ادعمنا بالإعجاب

صفحات من أدب الرحلات لأبي الحسن الندوي

(قد أخذت الدراسة التحميلية من مجلة الرابطة العدد: 603 ربيع الآخر ١٤٣٨ ه  يناير ٢٠١٧ م)
بقلم: منصور محمد ميران الهدوي
باحث من جمهورية الهند
يحتل أدب الرحلات موقعاً بارزاً في التراث العربي - الإسلامي، وقد ترك لنا الرحالة مؤلفات ومخطوطات أغنت التراث الأدبي بشكل عام. وقد عرف العرب السفر ومارسوا الترحال في شبه الجزيرة العربية والبلدان المتاخمة، واشتهرت رحلتا الشتاء والصيف، وأبحرت سفنهم شرقاً وغرباً. حدث هذا كله قبل نزول الإسام الذي وسع آفاق الرحلة خلال فترة الفتوحات الإسلامية.
ورحلة ابن بطوطة معروفة ومشهورة. أما المؤرخ الرحالة عبدالرحمن بن خلدون، فقد نوه بأهمية الرحلات وأورد ذكرها في مقدمته الشهيرة ، إذ قال "والرحلة لا بد منها في طلب العلم، ولاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرحال"
 ومن الرحالة المسلمين من عُنوا بالكشف الجغرافي ووصف الأقاليم ، منهم الأندلسي أبو عبدالله محمد بن محمد الإدريسي، صاحب كتاب ،"نزهة المشتاق في اختراق الآفاق " ومنهم صاحب مؤلف "مروج الذهب ومعادن الجوهر" المشهور بالمسعودي.
ومن المؤلفات ذات الأثر كتاب" الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيَّان التوحيدي  « 414 - 310ه  الذي نعته البعض بلقب "فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة" دأب التوحيدي على التطواف في  أنحاء الأرض، في الحجاز وفارس والعراقين والجبل، وخاض غمار الحياة واطلع على خوافيها، ولهذا جاء كتابه موسوعة أدبية فريدة ووثيقة تاريخية مهمة تصور في أسلوب نثري بليغ الحياة العقلية والاجتماعية للمجتمع الإسامي في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي. أغنت الرحلة وأخبار الرحالة العرب، أكثر من حقل ومجال معرفي ، وكانت رحلاتهم بمثابة عامل في تواصل الحضارة الإسلامية العربية مع غيرها من الحضارا ، وفي التفاعل الإيجابي بين الشعوب. وهذا جانب مهم من جوانب النظرة الإسامية المنفتحة على العالم، البعيدة عن منطق التعالي والعنصرية التي قامت عليها حضارات أخرى.
الندوي رحالة الهند:
ومن هؤلاء الرحالين سماحة الشيخ أبو الحسن الندوي، حيث كانت الرحلة في حياته هي الدافع والحافز لمعظم كتاباته، وكان دائما يضع نتائج رحلاته في مقالاته التي كان يكتبها بعد كل رحلة.
الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي أحد أعلام الدعاة إلى الإسام في عصرنا بلا ريب ولا جدال، عبَّرت عن ذلك كتبه ورسائله ومحاضراته، وانتفع بها الخاص والعام. كما أنبأت عن ذلك رحلاته وأنشطته المتعددة المتنوعة في مختلف المجالس والمؤسسات، وبعض كتبه قد رزقها الله القبول، فطبعت مثنى وثلاث ورباع، وأكثر من ذلك، وترجمت إلى لغات عدة.
والندوي ذو قلم معطاء، له مؤلفات عدة، ولكننا نشير في هذه المقالة إلى كتابين في مجال أدب الرحلات، وإذا قيست رحلة الشيخ أبي الحسن الندوي بالرحلات القديمة سواءً في طولها الزمني أم سياحتها الجغرافية فإنها تكون من قصار الرحلات
حيث لم تستغرق من الزمن إلا سبعة أشهر فقط، كما أنها في مسيرها لم تُلِمَّ إلا ببلاد الشام ومصر والسودان فقط. إلا أن المرء يقف أمام تلك الرحلة معجباً بشخصية الرحالة الندوي من جهة، وبأهدافه ووقفاته الإسامية في الرحلة وتطوافه من جهة أخرى.
ومن أهم ما يشار إليه هنا أن للشيخ الندوي عشقاً للسفر لا للسياحة، وذلك لأن الإسلام يدعو إلى السفر والسير في الأرض لطلب العلوم والمعارف ولنشر دين الله الحنيف بين كافة الخلق، ولدعوة سائر الناس إلى الإسلام. لذا كان السفر والارتحال جزءًا أصيلا من فكره والدافع لجميع مؤلفاته الجسام بلا شك. وأبرز ما تمتاز به كتابات الندوي عن غيرها:
أولا : النظرة الشاملة للمجتمع الذي يكتب عنه الرحالة، فقد لاحظ أن كثيرًا من كتب الرحلات يغلب عليها الجانب الجغرافي وتعتني بالآثار والمشاهد أكثر من أي شيء آخر، ولا يتناول في الغالب إلا جانبا من جوانب الحياة يتلاءم مع ذوق الأديب ونزعاته الخاصة، فاذا كان الرحالة أديبا مثلا اقتصر على فكر الأدباء المرموقين وتصوير الحياة الأدبية في هذه البلاد، وهذا لا يعطي صورة متكاملة عن المجتمع والحياة والعلاقات وغيرها من الأمور المهمة.
ثانيا : التسجيل المباشر للأحداث والمشاهدات لتبقي المشاعر والانطباعات حية في الذاكرة لأنه إذا مر عليها زمان ولم تسجل فستفقد حيويتها وصدقها، فهي أشبه بالظلال والأمواج، فلا تدوم ولا تبقى ولا يستطيع الأديب أن يستعرض ما شاهده ولا يستطيع أن يستعيد ما شعر به، وما ترك الحادث فيه من أثر نفسي.
 ثالثا: ظهور ذات الأديب وشخصيته في أدب الرحلة فلا بد أن يعكس عاطفته وعقيدته في عمله، لأن هذا الأدب إذا تجرد من العاطفة  والعقيدة والمشاعر، تحول إلى مجرد آلة تصوير باردة لا تؤثر في شيء ولا تصلح للبقاء. وتمثَّل ذلك في كتابيه (مذكرات سائح في الشرق العربي) وكتاب (أسبوعان في المغرب الأقصى)، لقد كان الإمام الندوي بعيداً كل البعد عن انشغال الرحالة عموماً بوصف البنيان، والانبهار أمام العجائب، والتعليق على الغرائب من الطباع، ولقاء الملوك والساطين، ووصف الأطلال والعاديات. لقد كان بعيداً عن ذلك كله؛ لانشغاله بالبحث عن أحوال المسلمين في البلاد التي زارها، والالتقاء بعلمائهم ومفكريهم، وربط حاضرهم بماضيهم، وإلقاء الموعظة في جموعهم، والتدارس مع زعمائهم حول أنفع السبل لكشف الغمة عن الأمة، وإحياء الشعور الديني والسعي نحو الوحدة الإسامية... وهذا نمط من الرحلات يستحق منا الوقوف معه طويلاً.
مذكرات سائح في الشرق العربي
 خرج الشيخ الندوي سنة 1951 م في رحلة إلى عواصم الشرق العربي ليدرس وضع هذه البلدان الديني والعلمي والاجتماعي، وليستفيد من تجارب علمائها ورجالاتها، وليعرف ببلاده (شبه القارة الهندية) وتجربة الدعوة والإصلاح فيها. وقد حرص في هذه الرحلة كما ذكر على تسجيل كل حديث، وكل انطباع في يومه غالبًا وأن يتحرى الدقة في النقل، والصحة في الرواية، هذا إلى جانب حرصه على تصوير المجتمع بنظرة متكاملة ، وإبراز شخصيته ومشاعره وأفكاره، وما يجول في خاطره من كل حادث وموقف عاشه أثناء الرحلة.
ويكفي أن نعلم أن الندوي عندما استقل الباخرة الإيطالية من ميناء جدة باتجاه ميناء السويس بعد غروب شمس يوم السبت في الثاني عشر من ربيع الثاني عام 1370 ه الموافق للعشرين من شهر يناير(كانون الثاني) عام 1951 م ألقى نظرة الوداع  كما قال  على ميناء جدة، وقال مخاطباً الجزيرة العربية: وداعاً أيتها الجزيرة العربية غير مهجورة ولا مملولة، فليست هذه الرحلة إلا في سبيلك والاتصال بأسرتك العزيزة المنتشرة على ساحل البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، أبلّغها تحياتك، وأرى ما فعلت الأيام بها بعد انفصالك عنها، وما فعلت برسالتك التي حملتها عنك للعالم والأمانة التي تقلدتها. ثم أعود إليك إن شاء الله أحكي قصة هذه الأقطار الإسلامية وما شاهدت في هذه البلاد من خير وشر.
وفي الباخرة (أوندا)التي أقلته ورفيقه محمد معين الندوي وعبد الرشيد الندوي من جدة، يبدي أبو الحسن الندوي أسفه لما رآه من تكاسل المسلمين المرافقين له عن الصلا ، إضافة إلى قلة احتفال النساء بالتستر والاحتشام، مع ضعف الرغبة بين الرجال المسلمين المختلفن بلدانًا وأعراقا في التعارف المسنون على الرغم من أنهم جميعا في سفينة واحدة ترمز إلى اشتراكهم جميعا في حياة واحدة وأمان واحد ومصير واحد. وأول ما وصل إلى السويس ورست السفينة لفت نظر الشيخ الندوي الزوارق البخارية التي تحمل رجالا يرتدون الزي المصري الرسمي وعلى رأسهم الطرابيش الحمراء الجميلة التي ذكرته بالمسلمين في الهند عندما لبسوها رمزًا منهم للولاء لتركيا الإسلامية . يقول: وقد حيانا بعضهم بالتحية الإسلامية ورحب بنا فشعرت بالفرق بين بلاد إسامية وبلاد غير إسلامية.وفي الطريق إلى القاهرة لا ينسى أبو الحسن الندوي أن يشير إلى السائق الذي حملهم بسيارته حتى إذا كانوا ببعض الطريق القاحل وقف قائلا: هنا نصلي الظهر، وكان ذا خلق وأدب، وعند وصوله إلى القاهرة يسجل امتعاضه من تحفظ بعض الفنادق في التعامل معه لأنه غير مصري مما أثار فيه الشعور بالأجنبية بل وبشيء من الإهانة لم يكن يتوقعها في بلد مسلم .
ولم يخفف عنه هذا الشعور إلا لقاءاته الكثيرة بمن جاء يستمع إليه أو سعى هو إليه. فقد التقى في الأزهر بمجموعة من الطلبة غصت بهم القاعة بطرابيشهم الحمراء وعمائمهم البيض فألقى فيهم كلمة ثم التقى بعد ذلك بالكاتب الشهير أحمد أمين يسوقه إلى لقائه كثرة مطالعته كتبه وشدة حبه له لكنه في غمرة اللقاء الحار اللطيف أنكر بعض آرائه الشاذة في التاريخ الإسلامي والتشريع مما لا يمكن إقراره عليه مع عدم انقطاع الحوار بينهما في مجالس عديدة. ويكاد يكون من العسير أن نشير إلى أن كل من زارهم أبو الحسن الندوي في رحلته في القاهرة من كبار العلماء أو جهابذة المفكرين أو أماكن التعليم ومراكز الدعوة. فقد التقى بالأستاذ محمد فريد وجدي صاحب دائرة المعارف الإسلامية وعنده رأى الأستاذ فؤاد عبد الباقي ناقل كتاب مفتاح كنوز السنة من الهولندية إلى العربية ، كما زار الشيخ المحقق زاهد الكوثري والأستاذ الأديب أحمد حسن الزيات وكانت له جولات في الفكر الإسامي مع الداعية الفذ الشيخ محمد الغزالي
ولم تفته زيارة قلعة القاهرة ولا مسجد عمرو بن العاص رضي الله عنه ومدينة الفسطاط وأهرامات الجيزة ومكتبة الأزهر ودار الآثار العربية ودار الكتب المصرية وكلية الآداب التي رأى فيها قاعة الجامعة الكبرى التي تعتبر ثاني أكبر قاعة جامعة آنذاك. كما زار كليات أخرى وسجل رأيه في التعليم المختلط فيها، ولم يفت أبا الحسن الندوي في رحلته إلى مصر زيارةُ بعض الأماكن غير الدينية كحديقة الحيوان ودار الهلال وشركة مصر للنسيج والغزل ومدينة العمال.
وبعد مقام مليء بالنشاط العلمي والدعوي في القاهرة استمر قرابة خمسة أشهر رحل أبو الحسن الندوي إلى السودان ممتطيا متن القطار الذي مر به على أسيوط فالأقصر عاصمة الفراعنة وفيها يقول: ومن غريب المصادفات بل من عجائب القرآن أني كنت أتلو سورًا من القرآن في الجزء الخامس والعشرين وهي سور مملوءة بالحديث عن فرعون وقد صادف أن القطار وقف بالأقصر وأنا أقرأ: "( وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)الزخرف: 51
ثم مر بالقطار بأسوان فالشلال ومنه انتقل الندوي إلى ركوب الباخرة النهرية ثم عاود ركوب القطار مخترقًا به هذه المرة الحدود السودانية إلى أن وصل إلى الخرطوم بحري وهناك نزل في ضيافة السيد الزعيم السوداني علي الميرغني زعيم حركة وحدة وادي النيل وأبدى إعجابه به كسياسي ومصلح ووطني قال عنه: إنه أشبه ما يكون بالعالم الهندي المسلم المشهور أبو الكلام أزاد في اتساع المعلومات والنشاط الفكري ، وقد التقى أبو الحسن الندوي في الخرطوم برئيس حزب الأشقاء الأستاذ إسماعيل الأزهري وسجل له آراء في العلماء الذين اشتغلوا بالدنيا وتركوا مسؤولية إحياء الدين وبعثه. وفي السودان ألقى أبو الحسن الندوي كعادته في معظم الأماكن العامة التي يقصدها  محاضرة في دار خريجي المعهد العلمي حول أهمية إفريقيا الدينية  لاقت استجابة طيبة، ولم يطل مقام الندوي في السودان أكثر من عشرة أيام حفلت بلقاء العلماء والوجهاء والكلمات الإيمانية والمباحثات الدينية.


فقد غادر بالقطار أولا عائدًا صوب مصر ثم بالباخرة التي تعرضت أكثر من مرة للتوقف بسبب قلة ماء النيل.
ومن مصر القاهرة توجه الحسن الندوي في رحلة في الشرق العربي إلى دمشق قلب الإسام النابض فوصلها يوم 1951/1/22 م. وكان أول من زاره الشيخ المصلح مفتي سوريا أحمد كفتارو الذي وصفه بأنه سريع الخاطرة يتناول في درسه تطبيق الآيات على الحياة، ثم زار الشيخ بقية العلماء الصالحين أبا الخير الميداني رئيس رابطة العلماء والشيخ زين العابدين التونسي شقيق الشيخ محمد الخضر حسين مفتي مصر السابق ثم التقى بالشيخ العالم الكاتب بهجة البيطار تلميذ الأستاذ رشيد رضا وتحادثا معه طويلا حول شيخ الإسلام ابن تيمية، ولم يفت الندوي زيارة كثير من معالم دمشق العلمية والأثرية. فقد زار الجامع الأموي ورأى قبة النسر وزار المكتبة الظاهرية قريبًا منه واطلع على كثير من نفائسها ووقف عند قبر الفاتح الإسامي صلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين، وزار دار الحديث الأثرية كما زار غوطة دمشق الغناء
صحبة الشيخ أحمد كفتارو ورأى فيها عجائب خلق الله في جمال الطبيعة. وقد حضر في دمشق جلسة للبرلمان السوري واستمع إلى كلمة الأستاذ محمد المبارك في أهمية الأخلاق في حياة الشعوب وكانت له ملاحظة قوية مفادها أن اللغة العربية أثبتت كفاءتها وقوتها  -كاللغات العالمية الأخرى-  في المناقشات البرلمانية. وقد سجل في رحلته إلقاء بعض المحاضرات والكلمات في عدد من المواقف وكان مستمعًا جيدًا كما كان متكلما فصيحا.
ومن دمشق انطلق أبو الحسن الندوي إلى عمان فالقدس حيث المسجد الأقصى ومسجد الصخرة وهناك التقى بالشيخ محمد صادق المجددي وهو وزير أفغاني فاضل كان معتكفً في إحدى حجرات المسجد الأقصى كعادته كل عام، كما التقى بالأستاذ أسعد إمام الحسيني سكرتير الهيئة المدنية العلمية وهي كهيئة كبار العلماء في مصر، وحضر اجتماع الهيئة العلمية الإسامية وتعرف إلى الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رئيسها وحضر عيد الفطر السعيد في القدس وذلك بعد احتلال اليهود لفلسطين فوصف العيد بأنه شاحب. ومن القدس توجه إلى الخليل مرورًا ببيت لحم حيث زار في الخليل مسجدها وقبر سيدنا إبراهيم عليه السلام ، كما زار رئيس بلديتها الشيخ محمد علي الجعبري الذي جمعه بعدد من علماء الخليل ، ثم عاد بعد ذلك إلى عمان حيث استقبله الملك عبدالله بن حسن وكانت له بين يديه كلمات مؤثرة
منتقاة كما كان الحال في كثير من اللقاءات. وعاد أبو الحسن الندوي ثانية إلى دمشق والتقى بالدكتور مصطفى السباعي والشيخ حسن حبنكة والشيخ مكي الكتاني والشيخ علي الدقر وألقى محاضرة في الجامعة السورية عن عوامل وأسباب ضياع فلسطين. وأمضى أيامًا في دمشق ينتقل من محفل إلى محفل ومن لقاء إلى لقاء حتى انتقل إلى حمص ليحاضر فيها ويزور رجالاتها وعلماءها. ثم توجه إلى حماه حيث النواعير
والآثار التاريخية ثم إلى معرة النعمان مرقد أبي العلاء المعري ليترحم عليه ومنها إلى حلب شقيقة دمشق وتوأمها فكانت له في حلب لقاءات وزيارات وكلمات لا يتسع المقام لسردها ... ثم عاد إلى دمشق ومنها إلى جدة منطلقه الأول. هكذا كانت رحلة داعية مسلم متحرقٍ شوقًا للقاء المسلمين مفكرٍ دوما في إصلاحهم والتواصل معهم.
 الأفكار والمشاعر المعروضة في الكتاب وأسلوبه:
 إن قارئ هذه المذكرات يدرك أن كاتبها حريص على رسم صورة متكاملة الجوانب للمجتمع الذي عايشه في تلك الفترة من حياته، ويستطيع القارئ أن يأخذ فكرة واسعة عن الحياة الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية ، وأن يعرف التيارات الثقافية والمستويات الحضارية لتلك المجتمعات المتنوعة، مما يعطي هذا العمل قيمة تاريخية مهمة، إلى جانب القيمة الأدبية والفكرية. وأما الدارس لهذه المذكرات فيلاحظ اهتماما كبيرا بالجوانب الفكرية والدعوية والأدبية لعلاقتها المباشرة بشخصية الكاتب، فهو رجل يحمل رسالة فكرية حضارية ويعيش الهم الإسامي ويحس بآلام ومشكلات المسلمين في هذه البلدان التي زارها، فهو رجل فكرة ورجل دعوة عبر عن مشاعره وجسد عقيدته بجلاءٍ ووضوح في هذا العمل وهو الأمل الذي طالما أكده في نظراته النقدية للأدب.
ويمكن أن نحمل تلك القضايا المعروضة في المذكرات في فكرة واحدة أن الشيح متألم من الواقع الإسلامي بمستوياته المختلفة، فهناك أزمة حضارية في البلاد العربية، والسبب يعود إلى تفسخ الأخلاق واستبداد الحكومات وتحزب في السياسة، وانصراف في الكلية عن الدين وعبادة المادة، ولا سبيل إلى التحضر إلا بوجود الشعور الديني الصحيح القوي في الشعب، ولا يكون هذا إلا عن طريق الدعوة العامة، والاتصال بالشعب وتربيته الدينية، وإيجاد الوعي في طبقاته ثم في الجمع بين العلم الديني والمعارف العصرية، ومما يلفت الانتباه في هذه المذكرات اهتمام الشيخ الندوي رحمه الله بإسلامية الأدب، وضرورة قيام جبهة قوية ضد الأدب المنحرف الذي أثر تأثيرًا وخيما في الأمة، وساهم في فساد الطبائع والسلوكيات، وشارك في التردي الحضاري، ويتميز أسلوب الكاتب في هذه المذكرات بوضوح العبارة وسامة الألفاظ ودقة المعاني، فالكاتب كما يظهر يحب الاسترسال مع البعد عن التكلف مما أكسب كتابه أسلوبًا يجمع بين الفائدة والمتعة كأنه قطعة من مؤلفه، فالأسلوب هو الرجل كما قرر النقاد ويكفيك هذا الكتاب لتعرف جوانب كثيرة من شخصية كاتبه ومنهجه في الكتابة الأدبية.
كتاب «   أسبوعان في المغرب الأقصي »
 أبحر الشيخ أبو الحسن الندوي برحلة إلى المغرب الأقصى سنة 1976 م لحضور مؤتمر حول الجامعات الإسامية. وكان أن قضى أيامًا زار خلالها هذا البلد الجميل واطلع على آثاره ومكتباته وتعرف على شعبه وعلمائه. وكتب هذه المذكرات التي عبر فيها عن ارتساماته وانطباعاته بأسلوب أنيق.
يغلب على هذه المذكرات الطابع التاريخي، غير أن كاتبها حرص أيضاً على تسجيل انطباعاته عند كل مشهد أو موقف يتعرض له، فجاء الكتاب مصورا لجوانب من الحياة بمستوياتها المختلفة في هذا البلد الإسلامي، ومعبرًا عن شخصية الكاتب الذي ينطلق دائما من فكره وعقيدته وعاطفته الإسلامية حين يتعامل مع الأشخاص أو الأفكار أو الأشياء.
إن كاتب هذه المذكرات رجل يحمل فكرة إسامية يدعو إليها ودافع عنها، فهو يرى أن أكبر ما يعانيه العالم الإسامي هو الفراغ والعوز ، وأشد ما يقاسيه من أزمات هو الضعف الإيماني والفساد الخلقي والتزعزع العقائدي. يقول: ألقِ نظرة على العالم الإسامي وانظر ماذا يعوزه؟ إنه غني بكل شيء، بعدد أفراده وبوسائله وثرواته وبثقافته وبذكائه، ولكنه رغم ذلك كله لا يملك ثقلا في الميزان العالمي، ولا دورًا رياديًا في اتجاهات العالم وأوضاعه وحوادثه، والأزمة الإيمانية هي سبب هذا التراجع الحضاري.
ويدعو الشيخ إلى ضرورة التمسك بقيم الحضارة الإسلامية وطابع الأمة الخاص ، والاستفادة من الحضارة الغربية في مجالاتها الإيجابية وتجاربها المفيدة التي تتفق مع تعاليم الإسام، حتى يعود للأمة عزها ومكانتها في العالم. ويبقى أن نشير إلى أن هذه المذكرات كتبت بأسلوب راق وشيق، على الرغم من ترجمتها من الأردية إلى العربية.

وفي الختام، يعد الشيخ أبو الحسن الندوي – حفظه الله – أحد الرواد الأوائل في الصحوة الإسلامية المباركة ، حيث شارك في نهضتها بفكر عميق ورأي سديد، وعزيمة با فتور، وقد دأب الشيخ على الدعوة إلى بناء وتشكيل الأدب الإسلامي، وحدد سماحته الأطر العامة لهذا الأدب، وقدم الشيخ في هذين الكتابين أنموذجًا للأدب الإسلامي.
___________________________________________________
راوابط ذات صلة


مواضيع ذات صلة
الأدب العربي الهندي, الأعلام المسلمة, التصوف, الندويات, دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات