ادعمنا بالإعجاب

الحاجة إلى فهم القرآن


 محمد كاشف الجونفوري

إن القرآن هو كتاب هداية ودعوة قبل أن يكون كتاب أحكام وشريعة، وقد نزل القرآن على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم منجما في ثلاث وعشرين سنة، ثلاث عشرة في مكة، وعشر سنوات في المدينة المنورة، وكانت الحياة في مكة حياة دعوة وتبليغ، فتح طريق بين القلوب المتمردة الجامحة والنفوس القاسية، أما في حياة المدينة، فكان المسلمون في قوة ووحدة نظام، فكانت الآيات المنزلة حافلة بتوجيهات رشيدة.

القرأن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، من فال غير هذا فهو كافر، والإيمان قول وعمل ونية، يزيد وينفص، وكان ذلك الكتاب حاويا لأسرار الصفات الإلهية الغامضة، وجامعا لقوانين الأخلاق العالية، ومنطويا على قصص الأمم الماضية وهاديا إلى الفكر الصحبح في المبدأ والمعاد.  

  أستهل كلامي عن الآية التي جاءت في القرآن " إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد"[i][1]،علينا أن نهتم بتلاوة القرآن وفهمه، كما نهتم الصلاة والزكاة والحج والفرائض الأخرى، وهذا القرآن هو الذي يوصلنا إلى معاد.

 ويا للأسف! إننا ما وجهنا إلى القرآن الذي فرض علينا، ولا نعد أنفسنا لفهمه، بل وضعناه في الدولاب ملففا ومزينا بأثواب ذهبية، هذه هي الطريقة التي مرت بنا الحياة، لذلك تمت حياتنا بالخزي والخسران، إن الله سبحانه وتعالى لم ينزل القرآن الكريم ليتلى في الصلوات، ويشيع به الأموات، وتقام به المناسبات فقط، وإنما ليتخذ منهاج حياة، ولكننا  أخذنا بعضا، وتركنا بعضا، وما دخلنا في السلم كافة. كما قال الله

  أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعلمون. [2]

وقال أيضا

  يا أيها الذين امنوا أدخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين[3]

  ومن الجدير بالذكر، أن القرآن قد ذكر العمل الصالح بالإيمان مرتبطا، كما قال الله تعالى

وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار....[4]

والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون.[5]

وقال محمد بن اسحاق، حدثني محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس- رضي الله عنه-"  والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون" أي من آمن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له.[6]

إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.[7]

والقرآن مملوء بالآيات  التي تشير إلى الإيمان بالعمل الصالح ومزاياه، وتحمل في طياتها أجر غير ممنون بما كانوا فاعلين.

إن المسلم لا يكون فقط مسلما في المسجد، إن المسلم يعيش مسلما في بقاع المعمورة وأرجائها في برها وبحرها، فينبغي لنا أن نكون ممتثلين للأوامر الإلاهية ومتمسكين بها كليا.  

لقد ربط الله العلاقة بين الإيمان والعمل الصالح إلى الأبد، وربط مصير أحدهما بالآخر، فلا عز للإيمان إلا بالعمل الصالح، ولا يظهر الإسلام في مظهره الصحيح إلا إذا قاد بالعمل الصالح، وهو يختلف باختلاف الزمان، الزمن تواجه الفسادات المختلفة، لذلك يعد إقلاعها من العمل الصالح. إن هذا القرآن قد أنزل الله لهداية البشرية جمعاء، لا لهداية المسلمين فقط، ولا المخصوصين الآخرين، ولكن من سوء حظنا، أننا وضعناه في الدولاب ناهيك عن تلاوته وفهمه.

    ونهى القرآن من المعايب والخرافات التي توجد في مجتمعنا من الزنا، والفواحش، وسليط اللسان، والألقاب الخبيثة كما جاء في القرآن، "لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا"[8]، يقول تعالى ناهيا عباده عن الزنا ومقاربته ومخالطة أسبابه ودواعيه، لأنه ذنبا عظيما وبئس طريقا ومسلكا.


 أن فتى شاباً من قريش أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه ائذن لي في الزنا، فأقبل عليه القوم فزجروه، وقالوا: مه مه. فقال: (ادنه)، فدنا منه قريباً، فقال: (اجلس) فجلس، فقال: أتحبه لأمك؟ قال: لا واللّه، جعلني اللّه فداك، قال: (ولا الناس يحبونه لأمهاتهم)، قال: (أفتحبه لابنتك؟) قال: لا واللّه يا رسول اللّه، جعلني اللّه فداك، قال: (ولا الناس يحبونه لبناتهم)، قال: (أفتحبه لأختك؟) قال: لا واللّه جعلني اللّه فداك، قال: (ولا الناس يحبونه لأخواتهم)، قال: (أفتحبه لعمتك؟) قال: لا واللّه، جعلني اللّه فداك، قال: (ولا الناس يحبونه لعماتهم)، قال: (أفتحبه لخالتك؟) قال: لا واللّه جعلني اللّه فداك، قال: (ولا الناس يحبونه لخالاتهم)، قال: فوضع يده عليه وقال: (اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وأحصن فرجه)، قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.[9]

 وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند اللّه من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له)[10] ""أخرجه ابن أبي الدنيا عن الهيثم بن مالك الطائي مرفوعاً.

فإذا رأى الرجل امرأة جميلة، فإن هذه الرؤية سرعان ما تولّد إعجاباً وميلا، ثم عشْقا عنيفة تدعوه أنْ تمتد يده، ويتولد النزوع الذي نخافه، وهنا إما أن ينزعَ ويلبي نداء غريزته، فيقع المحرم، وإما أنْ يعف ويظل يعاني مرارة الحرمان، والخالق سبحانه أعلم بطبيعة خلقه، وبما يدور ويختلج داخلهم من أحاسيس ومشاعر وخواطر؛ لذلك لم يُحرِّم الزنا فحسب، بل حرَّم كل ما يؤدي إليه بداية من النظر، فقال تعالى: 

قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم....[11]

لأنك لو أدركت لوجدت، ولو وجدت لنزعت، فإنْ أخذت حظَّك من النزوع أفسدت أعراض الناس، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: النظرة سَهْم مسموم من سهام إبليس، مَنْ تركها من مخافتي أبدلتُه إيماناً يجد حلاوته في قلبه.[12]

 من هذه الطريقة المؤثرة البليغة، قد علمنا القرآن أن نتجنب ونبتعد عن هذه الأعمال القبيحة، ومن هنا نفهم مراد القرآن لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا".[13]

   الحاجة إلى فهم القرآن، من الحاجة ماسة، لكي نعيش حياتنا بأمور ما أمر القرآن، ونبتعد ما نهى القرآن. الحقيقة هي أن الإتباع، إتباع الوحي، أو إتباع الهوى، فمن ذهب إلى اتباع الوحي، فهو على القرآن، ومن مال إلى الهوى فيكون له خسرانا.

وإن القرآن قد ذكر من قصص الأنبياء والصحف ما كان متعارفة في العرب، ورد على العقائد والطقوس التي كانت سائدة في العرب وفي مجتمعهم، وما يعرفونها، وإن لم يكن هكذا لا يؤثر عليهم القرآن تأثيرا، يكون نتيجة العلم والمعرفة، ولو ذكرت فيه قصص آسيا وإفريقيا وأوربا لظنها العرب من الأساطير[14].

فهم القرآن وتدبره ليس مقصورًا على العلماء، بل كل واحد لا بد أن يأخذ حظه من القرآن، بحسب ما ييسره الله له، وبحسب ما معه من الفهم والعلم والإدراك؛ فالله تبارك وتعالى دعا عباده كلهم إلى تدبر القرآن وفهمه، لم يختص طائفة بذلك دون طائفة، ولو كان فهم القرآن وتدبره مقتصرا على فئة من الناس، لكان نفع القرآن محصورًا عليهم، ولكان الخطاب في الآية موجهًا إليهم.
قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه؛ وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله.

عن عبد الله بن عباس:

أنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال وحرام لا يعذر أحد بالجهالة به، وتفسير تفسره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى ذكره، ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب.[15] فالوجه الذي لا يعذر أحد بجهالته هو معرفة ما فيه من الأحكام الواضحة، والمواعظ الجلية المؤثرة، والحجج القوية البينة، والمعاني الكلية التي دلت عليها الآيات.

 كما أن في القرآن من الكنوز والأسرار، والمعارف والعلوم ما يختص به أهل العلم، كل بحسبه؛ فأهل اللغة يعرفون من دقائق إعرابه وبلاغته وأوجه البيان فيه، ما لا يعرفه غيرهم، والفقهاء يعرفون من أحكام الحلال والحرام فيه، وأوجه الاستدلال، وأنواع الأحكام، ما لا يعرفه غيرهم.. وهكذا.

ثم إن الحديث عن فهم القرآن وتدبره ليس معناه أن المسلم يجعل من نفسه مفسرًا، يتكلم في معنى كل آية، دون نظر في تفاسير أهل العلم، وفهمها الفهم الصحيح؛ لأن التفسير معناه بيان مراد الله، وهذا مقام خطير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)[16]، وقال أبو بكر الصديق: "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم؟"، قال الشعبي: "والله ما من آية إلا وقد سأَلت عنها، ولكنها الرواية عن الله"، وقال مسروق: "اتقوا التفسير؛ فإنما هو الرواية عن الله.
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف تدل على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، أو أن يقولوا فيه برأيهم، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعًا فلا حرج عليه.

من أراد التوسع فعليه تلاوة القرآن، والتدبر فيه بنفسه. ولا بد لنا أن نترك سعي التطابق بين العقل والنقل، وإن نتأمل في القرآن عن تزكية النفس وتدبير المنزل وسياسة المدن، وأن نتصوره كتاب الهداية إلى صراط مستقيم في هذه المجالات ونعمل به.



 سورة القصص آية 85[1]  

  سورة البقرة   آية    85 [2]

 سورة البقرة آية 208  [3]

  سورة البقرة آية 25[4]

سورة البقرة آية 82[5]

تفسير ابن كثير [6]

 سورة البقرة آية 277[7]

 سورة الإسراء آية 32[8]

، إسناده جيد رجاله رجال الصحيح    ، الهيثمي، مجمع الزوائد 1\134 تخريج الإحياء 2\411   العراقي [9]

 الألباني، السلسلة الضعيفة 1580، صعيف الجامع 5173، ضعيف، أخرجه ابن أبي الدنيا في الورع. [10]

 سورة النور آية 30 [11]

   [12]   الذهبي، ميزان الاعتدال 1\194، الهيثمي، مجمع الزوائد 8\66. فيه عبد الله بن إسحاق الواسطي وهو ضعيف، أخرجه الطبراني، 10\214، 10362، السفاريني الحنبلي،شرح كتاب الشهاب 434، ابو نعيم، حلية الأولياء، 6|107.

 سورة الإسراء آية 32 [13]

 امتياز علي عرشي، تفسير سفيان الثوري، ص 36، وإلى الدراسة الإسلامية من جديد، ص 169 من مجلة المجمع الهندي في سنة [14]

 ابن جرير الطبري، تفسير الطبري،1\42، ابن كثير، تفسير القرآن، 1\18، الألباني، السلسلة الضعيفة، 6163. [15]

 الترمذي، سنن الترمذي، 2950، حسن صحيح، البغوي، شرح السنة، 1\210،حسن. ابن الصلاح، فتاوى ابن الصلاح، 26،حسن. [16]



 

مواضيع ذات صلة
القرأن,

إرسال تعليق

0 تعليقات