ادعمنا بالإعجاب

العلامة شبلي النعماني رحمه الله

مجلة بدر الدجى السنوية العدد الخاص بـ حركة ندوة العلماء : فكرتها وإنجازاتها. ندوة التعليم والتربية لطلاب كيرالا دار العلوم لندوة العلماء ، لكناؤ 1434هـ الموافق 2013م
صاحب القلم: طلحة علي بن عبد الناصر الطالب في السنة الرابعة

رجل عاش معلما ، آمن بالله وكتابه وصدق برسوله ورسالته واتبع الهدى وتمسك به ، رجل مجدد العلم وأستاذ الجيل ونور العلماء ، أنشأ جيلا عظيما من الأدباء والكتاب وبذر حبات العلوم الدينية في قارة الهند وأنحائها ، رجل ضرب بسهم وافر في بناء مدرسة شهيرة أنتجت كثيرا من العظماء والخطباء ، رجل أبرز للعالم منهجا تعليميا قشيبا يجمع بين الجديد النافع والقديم الصالح ، وتأسى به الناس وقبلوه واشتهرت عظمته عند العرب والعجم ، وذلك هو الأستاذ الكريم الشيخ العلامة شبلي النعماني بن حبيب الله رحمه الله رحمة واسعة ، لعلكم ما سمعتم اسم هذا الرجل الفاضل في الصحف والمجلات وما اطلعتم تاريخه في الكتب والرسائل ، ولكنه هو عظيم في شأنه ماهر في الفنون ، عنده مواهب عديدة ومقادير وافرة ، قد تألق كالنجم النير من علماء معاصريه وتنور كالكوكب المضيء في أقران زمانه .
ولد العلامة في قرية "بندول" في مديرية أعظم كره من ولاية يوبي سنة 1858م ، ووالده الكريم الشيخ حبيب الله قد رعاه وصانه منذ صغره من جلساء السوء وحفظه مكالبة الأفكار الشنيعة على ذهنه القصير ، فعاش هو تحت القوانين الدينية وحول ضوابط الإسلام وقواعده .
وبدأ زمن دراسته في "جمشه رحمت" تحت تربية أستاذه الجليل محمد الفاروق الجرياكوتي وتدريبه الحسن ، ودرس الفلسفة والحكم عنده وتمهر فيها واهتم بها ، وبعد إكمال دراسته فيها رحل إلى العلماء الكبار في الهند لحصول علومهم الجمة ونيل أفكارهم الجليلة التي جاشت من أذهانهم العالية مثل الشيخ عبد الحي الفرنكي محلي والشيخ قاسم النانوتوي رحمهما الله حتى ظفر واغتنم بهم ، وبعد ذلك ذهب إلى لاهور من ولاية بنجاب وتلمذ هناك على الشيخ فيض الدين وتمرن عنده في الشعر العربي وأدبه وتعلم منه كتاب "ديوان الحماسة" لأبي تمام ، حينما أكمل دراسته ذهب إلى مكة المكرمة لقضاء الحج فحج بفضل الله ثم رجع إلى الهند وشارك مع أبيه في التجارة والزراعة وساعده فيها .
إنه أحب العرب والعربية وشعرها وآدابها ونثرها وأساليبها حتى كان يتمنى أن يكون مثل الإمام الجاحظ الأديب ، وتقبل الله دعاءه وأنفذ رجاءه فطبعت لشبلي مقالات متعددة في مجلة "ثمرات الفنون" من القسطنطينية ، ومجلة "السلام" من طرابلس ، ومجلات "المؤيد" و"المنار" و"الهلال" من مصر ،و كانت له علاقة وطيدة مع السيد رشيد رضا صاحب مجلة "المنار" من مصر ، وكان هو يحب شبلي ويحترمه كثيرا حتى لما بدأت حركة إصلاح جامعة الأزهر اقترح لها رشيد رضا ثلاثة من العلماء الأجلاء واحد منهم العلامة شبلي .
وكان الشيخ شبلي شاعرا كبيرا في الأردية والفارسية ، وقد اشتهرت أبياته وأناشيده بين طلابه وأقرانه ، كانت أشعاره مؤثرة بليغة وجذابة ممتازة ، كتابه "شعر العجم" كتاب مشهور طبع في خمسة أجزاء ، وكان الشيخ شبلي مجمع العلوم الدينية برزت مهارته في الفنون المتنوعة وخطا خطوته في المعارف العصرية ونزل في معركة علم الحديث وترجح في علم أسماء الرجال ، فكان يطالع كثيرا من الكتب في فن أسماء الرجال .
قد وقع في حياته أمر مهم حول أفكاره وغير آراءه ورفع شأنه وذاك أنه عين معلما في جامعة عليجره التي رأسها وقادها الشيخ السيد أحمد خان الذي اشتهر في تاريخ الهند بأنه هو أول مسلم بنى مدرسة تتبع مسلك الغرب في منهجها الدراسي وتدرس فيها العلوم العصرية والفنون الحديثة ، والتحق العلامة شبلي بجامعة عليجره والتزم مع السيد أحمد خان ، وهذا الارتباط الغريب نور له طريقا جديدا في حياته وتعرف فيها على الفلسفة والمعارف الحديثة ، وقرأ منها كتبا لعلماء أوربا وعرف بها آراءهم وأفكارهم ، رغم ذلك كله ما غلبت آراء أحمد خان ومسالك علماء أوروبا على العلامة شبلي وتوقف الشيخ بين مذاهبهم ومذهب علماء المسلمين في مقام متوسط سديد ، وكان يجلس مع أحمد خان ويتكلم معه ساعات في مختلف الموضوعات والفنون وكثرت بينهما الصداقة وازدادت فيهما العلاقة مع أن الشيخ أحمد خان أكبر سنا منه بأربعين سنة ، وكان هناك في جامعة عليجره مكتبة عريضة حافلة بالكتب للسيد أحمد خان ، فالعلامة شبلي قضى أوقاته وأنفق معظم فراغه فيها ، مرة رأى هناك رجلا من الغرب متعمقا في القراءة فأنس به وتكلم معه فإذا هو مؤرخ مشهور "سر توماس أرنولد" من فرنسا ، ما انقضت أيام حتى قويت بينهما العلاقة ورسخت الرابطة بينهما حتى سافر معه إلى عدة دول إسلامية في مصر والقسطنطينية والشام وترك ، وزار هناك كثيرا من الكليات والجامعات والمدارس وتعرف عن كثير من المناهج الدراسية الإسلامية .
وبعد فترة قليلة إنه ترك جامعة عليجره وذهب إلى حيدرآباد والتزم بجامعتها مدرسا حتى قضى فيها عدة سنين من حياته التعليمية ففي هذه المدة جرت هناك مشاورة بين بعض العلماء الكبار المؤسسين لحركة ندوة العلماء من الهند مشاورة عظيمة في تأسيس جامعة إسلامية في مديرية لكناؤ في ولاية يوبي تحت رئاسة العلامة السيد محمد علي المونكيري رحمه الله ، فانعقدت مؤتمرات حول تأسيسها وتقرير منهجها الدراسي والشيخ شبلي أبرز دوره وأظهر جودته في المشاورات والاجتماعات واختار هذا المجلس اثني عشر رجلا من العلماء الكبار من مختلف الأمكنة والمدارس يتشاورون في المنهج الدراسي لهذه الجامعة وعلى مقدمتهم العلامة شبلي ، إنه أظهر رأيه القيم وقدم أمامهم صورة منهج دراسي يجمع بين المنهج القديم والجديد ، فوافق هذا الوفد المختار على رأيه ومسلكه وقرروها ولكن بعض العلماء المتشددين وبعض المتعصبين لم يحبوا هذا المسلك الذي قدمه العلامة شبلي لأن ذلك المنهج مركب من منهجين: منهج قديم اتبعته المدارس الإسلامية منذ زمان في الهند ومنهج جديد يشمل اللغة الإنجليزية وكتب علماء أوروبا وما ركز عنايته على المنهج القديم فقط ، فأنكروه وغلظوا عليه لأن مسلمي الهند قبل أن تستقل الهند من أيدي البريطانيين كانوا لا يحبون اللغة الإنجليزية وحرموها على أنفسهم وعلى نسلهم لأجل أنها لغة يتكلم بها البريطانيون الذين دمروا أحلام أهل الهند وسلبوا أموالهم الخصبة ، فكرههم المسلمون وكرهوا أفعالهم وأخلاقهم وزيّهم ولغتهم وأفتى علماء المسلمين أن لغة الغرب حرام عليهم لشدة غلظهم وكثرة عداوتهم على حكومة البريطانية لا للغة ، فما وافقوا رأي العلامة شبلي وأنكروا عليه آراءه وشددوا فيها ، ولكن العلامة شبلي قد أيقن في نفسه وقرر أن يفعل هذه الجريمة الشنيعة إن كانت جرعة أي إدخال اللغة الإنجليزية في المنهج الدراسي لدار العلوم ندوة العلماء .
وكانت جامعة دار العلوم لندوة العلماء متبعة في أولها مناهج الجامعات الأخرى الإسلامية التي توجد في مختلف أنحاء الهند أي منهجا قديما لم تعتريه أي حضارة ولم تشمله أي مدنية لأن رئاستها وقيادتها دارت تحت أيادي العلماء الذين اشتعلت نفوسهم بنار العداوة والبغضاء على البريطانيين وعقدت قلوبهم بكتب العلماء القدامى وأحبوا التعمق والانحدار فيها دون غيرها ، فلما اختير العلامة عميدا للشؤون التعليمية لدار العلوم سنة 1905م أنفذ كثيرا من المناهج الدراسية وأورد شتى التغييرات والتعديلات في المنهج الدراسي ، فتميزت دار العلوم عن غيرها وترقى شأنها في الأمة وأنتجت كثيرا من النابغين المهرة في فنون متنوعة وأنشأت أجيالا تقدموا مع تطور العصر الحديث ومطالباته المتحضرة ، فمن خدماته الجلية أنه أدخل اللغة الإنجليزية في الدراسة وألزم الطلاب على حصولها وتعرفوا عنها وقاموا عليها نشطاء مجدين كأنهم شموا رائحة جديدة ونالوا شيئا عجيبا ، وذلك لأن العلامة شبلي تفكر وفهم أن الأمة المسلمة إذا اعتزلت هذه اللغة وتولت عنها لتقع في خسارة شديدة في مجال الدعوة الإسلامية وتبليغ الرسالة الإلهية ولا تستطيع أن توسع نطاق دعوتها إلى الدول الغربية لم تبلغ إليها الدعوة الإسلامية .
والعلامة شبلي درب تلامذته ومتعلميه على الخطب والتقارير بلغة فصيحة جذابة في الأردية والعربية فانعقدت جلسات وحفلات بين الطلاب فتمرنوا فيها على الخطب العربية والأردية ، ومع ذلك كله أنه ألحق خطة جديدة بالمنهج التعليمي لندوة العلماء وهو فصل خاص للتخصص في الفنون المختلفة ، وفي سنة 1909م افتتح في الجامعة فصل خاص في قسم التخصص في الكلام والأدب وعينت لها سنتان ، ورحب أعضاء ندوة العلماء هذا التقدم الجديد ترحيبا حارا واطمأنوا بها .
وكان العلامة واعظا خطيبا يعظ الناس ويحرضهم على الخيرات ويشجع النساء والأطفال للدراسة والتعليم ، إنه مجد التاريخ ولونه بتلامذته الكرماء وبطلابه الفضلاء أولهم عبد الحميد الفراهي هو عالم جليل ماهر وكان مجمع اللغات ، كتبه جليلة فصيحة ومقالاته سامية أدبية وأساليبه ممتازة ، وثانيهم السيد سليمان الندوي الكاتب الشهير الأديب الكبير يعرفه الحل والحرم ، والشيخ محمد علي جوهر القائد المشهور وزعيم حركة "الخلافة" التي لعبت دورها العظيم وبذلت جهدها النفيس لتحرير الهند المستعبد واستقلالها الخالد من أيادي البريطانية ، وكان العلامة شبلي عالما كاتبا ناقدا لآراء المستشرقين ونابغا في تاريخ العالم الإسلامي ، ألف كثيرا من المؤلفات النفيسة الغالية والأكثر منها يدور حول التاريخ الإسلامي الشريف والأشهر منها "المأمون" و"سيرة النعماني" و"مكتبة الإسكندرية" و"الجزية" و"الفاروق" .
قد برزت أهبته وظهرت مقدرته في الانتقاد على آراء العلماء الغربيين وفي التعليق على كتب المستشرقين والمسيحيين ، إنه ألف كتابا في العربية ناقدا على كتاب "تاريخ التمدن الإسلامي" لكاتب مسيحي اسمه "جورجي زيدان" والشيخ شبلي يجيب فيه عن آراء أعداء الإسلام ويرسم للأمة صورة صحيحة للدين الإلهي الحنيف كأنه عضو جيش جريء يقد رؤوس الأعداء ، وكان مفكرا عابدا مخلصا فرغ أوانه لتقدم الأمة الإسلامية وتطورها رغم أنه عليل سقيم طول حياته ومريض أعياه مرضه ، إنه كان مقطوعة رجله الواحدة ولكن ما أتعبت هذه الأمراض والبلايا نفسه الباسمة وأفكاره الرائقة وأقلامه الحادة ، قد صادمه كثير من المشاكل والضرر وقابله جمة من القلق والمهاجمات من معاصريه وأقرانه فدافع بأحسن أخلاقه وعمل لله وترك المنازل الرفيعة وانعزل عن المقامات لأجل المصالحة وعدم المخاصمة وتألق في معركة العلوم وتنور فيها وبقي مثل السيف حتى دعاه الله إليه وانتقل إلى رحمته وعمره 57 سنة .

مواضيع ذات صلة
الأعلام المسلمة, الأعلام،, دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات