ادعمنا بالإعجاب

المؤرخ العلامة السيد عبد الحي الحسني رحمه الله

مجلة بدر الدجى السنوية العدد الخاص بـ حركة ندوة العلماء : فكرتها وإنجازاتهاندوة التعليم والتربية لطلاب كيرالا دار العلوم لندوة العلماء ، لكناؤ 1434هـ الموافق 2013م
ياسر بن صالح الطالب في السنة الرابعة

وكان من العلماء الغيارى على الدين والأخلاق الذين عاشوا حياتهم وقدموا أنفسهم ونذروا مواهبهم وبذلوا ملكاتهم للدين ولخدمته بعيدين عن الشرك الذي يحبط الأعمال وعن الضلال الذي يفسد الحياة وعن الجهل الذي يدمر العبادات ، هو العلامة السيد عبد الحي الحسني الندوي،  أدى دورا عظيما بارزا وأوفى حياته كاملة وبذل أوقاته مجتمعة في سبيل العلم وخدمة الدين ونال ما نال من توفيق ونجاح وتفوق وامتياز وخطر ما خطر به من إعجاب وقبول من أهل العلم وعامة الناس ، لقد كانت في الشيخ مجموعة من المكارم والفضائل ، كل ما صدر من لسانه قول لين وصوت لطيف ، كل ما سال من قلمه فكرة حميمة وآراء طيبة وكان دائم الفكر في الدعوة الإسلامية وحزين القلب للأمة المسلمة وصابر النفس على المشقة والبلاء وتارك الهواء لدى ميلان القلب وتردد النفس ، كان سليم الصدر ونقي القلب وصفي الضمير وسخي النفس ولا يشتم إذا نوقش ولا يفجر إذا خوصم ولا يرفع الصوت إذا جودل ولا يريد الشهرة إذا فعل فعلا ممدوحا .
ولد السيد أحمد المعروف بالسيد عبد الحي بثماني عشرة ليلة خلت من الشهر المبارك رمضان سنة ست وثمانين ومائتين وألف {الموافق 22ـ ديسمبر 1869 } في دارة السيد العارف بالله علم الله الحسني على ثلاثة كلومتر من بلدة رايبريلي وهي تبعد عن لكهنؤ بثمانين كلومتر تقريبا ، نشأ تحت ظلال أبويه الصالحين الكريمين وأسرتهما كانت عين العلم والمعارف ومهد التزكية والتربية وكان الناس يأوون إليها ويأنسون بها من كل صوب وحدب لتزكية النفوس وتربية القلوب ولذلك كانت حياته مجردة عن الشرك والضلال ومخلصة من البدع والضلال وترعرع في جو العلم والأدب كانت له علاقة بالأدب والشعر من صغره حتى توسع عقله واتقد ذهنه في سن مبكر ، هو قد تأثر كثيرا بحياة أبيه ويفكر وفيرا عن حياة أبيه العلمية ، لذا عزم على أنه سيكون مثل أبيه ، لما أفاق رشيدا بدأ تعلم اللغة الفارسية ثم تلقى مبادئ اللغة العربية تحت الأستاذ العارف بالله السيد عبد السلام الواسطي الهنسوي واستفاد من الشيخ السيد ضياء النبي الصرف والنحو والتحق بالمدرسة الوسطانية لتحصيل العلوم الرياضية واللغة الإنجليزية وجعل يكتب الرسائل والتوجيهات والإرشادات إلى أقربائه وأصدقاءه باللغة الفارسية .
رحلته التعليمية : أول ما بدأ رحلته لحصول العلم من بيته إلى أله آباد وقضى هناك سنتين وتعلم منه النحو والفقه وشرح الكافي للجامي ، وشرح التهذيب في المنطق تحت الشيخ محمد حسين الأله آبادي ، هو كان تلميذا للعلماء الكبار في زمنه ، ثم سافر إلى فتحبور وقرأ كتابا في الفقه على الشيخ الفاضل نور محمد بن شيخ أحمد الشاه بوري البنجابي المتوفى سنة 1342هـ ، ثم سافر إلى كانفور ولقي الشيخ العالم الفقيه المصلح المربي الجليل الأستاذ أشرف علي التهانوي المتوفى سنة 1362هـ ، تتلمذ عليه الشيخ وقرأ كتابا في أصول الفقه والنحو واستفاد من علمه وعمله ثم سافر إلى مدينة لكناؤ وأتم دراسته في العلوم الدينية والأخلاقية والرياضية وفقا بالدروس النظامية ، وكانت في مختلف أنحاء المدينة حلقات العلم والدروس منتشرة ، لذلك كان هو يمشي سعيا على الأقدام لحضور دروس الأفاضل ، ذلك الزمن ليس زمن المدارس العصرية ، لذلك الطلاب كلهم مضطرون إلى أن يرحلوا من هذه القرية إلى قرية أخرى ، ومن ذلك المكان إلى مكان بعيد آخر ، ثم التزم بالحضور بالدروس حتى ماتت أمه وحزن حزنا شديدا على موتها ورجع إلى بيته بعد أيام قليلة وقدم أيضا إلى لكناؤ واستمر على الدراسة وانغمس في مطالعة الكتب وما كان له شغف إلا دراسة الكتب ، وما كان يضيع أوقاته في لهو ولعب رغم أنه عمره كان يقتضي ذلك ، وكان قانعا بالروبيات التي كان تحصل من أبيه ، وكان يعيش بضيق وعسر شاكرا محتسبا ، وأراد الشيخ أن يستكمل دراسته العلمية وذهب إلى بوفال سنة 1309هـ ، لكي يأخذ العلم من العلماء البارزين .
في ذلك الزمان كان الطب داخلا في المنهج الدراسي وكثير من العلماء يستعجلون بالوظائف الحكومية والشخصية بعد التخرج في العلوم الدينية والشيخ عبد الحي رحمه الله نهل من منهل الطب ،لما وفق الله تعالى عليه وعنى به عناية فائقة وجد فيه جدا شديدا وتتلمذ فيه على أئمته الكبار المهرة ، فقرأ الكتب الطبية حينما كان في بوفال ، وكان يجلس مع الطبيب النطاسي الحكيم عبد العلي لمعالجة الناس ، فكان يكتب ما يلقيه الحكيم على عادة الأطباء الكبار في ذلك العصر ويكتب التلاميذ البارعون ، وكان ذلك طريقاً من طرق تعليم الطب عمليا في ذلك العصر ، وكان يشترك في نادي الطب الأسبوعي ويبحث فيه مسائل الطب وقضاياه ، يقرأ فيه مقالته في جلساته .
عبد العلي بن عبد الولي اللكناوي كان أستاذا له في الطب ، نرى الشيخ عبد الحي قد حصل على إحدى عشرة شهادة من العلماء الكبار في عصره ، الشهادة ليست كالشهادة التي نجدها اليوم من الجامعات والكليات ، بل هي كانت تحتوي على أسماء الأساتذة وأسناد الحديث الذي كان ينتهي إلى محدث كبير من المحدثين ، وكان له شغف ورغبة في زيارة العلماء والمدارس وحضور مجالس الشيوخ ومعرفة حياتهم وحركاتهم منذ طفولته ، لذا لما وجد الفرصة بعد التخرج من المدارس وعزم على السفر لنيل مرامه ، وقد دون مذكراته تذكيرا لذلك السفر باللغة الأردية باسم "ارماغان أحباب" ، كان للشيخ صداقة طويلة وصلة حميمة لتاريخ المسلمين ، ذلك صبت نفسه وحفا قلبه على الأسفار التعليمية والتاريخية ، لما فرغ من الدراسة كانت أول رحلته إلى دلهي وما حولها ، وشاهد الأحداث الفاجئة في مدن مختلفة وتجددت له الأحداث التي وقعت من قبل بسبب استعمار الإنجليز وسكوت الحكومة الإسلامية ، فاضطرب وقلق وأسف وحزن حزنا شديدا ، فإذن عزم على أن يعمل عملا لإصلاح الأمة وإعلاء كلمة الله وتوفق المسلمين وتقدمهم ، أولا أراد الشيخ أن يصلح بين عشيرته ، لما وجد في أسرته تدهورا خلقيا وانحطاطا دينيا تأسف الشيخ أشد التأسف من الوقائع التي حدثت في الأسرة من المخاصمة والنزاع والتقاطع والتدابر فاشتاق الشيخ الإصلاح فخرج وبرز في ميدان الإصلاح والتربية  وألف الرسالة باسم الإصلاح ،  وبذل أوقاته لهذه الدعوة الإصلاحية وتبناها وجمع أعضاء الأسرة في بيت عمه السيد رشيد الدين ، هكذا أسست جمعية إصلاحية باسم جمعية آل هاشم ، وكانت تنعقد الحفلة في كل ثلاثة أشهر ، فانتخب الشيخ عبد الحي الأمين العام لشؤون الجمعية ، وكان من مقاصدها الرفيعة وأهدافها العالية إصلاح الأسرة بصفة خاصة وعامة المسلمين بصفة عامة ، وسميت اللجنة بـ"انجمن آل هاشم" انعقدت الجمعية في الساعة الثامنة والنصف 6/ جماد الأولى سنة 1313هـ الموافق 27/ أكتوبر سنة 1895م في ربوع بيت السيد رشيد الدين ، وألقى فيه تقريرا عن أعمال الجمعية واقترح إنشاء مكتبة لها واتخذت الجمعية قرارا في تأييد حركة ندوة العلماء ومشروعها لإحياء المدرسة الإسلامية التي كانت أسست في رائيبريلي لمجهودات السيد محمود بن السر سيد أحمد خان مؤسس جامعة عليجره الإسلامية ، في ذلك الزمان أحوال المسلمين قد تدهورت إلى درك أسفل له أسباب كثيرة منها : تنافر المسلمين وعدم اعتناء العلماء بشؤون المسلمين والعلماء لا يعرفون ما يقتضيه الزمان ، وكانت السلطة في أيدي المسلمين وكانت العزة للمسلمين والعلوم والفنون والحضارة كلها كانت في أيديهم ، التجارة والزراعة كانت تبعا لهم ، وكان لهم الدين والدنيا ولكنهم لما بدأ الانحاطاط في حياتهم والانصراف عن الدين انحرفت حياتهم في كل جانب كان لهم فيه تفوق وتقدم ، وكان العلماء منعزلين عن مسؤوليتهم والأغنياء كانوا منغمسين في لذات الحياة وترفها والفقراء كانوا في البؤس والشقاء لدفع هذه النقائص تقدمت جماعة من العلماء الراسخين في العلم والعمل إلى تأسيس جمعية سميت ب"ندوة العلماء" .
في مدينة كانفور أولا عقدت جمعية ندوة العلماء احتفالا سنويا ، وفي السنة الثانية احتفلت في مدينة لكناؤ ، هكذا عني كثير من العلماء الربانيين بتأسيس الجمعيات والمدارس في مدن الهند وقراها إنهاضا للمسلمين ، قد اشتهر فيهم السر سيد أحمد خان ، ولكن من الأسف إنه عنى بظاهر المسلمين وخارجهم أكثر واعتنى بالرقي المادي فقط ، ولم يحتفل بالأمور الدينية ، إن إنشاء هذه الجمعية المباركة باسم ندوة العلماء كانت الخطوة الأولى إلى الإصلاح وإثارة حمية الدين في المسلمين ، حينما أسست جمعة ندوة العلماء الشيخ عبد الحي انتقل من إطار جمعية آل هاشم إلى إطار ندوة العلماء الواسع الشامل الذي يعم الهند بل يتخطاها إلى الوطن الإسلامي الكبير ، فقد كانت مواهبه وطاقاته وفكره العميق ونظره البعيد تتطلب مجالا أوسع وميدانا أفسح ،انتقل إلى حركة ندوة العلماء سريعا وانضم إليها ووهب لها حياته ومواهبه .
