ادعمنا بالإعجاب

الفقه الإسلامي والمؤلفات الفقهية في الهند خلال عهود سلاطين دلهي وملوك المغول (1206-1857م)

Fiqh Literature in India  During Delhi Sultanate and Mughal Rule - 1206-1857

إعداد وتقديم: محمد الله الخليلي القاسمي  (Muhammadullah Khalili Qasmi)

ملخص البحث

دخل الفقه الإسلامي شبه القارة الهندية منذ أن دخلها الإسلام وأرسى جذوره مع مرور الأيام، فأهل الهند كانوا في الفقه أكثر تأليفاً منهم في غيره؛ فمنها ما هو الشروح والحواشي على كتب المتون، ومنها ما هو الفتاوى والرسائل الفقهية.

هذا البحث سيستعرض دخول الإسلام في الهند وشيوع الفقه الإسلامي في ربوعها خلال عهود سلاطين دلهي الذين حكموا الهند من 1206م إلى 1526م والإمبراطورية المغولية التي تولت زمام الحكومة في الهند سنة 1526م وحكمت الهند بقوة وشوكة إلى 1707م ولكن استمرت إلى 1857م حتى أن الإنجليز سيطروا كليا على أراضي الهند واستأصلوا حكم المسلمين في هذه البلاد.

لقد كانت فترة سلطنة دلهي حقبة مشرقة من التاريخ الهندي. إنها - إلى جانب مساهمتها في التعليم والعلوم والهندسة والفنون الجميلة والإدارة وغيرها - كانت لها اهتمام خاص بالعلوم الإسلامية وخاصة بالفقه الإسلامي. احتل الفقه مكاناً مركزيا بين جميع العلوم الإسلامية وجدَّ العلماء والفقهاء وكدُّوا في سبيل ترسيخ أسسه وتشييد مبانيه فكتبوا الكتب والمؤلفات الفقهية، كما قام السلاطين والأمراء بدورهم المهم فأسَّسوا مدارس وزوايا علمية فانتشر الفقه في أقطار البلاد وقام بدوره في التشريع والتقنين.

كذلك شهد الهند خلال فترة الحكم المغولي في الهند قدراً كبيراً من التوسع في العلوم الإسلامية لاسيما في الفقه الإسلامي. وعاش هناك العديد من العلماء الكبار من الفقه والفقهاء وخبراء الشريعة الإسلامية خلال حكم المغول. أنتج عصر المغول العديد من أهم المؤلفات الفقهية، وأبرزها الفتاوى الهندية الذي تم إعداده تحت إشراف الإمبراطور أورنغزيب (المتوفى 1707م) بجانب إنتاج كتب أخرى حول موضوعات وجوانب الفقه الإسلامي وخاصة شروح الكتب الفقهية وأصول الفقه والمسائل الفقهية.

الفقه الإسلامي والمؤلفات الفقهية في الهند خلال عهود سلاطين دلهي وملوك المغول (1206-1857م)

الفقه الإسلامي من أهم العلوم الإسلامية والعربية. وهو يحتل مكانةً هامةً بين العلوم الإسلامية بعد تفسير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد نشأ علم الفقه من المنهلين العظيمين: الكتاب والسنة وترعرع في عهد الصحابة رضي الله عنهم. ثم دُوِّن في القرن الثاني الهجري على أيدي كبار العلماء والفقهاء والمحدثين: أبرزهم الإمام أبو حنيفة نعمان بن ثابت النعمان بن ثابت الكوفيّ (150-80هـــــ / 767-699م) والإمام مالك بن أنس (179-93هـــــ / 796-715م) والإمام محمد بن إدريس الشافعي (204-150هــــ / 820-766م) والإمام أحمد بن حنبل (241-164هــــ / 855-780م) رحمهم الله تعالى. فقد شاع فقههم في العالم الإسلامي وتلقاه المسلمون في أقطار العالم وقبلوه قبولاً حسناً. وكان المذهب الحنفي أكثر المذاهب الفقهية انتشاراً وتوسعاً خاصةً في شبه القارة الهندية التي تشتمل كلاً من الهند وباكستان وبنغلاديش.[1]

المسلمون في الهند

قد يرتبط شبه القارة الهندية وشبه الجزيرة العربية بعضها ببعض ارتباطا وثيقا من العصور القديمة وتعود العلاقات التجارية بين العرب والهند إلى زمن عتيق. وما زال التجار العرب يزورون المناطق الساحلية في جنوب الهند وخاصة منطقة مالابار التي كانت تربطها بموانئ جنوب شرق آسيا، وبعد أن طلعت شمس الإسلام من مكة المكرمة أصبح العرب قوة ثقافية بارزة في العالم وأصبح التجار العرب يحملون الدين الجديد إلى أينما ذهبوا، وهكذا، جاء الإسلام إلى الهند مع التجار العرب في القرن السابع الميلادي.[2]

وبصرف النظر عن العلاقات التجارية مع المسلمين، شهدت الأراضي الهندية وجود المقاتلين المسلمين منذ البداية، كما شنت الحملة العسكرية الأولى من عثمان بن أبي العاص الثقفي سنة 645م عندما كان حاكم البحرين وعمان في عهد الخليفة عمر الفاروق رضي الله عنه. هاجم الجيش الإسلامي ميناء تهانه ولكن لم تكن هذه الحملة العسكرية مأذوناً بها من قبل الخليفة. وفي وقتٍ لاحقٍ هاجم المسلمون سواحل بروص وديبل ووصلوا إلى إقليم السند وبلوشستان وقلات وحتى إلى لاهور ومولتان وبنون وكوهات.[3]

ولكن من أهم وأبرز حملات المسلمين العسكرية على الهند كانت حملة البطل المجاهد محمد بن القاسم الثقفي (المتوفى 95هـــ) في 711 م) حينما فتح بلاد السند وأدخلها تحت حكم الدولة الأموية بدمشق. كانت مغامراته العسكرية في شمال غرب الهند أساسا قويا للمسلمين في شبه القارة الهندية. بالإضافة إلى أنَّ فتح المنطقة نشأ النظام السياسي الإسلامي في البلاد. لم يبلغ محمد بن القاسم إلا 17 عاما من عمره في ذلك الوقت، وعلى الرغم من صغر سنه يعتبر واحدا من الأبطال العظماء في التاريخ الإسلامي. لقد فتح مساحة شاسعة في غضون فترة ثلاث سنوات. ولكن للأسف تم قطع مسيرته السياسية بسبب خلافات قصيرة؛ إلا أنه كان من إمكانياته أن يغيِّر مسار التاريخ في شبه القارة الهندية. ثم لما تولى العباسيون زمام الحكومة جاءت السند تحت سيطرتهم. وظلَّت السند في أيدي المسلمين العرب خلال قرون آتية وازدهرت واشتهرت بعلومها وعلمائها.

بعد ذلك جاء السلطان المجاهد محمود الغزنوي وهاجم الهند وضم البنجاب إلى السلطنة الغزنوية سنة 1001م. وكان واحدا من أعظم الملوك في القرن الحادي عشر ورقى بإمارة غزنة إلى أبعاد امبراطورية. وكان الغزنويون الذين حملوا الإسلام إلى السهول الهندية وربوعها وأنشؤو دولةً إسلاميةً عظيمةً في الهند الشمالية الغربية التي تشكل الآن باكستان.

في وقت لاحق انتهى حكم الغزنويين عندما أطيح بشهاب الدين الغوري آخر حاكم الغزنويين وفتح واليه قطب الدين أيبك الهند في 1206م، وهذا أدى إلى تشكيل سلطنة دلهي في قلب الهند التي حكمتها عدة عائلات واحدة تلو الأخرى. وقد تحولت دلهي تدريجياً إلى مركز العلوم والفنون في عهدهم.

ثم جاءت الإمبراطورية المغولية وحكمت الهند خلا فترة (1206-1857م) وكانت أقوى السلالات الحاكمة في شبه القارة الهندية. وساهم المغول في نشر الثقافة والحضارة والفن والعمارة والأدب والعلوم الأخرى في الهند. ثم سيطر الإنجليز على الهند وحكموها إلى أن نالت الهند استقلالها عام 1947م وتحولت إلى ديموقراطية شعبية.

لقد كان الإسلام جزءا لا يتجزأ من الهند منذ أن جاء إلى هذه التربة. وكان الأثر الرئيسي للإسلام في الهند حتى جاءت أقلية دينية إلى حيِّز الوجود وكان لها تأثير بالغ على الثقافة الهندية. فاليوم هناك أكثر من 500 مليون مسلم في جميع أنحاء شبه القارة الهندية (الهند وباكستان وبنغلاديش) مما يجعلها أكبر المراكز السكانية للمسلمين في العالم.

الفقه الإسلامي في الهند

جاء الفقه الإسلامي إلى شبه القارة الهندية منذ أن دخلها الإسلام وأرسى جذوره مع مرور الأيام. فأهل الهند كانوا في الفقه أكثر تأليفاً منهم في غيره؛ فمنها ما هو الشروح والحواشي على كتب المتون، ومنها ما هو الفتاوى والرسائل الفقهية. كذلك كان أهل الهند من سالف الزمان على مذهب أبي حنيفة غير السواحل من بلاد مدراس ومليبار والكوكن فإنها كانت مورداً ومشرباً لأهل اليمن والحجاز، وإنهم كانوا على مذهب الإمام الشافعي فبقوا على ذلك إلى اليوم. وأما المالكية والحنابلة فليس لهم عين ولا أثر في أرض الهند.[4]

لقد شاع المذهب الحنفي في الهند خاصةً في عهد العباسيين لأنهم اتخذوا الفقه الحنفي كمذهب رسمي وولّوا القضاة الأحناف في جميع أقطار الخلافة؛[5] وظلت السند تحت الخلافة العباسية والعربية عبر قرون ونالت حظاً كبيراً من الثقافة والتعليم. وفي فترة قصيرة من الزمن أصبح السند مركزاً للتعليم الإسلامي، كما كانت يتمتع بجيل عظيم من علماء الدين من العرب وبلاد فارس، وأنتجت رجالاً عظماء في مجالات التعليم والعلوم الدينية. وكانت السند قريباً من مهد الفقه الحنفي العراق وفارس حيث نشأ هذا الفقه وتطور؛ لذلك كانت أغلبية المسلمين على مذهب الإمام أبي حنيفة. وفي وقت لاحق نال الفقه الحنفي قبولاً عاماً في الهند وشاع في أنحائها في عهد الغزنويين الذين أنشؤوا الحكم الإسلامي في الهند، ورثوا الإدارة العباسية ونشروها متجذرة في الأراضي الهندية. ثم أسست سلطنة دلهي على أنقاض الدولة الغزنوية ووسعت إلى أرجاء الهند. فكان الأتراك والأفغان الذين عبروا ممر خيبر وحكموا الهند من أتباع الفقه الحنفي.[6]

الفقه في سلطنة دلهي

وكانت سلطنة دلهي التي حملت رأية الإسلام من الجهتين الغربية والشمالية إلى وسط الهند وشرقها وجنوبها. أنشأت السلطنة حكم المسلمين في دلهي وجمع المناطق المختلفة والبعيدة تحت حكم دلهي. أُسِّست سلطنة دلهي في 1206م واستمرت إلى 1526م. في غضون ذلك حكم أسر مختلفة الهند مثل المماليك (1206-1290م) والخلجيون (1290-1320م) والتغالقة (1320-1414م) والسادات (1414-1451م) واللوديون (1451-1526م).

وكان عهد سلطنة دلهي حقبة مشرقة من التاريخ الهندي الذي أحدث ثورةً عظيمةً في مجال التعليم والعلوم والهندسة والفنون والإدارة وما إلى ذلك من العلوم الإسلامية خاصة في الفقه الإسلامي. فازدهر الفقه خلال هذه الفترة وكان يعد من أفضل العلوم لعناية الملوك به. كان الفقه الحنفي أساساً لإدارة السلطنة ونظام العدالة. فأقاموا العدل وعينوا القضاة في كافة المحافظات لأداء شؤون القضاء والعدل. وكان هناك مفتون في كل محكمة وعملوا كمستشارين وشارحين للقانون.[7] 

قد أسس ملوك وسلاطين دلهي مدارس دينية حيث كان يدرس الفقه بغاية من الأهمية. وعلى الرغم من أن كل مسجد كان في الفترة الإسلامية بمثابة مدرسة وكل عالم كان كمدرسة متنقلة ولكن عثرنا على آثار من المدارس الدينية التقليدية التي أنشئت من قبل السلاطين. ويروى أنه كان هناك في دلهي وحدها ألف مدرسة أثناء حكم التغالقة.[8]

وفي هذا العهد شملت مناهج المدارس الإسلامية كتبَ الفقه مثل مجمع البحرين والمتفق لا سيما الهداية في شرح البداية للشيخ برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني (المتوفى 1196م) والقدوري للشيخ أحمد بن محمد القدوري (المتوفى 1036م) اللذان لا يزالان من الكتب الأساسية لمناهج المدارس الهندية حتى الآن. وقد يرجع الفضل في ترويج الهداية في الهند إلى مولانا برهان الدين البلخي (المتوفى 1288م) الذي كان تلميذا مباشراً لمؤلفه الشيخ برهان الدين المرغيناني. ومن كتب أصول الفقه كان يدرس الحسامي للشيخ حسام الدين محمد (المتوفى 1246م) والمنار للشيخ أبو بركات الله النسفي (المتوفى 1310م) وأصول البزدوي للشيخ علي بن أحمد البزدوي (المتوفى 1089م).[9]  

كان القرن الثالث عشر يعرف برغبته في الفقه الإسلامي وأصوله، وكون المفتي والقاضي والفقيه كان ذروة التفوق الأكاديمي في الدراسات الإسلامية الذي يطمع أحد تحقيقه. ولهذا كان بالفقه اهتمام كبير وولع غير مسبق. وكان حكام سلطنة دلهي يرافقون علماء الفقه ويستفادون من توجيهاتهم ونصائحهم. وأنهم كانوا يتشاورن ويناقشون مع المفتين والفقهاء حول قضايا الشريعة الإسلامية.[10]

وكان لهم اهتمام بعقد الندوات والتجمعات حيث يناقش الفقهاء القضايا مع حماسة، وكانت تسمى مثل هذه المناظرات بـ"محضر" وكان رائجاً في عهد السلطان ألتمش (1210-1236م) وعهد السلطان جلال الدين خلجي (1290-1296م) وعهد السلطان غياث الدين تغلق (1320-1325م) وعهد السلطان محمد تغلق (1351-1325م) وعهد السلطان فيروز شاه تغلق (1351-1389م)، وهو معروف لهذه الأنواع من المناقشات العلمية. وكانوا يمارسون ذلك من أجل السعي للحصول على حل القضايا الجديدة والتطور بعلم الفقه.[11]

ومن الجدير بالذكر أن عدداً كبيراً من العلماء والفقهاء والحرفيين هاجروا من آسيا الوسطى وما وراء النهر إلى دلهي بسبب الغزو المغولي (1216-1221م) في تلك المناطق. هم الذين تقدموا بدلهي وجعلوه مركزاً ثقافيا وعلمياً مثل بغداد. لقد قام سلاطين دلهي برعاية العلماء وإشراف الفقهاء. وهذا الذي شجع العلماء على إنتاج الأعمال العظيمة في الفقه وبذل كل الجهود الممكنة لأجل نشر الفقه الإسلامي من خلال التعليم والتأليف. فكان هناك عديد من العلماء الكبار في الفقه خلال فترة السلطنة الذين ساهموا بشكل كبير في تعزيز وتطوير الفقه وإنتاج كتب الفتاوى.[12]

من أهم الأعمال الفقهية التي أنتج علماء الهند في هذا العهد عشرات شروح وحواش لكتب المتون الفقهية والأصول أمثال الهداية والوقاية وأصول البزدوي والمنار هادفين إلى توضيح وتبسيط المتون لطلاب العلم والعامة. وبالإضافة إلى هذا كتبوا كتيبات ورسائل في شتى موضوعات الفقه من الصيام والصلاة والحج والميراث وغيرها.[13]

ولكن الأهم من ذلك كتب الفتاوى ومجاميع المسائل الفقهية التي ألفها علماء هذا العهد. وهنا نذكر بعضها في الفقرات التالية:

الفتاوى الغياثية: مجموعة مهمة للأحكام الفقهية قام بإعداده الشيخ داود بن يوسف الخطيب معزياً إلى السلطان غياث الدين بلبن الذي حكم الهند خلال فترة 1266-1287م. كان السلطان يوقر العلماء ولا يأخذ وجبة بدون رفقة أي عالم وكان يتمتع بكوكبة من العلماء الكبار والفقهاء. الفتاوى الغياثية كان أبرز الإنجازات في وقته، قد جمع فيه الأحكام الفقهية وفق الفقه الحنفي باللغة العربية. وقد نشرت المجموعة في مصر عام 1321ه/1903م ولكن الآن غير متوفر. ونسخة غير مكتملة لمخطوطة هذا الكتاب موجودة في مكتبة جامعة البنجاب التي تحتوي على 83 ورقة، في كل صفحة من 17 إلى 22 سطراً. نجد ذكر الفتاوى الغياثية في الكتب الأخرى من الفقه الحنفي مثل الفتاوى الهندية، والمتانة في مرمة الخزانة، وهذا يدل على أهمية هذه المجموعة وكذلك يدل على أنه كان سائدا في الأوساط العلمية عدة قرون.[14]

فتاوى قراخاني: وهو مخطوط في الفقه الحنفي في اللغة الفارسية التي كانت اللغة الرسمية لسلطنة دلهي، كتبه يعقوب مظفر كرماني وجمعه قبور قراخان في عهد السلطان جلال الدين فيروز خلجي (1290-1296م). ونسخة مخطوطة لفتاوى قراخاني موجودة حاليا في جامعة البنجاب في لاهور، ومكتبة بنجاب العامة لاهور، ومكتبة مكتب الهند في لندن، وجمعية البنغال الآسيوية كولكاتا ومكتبة آصفية حيدر آباد الدكن. ونسخة جامعة البنجاب في لاهور يتكون من 362 ورقة،  في كل صفحة من 13 إلى 23 سطراً.[15]

فوائد فيروز شاهي: هذه مجموعة قيمة للمسائل الفقهية أعدها الشيخ شرف محمد عطائي في عهد السلطان فيروز شاه تغلق (1351-1389م) وهو محفوظ في المكتبات بشكل مخطوط في جامعة البنجاب لاهور، وفي مكتبة إسطنبول تركيا، وجمعية البنغال الآسيوية في كولكاتا و مكتبة خدا بخش بتنه ولم يطبع حتى الآن. تشتمل نسخة جامعة البنجاب على مجلدين مكونين من 437 ورقة، في كل صفحة من 14 إلى 21 سطراً.[16]

الفتاوى التتارخانية: موسوعة فقهية منقطعة النظير

كتاب الفتاوى التتارخانية من أعظم التراث الإسلامي والثروات العلمية في اللغة العربية التي خلفها سلطنة دلهي في الهند. وقد تم تأليف الفتاوى التتارخانية في ثلاثين مجلدا الذي هو بمثابة موسوعة الفقه الإسلامي وآداب الفتوى. ويعتبر الفتاوى التتارخانية واحداً من كتب المراجع في الفقه الحنفي، ألفه الشيخ عالم بن علاء الإندربتي (المتوفى 786ه/1381م)  في عهد السلطان فيروز شاه تغلق (1351-1389م)، ولكن يعزى إلى الشريف التتار خان لرعايته الكريمة للعلم و العلماء.

ظل هذا الكتاب سائداً ومقبولاً قروناً عديدةً في الأوساط الأكاديمية لأننا نجد ذكره في كتب الفتاوى والمسائل الفقهية ولكن لم ينشر تماما حتى وقت قريب. وكانت مخطوطاته موجودة في العديد من المكتبات في حيدر آباد، ورام فور، وبتنه و مكتبة الخديوي بمصر، ولكن تم الحفاظ على نسخة كاملة منه في مكتبة بير محمد شاه (المتوفى 1751م) في أحمد آباد (ولاية غوجرات، الهند).[17]

نشر بعض مجلدات الفتاوى التتارخانية ثلاث مرات؛ مرة واحدة في باكستان، وثانيا في بيروت وثالثاً في الهند بتحقيق القاضي سجاد حسين الدهلوي، ولكن الفضل في نشر نسخته الكاملة وتحقيقها يرجع إلى المفتي شبير أحمد القاسمي مفتي الجامعة القاسمية شاهي مرادآباد (الهند) الذي بعد مقارنة نسخ مختلفة له نشره في عشرين مجلدا يشتمل على 14300 صفحة. وقد بلغ رقم جميع الأحكام والمسائل في الكتاب إلى 33778 ويحتوي الكتاب على أكثر من 10000 مرجع من القرآن والحديث.

وبصرف النظر عن هذه الأعمال، كان هناك العديد من الأعمال المهمة الأخرى قام به العلماء خلال هذه الفترة في دويلات ومناطق أخرى في الهند خارج سلطنة دلهي مثل الفتاوى الحمادية للمفتي ركن الدين بن حسام الناغوري في ولاية غوجرات في القرن التاسع الهجري، وفتاوى إبراهيم شاهي للقاضي نظام الدين الكيكلاني في مجلدين (الفارسية والعربية) في عهد إبراهيم شاه (1402-1440م) في الدولة الشرقية في جونبور.[18]

ومن أهم المؤلفات الفقهية في هذا العهد في أصول الفقه والإفتاء "الفائق في أصول الدين" للشيخ محمد بن عبد الرحيم و في القضاء "صنوان القضاء وعنىوان الإفتاء" للشيخ أبي محامد محمد بن الخطيب، و في الحسبة الكتاب الشهير "نصاب الاحتساب" للشيخ القاضي ضياء الدين عمر بن عوض السنامي، و في اختلاف المذاهب الفقهية "زبدة الأحكام في اختلاف أئمة الأعلام" للشيخ سراج الدين الحنفي و"الغرة المنيفة في ترجيح مذهب أبي حنيفة" للشيخ أبي حفص سراج الدين.

وأما العلماء المشاهير في هذا العهد ما عدا مصنفي الكتب المذكورة أعلاه الشيخ نصير الدين المعروف بسراج دلهي كان يكنى بأبي حنيفة الثاني، والشيخ فخر الدين الزرادي، والقاضي محي الدين الكاشاني من أصحاب الشيخ المرشد نظام الدين أولياء. كانت الهند تعج بعلماء الفقه والقضاة والأنشطة التعليمية والعلمية في عصور شمس الدين ألتمش والسلطان علاء الدين خلجي والسلطان غياث الدين بلبن، ومحمد تغلق، ولكن ليس من الممكن ذكر حتى أسماء العلماء الكبار في هذه البحث القصير. لقد ذكر المؤرخ الشهير من القرون الوسطى ضياء الدين برني في كتابه الشهير "تاريخ فيروز شاهي" أسماء العلماء خلال العهود المختلفة في سلطنة دلهي عددهم يصل إلى مئات. كذلك الشيخ عبد الحي الحسني في كتابه المعروف "نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر" الذي يعرف بإسم "الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام" أحصى تراجم العلماء بمن فيهم علماء الفقه. وكذلك الشيخ إسحاق بهتي من باكستان جمع تراجم علماء الفقه في كتابه الأردي "فقهائى هند" في عدة مجلدات، وذكر أكثر من ثلاثمائة عالم الذين عاشوا خلال عصور السلطنة.

خلاصة الكلام

وكانت الفترة من سلطنة دلهي حقبة مشرقة من التاريخ الهندي. وإنها إلى جانب مساهمتها في التعليم والعلوم والهندسة والفنون الجميلة والإدارة وغيرها كانت لها اهتمام خاص بالعلوم الإسلامية وخاصة بالفقه الإسلامي. وقد احتل الفقه مكاناً مركزيا بين جميع العلوم الإسلامية، وجدَّ العلماء والفقهاء وكدُّوا في سبيل ترسيخ أسسه وتشييد مبانيه فألفوا الكتب والمؤلفات الفقهية، كما قام السلاطين والأمراء بدورهم المهم، فأسَّسوا المدارس والمعاهد العلمية فانتشر الفقه في أقطار البلاد، وقام بدوره في التشريع والتقنين.

الفقه في عهد المغول في الهند

كان عصر سلطنة المغول في الهند فترةً مشرقةً في التاريخ الهندي الإسلامي وخلَّفت آثاراً علمياً وتقافياً في البلاد. أسس سلطنة المغول ظهير الدين بابر عام 1526م عندما هزم إبراهيمَ لودي سلطان دلهي واستمرت حتى 1857م. ينحدر مؤسس السلالة ظهير الدين بابر من سلالة تيمورلنك  وكان أميرا على سمرقند (إمارة فرغانة) منذ 1497م، واستولى سنة 1504 على كابل، ثم فتح الهند. بعد انتصاره على اللوديين، أصبح ملكا (1526-1530م) فى شمال ووسط الهند. قام السلطان السوري شير شاه خان بطرد ابنه همايون (1530-1556م) سنة 1540م إلى فارس ولكن استطاع همايون أن يستعيد سلطته مجددا سنة 1555 م.

ينقسم حكم المغول في الهند إلى عهدين؛ العهد الأول عهد الأباطرة المغول من 1526م إلى 1707م وبلغت الدولة المغولية ذروة مجدها وقوتها أثناء هذا العهد. بدأ هذا العهد مع جلوس جلال الدين أكبر (1556-1605م) على العرش الذي أكمل سيطرته على كامل بلاد الهند وأدخل الدويلات البعيدة تحت سلطته. وتمتعت الهند تحت حكم أكبر وابنه جهانغير بتقدم في اقتصاد البلاد والتعايش الديني، وامتدت أراضيها لتشمل أنحاء واسعة من شبه قارة الهند. وتواصلت جهود تطوير الدولة المغولية في عهد كل من جهانغير (1605-1627م) ثم شاه جهان (1628-1658م) ثم أورنغزيب (1658-1707م) أحد آخر السلاطين الكبار. والعهد الثاني هو عهد الزوال الذي بدأ من وفاة أورنغزيب وأصبح المغول بعد سنة 1707 م يتلقون الهزيمة تلو الأخرى حتى جاء دور البريطانيين وتم خلع آخر سلاطين المغول محمد بهادر شاه سنة 1857م على أيدي البريطانيين.

لقد شهد الهند خلال فترة الحكم المغولي في الهند قدراً كبيراً من التوسع في العلوم الإسلامية لاسيما في الفقه الإسلامي. وعاش هناك العديد من العلماء الكبار والفقهاء وخبراء الشريعة أمثال مجدد الألف الثاني الشيخ أحمد السرهندي (المتوفى 1624م) الشيخ عبد الحق المحدث الدهلوي (المتوفى 1642م) والشاه ولي الله المحدث الدهلوي (المتوفى 1762م) ونجله الشاه عبد العزيز المحدث الدهلوي (المتوفى 1823). وفي وقت لاحق من هذه الفترة اكتسب العلماء من فرنجي محل في لكناؤ صيتاً كبيراً ولعبوا دوراً هامّاً في خدمة وترويج الفقه.

الأعمال الفقهية في هذا العهد

ساهم علماء الإسلام في الفترة المغولية بشكل كبير في إثراء تراث الفقه الإسلامي في الهند وأهمها الفتاوى الهندية الذي تم إعداده تحت إشراف الإمبراطور أورنغزيب. واصل الفقهاء والعلماء إنتاج الأدب الفقهي مابين مجموعات الفتاوى والمسائل الفقهية وأصوله ونظام القضاء وحواشٍ على المتون الفقهية الشهيرة. يتم الحفاظ على بعض من هذه الأعمال في مكتبة خدا بخش بتنه والجمعية الآسيوية لبنغال ومكتب الهند بلندن ومكتبة رضا رامبور و مكتبة مولانا آزاد عليكراه ومكتبة دار العلوم ديوبند بالإضافة إلى العديد من الكتب التي ورد ذكرها في كتب التاريخ والتراجم.[19]

في بحثي عن أعمال فقه العلماء الهنود خلال حكم المغول عثرت حوالي 250 كتاباً ورسالةً، ألف العديد من هذه الكتب في موضوعات مختلفة من الفقه مثل قضايا الأسرة والقضايا الاجتماعية والقضايا الاقتصادية والميراث، وعلم الفقه وأصول الفقه، والمدارس الفقهية والتقليد، مع أن الأكثر منها شروح وحواش على الهداية وشرح الوقاية وكنز الدقائق والحسامي والمنار والتلويح وغيرها من كتب الفقه و أصوله. [20]

أُلِّف أهم كتاب في أصول الفقه "مسلم الثبوت" خلال هذه الفترة، كتبها الملا محب الله الله آبادي (1707م) وبقي هذا الكتاب في المنهج الإسلامي الدراسي في الهند منذ ذلك الوقت حتى الآن وكتب عليه العديد من التعليقات والحواشي من المؤلف نفسه والعلماء الآخرين مثل الملا نظام الدين السهالوي (1784م) وأحمد عبد الحق بن محمد سيد (1773م) ومحمد الحسن بن غلام مصطفى اللكنوي (1794م) وملا محمد المبين (1810م) والملا أبو علي بحرالعلوم (1861م).

كذلك تلقى كتاب آخر في أصول الفقه "المنار" اهتمام العلماء وشرحه لملا جيون أحمد الأميتوي (1718م) بعنوان "نور الأنوار في شرح المنار" ولا يزال يتداول في الأوساط العلمية حتى الآن.  

"فتح المنان في تأييد مذهب النعمان" للشيخ عبد الحق المحدث الدهلوي (1642م) كتاب رائع في إقامة الأدلة من الأحاديث النبوية الشريفة على الفقه الحنفي. كذلك ساهم الشاه ولي الله المحدث الدهلوي (1762م) أفكاره النادرة في الفقه وأصوله من خلال كتابيه الشهيرين "العقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد" و "الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف".

مجموعات الفتوى في هذا العهد

ساهم عصر المغول في مجال مجموعات الفتوى خاصةً؛ كما نجد آثار مجموعات الفتاوى باللغتين العربية والفارسية ولكن معظم هذه الأعمال العلمية لم تنشر بعد وبقوا مدفونين في المكتبات القديمة والمتاحف بصورةٍ مخطوطة.

اطلعنا على مجموعة الفتاوى بالفارسية في فترة مبكرة من المغول كتبها نور الدين قطب الدين الخوافي (1670م) ونسبه إلى الملك ظهير الدين محمد بابر (1483-1530) مؤسس حكم المغول في الهند؛ لذا سمي بالفقه البابري. توجد هذه المجموعة بشكل مخطوط في المكتبة الشرقية (خدا بخش) بتنه رقمها 1227.[21]

وهناك مجموعة أخرى تسمى بالفتاوى الأمينية التي كتبها أمين بن عبيد الله مومن آبادي حوالي 1541 في اللغة الفارسية في عهد الملك همايون (1530-1556م).[22] وكذلك الفتاوى البراهنة باللغة الفارسية للشيخ ناصر الدين اللاهوري ألف عام 1588م وتوجد بشكل مخطوط في المكتبة الشرقية (خدا بخش) بتنه رقمها 1226.[23] ثم الفتاوى العزيزية للشيخ عبد العزيز المحدث الدهلوي (1823م) باللغة الفارسية وهي معروفة، ألف في أواخر عهد ملوك المغول. وقد تم نشر هذا الكتاب وترجمته بالأردية مرات في الأوساط العلمية.

أما الفتاوى باللغة العربية خلال هذه الفترة عديدة؛ أولها الفتاوى النقشبندية للشيخ معين الدين محمد خواجه محمود النقشبندي (1674م) الذي كان صوفياً بارزاً من ولاية كشمير. هذه المجموعة موجودة بشكل مخطوط في مكتبة خدا بخش بتنه، والجمعية الآسيوية في بنغال، ومكتبة آصفية حيدر آباد ومكتبة رضا رام فور.[24]

والمجموعة الثانية في العربية في هذه الفترة فتاوى مجمع البركات للشيخ أبي البركات بن حسام الدين الدهلوي (1707م) الذي شغل منصب المفتي والقاضي في دلهي. وتم تأليف هذه المجموعة حوالي 1704م ومخطوطتها موجودة في مكتبة خدا بخش بتنه و مكتبة آصفيه حيدر آباد ويتكون من 754 صفحة.[25]

والمجموعة الثالثة هي "مختصر فتاوى الشافي" للقاضي عبد الحميد بن عبد الله التهتهوي الذي عين قاضياً في ولاية غوجرات في عهد الشاه عالم بن أورنغزيب (1707-1712) وبعد ذلك رقى إلى منصب قاضي القضاة. نسخة مخطوطة لهذه المجموعة موجودة في مكتبة مولانا آزاد تحت مجموعة سبحان الله في جامعة عليكرة.[26]

ومجموعة أخرى المسمى بــ"فتاوى سراج منير" للمفتي تابع محمد بن محمد سعيد اللكنوي الذي شغل منصب مفتي لكناؤ. ألفت هذه المجموعة عام 1708م  ويتم حفظ نسختين لها في مكتبة الجامعة الإسلامية دار العلوم ديوبند.[27]

الفتاوى الهندية أو الفتاوى العالمكيرية

الفتاوى الهندية أو الفتاوى العالمكيرية من أبرز الأعمال الفقهية في الهند في الفقه الحنفي باللغة العربية. ألفه جماعة من علماء الهند برئاسة الشيخ نظام الدين البرهانبوري بأمر السلطان أورنغزيب عالمكير (حكم 1658-1707م). إنه كَلّف كبار علماء الهند الأحناف في بلاده أن يجمعوا كتاباً في الفتاوى على الصحيح من مذهب الحنفية، فجمعوها ورتبوها على ترتيب كتاب الهداية.

قال الأستاذ عبد الحى الحسنى فى كتابه "الثقافة الإسلامية في الهند":

"أما الفتاوى العالمكيرية و يسمونها الفتاوى الهندية فهى أجلها و أنفعها فى كثرة المسائل و سهولة العبارة و حل العقد ، و هى التى اشتهرت فى بلاد العرب و الشام و مصر القاهرة بالفتاوى الهندية ، و هى فى ستة مجلدات كبار و أولها الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيد المرسلين ... إلخ .و رتبوها على ترتيب الهداية ، و اقتصروا فيها على ظاهر الرواية ، و لم يلتفتوا إلى النوادر إلا إذا لم يجدوا جواب المسألة في ظاهر الرواية أو وجدوا جواب النوادر موسوماً بعلامة الفتوى ، و نقلوا كل عبارة معزوة إلى كتابها و لم يغيروا إلا لداعى ضرورة.

و إنى لم أزل شديد البحث و التطلب لذكر مصنفيها حتى عرفت أن السلطان أورنكَ زيب عالمكَير التيمورى -أنار الله برهانه- ولى الشيخ نظام الدين البرنهابورى فى أوائل سلطنته تدوينها بإستخدام الفقهاء الحنفية ، و بذل على تدوينها مائتى ألف روبية ، فولى أربعة رجال من أهل العلم و الصلاح تحت أمر الشيخ نظام الدين المذكور ، و قسم أرباعها على أربعتم .الأول القاضى محمد حسين الجونبورى المحتسب و الثانى الشيخ على أكبر الحسينى أسعد الله خانى و الثالث الشيخ حامد بن أبى حامد الجونبورى و الرابع المفتى محمد أكرم الحنفى اللاهورى كما فى مرآة العالم و أما غيرهم من المصنفين فما وفقت (كذا ، و لعل الصواب وقفت ) على أسمائهم غير شرذمة قليلة ، منهم  الشيخ نظام الدين البرهانبورى  والقاضى محمد حسين الجونبورى و الشيخ على أكبر الحسينى والشيخ حامد ابن أبى الحامد الجونبورى والمفتى محمد أكرم اللاهورى والشيخ رضى الدين الباهكلبورى و الشيخ عبد الرحيم بن وجيه الدين الدهلوى والمفتى وجيه الدين الكوباموى والشيخ أحمد بن المنصور الكوباموى الخطيب و أبو البركات بن حسام الدين الدهلوى والشيخ محمد جميل بن عبد الجليل الجونبورى ومولانا نظام الدين بن نور محمد التتوى السندى ومولانا نظام الدين بن محمد بن نور محمد النتوى السندى والشيخ محمد سعيد بن قطب الدين السهالوى والمفتى عبد الصمد الجونبورى ومولانا جلال الدين المجهلى شهرى والقاضى عصمة الله بن عبد القادر اللكنهوى و القاضى محمد دولة بن يعقوب الفتحبورى والشيخ محمد غوث الكاكوروى والسيد عبد الفتاح بن هاشم الصمدى."[28]

إن الفتاوى العالمكيرية نتيجة جهد جماعي للعلماء البارزين وهذا الذي يجعلها مميزة بين الأعمال القيمة في الفقه الإسلامي. ولهذا السبب كسب الفتاوى العالمكيرية سمعة كبيرة في جميع أنحاء العالم الإسلامي.

المدرسة الرحيمية ومدرسة فرنجي محل

مع أن العهد الأخير للمغول شهد الانحطاط والوهن في الحكومة ولكنه تمتع بمركزين علميين شهيرين؛ الأول المدرسة الرحيمية بدلهي والثاني مدرسة فرنجي محل بلكناؤ. فقد كان لهذين المدرستين أثر هائل على المنهج العلمي والنظام التعليمي في وقت لاحق في شبه القارة الهندية بل على نطاق أوسع.

المدرسة الرحيمية ينتسب إلى الشيخ عبد الرحيم بن الشهيد وجيه الدين، والد الإمام الشاه ولي الله الدهلوي، كان من معاصري السلطان أونك زيب عالم كير وشارك لفترة في مشروع تقنين الفقه الإسلامي والذي ظهر بعد ذلك في صورة الفتاوى الهندية. تلقى الشيخ ولي الله العلوم الابتدائية من والده الشيخ عبد الرحيم في هذه المدرسة ولما توفي والده الشيخ عبد الرحيم عام 1131هـ كان عمره سبعة عشر عاما، تولى منصب التدريس فيها  واستمر فيه اثني عشر عاما. سافر الشاه ولي الله في أواخر عام 1143هـ لأداء فريضة الحج، وقرر أخذ الحديث عن علماء الحرمين، فحضر دروس الشيخ أبي طاهر المدني وغيره من العلماء وحصل على الإجازة لرواية كتب الحديث.

بعد هذه الإفادة من المشايخ في الحرمين والتحصيل العلمي المتميز وخاصة في مجال حديث الرسول رجع الشيخ ولي الله الدهلوي إلى الهند في شهر رجب عام 1145هـ وأنشأ مركزاً علمياً عظيماً في دلهي. قد ترجع جميع أسناد الحديث في شبه القارة إلى هذه المدرسة ولذا يلقب الشاه ولي الله بــ"مسند الهند". وتولى التدريس بعده نجله الأكبر الشاه عبد العزيز الدهلوي (المتوفى 1249هـــ) وارتقى به إلى ذروة الشهرة والكمال. ثم تولى زمامه الشيخ محمد إسحاق الدهلوي (المتوفى 1262هـــ) ثم الشيخ عبد الغني المجددي، ثم ورثه علماء ديوبند.

فرنجي محل ومعناه «القصر الأفرنجي» هو قصر عظيم واسع في مدينة لكناؤ منحه الملك أورنك زيب للملا نظام الدين السهالوي عام 1693م وبها أنشئت مدرسة إسلامية عظيمة تسمى بـ"المدرسة النظامية"، وفيه بدأ بتدريس العلوم الإسلامية. نالت هذه المدرسة صيتاً كبيراً وتوافد إليه طلاب العلوم الإسلامية من أنحاء البلاد، فشاع المنهج الدراسي الذي وضعه الملا نظام الدين السهالوي في الحلقات التعليمية وعرف بـ"الدرس النظامي" فيما بعد وما زال يدرس إلى يومنا هذا في المدارس الإسلامية في شبه القارة الهندية. و تم تنفيذ هذا المنهج عمليا في القرن التاسع عشر في المدارس الإسلامية الرئيسية خصوصاً في الجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند، وامتد إلى أماكن أخرى من العالم مثل جنوب أفريقيا وبريطانيا وأمريكا في القرن الأخير.

أنجبت المدرسة النظامية العديد من العلماء الكبار في الفقه والعلوم الإسلامية، واستمرت في الحفاظ على التراث اللإسلامي حتى بعد حكم المغول. وكان العلماء من فرنجي محل معروفين لحرصهم على الفقه الإسلامي وأصبح الفقه علامة بارزة من مساهماتهم. قد كانت عائلة فرنجي محل الكبيرة تتألف من أكثر ثلاث مائة مفتي وقاضي الذين ساهموا بأكثر من خمس مائة كتاب في التراث الغني من العلوم الإسلامية وخاصة في الفقه. لقد كان العلماء مثل مولانا عبد العلي الملقب ببحر العلوم (1810م) والملا محمد حسن (1794م) والملا مبين (1810م) ينتمون إلى هذه العائلة النبيلة. إن الشخصية الأكثر شهرةً من هذه العائلة هو العلامة أبو الحسنات عبد الحي اللكنوي (1886م) الذي كان كاتبا غزير الإنتاج في العلوم الإسلامية، وكتب أكثر من 120 كتاباً على موضوعات مختلفة بما في ذلك 50 في الفقه الإسلامي خلال عمر قصير يناهز إلى 39. وُلد هو في 1264هــ/1848م في السنوات الأخيرة من المغول عندما كان أمراء أوده يحكمون لكناؤ.[29]

خلاصة الكلام

كانت فترة الحكم المغولي في الهند غنية بالعلوم الدينية والعلماء وإنها أثرى التراث الإسلامي في ربوع البلاد وسهولها. وقد اهتم العلماء اهتماما كبيراً إلى الفقه بجانب من العلوم الإسلامية الأخرى. مع أنه من الحقيقة أن الفقه كان راكداً تلك الأيام والجهود الفكرية ما كانت تتجاوز ما وراء كتابة الملاحظات الهامشية على المتون الفقهية وبعض مجموعات الفتاوى. وهذا يرجع إلى ركود واسع في تلك الأيام ساد الساحة العلمية العامة والاجتماعية.

المصادر والمراجع

1. الأعظمي، اشتياق أحمد الأعظمي، أوده مين افتاء کى مراکز اور ان کی خدمات (مئو 2009)

2. باشا، أحمد تيمور باشا، نظرة تأريخية في حدوث المذاهب الفقهية الأربعة، (دار القادري بيروت، 1990م)

3. برني، ضياء الدين برني، تاريخ فيروز شاهي، (كلكتا 1862)

4. بشير، محمد بشير أحمد، The Administration of Justice in Medieval India، (معهد عليكرة التاريخية للبحوث جامعة عليكرة 1941)

5. بهتي، إسحاق بهتي، بر صغير مين علم فقه، (البلاغ بفليكيشنز نيو دلهي 2012)

6. بهتي، إسحاق بهتي، فقهاءهند، (ط لاهور 1974)

7. التلمساني، أحمد بن محمد آل المقرئ التلمساني، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، (دار صادر بيروت 1988)

8. الحسني، عبد الحي الحسني، الثقافة الإسلامية في الهند، (مجمع اللغة دمشق 1983)

9. حسين، واحد حسين بي ايل، Administration of Justice During the Muslim Rule in India، (إدارة أدبيات دلهي 1934)

10. خان بهادر، عبد المقتدر خان بهادر، فهرس للمخطوطات العربية والفارسية في المكتبة الشرقية في بتنه، 1928، المجلد 14، المسلسل: 1227 

11. ظفر الإسلام، Fatawa Literature of the Sultanate Period، (كنيكشا فبلشرس نيودلهي 2005)

12. ظفر الإسلام، همدرد إسلامىكس، (مؤسسة همدرد باكستان، 1997)،: xx:1، ص 184

13. ظفير، محمد ظفير الدين، تعارف مخطوطات، (دار العلوم ديوبند، 1970)

14. عفيف، شمس سراج عفيف، تاريخ فيروز شاهي، (حيدر آباد 1938)

15. العمري، شهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري، مسالك الأبصار في مماليك الأمصار، (دارالکتب العلمیۃ، بیروت 2010) 

16. الفلاحي، ضياء الدين الفلاحي، بر صغير مين فقهي مخطوطات ومطبوعات: ايك مطالعه، (IFA فبليكيشنز، نيو دلهي، 2012) 

17. القلشقلندي، أبو العباس أحمد القلشقلندي، صبح الأعشى، (أميرية القاهرة 1915)

18. المباركفوري، القاضي أطهر المباركفوري، العقد الثمين في فتوح الهند ومن ورد فيها من الصحابة والتابعين، (دار الأنصار القاهرة، 1399هـ)

19. ندوي، سيد أبو ظفر ندوي، تاريخ سنده، (دار المعارف أعظم جراه 1947)

20. ہالٹ، پی ایم ہالٹ، The Cambridge History of Islam، (مطبعة جامعة كيمبريج 1970)

21. يو اين دى، Administrative System of Delhi Sultanate، (كتاب محل الله أباد 1959)



مواضيع ذات صلة
إسهام علماء الهندية,

إرسال تعليق

0 تعليقات