ادعمنا بالإعجاب

التأثرية بين القديم والحديث الدكتور محمد مندور ( ١٩٠٧- ١٩٦٥) أنموذجا

أبو ذر      ) باحث بقسم اللغة العربية وآدابه جامعة على كره الإسلامية)

المقدمة

يعد المنهج  التأثري  أو الانطباعي منهجا  أدبيا قديماً  حيث  أنه كان همزة الوصل بين الأدب والبشر فى معالجة قضية التأثير للنص في المتلقي ،كما أن يهم الذوق الفردي ويعتبره أساساً بالنسبة للتأثير على شعور المتلقي، فإنه قد مر بمختلف العصور والدهور من بدايته إلى أن يبرز فى قالب مدرسة أدبية وفنية جديدة في أدبنا المعاصر مع مختلف المناهج النقدية والأدبية فى فرنسا التي كانت بمثابة المركز للنهضة العلمية والأدبية والثقافية والسياسية والموضوعية والعقلانية في كل مناحي الحياة الفكرية الحداثية كما أثرت على حقل الأدب والنقد الذى قد أصبح نوعاً من المعادلات الجبرية والكيمياوية،  وظهر على أرض فرنسا أساطين العلم والفن والأدب، كفيلسوف تين ١٨٢٨ – ١٨٩٣ وبرونتير ١٨٤٩ – ١٩٠٦ وسانت بيف ١٨٠٤ – ١٨٦٩، الذين أدوا دورا ملموسا في وضع اللبنة الأساسية للعلم في هيكل الأدب والنقد.

    وكان سانت بيف معجبا بمناهج البحث التجريبي كما أنه حاول أن يصبغ النقد الأدبي بصبغة علمية بحتة ويجعل منه أساساً للعلم1، وذهب تين بعيداً في النظرية العلمية وعد النقد علما كأي علم، وأما برونتير فكان متعصبا شديدا للعلم ويؤمن بنظرية دارون في التطور، ويعمل على تطبيق مذهب التطور فى الأدب  ويعتبر الأنواع الأدبية حية تنمو وتتطور حتى تبلغ الكمال ثم تضمحل حتى تموت أو تتحول كي تحيا ثانية2.

    ومن المعروف أن الأدب يتابع الحياة البشرية ويعالج قضاياها ويقوم مناحيها ويعرض الحل لمشاكلها الحياتية، وهو في الحقيقة علاقة جدلية بين الذات والموضوع، بين الشكل والمضمون، بين المعني والمبني، فكان المنهج الانطباعي رد فعل شديد للكلاسيكية التي قيدت الأدب بقيود ووضعت الموازين والمقاييس الموضوعية له.  

   ففي هذه الخلفية تطور المنهج الانطباعي على يد رسام فرنسي Claude Monet ١٨٤٠ – ١٩٢٦ حيث شاهد الجمال الطبيعي عند شروق الشمس من شرفة بيته  في مدينة "الهافر" بفرنسا، ثم قام برسم مجموعة الانطباعات التي استشعرها في نفسه عند مشاهدته بها بدون إضافة علمية أو موضوعية في عام ١٨٧٢، فعرضها كلود مونيه بعنوان "شمس  مشرقة" في قاعة "نادرا" وهي القاعة التي أطلق عليها (قاعة النتاج المفروض) في عام ١٨٧٤ بأمر من نابليون الثالث بعد ما رفضت على أنها ليست جديرة وقابلة للعرض ، وكان من أهم مرتكزاتها الضوء الذي يعد العنصر الجوهري في تشكيل الأحاسيس وإضاءة اللوحة بانطباعاتها3، وما لبث أن بدأ النقاد يكتبون ، هازئين، ساخرين ،لقد وجد أحد هؤلاء النقاد  Louis Leroyباسم لوحة مونه خير ما  يتنفس عن ضيقه، فكتب في ٢٥ نيسان ١٨٧٤ مقالة اسمها (معرض  الانطباعين) وذهبت الكلمة دليلا للسخرية، وكادت تصير مصطلحا بهذا المعني، ولكن إيمان المجددين بعملهم هداهم إلى ما هو أقوي من سخرية الساخرين ويزيل المعني الهجائي من فنهم وينقل المصطلح من الذم إلى الدلالة على مدرسة ذات منهج خاص، وإلى الفخر والمدح أحياناً، فأطلقوا على أنفسهم الانطباعين4.

    فالانطباعية تشكلت كمدرسة فنية تشكيلية التي سادت على سماء العلم والأدب والفن كرد فعل للمناهج العلمية بحتة، وتسربت منها إلى مجال الأدب، وسرعان استطاعت أن تنسج شبكة الاتجاه النقدي الجديد الذي عرف بالاتجاه الانطباعي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين5.

   وإذا ندقق النظر في داخل منهج انطباعي نجد بأنه مدرسة في الفن والأدب تقوم على أن يعيد الفنان او الأديب الانطباع الذي حصل في نفسه ووصل إليها خلال الحواس كما أحس به، وهو في الفن أن يعيد الرسام الانطباع الذي تركه فيه منظر من الطبيعة او المجتمع، وفي الأدب أن يعيد المنشئ الانطباع في شكل من الأشكال، وكذلك في النقد الأدبي أن ينقد الناقد النص بالانطباع الذي تركته في نفسه قراءة النص، بدون استخدام العقلية والموضوعية6.

    دخلت الإنطباعية في العالم العربي تحت مسميات شتي كالتأثرية، والنقد الذاتي ،والنقد الذوقي ،والنقد الانفعالي أحياناً، فكان المنهج بدوره نقد ذاتي غايته إبراز صورة الأثر الانعكاسي للنص على الناقد الذى يقوم أساسا على الذوق الفردي بوصفه منطلقا مباشرا لالتقاط التموجات الجمالية للنص في كيفية انعكاسها على الذات الناقدة، مع تجاوز المعايير المتعارف عليها، وإسقاط الوساطة الموضوعية بين النص والناقد، وعدم التزام الناقد بتبرير الأحكام المجملة التي يفضي بها7 فمعني التأثرية بدورها هو "تجاوب القارئ مع المؤلف وما يثيره هذا التجاوب المباشر من مشاعر ساذجة تلقائية طليقة لا غاية لها سوى الدلالة على الخواطر الباطنة للناقد نفسه"8.

     ومن المعروف أن الانطباعية كانت لها صلة قوية بالمذهب الرومانسي الذي مهد لها سبيل التطور والازدهار، كما يقول وليم وردزورث ١٧٧٠ – ١٨٥٠ الرائد الرومانسي الانجليزي إن الشعر الصادق هو النتيجة الطبيعية للانسياب التلقائي والعفوي للانفعالات التي تجتاح الشاعر، ومن هذه النقطة تمخضت المدرسة التأثرية الانطباعية لأن الانسياب التلقائي هو همزة الوصل بين المدرستين، وكذلك محمد مندور يعد الرومانسية الحافز الأكبر في ظهور المذهب التأثري الذي تدعمه أساساً وتغذيه للانطلاق9.

    ولذا نري أن الفكرة الأساسية في المنهج التأثري هو الإنسان الذي يعيش مكبلا بشخصيته الداخلية، ولم يكن لديه أي مقياس لأن يزن أفكاره وأفكار غيره سوي الأثر الذي تركه النص على صفحة قلب الناقد أو الفنان، ومن ثم قاما بنقل ذالك الأثر المرتب عليهما عند اتصالهما به إلى وجدان المتلقي بشكل مباشر.

    ومن هنا توزعت الانطباعية  بين مدرستين، الانطباعية التشكيلية والانطباعية الأدبية، فالأولى تتجلى في التضحية بالمضمون من أجل الشكل، وفي حين الثانية تضحي بالشكل من أجل المضمون، فالفنان التشكيلي يستخدم اللمسات السريعة والضربات المركزة بالفرشاة بهدف الحصول على تأثيرات قوية وسطوح زاخرة بالأضواء والألوان ذات الملامس المثيرة، في  حين يصر الأديب الانطباعي على الإطناب والتطويل والتغني بانطباعاته الشخصية، وفي إطار واضح نرى أن المنهج الانطباعي التشكيلي بدوره يقوم على أسس علمية، تتراوح بين الضوء وتحليله، وأما المنهج الانطباعي الأدبي يخلو بشكل متكامل عن كل المعايير العلمية فيما يخص المجال النقدي طبعاً10.

     قال أنا تول فرانس ١٨٤٤ – ١٩٢٤  الرائد الانطباعي في الأدب  أن قيمة  أي عمل أدبي تكمن في نوعية الانطباعات التي يتركها في نفس القارئ، ثم يعين وظيفة الأديب بأنه يضع هذه الحقيقة نصب عينيه لأن الانطباع هو الدليل الوحيد على الوجود الحي للعمل الأدبي11، نلاحظ أن الانطباعية تؤكد على الإحساس والشعور الذي يستشعره الناقد التأثري للحكم على النص الأدبي الذي قد يختلف عن شخص لآخر متبنيا على الذوق الفطري المتباين بتباين الأشخاص، فالذوق هو الجوهر الحقيقي الذي يدعم الناقد التأثري ويساعده للحكم على النص الأدبي، فيستخدم ذوقه الفني في تمييز العمل الجيد من العمل الردي12.

     نجد بصمات النقد التأثري مبعثرة في الزمن الغابر فيما يخص التراث الإسلامي العريق حيث استخدم النقاد المنهج الذوقي التأثري لإصدار الأحكام على النص الأدبي متمتعين بالذوق الفطري الذي كان هو جوهره الأصلي المتمثل في كيان النقد الأدبي القديم، بل إنما هو معيار حقيقي ومقياس أساسي للنقد، وقامت عليه العمارة النقدية القديمة عندهم التي تعتمد على قضية التأثر والتأثير.

ملامح التأثرية في التراث العربي القديم

ومن صور النقد الأدبي عند العرب الجاهلين ما روي أبو عمر الشيباني أن حسان أنشد عمرو بن الحارث الغساني قصيدته التي مطلعها:

أسألت رسم الدار أم لم تسأل             بين الجواني فالبضيع فحومل

فأعجب بها إعجابا شديدا " فلم يزل عمر بن الحارث يزحل عن موضعه سرورا حتي شاطر البيت وهو يقول: هذا، وأبيك، الشعر... هذه والله، البتارة التي قد بترت المدائح، أحسنت يا ابن الفريعة"13 ومثل ذلك نجد عند النابغة الذبياني: يقول حسان رضي الله عنه :" جئت نابغة بني ذبيان، فوجدت الخنساء حين قامت من عنده، فأنشدته، فقال لي : إنك لشاعر، وإن أخت بني سليم لبكاءة"14.

    وفي عهد الخلفاء الراشدين يختلف الوفود إلى المدينة، فتحدث الخليفة مع الوفود مؤانسة لها وحبا لها، وأخص الخلفاء في ذلك كان عمر، تحدث مرةً مع وفد غطفان فقال: يا معشر غطفان، أي شعرائكم الذي يقول:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة                  وليس وراء الله للمرء مذهب

لئن كنت قد بلغت عني خيانة                لمبلغك الواشي أغش وأكذب

ولست بمستبق أخا لا تلمه                 على شعب اي الرجال المهذب؟

قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين. قال. فأيكم الذي يقول:

فإنك كالليل الذي هو مدركي             وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

خطاطيف حجن في حبال متينة            تمد بها   أيد    إليك      نوازع

قالوا: النابغة. قال: فأيكم الذي يقول:

إلى ابن محرق أعملت نفسي             وراحلتي وقد هدت العيون

أتيتك عاريا   خلقا     ثيابي             على خوف تظن بي الظنون

فألفيت الأمانة   لم    تخنها                كذلك كان نوح لا يخون

قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين. قال: هذا أشعر شعرائكم15.

   نري أن أحكام النقاد العرب القدامى كانت متبنية على الذوق الفطري بدون التعليل والتحليل كما يقول الدكتور عبد العزيز عتيق في هذا الشأن "إن النقد العربي القديم بدأ تأثريا"16 مما يدل على أن الشعراء الجاهلين لهم نزعة تأثرية، وكان نقده قائم على الإحساس بأثر الشعر في النفس، وعلى مقدار وقع الكلام عند الناقد فالحكم مرتبط بهذا الإحساس قوة وضعفا، .... وكانت ملكة النقد عند الجاهلين هو الذوق الفني المحض، فأما الفكر وما ينبعث عنه من التحليل والاستنباط فذلك شيء غير موجود عندهم17.

   وخلاصة القول أن النقد الأدبي في الرصيد العربي القديم كان نقداً ذاتيا وتأثريا وانبنى  هيكله على السذاجة والبساطة، ويتمحور حول أجزاء مختلفة نبعت من داخل المجتمع الجاهلي البسيط مما دفعهم إلى إصدار الحكم بدون تعرفهم على الأسباب والعلل للنقد، ويتمثل  معطيات النقد عندهم في الجزيئات والارتجال في الحكم والفطرة والسذاجة مما يدل على أنهم كانوا أمة الفطرة والسذاجة، فليس لديهم عقل ناضج وعلمي يدقق ويحلل الأشياء ويعرف السبب لجميع الأحكام الصادرة منهم كما يكون لدي الأمم الراقية التي تعتمد على تنظيرها العلمي والعقلي في الأمور الحياتية، فأما العرب فكانوا يعرفون الحياة الصحراوية فقط ولم يكن لديهم معرفة موضوعية بمختلف ألوانها التي يتمتعها الحضر والأمم الراقية.

 

المنهج التأثري عند محمد مندور( ١٩٠٧ – ١٩٦٥)

الدكتور محمد مندور ناقدا عربيا كبيراً أنجبته مصر ولا تختفى مجهوداته  في النقد العربي الحديث  من الدارسين للأدب والنقد كما أنه أحرز المكانة المرموقة بين النقاد والأدباء فى الوطن العربي، وكان ناقدا جماليا يؤمن بكرامة البشرية وفضائلها، فلا بد لنا أن نقف هنا وقفة متأنية لنتعرف على الفترة التي قضاها محمد مندور كطالب في فرنسا، وكيف تكونت شخصيته عبر وجوده في فرنسا، وإلى مدى تأثر هو بفرنسا التي لها علاقة وطيدة بالمنهج الانطباعي والتأثري  الحداثى  الذي نحن بصدده.

مندور في فرنسا

سافر مندور إلي فرنسا في البعثة العلمية ليحصل علي الليسانس من السوربون في الآداب واللغات اليونانية القديمة واللاتينية وفقهها المقارن في سنة ١٩٣٠ مع الحضور في محاضرات المستشرقين وتحضير دكتوراه في الأدب العربي مع أحدهم18، وفي اول الأمر إنه قد فشل في الكشف الطبي لضعف بصره فساعده طه حسين على ذلك، وذهب بنفسه إلي وزير المعارف آنذاك (حلمي عيسى) وطلب أعفاء مندور من هذا الكشف ونجح في تحقيق هدفه، فقدر على السفر إلي باريس، وكان مندور معترفا بذلك طول حياته19.

     فحصل مندور في فرنسا على الليسانس وافتتن بدراسة الصوتيات فيقول عن حديثه بها "وكان يقتادني إلي معمل الصوتيات الذي يجري فيه تجاربه علي عروض الشعر العربي، ويشرح لي طريقة استعمال الكينوف غراف والزيتونة الأنفية في قياس التفاعيل والسواكن والحركيات بتسجيل الذبذبة الصوتية20، واطلع علي آراء عالم الأصوات الفرنسي الشهير (أنطوان مييه) وتعرف علي نظريات الألسني السويسري فرديناند دي سويسر، وانصرف إلي التخصص في الفنون، والاقتصاد السياسي ودبلوم في القانون والتشريع المالي، بعد دراسة مفيدة جدا لمذاهب الاقتصاد وفلسفته، والنظم الضريبية  كما يقول "كان لها أكبر الأثر في تكويني الثقافي، كما كنت أحضر محاضرات الفلسفة والتاريخ والاجتماع وعلم النفس بالإضافة إلى البرامج المقررة21.

     ذكر مندور مدينة باريس بالنسبة إلي كيفية تأثره بها في أسلوب جميل ممتع، وكيف اختلط بالفرنسيين وانضم إليهم إلى حد بأنه بدأ التفكير باللغة الفرنسية دون العربية التي كانت لغته الأم فيتحدث عن ذلك "باريس مدينة بالغة الخطورة ،فيها الجد والصرامة ،وفيها المغريات المهلكة ،وقد أخذت من الإثنين بطرف ،والغريب أن المغريات أفادتني كثيراً من الناحية العاطفية والثقافية ،لأنها مكنتني من الاختلاط بدهماء الفن والأدب في مونبرناس والحي اللاتيني ،وفي غلب الليل حيث الأحاديث التلقائية والاعترافات الصادقة في ساعات الحظ ولمس نفوس البشر عن قرب عارية صريحة غير مقنعة ولا متوارية.... إلي أن نحيا في باريس حياة جافروش الطفل الخالد في رواية فيكتور هوجو الكبيرة ( البؤساء) وعندما تنفد نقودنا في أواخر الشهر لا نهتم بذلك كثيراً، فكنت أعرف في أزقة الحي اللاتيني مطاعم صغيرة تشبه المسامط في القاهرة، فكنا نذهب إلى المسمط حيث يشتري كل منا ببضعة فرنكات قطعة كبيرة من اللحم المسلوق، ثم نشتري الخبز من المخبز ونذهب إلي حديقة لوكسمبورج ونجلس علي أحد مقاعدها ونلتهم طعامنا بلذة "لا تعدلها لذة مليونير علي مائدة فاخرة...) إلي أن يقول (كنت في باريس أحاول أن لا ألتقي بإخواني المصريين إلا في حالات الضرورة، وأختلط طوال الوقت بالفرنسيين وغيرهم من الأجانب المقيمين في باريس تجنبا لمواصلة الحديث باللغة العربية، بل انتقلت إلي التفكير باللغة الفرنسية... ومع كل ذلك فمن المؤكد أن لغة التفكير – لا لغة الكلام فحسب – هي التي كونت النقلة الكبيرة في منهج تفكيري العام، بل وإحساسي أيضاً، فاللغة هي ضابط الاحساس كما هي ضابط الفكر، والانسان لا يعي إحساسه ولا يتبينه  إلا إذا استطاع أن يسكنه اللفظ المحدد الدال....

   وكذلك ساعده منهج الدراسة للأدب في سوربون الذي يعتمد علي تفسير النصوص، وهذا المنهج آمنا بالدقة والارتكاز علي ما يشبه الحقائق المادية الملموسة المرتكزة  في النص ذاته، وكان نص لأحد أعلام الأدب يغري مندور والطلبة الآخرين بالبحث عن المؤلفات الأخري لنفس الكاتب وقرائتها ومحاولة تفسيرها وفهمها علي أساس المنهج الذي استخدمه أساتذتهم، ثم يقول عن الجو المهيمن على سماء باريس المصحوب بحرية الفكر الذي يهيأ له الفرصة الثمينة لتوسيع الآفاق ويفتح أمامه أبواب مختلفة لكسب المعرفة والعلوم والثقافة "ومما لاشك فيه أن جو الحرية الفكرية الواسعة المنتشر في سماء باريس وأرضها كان له أثر فعال في تفتيح نوافذ النفس علي كافة الآفاق فضلاً عن أنني لم أقتصر علي القراءة بل أحسست أن في المشاهدة منبعا لمعرفة لا يقل أهمية عن القراءة إن لم يفقها أحياناً، ولذلك لم أكن أمكث في باريس بعد انتهاء العام الدراسي، بل كنت أغادرها للتنقل إما في أرجاء فرنسا وإما في الدول العربية الأخرى، وكان للمشاهدة وقع السحر في نفسي، فما زلت أذكر مثلاً كيف تحول وصف فلوبير لكنيسة مدينة ( روان ) في إحدى قصصه إلي حقائق حية نابضة موحية عندما زرت تلك الكنيسة، وشاهدت القصص الدينية التي نقشت علي نوافذها لتحكي قصة القديس (سان جوليان) وعندما وصلت إلى الدار الريفية المتواضعة التي اعتزل فيها فلوبير إلي جوار (روان) في شمال فرنسا مدة خمس سنوات ليكتب فيها روايته الخالدة (مدام بوفاري) خيل إلي أنني أمام معبد رهيب22.

فرغ مندور من دراسة اللغة اليونانية القديمة في عام ١٩٣٦، فأراد أن يزور بلاد اليونان لكي يعيش في داخل روحها القديمة ويدرك الكيفية المبطنة فيها حسب ما تلقاها من خلال الكتب الدراسية فكان طالبا يري إلي الأشياء بنزعته التطبيقية التي تعتمد على التطبيق فعليا دون النظرية المصحوبة منازع الجفاف والشدة، فقد قام بزيارة بلاد اليونان رغم اعتراض مدير البعثة في فرنسا الذي كان يعتقد أن هذه الزيارة ليست سوي العبث وضياع الوقت، فيقوم بهذه الزيارة، ولم يعبأ بغضب مدير البعثة في باريس وتحذيره له بألا يقوم هذه الرحلة، فيري الآثار اليونانية ويتأملها ويقارن بينها وبين ما يدرسه في الجامعة، فلما أصر مندور علي رحلته قرر المدير إيقاف مرتبه و العمل علي طرده من البعثة نهائيا، ظنا منه أن رحلة مندور إلي اليونان لم تكن الا نوعاً من العبث الذي لا يليق  بطالب ناضج، واستطاع مندور بعد جهد كبير أن يعيد تسجيل اسمه من جديد بين طلاب البعثة.

    فيقول مندور عن هذه الحادثة،" عدت من هذه الرحلة التي تفوق في أهميتها قراءة ألف كتاب لأفاجأ بمدير البعثة وقد أوقف مرتبي لأنني خالفت رأيه، وعلمت كذلك أنه كتب إلى الجامعة بطلب فصلي من البعثة... ولحسن الحظ كنت قد وفقت إلي ما لفت نظر الحكومة القائمة وقتذاك ثم نظر مدير الجامعة المرحوم أحمد لطفي السيد23، فقد كتبت عدة مقالات نشرتها في الصحف الفرنسية أنبه فيها الفرنسيين إلي معارضة حكومتهم في إلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر ستجعلهم يخسرون وضعهم وحب أهلها لهم، ورد علي وكيل وزارة الخارجية الفرنسية وكان يرأس الوفد الفرنسي في مفاوضات مونترو، فعقبت علي ما كتب واستمر الأمر بيننا سجالا حتي ثاب الفرنسيون إلي رشدهم وسلموا بما لم يكن منه بد وهو إلغاء الامتيازات الأجنبية بالطبع، تابعت السفارة المصرية هذه المساجلة الهامة وأبلغتها إلي وزارة الخارجية في القاهرة، وحدث أن مر الوفد المصري للمفاوضات بباريس عائدا من لندن عقب توقيع معاهدة ١٩٣٦. وكان يضم الرئيس السابق مصطفى نحاس، والمرحوم عبيد مكرم، وعلى شمسي وشرحت له المأزق المالي الذي وجدت نفسي فيه دون مرتب، فدهش الرجل وقادني إلي عبيد مكرم وأخبره بما حدث وأبدي استهجانه لتصرف مدير البعثة، فما كان وزير المالية إلا أن أخرج ورقة بيضاء من جيبه وكتب عليها أمرا بصرف مرتبي فوراً وبذلك انحلت الأزمة"24.

عاد مندور إلي مصر الحبيبة في عام ١٩٣٩، غير أن يحصل على شهادة الدكتورة بسبب اكفهرار الجو السياسي، كما ذكر مندور" ولكن لم أقدم الدكتوراة لأن الجو السياسي كان قد اكفهر في أوربا عقب فشل مفاوضات تشمبرلين المشهورة مع هتلر، وأحسسنا أن الحرب قائمة لا محالة، ففضلت العودة إلى مصر دون أن أكتب رسالة الدكتوراة وقدمتها بعد ذلك في الجامعة المصرية"25.

مندور في مصر

     إن حياة محمد مندور مفعمة  بمعان عديدة حيث أنها تتشعب وتزخر بأحداث كان لها الفضل الأكبر في تنضيج تفكير مندور الثقافي والنقدي، فإنه مر بمراحل مختلفة في منهجه النقدي مرورا بنزعته الجمالية الانسانية  والأيدولوجية الواقعية وصولا إلي منهجه الوصفي التحليلي القائم علي التفسير والتبسيط والوصف والفهم والاستفهام، ويقول عن ذلك مستجيبا لفؤاد دواره حيث سأله عن المراحل التي مر بها كناقد أدبي " لقد مررت بثلاث مراحل: الأولى تتمثل في المنهج الجمالي في النقد، وكنت أركز فيها على القيم الجمالية في النص الأدبي وفي الشعر بصفة خاصة لأنه الفن الأدبي الذي يعتبر أكثر جمالية من أى فن أدبي أو ذاك مضمونا انسانيا معينا قد يرضي عنه الناقد وقد لا يرضي، أما الشعر فمن الممكن أن يعتبر فنا جماليا خالصا، والجمال أكبر قيمة فيه"26.

      يبدو لنا أن طريقة تفكيره تتغير وتتشعب حسب الزمان والمكان والوقائع والأحداث التي عاشها من خلال خوضه في معركة الحياة الأصيلة، ففي المنهج الذوقي التأثري استند الي الجمال الكلاسيكي الإغريقي الذي مر بتجاربه خلال وجوده في فرنسا كطالب للآداب، ولم يكن طالبا نظريا فحسب بل إنما هو آمن بنظرة التطبيق العملي، فلأجل ذلك زار بلاد اليونان وتجول فيها وعاش مع روحها إذا كان طالبا في فرنسا، وإليك قصة زيارته إليها التي تدل علي نشاطه الفكري والإنساني "وبعد أن فرغ من دراسة اللغة اليونانية قام بالسفر إلي بلاد اليونان لكي يعيش بين روح الجمال الاغريقي ويتنفس في أجواء الحب والجمال كما قرأها في دروس الجامعية بفرنسا، فكانت هذه الزيارة رغم اعتراض مدير البعثة في باريس، فزار الأكروبول في أثينا وأكاديمية أفلاطون والغابة المقدسة التي لجأ إليها أوديب، والمعبد الخاص لإله (أبوللو) مما شربه الروح الهيلينية، فهي روح تمتاز بالصفاء وهدوء القلب وحرارة الفكر وانفعاله، لأن اليوناني القديم كان يحس بعقله ويدرك بقلبه، ففي عقله حرارة العاطفة، وفي قلبه ضوء العقل"27.

      ولما عاد مندور إلي مصر فبدأ مندور يفكر علي الطريقة التي كانت سائدة علي أروبا، ويحب أن يدخل الأدب العربي في تيارات معاصرة من حيث الموضوع والوسائل ومنهج الدراسة، الذي - أساسا – منهج تفسير النصوص الفرنسي، المتبني علي الذوق والتأثر، فالفترة مابين ١٩٣٩-١٩٤٤  فترة معارك أدبية خاضها مندور متسلحا بالمنهج التأثري ويدافع عنه بقوة وحماسة، فكان أكبر ناقدا جماليا عرفها مصر أحب أن يطبق منهجه التأثري على الساحة الأدبية المصرية التي تتراوح بين عقلية العقاد وعلميته ، كما أنه اخترق آفاقا رحبة للأدب والنقد، ويتمحور هذا المنهج في كتابيه الشهيرين المعروفين، بالنقد المنهجي عند العرب "وهو – أساسا - مقالته الدكتوراه، التي كتبها بعنوان "تيارات النقد العربي في القرن الرابع الهجري " وكتاب " الميزان الجديد" الذي – في الواقع - مجموعة مقالات تتناثر علي صفحات، "المجلة" والثقافة " ويتبلور أفكاره النقدية والأدبية علي صفحاتها التي كانت نتيجة معارك أدبية قامت بينه وبين النقاد الآخرين، وكذلك قام بترجمة كتاب لانسون وماييه بالعربية بعنوان، "منهج البحث في الأدب واللغة "الذي يدور حول منهج الذوقي التأثري الفرنسي اللانسوني، وكان هو أكبر حافز لاتخاذ مندور المنهج الجمالي الانسانوي.

     انطلق مندور من نقطة حيث يعرف الأدب قائلا، "الأدب عبارة فنية عن موقف إنساني عبارة موحية"، فيستقي تعريفه للأدب من تعريف الأستاذ لانسون وهو" المؤلفات التي تكتب لكافة المثقفين وتثير لديهم بفضل خصائص صياغتها صورا خيالية أو انفعالات شعورية أو احساسات ففنية28، فيرى أن الأدب هو الصياغة الفنية  أولا و التجربة البشرية ثانيا، إن الصياغة الفنية تتمثل في الاسلوب الفني،  وعندما أمعنا النظر في التعريف، فنجد أن العبارة الفنية تمثل التعبير الفني والصياغة الفنية، فهذا  من جانب "الشكل من الأدب" وقطعة أخرى من الجملة تؤكد المعني الداخلي للأدب وهو المضمون والمحتوى، وهو في الواقع موقف إنساني أو تجربة بشرية، الأدب دون التجربة لا يكون  أدبا بل انما هو نوعا من الفلسفة والموقف النظري، فيكون تاريخا ويكون علما اجتماعيا، يكون كل شيئا سوي الأدب،  ومن هنا يتبين تياره الجمالي والإنساني الذي ينتمي إليه.

     ويورد مندور مثالا لتفهيم ذلك الجوهر الأساسي للأدب، فيقول،" إن وقت الظهيرة قد  حان،" فلقد أدي المعني بجملة مفيدة ولكن الشاعر أعشي يقول، "وقد  انتعلت مطي ظلالها" وهذه الجملة أيضا تؤدي نفس المعني ولكن بأسلوب فني جميل، فمن هنا يختلف أسلوب الفني من الأسلوب العقلي الذي يعتمد علي التاريخ والفلسفة والعلم، ويلصقه مندور مصطلح " أدب الفكرة "فالأدب عنده غير التفكير الفلسفي وهو غير التاريخ وغير النظريات الأخلاقية أو الاجتماعية أو السياسية"29 هذا من جانب الشكل والأسلوب والصياغة، ومن جانب آخر هو المحتوى والمضمون الذي ينبض من داخل نفس البشر، والتجربة البشرية، فمن لا يمر بتجربة الحياة فكيف يخلق الأدب، وكيف يؤدي المعني الذي لم يجربه، الأدب  موضوعه الإنسان، وغايته فهم نفس البشرية، الأدب يشرع من البشر وينتهي به.

     فمن خلال هذه النزعة دعا محمد مندور إلي نوع خاص من الأدب الذي يعرف بالأدب المهموس الذي أحدث ضجة بين الأوساط العلمية والأدبية في ذلك العصر، ونجح في التفات نظر العلماء والأدباء إلى إيجاد وعي نقدي وأدبي جديد ،فأدب المهموس لم يكن شئ جديد بل يعرفه الناس من القديم ولكن الدكتور محمد مندور بذاته شكله كمدرسة أدبية جديدة في أدبنا المعاصر، فأدب المهموس هو الذي يتناول التواضع والرقة والتلطف دون الطنطنة والجعجة  التي من خاصيات الخطابة الزائفة، الهمس هو احساس وشعور عجيب يناجي به الشاعر عن داخل نفسه، فيقول مندور واضحا معالمه وملامحه، "الهمس في الشعر ليس معناه الضعف، فالشاعر القوي هو الذي يهمس فتحس صوته خارجا من أعماق نفسه في نغمات حارة، والهمس ليس معناه الارتجال فيتغنى الطبع في جهد والا أحكام صناعة، بتأثير عناصر اللغة واستخدام تلك العناصر في تحريك النفوس وشفائها مما تجد، وهذا في الغالب لا يكون من الشاعر عن وعي بما يفعل"30.

     الهمس – في الواقع – نقيض الخطابة، الهمس هو التهذيب والنفس المصقولة المتواضعة الخالية من الادعاء والحدة والغرور، الهمس هو التواضع والرقة واللين فهذا صفات انسانية، وإنما الخطابة فهي علامة من علامات الامتلاء بالنفس والاعتداد والغرور، ذكر رجاء النقاش قصة جميلة لإثبات الفرق الواضح بين الهمس والخطابة، فيقول "أن الزعيم الهندي نهرو يروي في مذكراته متحدثا عن زملاءه الذين كانوا يدرسون في إنجلترا في أوائل هذا القرن، لقد كان الطلاب يعقدون مؤتمرات وطنية عديدة في لندن، وفي هذا المؤتمرات كان هناك عدد من الذين احترفوا الخطابة والصخب والتطرف والعنف، وكان صوتهم أعلى الأصوات في تلك المؤتمرات، وكانت كلماتهم أكثر الكلمات جذبا للأنظار والأسماع بما فيها من ضجة ودعوة عالية إلي محاربة الاستعمار، بينما كانوا هناك آخرون يقدمون الملاحظات الهادئة البسيطة الدقيقة، وكان هؤلاء لا يحظون بالاهتمام كالآخرين ولا يلفتون النظر، ولكن نهرو لاحظ بعد عودته الطلاب جميعا إلي الهند أن أكثر المتعاونين مع السلطات الإنجليزية هم هؤلاء الخطباء الصاخبون ذوو الاصوات العالية المتحمسة المندفعة بينما كان الآخرون من ذوي الأصوات الهادئة الوديعة أقرب إلي الصواب والوطنية الصادقة من غيرهم"31.

     فالهمس كما يعبر مندور نفسه" ليس واضحا في ذهنه تمام الوضوح، لأنه إحساس أكثر منه معنى، " ولكن هذا الإحساس على أي حال هو إحساس صادق يمكن إدراكه إدراكا وجدانيا صحيحا وإن لم نستطيع إدراكه إدراكا عقلياً كاملا32، ففي هذه الدعوة كان مندور انسانيا خلصا، ويري البشرية من منظور إنساني آمنا بكرامته وفضائله تقديسا الجمال الإنساني.

     فانطلق مندور في مسيرته النقدية من منظور نقدي جديد معتمدا علي أسس القيم الجمالية التي تري النقد أداة تعمل في خدمة الأدب الجمالي الانساني، فيدعو إلى اتخاذ منهج الذوقي التأثري الذي يدعمه الذوق والتأثرية كما ينصح لمن يتابع القيم الجمالية في الأدب قائلا " والناقد الذي يبحث عن القيم الجمالية قبل كل شيء لا بد أن يكون ناقدا تأثريا أى يعتمد في نقده أساساً على الانطباعات التي تخلفها الأعمال الأدبية على صفحة روحه"33.

   فكان مندور متحمسا شديدا لمنهجه الخاص الذي كان يعرف على الساحة الأدبية بالمنهج التأثري، ويدافع عنه طول حياته وأحب أن يطبقه على الأدب العربي و بذلك يعرف الأدب بأنه " مفارقات" يختلف باختلاف النفوس التي قامت بإبداعه، فالشعر لا ينبغي النظر إليه على أساس أنه أوزان، وبحور وقواف فقط، كما أنه ليس قيما جمالية فحسب، بل إنما هو معاناة وشعور، وإحساس، وهذه المفارقات ليست لها معادلات جبرية، والجمال بطبعه لا يقنن له34 وهذه النظرة للأدب عند مندور كان أكبر حافز له لإتخاذ المنهج التأثري في النقد الأدبي الذي لا يقوم على الموازين والمقاييس الموضوعية، فكان النقد عنده فن خاص بدراسة الأدب الذي يختلف باختلاف الناس ويختلف الأحكام باختلاف الذوق للناقد.

       يعتمد هذا المنهج كثيراً على التذوق الشخصي الذي يختلف تمام الاختلاف عن شخص آخر، ففي إطار ذلك يري مندور التراث العربي القديم متبنيا على الذوق بصفته أساسا لكل النقد الأدبي المتواجد في تلك حقبة من الزمن، فيري مندور الآمدى بصفته ناقدا ذوي الفن الخاص، لأن وسائل نقد الآمدى فهي المعرفة والذوق وهو في الكثير من نقده يقوم على معاني إنسانية وذوق دقيق وإدراك نزعات النفوس35.

      فالذوق عنصر أساسي عند محمد مندور واللبنة الأساسية لهيكل النقد متأثرا بمدرسة اللانسونية التي تنطلق من هذا المثال البسيط حيث تقول "لن نعرف قط نبيذا بتحليله تحليلا كيمياويا أو بتقرير خبراء دون أن نذوقه بأنفسنا"36.

      ولا يطلق مندور العنان للذوق إلى أن يكون لعبة بل إنما يقرر له الدربة الخاصة والممارسة الطويلة لإصدار الأحكام على النص الأدبي، ومن هنا لا يغفل الجانب العقلي في النقد ولا يسرف إسراف الغربيين من النقاد كأستاذه "استروسكي" بل كان مقتنعا بأن الذوق لا بد أن يدعم بالمعرفة37.

ويعد مندور هذا المنهج من أقدم مناهج النقد الأدبي حيث يقول " إن أقدم منهج للنقد ظهر في التاريخ القديم، كان المنهج التأثري الذي صاحب ظهور فنون الأدب المختلفة وخاصة فنون الشعر، ولكن هذا المنهج كما قلنا لم يختف قط، بل ظل قائما وضروريا حتى اليوم"38،

     ومن خلال تنظيره النقدي نلمس الدعوة الصريحة لإتخاذ المنهج باعتباره لا يزول ولا يضمحل بل يجري على الطريقة القديمة وينفع ما دام مهمة الأدب التأثير في الناس39، فكذلك نلاحظ مندور يغضب على من يقلل أهمية هذا المنهج باعتباره منهجا قديماً لا ينسجم بطبيعة العصر الحديث ولا يستوفي مقتضيات العصر فيقول مندور " فالمنهج التأثري الذي يسخر منه اليوم بعض الجهلاء، ويظنونه منهجا بدائيا عتيقا ،باليا، لا يزال قائما، وضروريا، وبديهيا ،في كل نقد أدبي سليم، ما دام الأدب كله، لا يمكن أن يتحول إلى معادلات رياضية، أو إلى أحجام، تقاس بالمتر، أو السنتي، أو توزن بالغرام أو الدرهم"40.

ولما عاد مندور من فرنسا فلم يلبث أن خاض في مناقشات حادة جرت بينه وبين زكي نجيب محمود والعقاد والأستاذ خلف الله، وكان موضوع المناقشات النظريات المختلفة السائدة على الأدب فكل من زكي نجيب محمود والعقاد وخلف الله يرجحون العلمية المستهدفة إلى إتخاذ ماهو ينفع للأدب من جهة التطور والإزدهار في بوتقة الحياة الجديدة، ويرجح مندور المنهج التأثري الجمالي الذي يتمثل في الذات الآني، فكانت المعارك بين العقلانية والذاتية، بين الوجدان والفكر. ففي إحدي الندوات سئل محمد مندور عن البصمات التي تفرق بين مدرسته وبين مدرسة العقاد، فأجاب مندور قائلا: إن مدرسة الأستاذ العقاد تأخذ بمنهج التفسير النفسي للأدب.... على حين اننا نرى للأدب قيمة جمالية أخري تناءى بنا عن النزول على مستوى ذلك التفسير41.

فيري مندور من خلال تنظيره النقدي هذا المنهج أساسا للنقد الذي يجب أن يقوم عليه كل نقد سليم وذلك لأننا لا يمكن أن ندرك القيم الجمالية في الأدب بأي تحليل موضوعي ولا بتطبيق أيه أصول أو قواعد تطبيقا آليا، وإلا لجاز أن يدعي مدع أنه قد أدرك طعم هذا الشراب أو ذاك بتحليله في المعمل إلي عناصره وإنما تدرك الطعوم بالتذوق المباشر، ثم نستعين بعد ذلك بالتحليل والقواعد والأصول في محاولة تفسير هذه الطعوم وتعليل حلاوتها أو مرارتها على نحو بعين الغير علي تذوقها والخروج بنتيجة مماثلة للنتيجة التي خرج بها الناقد بفضل ملكته التذوقية  المدربة المرهف السليمة التكوين42.

      في رأيه أن النقد الأدبي في أدق تعريفاته هو أولا وقبل كل شيئا فن تمييز الأساليب باعتبار أن أسلوب الرجل هو الرجل نفسه، وهناك مفارقات لا تنتهي بين كل نظري من أنواع الأساليب، فالأسلوب الساخر، منه المر ومنه الحلو، ومنه المتشائم منه المتفائل....... والناقد الناجح هو الذي يحس بهذه المفارقات ويبرزها ليميز كاتبا كبيراً عن آخر وبذلك يحدد أصالته ولونه النفسي المتميز عن ألوان النفوس الأخر43.

     وفي بداية تعرفه على النقد التأثري كان يؤمن بأن الذوق لا يمكن تعليله من جانب كبير، ولكن تطور هذا الإيمان الضيق بشكل كبير في مرحلة لاحقة، ثم قام بتمييز مرحلتين متكاملتين، مرحلة الذوق الفردي ومرحلة التبرير والتفسير الموضوعي44.

    فهذا المنهج الذوقي التأثري المندوري يتبنى من مرحلتين، مرحلة التأثرية ومرحلة التفسير والتحليل، يقول مندور أن التأثرية هو أن نقوم بقراءة متأنية دقيقة بارزة لكي أبرز الانطباعات التي خلفها في نفسي ثم أفسر انطباعاتي وتبريرها بحجج جمالية وفنية يمكن أن يقبلها الغير، فإنه لا يطلق ذمام الذوق مطلقا أن يشمل فيه العنصر الذاتي الذي يسبب لإفساد الذوق الخاص لأنه يري أن الذوق المكون بالإحساس وسيلة مشروعة للمعرفة التي تصلح لدي الغير45.

     وبقي الدكتور محمد مندور يطبق المنهج التأثري على الأدب العربي رافضا جميع الاتجاهات الفلسفية والموضوعية والعلمية التي فرضت على النقد كنظريات علم النفس، وعلم التاريخ، فهو يرى المناهج العلمية أدوات لا الجوهر للنقد الأدبي، وكانت هذه الأدوات تساعد المتلقى لفهم النص وتغذي الذوق وتقوي المعرفة ولكن المقياس الأساسي للنقد هو التأثير والتأثر واللقاء المباشر والاتصال الساذج للنص بالمتلقي.

 

الهوامش

1. نبيل أبو علي، محمود العامودي، معاذ الحنفي، الذوق النقدي والنقد الانطباعي بين القديم والحديث، مجلة الجامعة الإسلامية للدراسات الإنسانية، ٢٠١٥، ص ٩٠

2. علي جواد طاهر، مقدمة في النقد الأدبي، الطبعة الأولى ١، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ١٩٧٩ ص ٤١٢ – ٤١٣

3. نبيل راغب، موسوعة النظريات الأدبية، الطبعة الأولى، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، مصر ،٢٠٠٣، ص ٦٢، بوضياف غنية، النقد التأثري ودوره في تحديد المصطلح عند ابن رشيق المسيلي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، قسم الأدب العربي، جامعة محمد خيضر بسكرة الجزائر، ٢٠٠٧ – ٢٠٠٨، ص ٢٣

4. على جواد طاهر، مقدمة في النقد الأدبي، ص ٤١٦، Prof. Meyer Schapiro  Impressionism Reflections and Perceptions, P.27

5. بوضياف غنية، النقد التأثري ودوره في تحديد المصطلح عند ابن رشيق المسيلي، ص ٢٣

6. على جواد طاهر، مقدمة في النقد الأدبي، ص ٤١٥

7. يوسف وغليسي، النقد الجزائري المعاصر من اللانسونية إلى الألسنية، كلية الآداب واللغات، جامعة قسنطينة الجزائر، ص ٦٨ – ٦٩، بوضياف غنية، النقد التأثري ودوره في تحديد المصطلح عند ابن رشيق المسيلي، ص ٢٣ 

8. محمد غنيمي هلال، قضايا معاصرة في الأدب والنقد، دار نهضة مصر للطبع والنشر القاهرة، ص ١٠٢، بوضياف غنية، النقد التأثري ودوره في تحديد المصطلح عند ابن رشيق المسيلي، ص ٢٣

9. محمد مندور، النقد والنقاد المعاصرون، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع ١٩٩٧، ص ٢١٤

10. نبيل راغب، موسوعة النظريات الأدبية، ص ٦٧، بوضياف غنية، النقد التأثري ودوره في تحديد المصطلح عند ابن رشيق المسيلي، ص ٢٤

11. نبيل راغب، موسوعة النظريات الأدبية، ص ٦٤

12. نجوى محمود حسین صابر، النقد الأدبي حتى نهاية القرن الثالث الهجري، الطبعة الأولى، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، ٢٠٠٨ ص ٢٤

13. أبو الفرج الأصبهاني، الأغاني، ١٥ / ١٢٣

14. الأغاني ٤/ ١٧٠، عيسى على العاكوب، التفكير النقدي عند العرب، الطبعة الأولى، دار الفكر المعاصر بيروت، ص ٤٠ – ٤١

15. الأغاني ١١ /١٢، أبو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، جمهرة أشعار العرب، دار صادر، بيروت ص ٦٠-٦١

16. الدكتور عبد العزيز عتيق، في النقد الأدبي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت ص ٢٧٢

17. الدكتور طه إبراهيم، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ص ٢٣-٢٤

18. فؤاد دواره، عشرة أدباء يتحدثون، الطبعة الثالثة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ،١٩٩٦ ص ٢٣٢. فاروق العمراني، تطور النظرية النقدية عند محمد مندور، الدار العربية للكتاب، ١٩٨٨ ص ٢٧.

19. رجاء نقاش، أدباء معاصرون، وزارة الأعلام الجمهورية العراقية، ١٩٧٢، ص ٨١

20. محمد مندور، في الميزان الجديد، الطبعة الأولى، نشر وتوزيع، مؤسسات بن عبد الله، تونس ١٩٨٨، ص ٢٥٩، فاروق العمراني، تطور النظرية النقدية عند محمد مندور ص ٢٨.

21. فؤاد دواره، عشرة أدباء يتحدثون ص ٢٣٢

22. فؤاد دواره، عشرة أدباء يتحدثون، ص ٢٣٤-٢٣٧، فاروق العمراني، تطور النظرية النقدية عند محمد مندور ص ٢٩ – ٣٠

23. أحمد لطفي السيد ١٨٧٢ – ١٩٦٣ سياسي مصري كبير، شارك مصطفى كامل في تأسيس الحزب الوطني، ومؤسس الحزب الأمة، ورئيس تحرير صحيفة -الجريدة -لسان حال الحزب، وحفلت مقالاته بالدعوة إلى الوطنية المصرية وممارسة السلطة الفعلية ومعارضة تركيا. حمدي السكوت، قاموس الأدب العربي الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ٢٠١٥، ص ٨٠.

24. فؤاد دواره، عشرة أدباء يتحدثون، ص ٢٣٩-٢٤٠، رجاء نقاش، أدباء معاصرون، ص ٧٥

25. فؤاد دواره، عشرة أدباء يتحدثون ص ٢٣٤

26. المرجع السابق، ص ٢٦٠

27. المرجع السابق، ص ٢٣٨ – ٢٣٩

28. محمد مندور، في الميزان الجديد، ص ١٣٧ – ١٣٨

29. المصدر السابق، ص ٢١

30. رجاء نقاش، أدباء معاصرون، ص ٨٤

31. المرجع السابق، ص ١٠٤ – ١٠٥

32. المرجع السابق، ص ١٠٥

 33. محمد مندور، معارك أدبية، دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة -القاهرة، ص ٣

34. محمد مندور، الأدب والنقد، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة ص ١٣

35. محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ١٩٩٦، ص ١٢٥

36. لانسون وماييه، منهج البحث في الأدب واللغة، ترجمة محمد مندور، المركز القومي للترجمة، ٢٠١٥، ص ٢٦

37. فاطمة صحراوي، النقد الانطباعي عند محمد مندور، كلية الآداب واللغات والعلوم الاجتماعية والإنسانية، قسم اللغة والأدب العربي، جامعة العربي بن مهيدي، أم البواقي الجزائر، ٢٠١٢ – ١٣ ص ٣١

38. محمد مندور، الأدب وفنونه، الطبعة الخامسة، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، مصر ٢٠٠٦، ص ٢٨

39. فاطمة صحراوي، النقد الانطباعي عند محمد مندور، ص ٣٠

40. محمد مندور، الأدب وفنونه، ص ١٢٩

41. فاطمة صحراوي، النقد الانطباعي عند محمد مندور، ص ٦٧

42. محمد مندور، معارك أدبية، ص ٥

43. المصدر السابق، ص ٤

44. يوسف وغليسي، النقد الجزائري المعاصر من اللانسونية إلى الألسنية، ص ٦٩-٧٠

45. معارك أدبية، ص ٨

 

المصادر والمراجع

١. نبيل أبو علي وآخرون، الذوق النقدي والنقد الانطباعي بين القديم والحديث، مجلة الجامعة الإسلامية للدراسات الانسانية، جامعة غزة الاسلامية، , Vol. 26, No. 1,2018.

٢. علي جواد طاهر، مقدمة في النقد الأدبي، الطبعة الأولى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ١٩٧٩.

٣. نبيل راغب، موسوعة النظريات الأدبية، الطبعة الأولى، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، مصر ٢٠٠٣.

٤. بوضياف غنية، النقد التأثري ودوره في تحديد المصطلح عند ابن رشيق المسيلي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، قسم الأدب العربي، جامعة محمد خيضر بسكرة، الجزائر، ٢٠٠٧-٢٠٠٨.

٥. يوسف وغليسي، النقد الجزائري المعاصر من اللانسونية إلى الألسنية، كلية الآداب واللغات، جامعة قسنطينة، الجزائر.

٦. محمد غنيمي هلال، قضايا معاصرة في الأدب والنقد، دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة-القاهرة.

٧. محمد مندور، النقد والنقاد المعاصرون، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ١٩٩٧.

٨. نجوى محمود حسين صابر، النقد الأدبي حتى نهاية القرن الثالث، الطبعة الأولى، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية ٢٠٠٨.

٩. أبو الفرج الاصبهاني، الأغاني، دار الثقافة، بيروت ١٩٥٨.

١٠. عيسى على العاكوب، التفكير النقدي عند العرب، الطبعة الأولى، دار الفكر المعاصر، بيروت، ١٩٩٧.

١١. عبد العزيز عتيق، في النقد الأدبي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت.

١٢. الدكتور طه ابراهيم، تاریخ النقد الأدبي عند العرب.

١٣. فاروق العمراني، تطور النظرية النقدية عند محمد مندور، الدار العربية للكتاب، ١٩٨٨.

١٤.  فواد دواره، عشرة أدباء يتحدثون، الطبعة الثالثة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،١٩٩٦.

١٥. محمد مندور، في الميزان الجديد، الطبعة الأولى، نشر وتوزيع، مؤسسات بن عبد الله، تونس، ١٩٨٨.

١٦. رجاء النقاش، أدباء معاصرون، الجمهورية العراقية وزارة الاعلام، ١٩٧٢.

١٧. حمدي السكوت، قاموس الأدب العربي الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ٢٠١٥.

١٨. محمد مندور، في الأدب والنقد، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الفجالة– القاهرة.

١٩.  محمد مندور، الأدب وفنونه، الطبعة الخامسة، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، ٢٠٠٦.

٢٠.  فاطمة صحراوي، النقد الانطباعي عند محمد مندور، كلية الآداب واللغات والعلوم الاجتماعية والإنسانية، قسم اللغة والأدب العربي، جامعة العربي بن مهيدي، أم البواقي، الجزائر، ٢٠١٢ – ١٣.

٢١. محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٩٦.

٢٢.  لانسون وماييه، منهج البحث في الأدب واللغة، ترجمة محمد مندور، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ٢٠١٥.

٢٣.  محمد مندور، معارك أدبية، دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة – القاهرة.

٢٤. أبو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، جمهرة أشعار العرب، دار صادر، بيروت.

 25. Prof. Meyer Schapiro, Impressionism, Reflections and Perceptions, Indiana University, Bloomington, 1961. 

مواضيع ذات صلة
أدبيات, الأدب العربي العالمي,

إرسال تعليق

0 تعليقات