ادعمنا بالإعجاب

القاضي عمر البلنكوتي : حسان مليبار

مجلة ملبار مجلة عربية سنوية تصدر عن قسم اللغة العربية في كلية السيد بوكويا التذكارية الحكومية، بيرنتالمنا كيرالا، الهند: 679322 البريد الإلكتروني: majallamalabar@gmail.com
بقلم: الدكتورعبد الرحيم . م. كأستاذ مساعد، كلية بي تي يم الحكومية، بيرنتالمنا..


المدائح النبوية هي من الفنون الشعرية التي عالجها الشعراء العرب في جميع العصور الأدبية. لقد عالج الشعراء العرب المديح النبوي أكثر من معالجتهم سائر أنواع المديح.  إن المديح النبوي ليس بدعًا من أغراض الشعر العربي، بل قد ظهر هذا الفن مع مولد النبي صلى الله عليه وسلم  ثم تطورت بعد بعثته صلى الله عليه وسلم وازدهرت في العصور المختلفة من العصر الأموي والعباسي  والمملوكي والعثماني حتى حققت تطورًا وازدهارًا ملحوظًا في العصر الحديث. وقد ازدهر المديح النبوي ازدهارًا  واضحًا في الفترات التي عانى فيها المسلمون المحن والشدة. وهذا النوع الجميل من فنون الشعر العربي قد مهّد الطريق للشعراء الإسلاميين على مدى القرون في امتداح الإسلام والنبيّ الكريم. ولذا نجد أن معظم الشعراء العرب في العصور المختلفة قد أثروا مجال الشعر العربي بقصائدهم القيمة في المدائح النبوية.
حسان بن ثابت رضي الله عنه : شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم
كان أبو الوليد حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصاري  أشهر  الشعراء المخضرمين. عاش في الجاهلية ستين سنة وأدرك الإسلام فأسلم وعاش ستين سنة أخرى في الإسلام. وأصبح حسان بعد إسلامه مدافعاً عن الإسلام  ليس من خلال سيفه ولكن من خلال نظم القصائد والأشعار، وأخذ يدافع عن الإسلام والمسلمين طيلة حياته سواء كانت في عصر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام أم في عهد الخلفاء الراشدين، فتقرب حسان بن ثابت من الرسول وأخذ يمدحه، وكان النبي يثني على شعر حسان، وكان يحثُّه على ذلك ويدعو له بقوله: "اللهم أيده بروح القدس"، وكان قد نصبت منصة خاصة داخل مسجد الرسول الكريم في المدينة لحسان بن ثابت رضي الله عنه وغيره من الصحابة لإنشاد المديح النبوي . ولا يزال حسان بن ثابت يمدح النبي صلى الله عليه وسلم ويدافع عنه طوال أيامه حتى لقب ب "شاعر الرسول" صلى الله عليه وسلم.
غلام علي آزاد البلغرامي : حسان الهند
كان غلام علي بن السيد نوح الحسيني الواسطي المعروف بغلام علي آزاد البلغرامي من الشعراء الهنديين الذين أدوا خدمات جليلة في فن المدائح النبوية، وكان شاعرًا بارعًا قادرًا على الكلام باللغات العربية والفارسية والسنسكريتية، وله قصائد عديدة بليغة في المدائح النبوية، والحقيقة التي لا يختلف فيه اثنان أنه وفق لمدح النبي صلى الله عليه وسلم، فأوجد في مدحه معاني كثيرة نادرة وأجاد فيها بحيث لم يتفق مثلها لأحد من الشعراء المفلقين ، ولذا لقب البلغرامي بلقب "حسان الهند" نظرا لقصائده البديعة التي مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القاضي عمر البلنكوتي : حسان مليبار
هو من العباقرة الذين أنجبتهم ولاية كيرالا، ومن أبرز القادة في بداية القرن التاسع عشر، العالم الكبير والشاعر المرتجل والمؤلف البارع والصوفي الزاهد وصاحب التبجيل والتعظيم لدى كافة الناس، وكان يحل كثيرًا من القضايا الهامة. وكان معظم  قصائد القاضي  في المدائح النبوية. وكان مشهورًا حتى في العالم العربي بقصائده الرائعة في هذا الفن وخاصة بقصيدته المشهورة  "القصيدة العمرية" التي أنشدها في روضة النبي صلى الله عليه وسلم. ويذكر أدباء العرب هذه الشخصية الفذة في بلاد مليبار باسم "عمر الفقير  المليباري" إكرامًا له وتشريفًا به.  إن القصائد التي قرضها القاضي في المدائح النبوية تجعله يستحق أن يلقب بلقب "حسان مليبار".
مولده  ونشأته
القاضي عمر بن علي مسليار البلنكوتي[1] ولد في اليوم العاشر من ربيع الأول سنة 1177هـ/1763م في بيت عريق في الدين والعلم في أسرة معروفة باسم ‘كاكترا’ في قرية بلنكوت . ووالده الشيخ علي مسليار وأمه السيدة آمنة. لقد توفيت أم القاضي وهو في سن الثامنة. وشب في أحضان والده وخالته، وتلقى التجويد والعلوم الفقهية من والده الذي توفي وهو في سن العاشرة. ثم التحق بدرس تانور وقرأ هناك ألفية بن مالك - الكتاب المنظوم في القواعد النحوية - على الأستاذ تونام ويتل أحمد مسليارـ  أحد العلماء الكبار من سلالة السادات المخدومين، ودراسة الألفية كانت تعد في تلك الأيام من أعلى مراتب التحصيل العلمي.
وكان القاضي عمر شديد التأثر بلحن الشاعرية الذي يغمر أبيات الألفية أكثر من تأثره بالمسائل النحوية التي هي ركيزته الأساسية، وكان مع ذلك حاضر النكتة سريع الفكاهة، وكثيرًا ما تدور بينه وبين زملائه المساجلات الشعرية ذات النكتة التي كان يكتبها على جدران المساجد منذ صغره، ولكن هذه الأبيات كلها أو جلها اندرست على مر الأيام وكر الدهور. ومن الأسف البالغ أنه ما بقيت من هذه الأبيات إلا نبذة يسيرة .
وفي أحد الأيام كان الأستاذ أحمد مسليار يدرّس كتاب الألفية في درس تانور، ولم يكن زميله أبوبكر كويا حاضرًا. فبدأ الأستاذ يقرأ الأبيات من الألفية حتى قال :
 وأو كإلا وإلى وحتى
فأضاف القاضي الشطر الثاني قائلا : أوكوي إلا وإليّ حتى
ومعناه : أن زميله أبا بكر كوي ما جاء حتى ذلك الوقت[2] .
مسيرته العلمية
ولم يكتف القاضي بهذه الدراسات، بل طارت به طموحاته إلى قرية فنان التي تعرف بمكة الصغيرة أو مكة مليبار. وفي أثناء إقامته في هذه القرية اتصل القاضي بالشيخ القاضي ممي كوتي مسليار الذي كان مشهورًا في الأوساط العلمية، وله الصدارة بين علماء فنان، وقد سأله الأستاذ بعض المسائل المعضلة في الفقه والعقيدة، فأجاب عنها بكل بساطة ووضوح، حتى أعجب به الأستاذ، فقال له: إنك لست ممن يدرس عندنا، إلا أنه واصل دراسته لديه، وقرأ عليه عدة كتب مثل: الفتح المعين والمحلي والتحفة وتفسير الجلالين ومنهاج العابدين وشرح الحكم حتى تمهر في الفنون الإسلامية كلها وفاز في إثراء آفاق العلوم والفنون من الفقه والتصوف والتفسير والحديث والبيان والمعاني والبديع والعروض والقوافي والنحو والصرف والمنطق والأصول والحساب والطب وما إلى ذلك من فنون العلوم المتعددة .
 وكان القاضي ماهرًا في علم الطب الرياضي وعلم الحساب. وكان الحاج كنجاموتي مسليار ومولانا سعيد مسليار الكاسركودي وأبو بكر مسليار الفرفننغادي من أصدقائه المعدودين بفنان. وكان يخطب يوم الجمعة في كثير من المساجد قرب فنان، ويقوم بكتابة الفتوى وإخراجها مع إجازة أستاذه ممي كوتي مسليار، وكانت العلاقة بينه وبين أستاذه وطيدة. ولما مرض الأستاذ مرضه للموت لازمه القاضي في معالجته ومواساته، وقرأ له الأستاذ - وهو على فراش الموت -كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي. وفي سنة 1196هـ/1782م توفي هذا الأستاذ الذي كان له دور كبير في توجيه النمو الفكري للقاضي عمر وتقويمه قلبًا وقالبًا .
أخلاقه وعاداته
نشأ القاضي عمر منذ طفولته على الأخلاق الفاضلة. وكان مشهورًا بذكاءه وقوة حفظه وخلقه وحلمه. وقد تسلح بالتقوى والعزة والصدقة والتوكل وروح التعاون والتضحية والثبات في الحق. وكان زاهدًا كثير التضرع إلى الله، وكان يستيقظ مبكرًا فيتهجد ويخرج إلى صلاة الصبح ويعظ الناس وينصحهم ويربيهم تربية إيمانية ويزكيهم تزكية إسلامية، فلا يخرج من المسجد إلا بعد الضحى، حتى إنه لم ينس عاداته في المحبس، فكان يجمع الأسارى ويعظهم موعظة حسنة. 
وكان يصوم الاثنين والخميس امتثالاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان يدعها حتى في آخر أيامه. كما أنه عمل لأجل التفاعل الإيجابي بين المسلمين والهنادكة. وذلك حرصًا منه على ألا يدع فرصة للإنجليز لإثارة العصبية بينهم. وكان يتعامل مع الإخوان الهنادكة ويتدخل في شؤونهم حتى صار أحب الناس إليهم. وقد غمروه بعطفهم وحنانهم يوم أطلق من السجن.
وبجانب سعته العلمية، كان يعرف الكثير من العلاج الطبي، وكثيرًا ما يأتي إليه الناس بمرضاهم، فكان يدعو الله لهم بالشفاء ويعطيهم بعض العقاقير. وله فيه أبيات كثيرة تتخللها المصطلحات المحلية وبعض الألفاظ المليالمية. وأما المطالعات البسيطة والأخيلة العميقة فكانت من أهم هواياته. وفي مجال التدريس فإنه حاز قصب السبق. وهو بجانب التدريس كان يهتم بتثقيف الطلبة وتربيتهم التي هي أهم شيء في عملية التعليم. وقد اغترف منه طلبة العلم وطلبة الفنون في وقت واحد.
وكان القاضي عمر من أبرز القادة الذين جاهدوا ضد الحكومة الإنجليزية في بداية القرن التاسع عشر. وقال عن الحكومة البريطانية إنها حكومة المستبدين، ونصح عامة الناس على رفض الضريبة المستحقة للأراضي، وقادهم في "حركة منع دفع الضرائب". ونظر إلى الإنجليز وحكامهم وعمالهم بنظرة مخيفة بشعة، وعاملهم معاملة الحمير والدواب وزجرهم زجر الكلاب. وبسبب حركاته ضد حكومة الإنجليز  سُجن في سجن شاوكات أولاً ثم في سجن كاليكوت. وفي أثناء إقامته في سجن كاليكوت كان مولعًا بقرض الشعر، وقد أرسل من السجن رسالة شعرية تحتوي على حياته في السجن إلى شيخه ومرشده السيد علوي المنفرمي. ومطلع هذه القصيدة :
وبعد فتشريف السلام المؤبد
                        إلى حضرة العلويّ شيخي ومرشدي

تريميّ دار حضرميّ الشريف من
                        خلاصان أولاد النبي محمّد

له في ترورنغادي في أرض منفرم
                        عيال ديار مع مقام ومسجد

سلام من المحبوب خدامكم عمر
                        مريدكم العاصي الفقير المكمد [3]

ولما وصلت الرسالة إلى السيد علوي المنفرمي ناقش الأمر مع أمراء المسلمين في مليبار، وقدموا إلى حاكم مليبار طلبًا لتسريح القاضي بلا قيد. فاضطر الحاكم لتسريحه مخافة على هيجان مسلمي مليبار، وبعدما أطلق من السجن انطلق القاضي إلى شيخه السيد علوي المنفرمي وحادثه محادثة ثم انصرف إلى وطنه .
وفاة القاضي
بينما كان القاضي يصلي صلاة التراويح سنة 1273هـ/1857م أصابه الصداع والقيء الشديد. واستمر القاضي في حال المرض ثلاثة أشهر. وكان عمره آنذاك 95 سنة. و في 23 من ذي الحجة سنة 1273هـ/1857م وافاه الأجل المحتوم. واجتمع حشد كبير لتشييع الجنازة، وصلى عليه أحمد مسليار الذي كان من تلامذته المحبين مع كونه من أسرته ‘كاكترى’. وقد دفن هذا العالم العظيم بجوار المسجد الجامع ببلنكوت الذي كان مقرا لأعماله. ومقبرته مزار مشهور في مليبار لا يزال يزوره كثير من المسلمين .
الشاعر المرتجل                 
وكان القاضي عمر البلنكوتي شاعرًا مرتجلا، وكان يقرض الأشعار بالبداهة في مواقف مختلفة مستخدمًا الألفاظ في اللغة المحلية. فكانت من عاداته أن يقرض المقطعات الشعرية مرتجلًا حين يرتكز في قلبه بواعث الشعر في سفره وحضره. وله عدة مقطعات في مختلف الأوضاع، وكلها ينطوي على المحسنات اللفظية والمعنوية مثل الطباق والسجع والجناس وما إلى ذلك. ومنها ما كتب في مخطوطة في المسجد الجامع الكبير بتانور (Thanur) :
نونان نونان لم يكتبها قلم
                        في كل نون من النونين عينان

عينان عينان لم يمسُسْهُمَا رمد
                        في كل عين من العينين نونان[4]
المراد بالنون في البيت الأول السمك وبالعين عين السمك، أما المراد بالعين في البيت الثاني النهر وبالنون سمك النهر. ذات يوم لما وصل إلى المسجد الجامع الكبير بفنان رأى غنمًا تنام داخله آمنًا،  فقال:
يا غنم يا غنم لا تنم ههنا
                        إن تنم ههنا فالضرب واجب [5]
ومن طرائف الأبيات التي قالها القاضي :
ألف الأقارب في الزمان قد انقلب

                        عينا فصار الأقربون عقاربا
عين العوالم في الزمان قد انقلب
                        ظاء فصار العالمون ظوالما [6]
مساهمات القاضي في المدائح النبوية
إن القاضي عمر البلنكوتي من الشعراء الذين ساهموا كثيرًا في تطور المدائح النبوية في كيرالا. وتظهر في قصائده في هذا الفن الجميل من الشعر براعته في الشعر العربي ومعظم أعماله في الشعر كان في المدائح النبوية . ومن أشهرها ‘القصيدة العمرية في مدح خير البرية’ وكتاب نفائس الدرر في النظم في العقائد ومدائح النبي صلى الله عليه وسلم، و قصيدة ‘ألف العاصي’، وقصيدة لما ظهر، وقصيدة ‘لاح الهلال’ بالحروف المهملة، ومقطع ‘جفتني وذبتني’ بالحروف المعجمة. وهذه القصائد كلها دليل قاطع على تضلعه باللغة العربية وغوصه في بحر الفصاحة والبلاغة متمكنًا من ناصية المعاني والبيان، وبارعًا في العروض والقوافي حتى كان يعد من روّاد المداحين للرسول صلى الله عليه وسلم .
"القصيدة العمرية" في المدائح النبوية
وهذه القصيدة قد نظمها القاضي أثناء رحلته إلى مكة المكرمة لأداء الحج سنة 1209هـ/1795م . ويقال في سبب نظمها: "وبعد أداء فريضة الحج انطلق القاضي إلى المدينة المنورة لزيارة الروضة الشريفة، ولما وصل إلى الروضة الشريفة وجد بابها مغلقا، وشغفه البالغ بالنبي صلى الله عليه وسلم جعله يشتاق إلى القرب من الروضة غير أن بابها مغلق ومنعه الحراس، وهناك تفجرت ينابيع شعره بوصف دقيق يتخلله خيال شفاف. ولم يستطع أن يملك نفسه أمام هذه العواطف التي انهمرت من ضميره، ولم تلبث أن صارت قصيدة رائعة أنشدها مواجهة إلى الباب المغلق، ولم يلبث أن ينشد القاضي هذه القصيدة حتى اهتزت جدران الروضة وانفتح بابه، ودخل القاضي داخل الروضة ورأى مقبرة حبيبه ملء عينيه وقرت عيناه وفاضتا فرحًا وسرورًا ودعا واقفًا بجوارها، وهذه الحادثة تعد من كرامات القاضي"[7].
استهل القاضي القصيدة مصلياً على الرسول صلى الله عليه وسلم، مشيرًا إلى وصف القرآن الكريم له بأنه على خلق عظيم حيث يقول :
صلي الإله  علي ابن عبد ﷲ ذى
                        خلق بنص ﷲ كان عظیما

فظًا غلیظًا لم یكن بل لینًا
                        برًّا رؤوفَ المؤمنین رحیما
صـلّـوا عـلـیـه وسـلّمـوا تسـلـیـمـا
يبيّن الشاعر عن أخلاقه وشمائله صلى الله عليه وسلم ويقول :
جَا رحمةً بمكارم متزينًا
                        متعطّفًا لجميع خلق محسنًا

بشريعة الجدّ العلي متديّنا
                        أعني خليل الله إبراهيما
صـلّـوا عـلـیـه وسـلّمـوا تسـلـیـمـا
ويشير الشاعر إلى فضل محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومدحه ويقول :
حبّ النبيّ ومدحه خير العمل
                        وعسى الإله به يبلّغه الأمل

وله بنيل شفاعة طه كفل
                        عند الإله منعّما تنعيما
صـلّـوا عـلـیـه وسـلّمـوا تسـلـیـمـا
ثم يشير الشاعر إلى قصته من أنه تقدم من بلد بعيد مرتجيًا زيارته وشفاعته صلى الله عليه وسلم، ويبين أحواله المؤلمة من منع الدخول إلى داخل الروضة، ويلتمس الرحمة والمغفرة من الحب العميق لسيد الكونين، ويشتاق إلى شفاعته ولقائه مباشرة من جنات النعيم، ويقول :
يا أكرم الكرما على أعتابكم
                        عمر الفقير المرتجي لجنابكم

يرجو العطاء على البكاء ببابكم
                        والدمع من عينيه سال سجيما
صـلّـوا عـلـیـه وسـلّمـوا تسـلـیـمـا
وقيل لما أنشد القاضي هذه الأبيات مع الشغف الشديد بالنبي صلى الله عليه وسلم انفتح باب الروضة الشريفة أمامه [8].
ثم يستمر الشاعر في إنشاده ويقول وهو يخاطب حبيبه النبي صلى الله عليه وسلم ويمدحه ويستغيثه:
ما جفّ دمع سال من عينين
                        لكنّه يجري على الخدّين

من حبّ قلبي سيد الكونين
                        حيّا وميتا في التراب رميما
صـلّـوا عـلـیـه وسـلّمـوا تسـلـیـمـا

إذ جئت طيبة روم زورة قبره
                        فهناك كنت أشمّ ريّا نشره

أغميت مدهوشًا لهيبة قدره
                        حبّا وإن كنت المسيء أثيما
صـلّـوا عـلـیـه وسـلّمـوا تسـلـیـمـا

فعليك صلّى الله يا خير البشر
                        أزكى الصلاة مع السلام المنتشر

ممّن يحبّك دائمًا عاص عمر
                        بهما مفاز غد حببت عظيما
صـلّـوا عـلـیـه وسـلّمـوا تسـلـیـمـا
ويختم الشاعر هذه القصيدة وهو ينادي النبي صلى الله عليه وسلم ويكرر الصلاة والسلام عليه مع إظهار حبه له ويقول :
وعليك حبّا يا رسول الله
            من عند ذا العاصي صلاة الله

معها تحيته سلام الله
                        إجلال قدرك عاشقا تفخيما
صـلّـوا عـلـیـه وسـلّمـوا تسـلـیـمـا [9]
نفائس الدرر
وهذا الكتاب من أبرز مؤلفات القاضي، واسمه الكامل: " نفائس الدرر في توحيد الملك المقتدر ومدح سيدنا محمد خير البشر" . وهذا الكتاب يحتوي على قسمين كما هو واضح من اسمه. القسم الأول في بيان بعض المسائل الاعتقادية عن وجوده تعالى ووحدانيته ومعرفة أسراره من الطبيعة وغيرها. وهو في تفصيل كلمتي الشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله.  وهو مجموعة أجوبة لأسئلة وجهها إليه بعض أصدقاءه. أما القسم الثاني فهو في المديح النبوي . ويبدأ الشاعر هذا القسم مصليًا ومسلمًا على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول :
أزكى الصلاة مع السلام المنتشر
                        ما لاح نجم والدياجي تحتكر

تترى على خير البنين من مضر
                        من بين رسل الله واسطة الدرر

بحر العطايا المصطفى العالي القدر
                        أهل الشفاعة خير من جا بالزبر

ركن الهدى وبل  الندى وهو البدر
                        بتمامه ولنوره استحيى القمر
ويقول القاضي عن الآيات التي ظهرت عند قرب ولادته صلى الله عليه وسلم :
    عند اقتراب ظهوره الآي الكبر
                        ظهرت فنارت كالصباح المنفجر

    وتفرّس الكفار أن جاء النذر
                        فيهم ببأس حلّ في ذاك الدهر

    وفشى من الكهان أنواع الخبر
                        بظهروه قالوا لقد حل الحذر

    طربت له الأكوان ألوية النصر
                        نشرت فلله الثنا في ذي الفخر

ويقول عن الإسراء والمعراج :
في ليلة الإسراء لما في صخر
                        بيت المقدس قام كلّمه الصخر

منه إلى السبع السماء قد ابتدر
                        وعلا عليها خارقًا كل الستر

حتّى غدا نحو المليك المقتدر
                        في القرب كالقوسين بل جاز القدر

بالسمحة البيضا وتيسير العسر
                        قد جا إلينا راجعًا قبل الفجر
يختم الشاعر القصيدة بالصلاة والسلام على النبي وآله وصحبه أجمعين ويقول :
وعلى النبي وآله النجب الغرر
                        صلّى المهيمن في الأصيل وفي البكر

وعلى الصحابة أجمعين بلا حصر
                        ما انهلت السكبا بماء منهمر

تمت بعون الله إذ هان العسر
                        حمدلت حمدًا وافيًا حقّ الشكر [10]
قصيدة ‘لما ظهرا’
                        وهذه القصيدة تسمى ب‘القصيدة العمرية الرائية’ نظرا إلى قافيتها. وهي في أسلوب الأغنية المليالمية، وتبدأ القصيدة بلفظ ‘لما ظهرا’، ولذا اشتهرت بهذا الاسم. وتحتوي القصيدة على 38 بيتًا، وهي رائعة ومركبة من البدائع اللفظية والموسيقية من الأوزان والقوافي ومؤلفة في شكل بحيث ينتهي كل جملة من كل بيت على حرف واحد وآخره على حرف الراء.
يبدأ الشاعر القصيدة مشيرًا إلى خوارق العادات التي وقعت إبان ولادته صلى الله عليه وسلم ويقول :
لما ظهرا عمّ البشرى
                        ضاء البصرى كسرا انكسرا

غاضت ساوة فاض سماوة
                        أهل عداوة نادوا حذرا

زان الجنة صاح الجنة
                        جاء المنّة تترى تترى

سيّد عدنان ماحي الأديان
                        كلّ الأكوان منه افتخرا
ثم يبين الشاعر أوصافه الخلقية والخلقية ويقول :
سهل الخدّين طول الزندين
                        عبل العضدين أهدب شفرا

عالي القدر فسح الصدر
                        رجل الشعر أجمع فخرا

طيّب نعت صمل الصوت
                        داني القوت يؤثر فقرا

أضوء أعدل أصفى أجمل
                        أقنى أنجل بثنا أخرى
ويختم الشاعر القصيدة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول :
وعلى الطاهر صلّى القادر
                        مهما الذاكر يذكر ذكرا

مع من أمسى عنه ينسى
                        بل في الإمسا يشمل بكرا [11]
قصيدة ‘لاح الهلال’
وهذه قصيدة في المديح النبوي قد نظمها القاضي باستخدام الحروف غير المنقوطة فقط. فهي تدل على تمكنه في العربية مما صار هو الآخر فضلًا له. وهذه القصيدة تحوي 25 بيتًا . يبدأ القاضي القصيدة بتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم بالهلال اللامع، ثم يبين فضل النبي صلى الله عليه وسلم وشرفه ويقول:
لاح الهلال  هلال لامع العلم
                        لله داع رسول الله للأمم

الحاكم العادل الصدر المعدّ له
                        كلّ المكارم سمع واسع الكرم

مدعوّ كل هو المأمول موعده
                        حال كلاما وصول واصل الرحم

معط مكارمه مول مسالمه
                        مصم مصادمه معطّر الأدم

محمّد أحمد مكرّم علم
                        مؤمّل كامل مسدّد الكلم
يقول الشاعر عن المقام المحمود للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيمة وعن شفعاته العظمى :
له معال عوال لا عداد له
                        له اللوا وله راموا لهولهم

لمّا لهول لهم هاموا وعمّهم
                        همّ أحاط وكلّ الكلّ للأمم

ما اسطاع رسل كرام للملمّ وهل
                        للكلّ إلا رسول الله لا ولم
وأخيرا يدعو الشاعر لدوام السلام والصلاة للنبي صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه والذين جاهدوا واستشهدوا في سبيل الله ويقول :
دام السلام دواما كلما همعا
                        مطر السماء لطه الطالع العلم

وآله وموال للرسول وهم
                        آووه لله هم كلّ أولو الهمم

مولاهم وسمهم واها لسعدهم
                        سمّ لأعداهم الرحما لرهطهم

أهل الصلاح ومأمول السماح ومعـ
                        دود السلاح وكرّار لمصطدم

أسد المعارك لو سلّوا السلاح لهم
                        للهام ما صدروا إلا رواء دم

هم كلهم علم الإسلام ما حملوا
                        إلا وكلّ عدوّ طارح السلم

له الإله وأملاك السماء له
                        صلّوا وللآل والكرّاء كالأطم

الحمد لله حمدا سرمدا وسلا
                        م الله عمّ لرسل الله كلّهم [12]
مقطع ‘جفتني فذبّتني’
وللقاضي عمر البلنكوتي مقطعة من خمسة أبيات في المديح النبوي قد قرضها باستخدام الحروف المنقوطة فقط.  وفي هذه الأبيات أيضا تبدو مقدرته اللغوية في العربية مرة أخرى. وفي هذه الأبيات يشبه الشاعر محبته صلى الله عليه وسلم بإمرأة، ثم يرجو أن يكون حبه للنبي صلى الله عليه وسلم نجاة في العالم البرزخي، ويقول :
جفتني فذبّتني فغظّت بغيظة
                        فذبت بشحن بين جنبيّ يخفق

يشقّقني شغفي فخفت تجنّبي
                        بنشق شذيّ في نبيّ ينشّق

نبيّ نجيّ فيض غيض بذي شجي
                        شفيق ينجّي ضيق ضيق يفتّق

جنيت ففي ذنبي تقضّت شبيبتي
                        قني خيفتي في ضجّة بي تضيّق

نجيب بني نجب تقيّ فينتخب
                        فظنّي بغيث نخبة فيّ يشفق [13]
قصيدة  "ألف العاصي"
وهذه القصيدة أيضًا من المدائح النبوية التي تدل على مقدرة القاضي اللغوية، وهي منسقة ومرتبة وفق الحروف الهجائية في بداية الصدر والعجز . وتحتوي القصيدة على 34 بيتاً في مدح الرسول والدعاء توسلاً به صلى الله عليه وسلم.
يبدأ الشاعر القصيدة بالبسملة والحمد والصلاة ويقول :
ألف العاصي الذي في البكر واللآصال صال
            أنظما في مدح من هو في ذرى المعال عال

أولا بسملت أحمد بعده الإله له
                        أهل الثنا والمجد حمد لانتها الآمال مال

بارئ الخلق على من أرفع المقام قام        
            بالهنا صلّ وصحب مثل من للآل آل
والشاعر يختم القصيدة بدعاء الله تبارك وتعالى لشفاعته صلى الله عليه وسلم  والصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه الكرام حيث يقول :
يا إلهي فيّ شفّع من به إلحاء حاء
            يوم بعث الميتين كن لذي الألوال وال

يا عظيم المنّ منّ عليّ بالأسعاف عاف
            يا عليم الحال ما لي غير شرّ الحال حال


يخلد الحبّ لطه نحوه الآمال مال
            يدئب الله الصلاة عليه فالميكال كال

ألا له عمّت وعن صحب رضى الإله لاه
            أهل الثنا والمجد حمد الإنتها الآمال مال
وهذه هي بعض القصائد والأشعار التي قرضها القاضي عمر البلنكوتي في المدائح النبوية. وهذه الأشعار كلها تدل على قريحة الشاعر البارعة في قرض الشعر وعلى مقدرته الفائقة على اللغة العربية. وقد نبعت أشعاره كلها من العاطفة الصادقة، لأنه كان متدينًا مخلصًا، مؤمنا بالله، محبًّا لرسوله صلى الله عليه وسلم، معتزا بثقافة الإسلام وشريعته، فخورًا بمجد المسلمين ومنتهم. فالعاطفة الصادقة تكون موصولة إلى الله ومتصلة برسوله صلى الله عليه وسلم وملائمة بالشريعة والعقيدة.
المراجع : الكتب العربية
1)        د. جمال الدين الفاروقي وعبد الرحمن محمد الآدرشيري وعبد الرحمن المنغادي : أعلام الأدب العربي في الهند ، مكتبة الهدى : كاليكوت ـ كيرالا ، الطبعة الأولى ، فبراير 2008م
2)        د. جمال الدين الفاروقي وعبد الرحمن محمد وعبد الرحمن حسن : أعلام المؤلفين بالعربية في البلاد الهندية ، مركز جمعية الماجد للثقافة والتراث : دبي ، الطبعة الأولى ، 1433هـ/1986م ،
3)        د. ويران محي الدين الفاروقي : الشعر العربي في كيرالا : مبدأه وتطوره ، عرب نيت : كاليكوت – كيرالا ، الطبعة الأولى 2003م
4)        عبد الغفورعبد الله القاسمي : المسلمون في كيرالا ، مكتبة أكمل ، ملابرام ـ كيرالا ، الطبعة الأولى ، 1421هـ/2000م
5)        عبد القادر الفضفري : جواهر الأشعار وغرائب الحكايات والأخبار ، سي. يم. برس ادوا ،  ترودانكور ، الطبعة الأولى ، 1358م
6)        د. محمد صدر الحسن الندوي: المدائح النبوية في الهند، معهد الدراسات الإسلامية: أورنك آباد ـ الهند ، الطبعة الأولى  1428هـ/2007م
7)        محي الدين كوتي مسليار البارنوري : كنز العبادة ، منشورات أس. أم. أى. : كاليكوت ـ كيرالا ، الطبعة الثانية ، 2010م
8)        يو. بي. يم. المولوي الماتوري : المورد الرحموتي في مولد الشيخ عمر القاضي البلنكوتي ، لجنة الجامع الكبير ببلنكوت

1)        Alavikkutty Faizee Edkkara : Umar Qazi (R), S.Y.S. Books, Calicut, Kerala.
2)        Veliyankode Hazrath Umar Qasiyude Jeeva Charithravum Krithikalum : Veliyankode Mahallu Jama-ath Committee , 1999



[1]  بلنكوت : قرية من قرى كيرالا قريبة من فنان المشهورة بمقاطعة ملابرام
[2]  د. جمال الدين الفاروقي وعبد الرحمن محمد وعبد الرحمن حسن : أعلام المؤلفين بالعربية في البلاد الهندية ، مركز جمعية الماجد للثقافة والتراث : دبي ، ط 1، 1433هـ/1986م ، ص : 171
[3]  د. جمال الدين الفاروقي وعبد الرحمن محمد الآدرشيري وعبد الرحمن المنغادي : أعلام الأدب العربي في الهند ، مكتبة الهدى : كاليكوت ـ كيرالا ، ط 1 ، فبراير 2008م ، ص : 57
[4]  عمر القاضي البلنكوتي: حياته ومؤلفاته (في اللغة المليالمية) ، لجنة الجامع الكبير ببلنكوت ، 1999م  ص: 108
 المرجع السابق ،  ص: 95[5]
[6]  علوي كوتي الفيضي الإدكري : عمر القاضي (ر) ، (في اللغة المليالمية) ، لجنة الشبان السنيين بولاية كيرالا . ص: 117 - 118
 [7] القاضي عمر البلنكوتي : حياته ومؤلفاته (في اللغة الميالمية) ، ص : 125- 126 
[8]  المرجع السابق ، ص : 125
 محي الدين كوتي مسليار البارنوري : كنز العبادة ، منشورات أس. أم. أى. : كاليكوت ـ كيرالا ، ط 2 ، 2010م ، ص : 450 ـ 457125[9]
[10]  القاضي عمر البلنكوتي : حياته ومؤلفاته (في اللغة الميالمية) ، ص : 202- 222
[11]  عبد القادر الفضفري : جواهر الأشعار وغرائب الحكايات والأخبار ، سي. يم. برس ادوا ،  ترودانكور ، ط 1 ، 1358هـ ، ص : 282- 283
[12]  المرجع السابق ص : 281- 282
[13]  أعلام المؤلفين بالعربية في البلاد الهندية ، ص : 183

مواضيع ذات صلة

إرسال تعليق

1 تعليقات

أكتُبْ تعليقا