إن القرن التاسع عشر الميلادي كان قرن ازدهار الغرب وانحطاط الشرق ، وقرن الاستيلاء المادي ولغلبة الصناعية ، فحاول الغرب أن يخضع العالم له ويرغمه على قبول حضارته المادية في هذا القرن ، أعانت الأمم الإسلامية صراعا عنيفا بين الشرق والغرب ، انعزل العلماء عن ميدان الحياة واشتغل بالنزاعات الفرعية الفقهية ، وكان المسلمون في الهند بين الطائفتين ، طائفة قد آمنت بالعلوم الغربية وآمنت بعصمة الغربيين في علومهم وسيادتهم وإمامتهم وفي كل شيء ودعت إلى قبول نظامهم في التعليم وطائفة قد آمنت بعصمة العلماء المتأخرين في منهج دروسهم وتربيتهم لا يرون عنهم بدلا ولا يجدون عنهم محيصا ، أدرك هذا الخطر العظيم رجال من أهل الدين المتين ، والعلم الراسخ والنظر الثاقب ، في مقدمتهم العالم الكبير الشيخ الصالح الأستاذ السيد محمد علي المونكيري ، وكثيرمن أصحاب الشيخ الكبير الأستاذ فضل الرحمن الكنج مرادآبادي رحمه الله قدس الله سره ، وتلاميذ الأستاذ الكبير الأستاذ لطف الله العليجري واجتمعوا وشاوروا في الأمر وبحثوا في مسائل التعليم الديني ومستقبل المدارس العربية وشؤون المسلمين الاجتماعية والخلقية وصحت عزيمتهم على تأسيس جمعية دينية علمية تعنى بمسألة التعليم الديني وإصلاح المسلمين الاجتماعي والخلقي والجمع بين طبقات المسلمين العامة .
لما جاء وقت انتخاب النائب في الحفلة السنوية اختير الشيخ عبد الحي نائبا للأمين العام الشيخ الأستاذ محمد علي المونكيري وقبل الشيخ هذا المنصب طوعا لأنه كان راغبا في خدمة في سبيل الله فأصبح الشيخ مساعدا للأمين العالم في جميع شؤون الندوة وأهدافها ، لما عرض عليه راتب رفض الشيخ وظل يخدم الندوة بغير راتب يتقضاه ويعمل مجانا ، وقد احتفلت ندوة العلماء احتفالا ثالثا في بلدة رائي بريلي وقدم الشيخ محمد علي المونكيري الأمين العام لندوة العلماء تقريرا ، أشار فيه بخدمات الشيخ عبد الحي في أسلوب قوي وأثنى عليه ثناء بالغا ، لما سافر الشيخ المونكيري إلى الحجاز اختار عالمين للإشراف على شؤون الندوة أحدهما الشيخ عبد الحي والثاني الشيخ عبد اللطيف السنبهلي ، لكي لا تتأثر مقاصد الندوة بغيبيته الطويلة ، وأرسل الشيخ المونكيري مكتوبا طويلا إليهما "إني أحمد الله فأنتما رجلان مهيئان من الله لشؤون ندوة العلماء ، ورجائي فيكما كبير وعملي وطيد فأطال الله عمركما في الخدمة ، ولا أستبعد أن الله تعلى سيؤيدكما في هذا الأمر العظيم " ، أرسل أيضا مكتوبا آخر "إني سعيد مسرور جدا بعلوّ همتك ولتحملك في المشاق وأعرف أنك تعيش في ضنك وضيق وتعلم أن كل من خلف أثرا خالدا وذكرا حسنا في التاريخ الإسلامي ، إنما قام به في عسر وقناعة وزهادة ، وقد سجل اسمه في الخالدين في التاريخ الذهبي" ،  بعد وقت قليل وسار مدير مكتب ندوة العلماء ولأجل ذلك انتقل الشيخ من لكناؤ إلى شاه جهان بور ، وكان تلك المدرسة تقوم تحت إشرافه ، فكانت مجلة "الندوة" تصدر من مكتب ندوة العلماء ، كان رئيس تحريرها العلامة شبلي النعماني ويساعده الشيخ حبيب الرحمن الشيرواني رحمهما الله  .
صفحات تاريخ ندوة العلماء صفحات مشرفة في عهد الشيخ عبد الحي رحمه الله ، وقد استطاع بعون الله تعالى أن يتغلب على نزاعات مختلفة وتفرقات متنوعة ، ويوحد بين أعضاء لجنة ندوة العلماء ، النجاح الأول الذي حصلت في عهد رئاسته ندوة العلماء هو أن طلبة دار العلوم لندوة العلماء القدامى كانوا قد اسسوا لجنة خاصة لهم ، وكانت تدخل في شؤون الندوة ، ولما أصبح هؤلاء الطلبة القدامى أعضاء مسؤولين في المجلس الاستشاري زالت الخلافات وتبخرت النزاعات ونشأ بين المسلمين وبين الشباب تفاهم والتقاء على غاية النهوض بندوة العلماء ، إن أول خطوة خطاها الشيخ هو أنه كان أساتذة العلوم العصرية ، يتفوقون على أساتذة العلوم الدينية في الرواتب ، وقد كان ذلك شرطا للمنحة التي كانت الحكومة تعطي للندوة واقترح الشيخ رفع التفريق في الرواتب وتسويتها بين موظفي الندوة ، فلم يبق في الرواتب بين مدرسي العلوم الدينية والعصرية فارق ، ولأجل ذلك وجدت رواتب الموظفين والأساتذة كلهم .
لما أصبح الشيخ رئيسا لندوة العلماء أراد أن يسن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، وقد كان الطلبة يصلون الصلاة الخمسة والجمعة في قاعة من قاعات دار العلوم ، فلم يكن هناك مسجد ، فقدم اقتراحا أمام المجلس الأعلى لندوة العلماء لبناء مسجد في ساحة دار العلوم فوافق المجلس على ذلك وأراد أن يبني مسجدا ، ولكن ما استكمل المسجد في حياته ، وقد أراد الله أن يتم هذا في دور ابنه الدكتور السيد عبد العلي الحسني ، وكان الطلاب يسكنون في القاعة الدراسية ولأجل ذلك عزم الشيخ على بناء رواق للطلبة ، وأسسه ، هكذا ارتبط الشيخ عبد الحي الحسني رحمه الله بندوة العلماء منذ نشأتها وبذل جهوده لرقيها مساعدا أو نائبا للأمين العام حتى اختير الأمين العام ، وإن ولوع الشيخ بالندوة وشؤونها قد بلغ إلى أقصى حد ، وكان يخصص معظم أوقاته لتدبير شؤونها وبث الوعي الثقافي في الطلبة والأساتذة ، وظل على ذلك عاملا محتسبا حتى لقي ربه .
وكان الشيخ عبد الحي رحمه الله مشغولا بالتأليف والمطالعة والمعالجة بشؤون ندوة العلماء في جانب ، وفي جانب آخر كان يباشر تعليم الأدب والإفتاء ، وقد قرأ عليه الشيخ الفاضل الشيخ سليمان الندوي المقامة للحريري، وكانت له المهارة والحذاقة في التدريس ، يقول الولد الأكبر الدكتور السيد عبد العلي إنه كان يدرس القرآن والحديث والأدب والطب ، وقد ترك تدريس الأدب والطب من سنوات طويلة قبل وفاته ، ولكنه لم يترك تدريس الحديث الشريف حتى لحق بالرفيق الأعلى ، وكان يدرس الحديث في آخر عمره لوقت قليل فقط ، إنه كان يحب كثيرا القراءة والمطالعة والتأليف والكتابة والرسالة ، تبلغ مؤلفاته نحو ثمانية عشر كتابا في اللغات العربية والأردية والفارسية .
"تهذيب الأخلاق" وهو كتاب نفيس في الحديث النبوي ، و"منتهى الأفكار" هذا شرح لتأليفه تلخيص الأخبار ، و"كتاب الغناء" يشتمل هذا الكتاب الوجيز على الأمور الشرعية التي يحتاج الناس إلى معرفتها ، و"تعليقات على سنن أبي داود" كان هذا من أعز أماني الشيخ في حياته ولكن وافته المنية قبل إكماله ، و"شرح المعلقات" و"ريحانة الأدب وشمامة الطرب" هذا كتاب لتدريس علم الصرف والنحو على الأصول الاستقرائية ، و"القانون في انتفاع المرتهن بالمرهون" و"كل رعنا" هو تأليف رائع باللغة الأردية في تاريخ شعر اللغة الأردية وشعرائها ، و"ياد أيام" (ذكريات للماضي) هذا كتاب جميل موجز عن العهد الإسلامي في ولاية غجرات وحضارتها ، و"مدينة دلهي وما حولها" هو انطباعات رحلته العلمية ، و"طبيب العائلة" هذا كتاب في اللغة الأردية ليكون طبيبا ميسورا ، و"تعليم الإسلام" هذا الكتاب وجيز في اللغة الأردية ، أوضح الشيخ فيه المسائل الفقهية الضرورية في حياة المسلم ، و"نور الإيمان" وهو رسالة وجيزة عن عقائد الإسلام لتعليم الأطفال ، و"تذكرة الأبرار" ألفها العلامة في اللغة الفارسية جمع فيه أحوال الشيوخ والعلماء من أسرته ، و"رسالة في سلسلة المشائخ النقشبندية" .
ولد العلامة في قرية "بندول" في مديرية أعظم كره من ولاية يوبي سنة 1858م ، ووالده الكريم الشيخ حبيب الله قد رعاه وصانه منذ صغره من جلساء السوء وحفظه مكالبة الأفكار الشنيعة على ذهنه القصير ، فعاش هو تحت القوانين الدينية وحول ضوابط الإسلام وقواعده .
وبدأ زمن دراسته في "جمشه رحمت" تحت تربية أستاذه الجليل محمد الفاروق الجرياكوتي وتدريبه الحسن ، ودرس الفلسفة والحكم عنده وتمهر فيها واهتم بها ، وبعد إكمال دراسته فيها رحل إلى العلماء الكبار في الهند لحصول علومهم الجمة ونيل أفكارهم الجليلة التي جاشت من أذهانهم العالية مثل الشيخ عبد الحي الفرنكي محلي والشيخ قاسم النانوتوي رحمهما الله حتى ظفر واغتنم بهم ، وبعد ذلك ذهب إلى لاهور من ولاية بنجاب وتلمذ هناك على الشيخ فيض الدين وتمرن عنده في الشعر العربي وأدبه وتعلم منه كتاب "ديوان الحماسة" لأبي تمام ، حينما أكمل دراسته ذهب إلى مكة المكرمة لقضاء الحج فحج بفضل الله ثم رجع إلى الهند وشارك مع أبيه في التجارة والزراعة وساعده فيها .
إنه أحب العرب والعربية وشعرها وآدابها ونثرها وأساليبها حتى كان يتمنى أن يكون مثل الإمام الجاحظ الأديب ، وتقبل الله دعاءه وأنفذ رجاءه فطبعت لشبلي مقالات متعددة في مجلة "ثمرات الفنون" من القسطنطينية ، ومجلة "السلام" من طرابلس ، ومجلات "المؤيد" و"المنار" و"الهلال" من مصر ،و كانت له علاقة وطيدة مع السيد رشيد رضا صاحب مجلة "المنار" من مصر ، وكان هو يحب شبلي ويحترمه كثيرا حتى لما بدأت حركة إصلاح جامعة الأزهر اقترح لها رشيد رضا ثلاثة من العلماء الأجلاء واحد منهم العلامة شبلي .
وكان الشيخ شبلي شاعرا كبيرا في الأردية والفارسية ، وقد اشتهرت أبياته وأناشيده بين طلابه وأقرانه ، كانت أشعاره مؤثرة بليغة وجذابة ممتازة ، كتابه "شعر العجم" كتاب مشهور طبع في خمسة أجزاء ، وكان الشيخ شبلي مجمع العلوم الدينية برزت مهارته في الفنون المتنوعة وخطا خطوته في المعارف العصرية ونزل في معركة علم الحديث وترجح في علم أسماء الرجال ، فكان يطالع كثيرا من الكتب في فن أسماء الرجال .
قد وقع في حياته أمر مهم حول أفكاره وغير آراءه ورفع شأنه وذاك أنه عين معلما في جامعة عليجره التي رأسها وقادها الشيخ السيد أحمد خان الذي اشتهر في تاريخ الهند بأنه هو أول مسلم بنى مدرسة تتبع مسلك الغرب في منهجها الدراسي وتدرس فيها العلوم العصرية والفنون الحديثة ، والتحق العلامة شبلي بجامعة عليجره والتزم مع السيد أحمد خان ، وهذا الارتباط الغريب نور له طريقا جديدا في حياته وتعرف فيها على الفلسفة والمعارف الحديثة ، وقرأ منها كتبا لعلماء أوربا وعرف بها آراءهم وأفكارهم ، رغم ذلك كله ما غلبت آراء أحمد خان ومسالك علماء أوروبا على العلامة شبلي وتوقف الشيخ بين مذاهبهم ومذهب علماء المسلمين في مقام متوسط سديد ، وكان يجلس مع أحمد خان ويتكلم معه ساعات في مختلف الموضوعات والفنون وكثرت بينهما الصداقة وازدادت فيهما العلاقة مع أن الشيخ أحمد خان أكبر سنا منه بأربعين سنة ، وكان هناك في جامعة عليجره مكتبة عريضة حافلة بالكتب للسيد أحمد خان ، فالعلامة شبلي قضى أوقاته وأنفق معظم فراغه فيها ، مرة رأى هناك رجلا من الغرب متعمقا في القراءة فأنس به وتكلم معه فإذا هو مؤرخ مشهور "سر توماس أرنولد" من فرنسا ، ما انقضت أيام حتى قويت بينهما العلاقة ورسخت الرابطة بينهما حتى سافر معه إلى عدة دول إسلامية في مصر والقسطنطينية والشام وترك ، وزار هناك كثيرا من الكليات والجامعات والمدارس وتعرف عن كثير من المناهج الدراسية الإسلامية .
وبعد فترة قليلة إنه ترك جامعة عليجره وذهب إلى حيدرآباد والتزم بجامعتها مدرسا حتى قضى فيها عدة سنين من حياته التعليمية ففي هذه المدة جرت هناك مشاورة بين بعض العلماء الكبار المؤسسين لحركة ندوة العلماء من الهند مشاورة عظيمة في تأسيس جامعة إسلامية في مديرية لكناؤ في ولاية يوبي تحت رئاسة العلامة السيد محمد علي المونكيري رحمه الله ، فانعقدت مؤتمرات حول تأسيسها وتقرير منهجها الدراسي والشيخ شبلي أبرز دوره وأظهر جودته في المشاورات والاجتماعات واختار هذا المجلس اثني عشر رجلا من العلماء الكبار من مختلف الأمكنة والمدارس يتشاورون في المنهج الدراسي لهذه الجامعة وعلى مقدمتهم العلامة شبلي ، إنه أظهر رأيه القيم وقدم أمامهم صورة منهج دراسي يجمع بين المنهج القديم والجديد ، فوافق هذا الوفد المختار على رأيه ومسلكه وقرروها ولكن بعض العلماء المتشددين وبعض المتعصبين لم يحبوا هذا المسلك الذي قدمه العلامة شبلي لأن ذلك المنهج مركب من منهجين: منهج قديم اتبعته المدارس الإسلامية منذ زمان في الهند ومنهج جديد يشمل اللغة الإنجليزية وكتب علماء أوروبا وما ركز عنايته على المنهج القديم فقط ، فأنكروه وغلظوا عليه لأن مسلمي الهند قبل أن تستقل الهند من أيدي البريطانيين كانوا لا يحبون اللغة الإنجليزية وحرموها على أنفسهم وعلى نسلهم لأجل أنها لغة يتكلم بها البريطانيون الذين دمروا أحلام أهل الهند وسلبوا أموالهم الخصبة ، فكرههم المسلمون وكرهوا أفعالهم وأخلاقهم وزيّهم ولغتهم وأفتى علماء المسلمين أن لغة الغرب حرام عليهم لشدة غلظهم وكثرة عداوتهم على حكومة البريطانية لا للغة ، فما وافقوا رأي العلامة شبلي وأنكروا عليه آراءه وشددوا فيها ، ولكن العلامة شبلي قد أيقن في نفسه وقرر أن يفعل هذه الجريمة الشنيعة إن كانت جرعة أي إدخال اللغة الإنجليزية في المنهج الدراسي لدار العلوم ندوة العلماء .
وكانت جامعة دار العلوم لندوة العلماء متبعة في أولها مناهج الجامعات الأخرى الإسلامية التي توجد في مختلف أنحاء الهند أي منهجا قديما لم تعتريه أي حضارة ولم تشمله أي مدنية لأن رئاستها وقيادتها دارت تحت أيادي العلماء الذين اشتعلت نفوسهم بنار العداوة والبغضاء على البريطانيين وعقدت قلوبهم بكتب العلماء القدامى وأحبوا التعمق والانحدار فيها دون غيرها ، فلما اختير العلامة عميدا للشؤون التعليمية لدار العلوم سنة 1905م أنفذ كثيرا من المناهج الدراسية وأورد شتى التغييرات والتعديلات في المنهج الدراسي ، فتميزت دار العلوم عن غيرها وترقى شأنها في الأمة وأنتجت كثيرا من النابغين المهرة في فنون متنوعة وأنشأت أجيالا تقدموا مع تطور العصر الحديث ومطالباته المتحضرة ، فمن خدماته الجلية أنه أدخل اللغة الإنجليزية في الدراسة وألزم الطلاب على حصولها وتعرفوا عنها وقاموا عليها نشطاء مجدين كأنهم شموا رائحة جديدة ونالوا شيئا عجيبا ، وذلك لأن العلامة شبلي تفكر وفهم أن الأمة المسلمة إذا اعتزلت هذه اللغة وتولت عنها لتقع في خسارة شديدة في مجال الدعوة الإسلامية وتبليغ الرسالة الإلهية ولا تستطيع أن توسع نطاق دعوتها إلى الدول الغربية لم تبلغ إليها الدعوة الإسلامية .
والعلامة شبلي درب تلامذته ومتعلميه على الخطب والتقارير بلغة فصيحة جذابة في الأردية والعربية فانعقدت جلسات وحفلات بين الطلاب فتمرنوا فيها على الخطب العربية والأردية ، ومع ذلك كله أنه ألحق خطة جديدة بالمنهج التعليمي لندوة العلماء وهو فصل خاص للتخصص في الفنون المختلفة ، وفي سنة 1909م افتتح في الجامعة فصل خاص في قسم التخصص في الكلام والأدب وعينت لها سنتان ، ورحب أعضاء ندوة العلماء هذا التقدم الجديد ترحيبا حارا واطمأنوا بها .
وكان العلامة واعظا خطيبا يعظ الناس ويحرضهم على الخيرات ويشجع النساء والأطفال للدراسة والتعليم ، إنه مجد التاريخ ولونه بتلامذته الكرماء وبطلابه الفضلاء أولهم عبد الحميد الفراهي هو عالم جليل ماهر وكان مجمع اللغات ، كتبه جليلة فصيحة ومقالاته سامية أدبية وأساليبه ممتازة ، وثانيهم السيد سليمان الندوي الكاتب الشهير الأديب الكبير يعرفه الحل والحرم ، والشيخ محمد علي جوهر القائد المشهور وزعيم حركة "الخلافة" التي لعبت دورها العظيم وبذلت جهدها النفيس لتحرير الهند المستعبد واستقلالها الخالد من أيادي البريطانية ، وكان العلامة شبلي عالما كاتبا ناقدا لآراء المستشرقين ونابغا في تاريخ العالم الإسلامي ، ألف كثيرا من المؤلفات النفيسة الغالية والأكثر منها يدور حول التاريخ الإسلامي الشريف والأشهر منها "المأمون" و"سيرة النعماني" و"مكتبة الإسكندرية" و"الجزية" و"الفاروق" .
قد برزت أهبته وظهرت مقدرته في الانتقاد على آراء العلماء الغربيين وفي التعليق على كتب المستشرقين والمسيحيين ، إنه ألف كتابا في العربية ناقدا على كتاب "تاريخ التمدن الإسلامي" لكاتب مسيحي اسمه "جورجي زيدان" والشيخ شبلي يجيب فيه عن آراء أعداء الإسلام ويرسم للأمة صورة صحيحة للدين الإلهي الحنيف كأنه عضو جيش جريء يقد رؤوس الأعداء ، وكان مفكرا عابدا مخلصا فرغ أوانه لتقدم الأمة الإسلامية وتطورها رغم أنه عليل سقيم طول حياته ومريض أعياه مرضه ، إنه كان مقطوعة رجله الواحدة ولكن ما أتعبت هذه الأمراض والبلايا نفسه الباسمة وأفكاره الرائقة وأقلامه الحادة ، قد صادمه كثير من المشاكل والضرر وقابله جمة من القلق والمهاجمات من معاصريه وأقرانه فدافع بأحسن أخلاقه وعمل لله وترك المنازل الرفيعة وانعزل عن المقامات لأجل المصالحة وعدم المخاصمة وتألق في معركة العلوم وتنور فيها وبقي مثل السيف حتى دعاه الله إليه وانتقل إلى رحمته وعمره 57 سنة .


مواضيع ذات صلة
الأدب العربي الهندي, الأعلام المسلمة, الأعلام،, دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات