ادعمنا بالإعجاب

مكتبة «خدا بخش» الهندية.. أعجوبة الدهر!

بقلم: آفتاب عالم بن عبد الرزاق العيني المستوطن بكاسركوت , خريج مجمع عين المعارف للدراسات الإسلامية ومواصل حاليا في دار العلوم التابعة لندوة العلماء ـ لكناؤ.


خدا بخش رحمه الله
منذ فتوحات محمد بن قاسم الثقفي لبلاد السند في عام 579هـ جعلت معالم الحضارة والثقافة الإسلامية تتشكل وتتبلور في ربوع الهند إلى أن قام في مختلف شبه القارة الهندية عديد من المواقع الأثرية التاريخية والمكتبات الإسلامية الزاخرة بنوادر المخطوطات، إضافة إلى المساجد الشامخة والصروح الفريدة التي تمثل أفضل ما حققته البدائع المعمارية الفنية في الهند، وأصبحت شاهداً على التراث الثقافي الحضاري الإسلامي المشرق.
ومن بين هذه المعالم الثقافية التراثية مكتبة «خدا بخش» الشرقية العامة التي أسسها العالم المؤرخ «خدا بخش خان» عام 1891م في مدينة باتنا، عاصمة ولاية بيهار الهندية، والتي تقع على مقربة من ضفاف نهر الجانجا.
من هو «خدا بخش»؟
ولد «خدا بخش خان» في 2 أغسطس 1842م، في قرية جابرا من ولاية بيهار الهندية، وترعرع في ظل والده «محمد بخش خان» الراحل عام 1898م، وكان والده من أشهر المحامين في باتنا، وكان مولعاً جداً بجمع الكتب والمخطوطات النادرة؛ حيث أنفق من دخله جزءاً كبيراً لجمع الكتب المتنوعة.
نشأ «بخش» في أسرة ذات طابع ثقافي وعلمي، وقد قيل: إن أسلافه كانوا في خدمة الملك «عالم كير»، وقد شارك أحد منهم في تأليف الفتاوى «العالمكيرية» أو الفتاوى الهندية مع تلك النخبة من علماء الهند البالغ عددهم 24 شخصاً، برئاسة الشيخ «نظام الدين البرنهابوري»؛ حيث ألّف بأمر السلطان «أورنك زيب» الملقب باسم «عالم كير».
تلقى «خدا بخش خان» مبادئ العلوم من باتنا وكالكاتا، وبدأ حياته المهنية في بيشاور، وفي عام 1881م لقب بـ«خان باهادور» لخدماته الاجتماعية التي قام بها طول حياته، وقد عمل رئيساً لقضاة المحكمة العليا بحيدر آباد لمدة ثلاث سنوات عام 1895م، كما أصبح نائب رئيس مجلس إدارة مؤسسة باتنا البلدية عام 1877م.
وعلى فراش الموت وصّاه والده أن يقيم مكتبة إسلامية، وأن يقدمها لشعب باتنا، وقد وفّى الولد لوالده حيث أنشأ مكتبة ضخمة تعج بنوادر المخطوطات، وكتب استثنائية تراثية قلما تتواجد في المكتبات الإسلامية العالمية، فهو الذي قدم ثروة هائلة لجيل خلّفه وسلّم إلى أيادي الشعب الهندي بل إلى العالم أجمع مفتاح الخزانة العملاق، مفتاح الكنوز العلمية التراثية، مفتاح مكتبة «خدا بخش» الشرقية العامة.
افتتح الولد هذه المكتبة في عام 1891م وكانت تحوي 4 آلاف مخطوطة نادرة باللغة العربية والفارسية والتركية، بالإضافة إلى عدد من الكتب المطبوعة، وعندما قدم العديد من المكتبات العالمية مثل المتحف البريطاني ثروة هائلة وطلب من «خدا بخش خان» أن يبيعها للمتحف رفض ذلك قائلاً: «أموالكم طائلة، وأنا من أسرة فقيرة لا تقوم لي قائمة، لكن كيف أترك لكم هذه المكتبة التراثية التي من أجلها ضحيت أنا وأبي الحياة كلها وبذلنا في سبيلها كل غالٍ ورخيص؟».
وبعد وفاة «خدا بخش خان» آلت إدارة المكتبة إلى حكومة الهند المركزية، وأصبحت مؤسسة ذات أهمية وطنية، وبموجب قانون من البرلمان الهندي عام 1969م تم تعيين هيئة مستقلة للمكتبة تحت وزارة السياحة والثقافة الهندية، وهذه المكتبة هي مستودع فريد من التراث الماضي؛ ترى عدداً من مخطوطاتها مكتوبة على ورق النخيل والغزلان والجلد والقماش ومواد متنوعة، وكذلك الكتب التي تعود إلى عهد المغول والنسخة الفريدة في العالم لمخطوطة تاريخ «خاندان تيمورية» التي تحتوي على 132 لوحة جميلة ملونة، ويتناول المخطوط تاريخ الأسرة التيمورية، وتعد الصور التي تحلت بها هذه المخطوطة نماذج فريدة في تعبيرها عن مدى ما وصل إليه فن التصوير من سمو ورفعة في ظل المغول.
في بداية الأمر كانت المكتبة في المبنى المكون من الطابقين الذي شيده مؤسسها في عام 1888م، وخلال الزلزال الذي وقع عام 1937م سقط الطابع العلوي؛ مما جعل الأمور صعبة للغاية بالنسبة للمكتبة وزوارها، ثم في عام 1938م تقدمت حكومة بيهار ببناء مبنى جديد في نفس المكان، وفي مؤخر المكتبة مبنى آخر من ثلاثة طوابق تمت إضافته عام 1983م للشؤون الإدارية والمالية والطباعية.
ومكتبة «خدا بخش» ليست مجرد مكتبة، بل لها في الواقع أهداف متعددة الأبعاد، فهي التي ترحب بالجميع وتبذل الجهد الجهيد لإحياء التراث، حيث تشجع الأنشطة البحثية، وخلال السنوات الخمسين الماضية نظمت حوالي 200 محاضرة ومناقشات علمية جادة.

مواكبة العصر التكنولوجي

في هذا العصر الذي لا نزال نشهد تطوراً علمياً وتكنولوجياً مذهلاً، لم تقصر إدارة المكتبة أي تقصير في تزويدها بالبرامج التكنولوجية الحديثة، ففيها تسهيلات وافرة من: خادم «أيكسيون»، والأنظمة الحديثة المعتمدة على «بنتيوم»، وطابعة الليزر الملونة، وطابعات الليزر، وطابعة التصوير الفوتوغرافي، والطابعة المكتبية المتعددة الأغراض، والماسح الضوئي، والكاميرا الرقمية.
كما وفرت بعض الخدمات للباحثين كخدمة الاطلاع على المخطوطات من خلال جهاز قارئ للميكروفيلم، إلى جانب إمكانية طباعتها، وجدير بالذكر أن المكتبة وفرت آلية للبحث عن المخطوط من خلال موقعها على الإنترنت، (رابط الموقع الرسمي لمكتبة «خدا بخش» الشرقية العامة «http://kblibrary.bih.nic.in/»؛ مما سهّل على الباحثين معرفة بيانات المخطوطات، كما ساهم الموقع متمثلاً في دائرة المخطوطات إلى التعريف ببعض المخطوطات النادرة.
نوادر المخطوطات:
1- نسخة المقالات الخمس يعني كتاب الحشائش في الطب لـ«ديوسقوريدس فيدانيوس»، طبيب يوناني ولد في عَيْن زَرْبَة في قيليقية (منطقة بشمال الجزيرة السورية وجنوب شرق تركيا حالياً) حوالي عام 40م، ويعرف كتابه هذا لدى الغرب باسم «de Materia Medica» باللاتينية، وقد نقلها من اليونانية إلى العربية اصْطَفَن بن بسيل الترجمان الذي عاش في القرن الثالث الهجري، ومخطوطات ترجمة اصْطَفَن بن بسيل محفوظة كذلك في أيا صوفيا بالآستانة وفي المكتبة الوطنية بمدريد.
2- نسخة ديوان شمس الدين محمد حافظ الشيرازي (نحو 725 - 792هـ) الملقب بـ«خواجه حافظ الشيرازي» من أشهر الشعراء الإيرانيين.
3- نسخة القرآن الكريم مكتوبة بخط يد جمال الدين أبو المجد ياقوت بن عبدالله الرومي المستعصمي الطواشي البغدادي الملقّب بـ«قِبْلَة الكُتّاب»، خطّاط شهير وكاتب وأديب من أهل بغداد.
4- من كتب الأخلاق والعرفان: «اللطائف» لابن رجب الحنبلي، و«القول البادئ» للسخاوي، و«قمع النفوس» لتقي الدين الحصني أبي بكر بن محمد، و«الرسالة القشيرية» لعبدالمنعم القشيري، وكتاب «قوت القلوب» لأبي طالب المكي.
5- في الحساب والمنطق والبيان والنحو والإلهيات: «غنية الحساب» لأحمد بن ثابت أحد الأعلام الرياضيين العرب من القرن السادس الهجري، «الإشارات» لأبي علي بن سينا، و«القسطاس في المنطق» لشمس الدين محمد السمرقندي من كبار علماء المسلمين في القرن السابع الهجري.

بقايا التاريخ

وفي معارض زجاجية للمكتبة عديد من الآثار القديمة من بعض نقود نادرة، وآلات حربية، وأدوات الإسطرلاب، والأواني الزخرفية القديمة الجميلة، والصور الزيتية.
ومن أهم الآثار العلمية المحفوظة في المكتبة:
1- الإسطرلاب، والكرة السماوية لغياث الدين أبو الفتوح عمر بن إبراهيم الخيام المعروف بعمر الخيام الشاعر الفلكي الفيلسوف أوّل من اخترع طريقة حساب المثلثات والمربعات الشهيرة.
2- ملقط؛ أداة جراحية مصنوعة من النحاس الأصفر لم يتمكن من تحديد زمنه ومكانه.

يعمل حالياً في مكتبة «خدا بخش» الشرقية العامة أكثر من 40 موظفاً، لكل منهم عمل خاص، وقد تم تدريب الموظفين في مختلف القطاعات بأماكن مختلفة مثل المحفوظات الوطنية للهند، ونيودلهي، والمكتبة الوطنية، كلكتا، مختبر البحوث الوطنية لحفظ الممتلكات الثقافية، لكنؤ، الجامعات السنسكريتية في باتنا وكالكاتا.
ويقوم الموظفون بأعمال مختلفة من الاستنساخ والتغليف وتنظيف الأوراق وترميم أغلفة المخطوطات وتبييض الورق وتقويته وتكملة الأجزاء الناقصة وتصنيف فهرسة المخطوطات، حتى تم نشر 43 مجلداً لقائمة المخطوطات، وتم أيضاً جمع وطباعة قائمة المخطوطات باللغة العربية في 4 مجلدات والفارسية في 5 مجلدات والأردية في مجلد واحد.
وقد بلغ إجمالي عدد المخطوطات باللغة العربية والفارسية والأردية والتركية: 21136.
وعدد الكتب المطبوعة والدوريات ما يقارب ثلاثة ملايين مطبوعة:
ثم إن المكتبات الإسلامية في الهند وخصوصاً مكتبة «خدا بخش» العامة الشرقية التي تتمتع بكنوز التراث العريق تفتقر إلى مباحث تقوم على تحقيق الكتب التراثية بُغية ما تحمله من مضامين وقيم علمية.
 ومع وقوفنا وقفة إكبار وإجلال أمام هذا التراث الضخم الذي آل إلينا من أسلافنا الجهابذة الأعلام صناع الثقافة الإسلامية، لا بد أن ننهض بعبء نشر هذا التراث وتجليته وفاء للسلف الماضي ووفاء للخلف القادم، وخير وسيلة إلى ذلك كما اقترح الأستاذ عبدالسلام محمد هارون في كتابه «تحقيق النصوص ونشرها» (وهو أول كتاب عربي في هذا الفن يوضح مناهجه ويعالج مشكلاته) حيث يقول: على الكليات الجامعية ذات الطابع الثقافي الإسلامي أن تلتزم تكليف طلبة الدراسات العليا أن يقوم كل منهم بتحقيق مخطوط يمت بصلة إلى موضوع الرسالة التي يتقدم إليها.
المراجع
1- التراث والهوية للدكتور عبدالعزيز بن عثمان التويجري، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو).
2- تحقيق النصوص ونشرها للأستاذ عبدالسلام محمد هارون – مكتبة الخانجي بالقاهرة – أول كتاب عربي في هذا الفن يوضح مناهجه ويعالج مشكلاته.
3- الموقع الرسمي لمكتبة «خدا بخش» الشرقية العامة
الرابط: http://kblibrary.bih.nic.in/
4- An Eastern library; An Introduction To The Khuda Bakhsh Library
By V.C. Scott O’Conner

مواضيع ذات صلة
تاريخ الهند, تراث الهند،, علوم الهند,

إرسال تعليق

0 تعليقات