ادعمنا بالإعجاب

قضية فلسطين والشيخ الندوي

 السيد شعيب الحسيني الطالب في السنة النهائية من الدراسات العليا-قسم الحديث
(مجلة النادي العربي السنوية عدد ممتاز عن منهج الإمام الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الدعوة والفكر الإسلامي لطلبة النادي العربي دار العلوم لندوة العلماء ، لكناؤ 1435هـ الموافق 2014م)

إن قضية فلسطين ليست قضية بلد دون بلد أو قوم دون قوم إنما هي قضية اعتقادية فكرية نظرية  بين كبرى الأديان السماوية كما أنها قضية استراتيجية سياسية جغرافية تدور حولها رحى القضايا العالمية المختلفة بين كبرى القوات العالمية وهي المحنة الكبرى للمسلمين وهي في الحقيقة تمديد وتتميم لسلسلة الكيد العظيم الذي أريدت به هذه الأمة على امتداد تاريخها.
إن الشيخ أبا الحسن الندوي كان مستميتا في سبيل الدعوة والإصلاح وإعلاء كلمة الحق ومتضلعا في الفكر الإسلامي الحنيف السمح الوسط ومن الممكن أن نقول إن جهوده الاجتماعية ومساعيه الفكرية تبدأ مرتبطة بقضية فلسطين جنبا بجنب وفي السنوات مابين 1934هـ و1939هـ قام الشيخ الندوي بجولات دعوية فكرية مع الشيخ محمد العربي في بعض البلدان والمناطق لأجل إيجاد الوعي والشعور بهذه القضية المؤلمة وقد كانت الحرب دامية بين العرب واليهود وكانت فلسطين تتوقد في نار الاضطرابات الدموية. كما أنه كان شديد العناية بهذه قلبا وروحا. لما منع المسلمون من أداء صلاة الجمعة في المسجد الأقصى المبارك أظهر ألمه وأسفه وحزنه هكذا: كانت هذه الجمعة ( 29  من صفر سنة 1387هـ )_والجمعة مباركة في التقويم الإسلامي_ يوما مشؤوما لم يعرف المسلمون يوما أشأم منه منذ قرون. ففي كل عين دمعة وفي كل صوت حزن وشجى وفي كل بيت حداد ومأتم وفي كل مجلس عزاء ورثاء. ( (المسلمون وقضية فلسطين ص:52) ثم في سنة 1951ه تشرف الشيخ الندوي بزيارة القدس والمسجد الإقصى المبارك وبقضاء أيام رمضان والاحتفال بعيد الفطر في القدس وقابل هناك كبار العلماء والقواد وعرف القضية مباشرة وعاينها بأم رأسه فكانت انطباعاته كما ذكره دقيقة مدركة الحقائق وهو يقول في كتابه "في مسيرة الحياة": إن قضية فلسطين كانت مسرحية قد أخرجها الإنجليز وأصدقاؤهم من قبل وكان الممثلون فيها الملوك العرب وحكوماتهم وقد ظهرت هذه المسرحية على منصة فلسطين وحققت مؤامرات بريطانيا واليهود وخططهم المدبرة بذر الرماد في أعين العالم العربي والعالم الإسلامي... والواقع المسؤول الأول عن دماء فلسطين هو الحكومات العربية وقادتها والجامعة العربية وقد حلى لي بعض الناس وهو يبكي هذه الحكاية المخزية كان منهم إمام المسجد الأقصى المبارك وسكانه وعماره والشيوخ المعمرون وأصحاب الحمية من العرب اھ . (ص:239) إذا كان الشيخ الندوي من الشخصيات العبقرية التي أدركت هذه القضية بما حواها من دوافع ومكايد ونظرت فيها بعمق وفهمتها على ضوء من سنن الله في الخلق والحياة وعلى إمعان النظر في القرآن وقصص الأمم و سنة الله في رفع الأقوام وخفضها لذا ما كتبه الشيخ عن هذه القضية المؤلمة نورا يهتدى به وفكرا سليما يضع يد الأمة على الداء ويصف لها أحسن الدواء. وكان الشيخ مهتما بها كل اهتمام راح يكتب ويحاضر ويبين ويحذر قبل قيام دولة إسرائيل وبعد قيامها. أما نكبة حزيران1967 م هزت الأمة المسلمة من أقصاها إلى أقصاها وطفح قلب الشيخ بالألم والأسف والمرارة والحزن والقلق فبدأ يكتب على هذه القضية ويلقي محاضرات في أنحاء متعددة من العالم الإسلامي كمهمة كبيرة ومسؤولية عظيمة.
رؤية الشيخ الندوي إزاء القضية
كان الشيخ الندوي ينظر إلى فلسطين أن قضيتها قضية إسلامية وقضية محورية وأساسية ولا بد أن يضحي العرب والمسلمون من أجل هذه النظرة لا من أجل أيديولوجيات مستوردة وزعامات متألهة وشعارات حزبية تمزيقية... ولم تكن القضية قضية شخصية يسقط فيها قائد ويخفق فيها زعيم فما أهون هذه القضية...ولكن اقترنت بهذه القضية قضية الحكومات العربية وتلوث بهذا الإخفاق الذريع "اسم العرب" الذي كان يملأ القلوب مهابة ورعبا في ديار العجم والذي ارتبط به تاريخ مجيد مشرق من أروع التواريخ الإنسانية. ومعالجة الشيخ الندوي لقضية فلسطين كانت تقوم علي الرؤية الإسلامية التي تري في هذه الكارثة نتيجة لا سببًا، وعقابًا إلهيا للعرب الذين خانوا الإسلام، وليس أمرًا ابتدائيا وقع عفوًا، أو ابتلاءً محضًا، أو ظلمًا... ولا سيما وأن الشيخ يدرك أن خطر اليهود لن يقف أبدًا عند حدود فلسطين، ولا عند الشعب الفلسطيني، وإنما سيمتد إلى العرب وبلادهم كلها...!!  لقد قال الشيخ الندوي حين ألقى خطابا في جامعة دمشق في التاسع عشر من شوال 1370ه الموافق 23/7/1951م وفدت إلى الأقطار العربية العزيزة وقضية فلسطين هي شغلها الشاغل وحديث النوادي والمحافل وإنها لجديرة ةبأكثر من هذا لأنها قضية الكرامة والشرف وقضية الإيمان العقيدة والفاصلة بين الحياة والموت.
ويتجلى في نظرات الشيخ وتعديلاته أن نكبة فلسطين ليست على مفاجأة بل لها عوامل كثيرة أكثرها داخلية نفسية يقول وهو يحلل هذه القضية: "لم تكن كارثة استيلاء الصليبيين على القدس في القرن الخامس الهجري ولم تكن استيلاء التتار والمغول على بغداد ثم على العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري من فلتات الدهر أوعثرات الجدود لا أول لها ولا أخر كصاعقة تنزل على قوم من غير أن لهم نذير أو كحوادث الحريق المفاجئة التي تحدث في بيت كبير أو حي من الأحياء؛ بل بالعكس كانت هاتان الحادثتان الحلقة الأخيرة التي انتهت إليها سلسلة طويلة من الأمراض الخلقية والانحرافات الطائشة والتصرفات الأثيمة والمغالطات المتصلة والأوضاع غير الصالحة للبقاء في كل زمان ومكان وفوق كل ذلك حياة لا يرضاها الله ورسوله ولا يوافق عليها الدين الصحيح والعقل السليم" (مقدمة كتابه "المسلمون وقضية فلسطين") .
ولمثله المطلع الخبير أن يقول: القضية لم تكن غامضة ولا ملتوية وإنما كانت تحتاج إلى شيئ من التذوق بالقرآن وشيئ من معرفة طبائع الأشياء والاطلاع على ما يجري في هذه المنطقة التي تقع عليها مسؤولية الدفاع عن هذه القضية. (نفس المصدر(.
في هذه الآونة التي لم يكن أمر فلسطين واضحا جليا وقضيتها لم تكن معلومة الحقائق كما هي الآن أدرك شيخنا الندوي هذا الكيد الذي أريد به المسلمون وتلك اللعبة التي لعبت ضد أهل فلسطين حيث يقول: وعرفت أن جلوب الإنجليز لم يكن وكيل مصلحة الإنجلير فحسب بل كان وكيل اليهود أيضا وكان في بعض الأحيان يحتل بلدا باسم الجيش الأردني ثم يتركه لليهود وفي بعض الأحيان يؤخر الجيوش العربية ويقف دونها حتى يأتي اليهود ويأخذوا المكان. (مذكرات سائح الشرق الأوسط ص:258)
الأسباب التي أدت إلى هذه المأساة
 إن قضية فلسطين تحمل في طياتها أسبابا وعوامل أدت إلى نكبة تلو نكبة وجرت الأمة المسلمة إلى حضيض الذل والهوان يقول الشيخ الندوي وهو يصور الفلسطينيين: وقد شاهدت الفلسطينيين _أيام إقامتي القصيرة_ كاليتامى والغرباء المساكين قلوبهم مكسورة محطمة ورؤوسهم مطأطأة منكوسة ووجدتهم مكلومين كئيبين منكسري الخاطر فقد كانوا يقصون علينا من الوقائع ما تدمع العيون وتحزن القلوب وقد زالت ثقتهم تماما بالزعماء العرب وقادة البلاد.(في مسيرة الحياة ص239و240)
أسرد بالإيجاز بعض الأسباب المقتبسة من عبارات الشيخ الندوي:
إن الشيخ الندوي يدعو دائما إلى محاسبة النفوس والبحث عن مواضع الضعف الداخلي يقول: ولم تزل هذه نقطة ضعف في الفطرة البشرية إنها تؤمن بالأخطار من الخارج دائما إنها تؤمن بالأعداء الأجانب إنها تحسب لهم كل حساب ولكنها تغفل عن مصادر الخطر العميقة الأصيلة الكامنة الدفينة في نفوس الشعب وفي قلوب الشعب وفي الحياة الاجتماعية والأخلاق العامة. (المسلمون وقضية فلسطين ص:112)
1)  تمرد العرب على الخلافة العثمانية وسقوطها. إذا فحص أحد المؤزخين بصدق وأمانة تاريخ العرب يرى أن اليوم الأشأم الذي لا يوازيه يوم شؤما في تاريخ العرب ذاك الذي تمرد فيه العرب على الخلافة الإسلامية التي كانت حافظة على الأمكنة المقدسة بأمانة. ولم تقتطف العرب جريمة أكبر من تلك الجريمة. ("المصابيح المنطفئة" في اللغة الأردوية ج2 ص:8)
2)  ضعف الدافع النفسي والباعث الداخلي إلى الاستماتة والتفاني في سبيل العقيدة والمبدأ.
3)  طغيان العقل على العاطفة والحذر من المغادرة واقتحام الأخطار.
 4) فقدان الشخصية المركزية التي تملك القضية عليها مشاعرها وتفكيرها وتصبح همها الشاغل وتستولي عليها استيلاءا كاملا ويصبح حالها كحال صلاح الدين الذي وصفه أمين سره القاضي ابن شداد "إنما كان كالوالدة الثكلى التي ذبح ولدها الوحيد في حجرها وإنه متى تحل هذه القضية الفلسطينية لا تحل إلا بهذا الطريق لا عن طريق المؤتمرات والقرارات والمجاملات. (المسلمون وقضية فلسطين ص 26و27 وانظر:في مسيرة الحياة ص:241)
5)  الحضارة الغربية والثروة الهائلة التي تدفقت عليه وتلك هي التي أثرت في أخلاق هذه الأمة العسكرية بالطبيعة والتاريخ.
6)  ظهور "القومية العربية" التي كان لها أعمق تأثير في حياة الأمة العربية وعواطفها ومشاعرها بعد الحرب العالمية الأولى. وقد نشأ بذلك عقوق بنعمة الإسلام وكنود وكفران بحق محمد صلى الله عليه وسلم وفضله في تكوين هذا العالم العربي وإبرازه من العدم إلى الوجود.(المسلمون وقضية فلسطين ص:57و58). وصدق الشيخ الندوي حيث يقول: علينا أن نعترف بشجاعة أن دعوة "القومية العربية" قد أخفقت وافتضحت وأنها كانت "كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب". (المسلمون وقضية فلسطين ص:76 وانظر:"عالم عربى كا الميه" في اردو ص:53)
7)  قيام الحكومات العسكرية الدكتاتورية في كل قطر عربي تقريبا وظهور ثورة عسكرية في هذه البلاد. وقالت إسرائيل في إحدى إذاعاتها: "استمروا يازعماء العرب في خطبكم واختلاق القصص والأساطير فإذا جد الجد وآن الأوان علمتم ما هي إسرائيل. هذه ساعة العمل لا ساعة الكلام وإن الدعاوى الفارغة لا تقدم ولا تؤخر". (المسلمون وقضية فلسطين ص:63و65)
8)  الاعتماد الزائد على القوات الخارجية والعلاقة الودية بها والرضى بالخذلان والتخلف وعدم الثقة بقوات داخلها الذاتي. يقول الشيخ الندوي: (علينا أن) نعترف بشجاعة أن المسلمين والعرب لا تفيدهم قوة أجنبية ولا تخدمهم مصالح سياسية للأجانب تتقلب مع الرياح وتخضع للمنافع والأرباح فليتوكلوا على الله أولا ثم ليعتمدوا على سواعدهم وشجاعتهم وإيمانهم وأخلاقهم وصفاتهم ثانيا. (المسلمون وقضية فلسطين ص:77وانظر: عالم عربى كا الميه في اردو ص:54)
9)  عدم الإعداد الكامل لا ظاهرا ولا باطنا وفقدان روح المغامرة والتفاني في سبيل الحق. يقول شيخنا الندوي وهو ينير طريق تغيير الأوضاع الحاسمة العنيفة: ولا يغير هذه الأوضاع القائمة في الشرق العربي إلا أن يربي العرب فيهم _مع الحكمة التي لا بد منها_ روح المغامرة الأولى وسرعة التنفيذ وجرأة الإقدام ويعمل بقول الشاعر الذي يقول :
إذا هم ألقى بـــــين عيـــــنيه عزمه               ونكب عن ذكر العواقب جانبا
(المسلمون وقضية فلسطين ص:42)
10)  سماح الحكومات العربية بقطع صلة مصر عن فلسطين برا وهي التي أنتجت المصائب الفادحة على أهل فلسطين. يقول شيخنا الندوي: من غلطات الجامعة العربية والحكومات العربية أنها سمحت بقطع صلة مصر عن فلسطين برا واحتل اليهود الطريق فإذا أرادت مصر أن تنصر أهل فلسطين أو أن توجه جيوشها ما كان لها ذلك عن طريق البر. (مذكرات سائح الشرق الأوسط ص:260)
طريق معالجة هذه القضية عند الشيخ الندوي
يعرف الشيخ الندوي أن الافتقار إلى المعالجة والجدية في النهضة في أمس حاجة فيقول: إننا نعيش في حالة الطوارئ كان الأحرى بالبلاد العربية والعواصم العربية أن تكون كلها في حالة الطوارئ ليلا ونهارا. كله جد كله لباب كله تقشف كله حذر وإشفاق
يدعو الشيخ إلى تجديد الأسلوب وإعادة العزيمة المطموحة للعودة إلى مركزنا السالف غير أن الطريق الذي سلكه العرب في مكافحة هذا الطاغوت لم يجد نفعا ولم يغن شيئا فيقول: يجب علينا _نحن معشر العرب والمسلمين_ أن نستأسف السير من جديد فنعترف _بالشجاعة التي عرف بها العرب في التاريخ_ أن الطريق الذي اخترناه لبناء كياننا الجديد واسترداد مركزنا في العالم الجديد وفي كسب القوة والوحدة وفي إنقاذ فلسطين كان طريقا عقيما منحرفا يحبط المساعي ويخيب الآمال وأنه لا يقترن بنصر الله وتأييده حين لا عزة ولا كراامة ولا ظفر ولا انتصار إلا بنصره وتأييده (المسلمون وقضية فلسطين ص:75)
يرى الشيخ الندوي أنه لا بد من وجود قيادة مؤمنة راسخة العقيدة قوية الايمان بوعد الله ونصره وبصلاح الاسلام وبالقوة الكامنة فيه شديدة التمسك بتعاليم الاسلام وآدابه وأخلاقه مجردة عن كل أنانية وعصبية جاهلية.(المسلمون وقضية فلسطين ص:74)
يخلق شيخنا الندوي في العرب والمسلمين الأمل مع إنارة طريق تحقيقه وينفخ فيهم روح الاقتحام مع الحكمة والحنكة حيث يخاطب علماء دمشق وقادة البلاد من مدرج جامعة دمشق: إن قضية فلسطين سهلة هينة وانتصار العرب مضمون إذا كانوا أحرارا في تصرفهم مالكين لزمامهم مدبرين لسياستهم مغامرين بأرواحهم وجنودهم محكمين لسيوفهم وسنانهم واثقين بنصر الله معتمدين على سواعدهم فقط متمردين على المادة والشهوات مصممين على الكفاح والجهاد. (المسلمون وقضية فلسطين ص:42)

مواضيع ذات صلة
الندويات, دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات