسعادة والسياسة . وتطرح على بساط البحث مواضيع فلسفية معينة ، وتحترم هذه الشريعة السعادة ومفهوم الاجتماع . وتؤمن في النظام الاجتماعي القائم على الطبقات الاربع وتعده وسيلة للتعاون الاجتماعي الهادف الى الخير العام. ويشدد مانو على الاساس الوظائفي المتميز عن الاساس الطبقي ، إذ يتحتم على كل فرد أن ينتم الوظيفة التي تلائم طبيعته . وتعطي شريعة مانو مركزا عاليا للنساء
سادسا: آرتا ساسترا :
تعد آرثاساسترا فعالة في السياسة والديبلوماسية ، وتعنى بالازدهار المادي الذي يتضمن القوى الاقتصادية والسياسية . مؤلفها کاوتيلا ؛ وضعها في الفترة الواقعة بين ٣٢١ - ٢٩٦ ق . م . والثروة ، بالنسبة لكاوتيلا ، هي الهدف الرئيسي للحياة ، وما تبقى من أهداف الحياة ، الروحية والفنية ، فانها تقوم على النامية الاقتصادية .
تضع آرثا ساسترا قواعد الحسابات ، والعملة ، والتجارة ، والغابات ، والجيش ، والاسطول ، والاوزان ، والمقاييس ، والزراعة ، وتبحث في القانون. وتبحث أيضا في قواعد الادارة ، واختيار الوزراء ، ومبادىء الضريبة ، وتعالج التطور الاقتصادي للبلاد والطريقة التي يستتب النظام في الجيش . ويفضل كاوتيلا الحكومة الملكية لانه يرى فيها حماية للضعفاء من الأقوياء .
سابعا : کارفاکا :
تسمى عقيدة هذه المدرسة الفكرية لوكاياتا ، وتعترف هذه العقيدة بوجود هذا العالم ( لو كا ( وحده وتنكر وجود شيء سواه . وفي رأيها أن الحياة المقبلة غير موجودة . والتصور ، في نظرها، هو المصدر الوحيد للمعرفة ، وما لا يمكن تصوره غير موجود. ولما كان الادراك هو الوحيد للمعرفة الشرعية ، فان المادة، التي لا تعرف الا بالحواس ، هي الحقيقة الوحيدة . والمبادىء الاربعة المطلقة التي يتكون منها العالم المادي هي العناصر الأربعة : التراب ، الهواء ، الماء والنار
تنظر هذه المدرسة الى الوعي بأنه صفة مادية وانتقالية لهذه العناصر ؛ ويختفي هذا الوعي عندما تنحل هذه العناصر التي انتجته . والذكاء ، الذي يقال عنه بأنه مضمون في الاشكال المقبولة للعناصر اللا عاملة ، يحدث بنفس الطريقة التي يحدث فيها اللون الاحمر من اتحاد اجناس ..
والروح ، في راي مدرسة لو كاياتا ، هي الجسد المتصف بالذكاء ، لا توجد بمعزل عن هذا الجسد . وعلى هذا الاساس ، تعتبر الحقيقة السامية ، والحرية ، والخلود مجرد فرضیات . والخير والشر ليسا قيمتين مطلقتين بل مصطلحين اجتماعيين
ثامنا الجانتية :
تنادي الجانتية بمنهج يتفق مع الواقع . ويعتقد أن صياغة هذا المنهج قائمة على المنطق والتجربة
تعترف الجانتية بأنواع خمسة للمعرفة : ۱ - العلم المادي الذي يشتمل على الذاكرة والتعرف والاستقرار المعرفة المستقاة عن طريق الرموز والاشارات والكلمات، وتشتمل على التركيز والفهم ومعاني الاشياء ٣٠ - المعرفة المباشرة للاشياء عن بعد أو من خلال التبصر - مصر معرفة أفكار الآخرين ٥٠ - المعرفة الكاملة التي تدرك الكل .
يمثل الوعي ، في نظر الجانتية ، جوهر الروح . أما دلائل هذا الوعي فانها تظهر في الادراك والذكاء . ويعد الادراك معرفة بسيطة ، والذكاء معرفة فكرية تتألف الروح في حالتها الكاملة النقية عندما تعتمد المعرفة والحدس وتوحدهما
و تعلل الجانتية علة تجسد الروح بحضورها في المادة . ولا تنفصل هذه الروح عن المادة حتى تتحرر نهائيا من اشراكات العالم المادي. لذا، تتميز النفوس المتحررة بالهدوء التام ، والمعرفة التامة ، والقدرة التامة.
البوذية :
تعتنق البوذية بعض الافكار الواردة في الأوبانيشاد وتكسبها اتجاها جديدا . لم يضع بوذا منهاجا جديدا للمتافيزياء والاخلاق ، انما اكتشف من جديد قانونا رائعا يتلاءم مع الاحوال الجديدة للفكر والحياة .
تتمثل الحقائق الاربع التي نادى بها بوذا بما يلي : ٢ - وجود الالم ،
ب - وجود سبب له جـــ امكانية التغلب عليه . د - النرفانا الاشياء كلها ، في نظر بوذا ، والاحلام ، والآمال ، والمخاوف والرغبات تنقضي ؛ ولا يستطيع الانسان أن يقاوم سيطرة الموت .يفترض بوذا الحياة جدولا من الصيرورة . ويعتقد بعدم ديمومة الذات المادية . وفي رأيه، أن لكل شيء يتكل على كل شيء آخر ويعتمد عليه . لذا، تتبدل الاشكال كلها بحسب قانون کارما والاتكال المتبادل
يبرر بوذا وجود الالم بالجهل والقلق الاناني . ففي تجنب الجهل والنتائج العملية للأنانية تحقيق للنرفانا التي توصف ، على نحو سلبي ، بأنها التحرر من الجهل والانانية والالم ، وعلى نحو ايجابي ، بأنها الوصول الى الحكمة والمحبة
لا يقر بوذا بحقيقة وضعية متضمنة في عالم التبدل ، ولا يؤكد وجود ذات متضمنة في التتابع التجريبي للاحداث العقلية . ولا يتحدث بوذا عن طبيعة الحقيقة المطلقة والروح والنرفانا ، لكن عدوله عن الحديث ليس دليلا على الشك .
انقسمت البوذية الى قسمين : آ - بوذية هنيايانا التي اعتنقت عقيدة زوال الجواهر أو الافراد ؛
ونادت بالتحرر والانعتاق من عبودية كارما ، وبلوغ النرفانا ب
ب - بوذية ماهايانا التي تؤمن بحقيقة المطلق الذي هو جوهر الوجود. ويتمثل هذا الاعتقاد في القانون المتجسد . وعلى الرغم من أن عالم التجربة ظواهري ، لكنه ، لكنه يعبر عن الحقيقة المطلقة
عاشرا - نياياو فانسيسيكا :
تمثل نياياو فانسيسيكا النموذج الفلسفي النقدي وتعد الصفة لفلسفة نيايا تفحصا نقديا لمواضيع المعرفة من خلال قواعد البرهان المنطقي، تعني كلمة نيايا حرفيا ما يقود العقل الى نتيجة ، كما تعني علم التفكير الصحيح والمبرر - علم المعرفة الصحيحة . وبهذه المعرفة يمكننا أن نميز عوامل اربعة : الفكر ، الموضوع ، الحالة الناتجة عن المعرفة ، ووسائل المعرفة . أما الحدس فيعد أهم العوامل . وعلى الرغم من أنه يعني ، في الاصل ، الادراك الحسني ، لكنه يتضمن كل ادراك مباشر ، ان كان عن طريق الحواس أم لم يكن .
تعتنق النانسيسيكا المذهب الذري فالاشياء تتألف ذرات من أبدية لا ترى ولا تقبل القسمة . وتوجد أنواع اربعة من الذرات : التراب والماء ، والهواء ، والنور . ولا تستطيع هذه الذرات أن تنتج وجودا ما لم تنظم الحقيقة السامية حيويتها ونشاطها
الحادي عشر - سانكيا :
المنهج بتفسيره لنظرية التطور . فالطبيعة ( براكتي ) تعد مصدر عالم الصيرورة ، وفيها يتضمن كل وجود محدد . والطبيعة ليست كيانا بل قوة . ولا يحدث تطور پراكتي ( الطبيعة ) غير الواعية الا في حضور پوروشا ) الروح ( الواعية، ويثير حضور بوروشا حيوية براكتي. وتنضوي عملية التطور تحت قانون التتابع المتواصل ولما كانت الروح الحقة حرة دائما ، فان الخلاص في منهج سانكيا ظاهري فقط . والعبودية ، وفق هذا المنهج ، قائمة في حيوية براكتي المتجهة الى التمييز بين بوروشا وبراكتي . والانعتاق يتمثل في لا حيوية براكتي باتجاه امتلاك المعرفة المميزة . والحرية تعني ازالة العقبة التي تمنع الظهور الكامل لنور بوروشا ، وثم الحصول على الحرية بالمعرفة ، وبممارسة الفضيلة واليوغا
- اليوغا :
يرى باتنجالي ، الحكيم الهندي، أن اليوغا هي التمييز بين الفكر والموضوع ، بين بوروشا ) الروح ( وبراكتي ( الطبيعة ) ؛ ويعني هذا التمييز تأكيد الروح في نقائها . وتتحقق اليوغا في جهد منهجي للوصول الى الكمال من خلال السيطرة على العناصر المختلفة للطبيعة الانسانية النقية والمادية. فاليوغا اتحاد مع النفس وتكامل معها قبل أن تكون اتحادا مع الحقيقة السامية
تتركز اليوغا في نظامها العملي الذي يتحقق فيه اخضاع الحالات العقلية بممارسة التدريبات الروحية ، والانتصار على الرغبة . وتقدم لنا اليوغا طرقها الثمانية : عدم التعلق ، القيام بالواجب ، تنظيم فاعلية الجسد ، السيطرة على التنفس ، التجرد من الحواس ، الانتباه المركز، التركيز ، والتأمل. ويتوجب على اليوغي أن يمارس اللا عنف والصدق والامانة ، والعفة ، والنقاء الداخلي والخارجي ، والقناعة . وأن تجريد من وظائفها الطبيعية يساعد على بقاء العقل هادئا ، فتستعيد
الروح حالتها الحرة النقية الابدية : وهذا هو معنى الحرية والانعتاق ، أو الخلاص . وعندئذ يستطيع الانسان ان يحقق قوى تفوق الطاقة البشرية
الثالث عشر - بورفايمامسا :
ارتبطت الفيدانتا بديانة الهند بوجه أو بآخر ، وتحدثت عن أفكار الاوبانیشاد ، الدينية منها والفلسفية . وبلغت الفيداننا قمة حديثها في تجسد الروح اللا مشروط .
وفي الفيدانتا نجد لا ثنائية شاو كارا ، ولا ثنائية رامانوجا الموصوفة وثنائية مادفا ، التي تجد شرحا لها وتعليقا عليها في تضاعيف هذه الدراسة
Max Muller- Indian Philosophy
Radhakrishran and Moore -Source Book of Indian Philosophy
Indian Philosophy -Radhakrishnan
مواضيع ذات صلة
الجينية,
الديانات الهندية،,
الهندوسية,
0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا